صوفيا ــ جورج حداد(*)
ما اشبه اليوم بالبارحة.
ان كل ابناء الجيل اللبناني المخضرم الذين عايشوا الحرب اللبنانية، التي اندلعت اثر شرارة مجزرة "بوسطة عين الرمانة" في 13 نيسان 1975، يرون بالعين المجردة، وبالذاكرة الفردية والجمعية، ان اوضاع لبنان اليوم تشبه تماما، في الخطوط الرئيسية العريضة وحتى في الكثير من التفاصيل، الاوضاع التي كانت سائدة فيه عشية اندلاع الحرب اللبنانية في 1975. وهذا ما يدفع كثرة من ابناء هذا الجيل، من كل الانتماءات الطائفية والسياسية والمناطقية، الى التشاؤم والاعتقاد ان لبنان يسير نحو الوقوع في الحفرة ذاتها؛ وان السيناريو الذي طبق على لبنان في الـ1975 يعاد تطبيقه بحذافيره تقريبا في الوقت الحاضر.
والسؤال الذي يطرح على نطاق واسع في لبنان الان هو:
ــ ألم يتعلم اللبنانيون من التجربة المريرة للحرب الاهلية السابقة بقالبها الطائفي؟ وهل يمكن ان يقعوا في "التجربة" ذاتها مرة اخرى؟
وهناك فريق كبير من اللبنانيين يقول ان الحرب الاهلية في لبنان اصبحت ذكرى أليمة من الماضي، ولن تتكرر. ولكن كثيرين من المحللين الموضوعيين يقولون انه ــ قياسا على التجربة التاريخية، وبالرغم من كل التغيرات الجيوسياسية التي جرت في لبنان والمنطقة منذ 1975 وحتى الان ــ فإن "اللبنانيين" لم يتعلموا كفاية؛ وان العوامل الذاتية والموضوعية لتجديد الحرب الاهلية بقالب طائفي لا تزال قائمة.
***
وتلمسا للاجابة على السؤال الآنف الذكر، ينبغي ان يطرح قبله سؤال تأسيسي مزدوج وهو:
ــ ما هو "لبنان"؟ ومن هم "اللبنانيون"؟
ونحاول اولا الاجابة على هذا السؤال الاخير:
طبعا ان "دولة لبنان الكبير" ليست هي "لبنان" المذكور في التوراة والذي يعني بقعة جغرافية هي كناية عن جبل كانت تكسوه الاحراج اسمه "لبنان". ولم يكن هذا الجبل مأهولا حتى جاءه من الجنوب الدروز الهاربون من بطش الايوبيين والمماليك؛ وجاءه من الشمال ذلك الفريق من المسيحيين السوريين، انصار الراهب القديس مار مارون واخوانه من الرهبان السريان الاورثوذوكس الذين تعرضوا للاضطهاد والذبح على ايدي الامبراطورية الرومانية الشرقية التي سميت لاحقا بيزنطية.
ومع كل جمال طبيعة الجغرافية اللبنانية، فليست طبعا "دولة لبنان الكبير" هي "الوطن الشاعري": "مرقد العنزة" الهانئة للشحرورة صباح، او "قطعة السما" لوديع الصافي، رحمهما الله؛ وليست "لبنان الاخضر الحلو" لفيروز اطال الله عمرها.
وان "لبنان" لم يكن يوما، وليس هو اليوم، ولن يكون ابدا، امة ولا كيانا قوميا، فهو لا ينطبق عليه اي من معايير التعريف العلمي للامة وللقومية. ومن ثم فليس هو وطنا تاريخيا لـ"اللبنانيين"؛ بل ــ وكما تقول الوقائع ــ هو كيان مصطنع فرض فرضا على جميع سكانه من قبل الاستعمار الاوروبي، منذ مئة سنة وحسب.
وهناك فكرة شائعة بأن "دولة لبنان الكبير" هي كناية عن إلحاق بيروت والبقاع والشمال والجنوب بـ"متصرفية جبل لبنان" العثمانية السابقة. ولكن الواقع هو غير ذلك تماما.
فالواقع انه تم إقتطاع "متصرفية جبل لبنان"، واقضية الجنوب والبقاع والشمال التي كانت تابعة لولايتي عكا ودمشق، وإلحاقها جميعها بـ"ولاية بيروت" السابقة، بعد ان فصل عن تلك الولاية الساحلان السوري والفلسطيني؛ وكانت مدينة بيروت قد تحولت، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الى منطقة نفوذ سياسي ومركز تجاري ــ بنكي ــ اجتماعي ــ ثقافي، لفرنسا الاستعمارية، منذ حملة ابرهيم باشا المصري الذي عين حاكما لبيروت في 1831 الجنرال سليمان باشا الفرنساوي (واسمه الاصلي الكولونيل سيف، وهو احد الضباط السابقين في جيش نابوليون الذين بقوا في مصر، وهم الذين اسسوا الجيش المصري المستقل لمحمد علي باشا، ولا يزال تمثال سليمان باشا الفرنساوي محفوظا الى اليوم في المتحف الحربي المصري في القاهرة). وكان ذلك الجنرال قد قام بهدم سور بيروت و"توسعتها الاولى"، ودشن العملية اللاحقة لتحويلها الى اهم مدينة ساحلية ومنطقة نفوذ فرنسية في شرقي المتوسط. وفي نهاية الحرب العالمية الاولى، جاء جنرال فرنسي آخر هو غورو وقام بـ"التوسعة الثانية" لبيروت، بضم "متصرفية الجبل" وباقي الاقضية، لبيروت، وتحويلها الى دولة هي بالفعل والواقع "دولة بيروت الكبرى"، ولكن المستعمرين الفرنسيين اطلقوا عليها تسمية "دولة لبنان الكبير" للتمويه والتضليل السياسي والتاريخي، ولدغدغة المشاعر الطائفية لدى المسيحيين، ولا سيما الموارنة؛ ولاستفزاز المشاعر الدينية لدى المسلمين، ولكبت المشاعر القومية العربية لدى عامة "اللبنانيين". ومن هذه العملية التأسيسية لـ"لبنان" نفهم طبيعة العلاقة المميزة للبرجوازية السنية "اللبنانية" مع فرنسا الاستعمارية، والتي ما زالت مستمرة الى اليوم، امام "غيرة" و"حسد" البرجوازية المارونية "اللبنانية".
وقد تم تركيب هذا الكيان الدولوي المصطنع، وفصله عن سوريا الطبيعية، على الضد من اي مفهوم قومي ــ وطني تاريخي، ورغم ارادة جميع "اللبنانيين" في جميع المناطق "اللبنانية"؛ إذ ان غالبية السكان الموارنة، ذوي النزعة الطائفية، في "متصرفية جبل لبنان"، كانت تؤيد انشاء "وطن قومي مسيحي" او "لبنان صغير" ذي غالبية مسيحية ـ مارونية. في حين ان غالبية سكان بيروت والجنوب والبقاع والشمال، المسلمين، ذوي النزعة الطائفية، كانت تؤيد الانضمام الى "الحكومة العربية" التي شكلها في حينه فيصل الاول في دمشق.
وكما هو معروف فقد تم تنفيذ هذه التركيبة من قبل الاستعمار الفرنسي استنادا الى اتفاقية سايكس ــ بيكو الاستعمارية اللصوصية، التي كانت سرية، ولكن فضحتها الثورة الاشتراكية الروسية الكبرى في 1917.
***
وكان المستعمرون الفرنسيون قد فرضوا الانتداب على تركيبة "دولة لبنان الكبير"، وجعلوها موطئ قدم رئيسي لهم في ما سموه "الشرق الادنى"، وجعلوا للدولة الجديدة علما خاصا هو كناية عن العلم الفرنسي في وسطه ترسيمة ارزة.
وبعد سقوط فرنسا من مصاف الدول العظمى، بعد الاحتلال الالماني النازي لها في الحرب العالمية الثانية، نظمت السفارة البريطانية في بيروت الانقلاب على الانتداب الفرنسي في تشرين الثاني 1943، فورث الاستعمار الانكليزي من الفرنسيين السيطرة على هذا "الكيان اللبناني".
وبعد انهيار النفوذ البريطاني في اعقاب "العدوان الثلاثي" على مصر، او "حرب السويس"، في 1956، طرح الرئيس الاميركي ايزنهاور نظرية "ملء الفراغ في شرقي السويس" (اي إحلال النفوذ الاميركي محل النفوذ البريطاني والفرنسي المنهار، لمواجهة النفوذ السوفياتي)؛ فألقى الاسطول السادس الاميركي مراسيه في بيروت، وانضوى "الكيان اللبناني" تحت الوصاية الامبريالية الاميركية ووكيلها الاقليمي: المملكة "العربية!" السعودية وزعانفها الخليجية.
***
وضمن هذا الكيان، الذي اصطنعه الاستعمار الفرنسي، وورثه و"طوره" الاستعمار البريطاني، ثم الامبريالية الاميركية، برز في "الكيان اللبناني" معسكران سياسيان، لكل منهما مفهومه الخاص لـ"لبنان". ومنذ اللحظة الاولى لتأسيس "الكيان"، فإن هذين المعسكرين كانا حكما متناقضين تماما، ومتناحرين تماما، ولا يمكن ان يتعايشا بتاتا، ولا بد لاحدهما ان ينتصر ويقضي قضاء تاما على الاخر، ويفرض مفهومه الخاص لـ"لبنان". والحرب المصيرية بين هذين المعسكرين هي الامر المنطقي التاريخي، والتعايش بينهما هو الشواذ، وهو ليس اكثر من هدنة بين معركتين، هدنة يستعد فيها كل معسكر للمعركة القادمة. وهذان المعسكران هما:
المعسكر الاول ــ هو المعسكر الوطني، المعادي للاستعمار والامبريالية، والذي عارض منذ البداية مشروع "دولة لبنان الكبير"، المنبثق من الارادة والمصالح الاستعمارية، والمؤسس على الانفصال عن سوريا، ومعاداة القومية العربية وحركة التحرر الوطني العربية. وكان هذا المعسكر ولا يزال يقول بأن "لبنان ــ الجغرافيا" هو جزء عضوي من الارض العربية، وان "لبنان ــ الشعب" هو جزء لا يتجزا من الامة العربية، لغويا وثقافيا وحضاريا وتاريخيا (انصار المفكر التقدمي النهضوي انطون سعادة يقولون انه جزء من "الامة السورية" التي هي بدورها "احد الشعوب العربية"). وجمهور وانصار هذا المعسكر الوطني ينتشرون في كل الطوائف والمذاهب الدينية في "لبنان". ولكن بسبب العلاقة العضوية التاريخية، اللغوية والوجدانية والعقائدية ــ الدينية، بين العروبة والدين الاسلامي الحنيف، فإن الجمهور الشعبي الواسع والاساسي للمعسكر الوطني في لبنان، كان يتمثل في الجماهير الشعبية الاسلامية، على اختلاف الطبقات والاحزاب والتوجهات السياسية فيها؛ وهو ما اوجد "اشكالية التباسية" يظهر فيها وكأن كل "مسلم" و"عربي" او "عروبي" هو "وطني"؛ وهذا ما اتاح الفرصة للقيادات والجماعات "الاسلامية" او "المسلمة"، الرجعية والطائفية والعميلة للاستعمار والامبريالية، ان تتظاهر هي ايضا بـ"العروبة" و"الوطنية"، وتقود ــ متى اتيحت لها الفرصة ــ بعض قطاعات الجماهير الشعبية الاسلامية الوطنية الصادقة الى الانجرار للمواقف الطائفية باعتبارها مواقف "وطنية". وهذا الانحراف الطائفي في "المعسكر الوطني" كان ولا يزال احد مواد تفجير النزاعات الطائفية في لبنان. ومن هنا فإن الاوكار المخابراتية الامبريالية والموسادية و"العربية" العميلة، وبالاشتراك مع طابورها الخامس اللبناني، كانت دوما تحرص على ان تضفي الطابع الطائفي على كل الحياة السياسية اللبنانية، وخاصة على النزاعات، واي ازمة سياسية او تفجير امني في لبنان. وهو ما ظهر بجلاء في جميع النزاعات الداخلية في لبنان، الصغيرة والكبيرة، بما فيها الحرب "الاهلية"، منذ انشاء "لبنان الكبير"، وخاصة منذ انشاء اسرائيل، حتى اليوم.
والمعسكر "اللبناني" الثاني ــ هو المعسكر اللاوطني، الخياني، العميل العريق للاستعمار والامبريالية، الذي أيد منذ اللحظة الاولى المشروع الاستعماري لتأسيس "دولة لبنان الكبير". وهذا المعسكر يضم ايضا قيادات واحزابا وهيئات ومراجع من مختلف الطوائف والطبقات والمناطق "اللبنانية". ولكن مركزه الاستقطابي الرئيسي، وقاعدته "الشعبية" الاوسع هي في الجانب المسيحي، الماروني بالاخص. وهذا ما يعطي الجناح "المسيحي ــ الماروني" في المعسكر اللاوطني اللبناني دورا مركزيا وقياديا فيه. واذا كانت مواجهة المعسكر الوطني اللبناني تتحمل مسؤوليتها، وتتوزع الادوار فيها، كل اطراف المعسكر اللاوطني ومن مختلف الطوائف والتوجهات السياسية بما فيها بعض "الاصلاحيين" و"العلمانيين" و"اليساريين" و"الاشتراكيين" وحتى بعض "الشيوعيين" الخونة والمرتدين، فإن الدور الاول والرئيسي في المعسكر اللاوطني والخياني اللبناني يقع على عاتق الجناح "المسيحي ــ الماروني"، الذي كان له دور "البطولة" الاول في اشعال الحرب الاهلية بقالبها الطائفي في 1975، والذي يعود له اليوم ايضا دور "البطولة" الاول في جر البلاد نحو جولة جديدة في الحرب الاهلية بقالبها الطائفي، تحت شعارات "السيادة" و"الحياد" و"عدم التفرد بقرار الحرب والسلم" و"تسليم سلاح المقاومة للدولة" و"التعريب" و"التدويل"، وخصوصا شعارات "الدفاع عن المسيحيين" و"حماية المسيحيين" ليس من داعش، بل من المقاومة التي حمت المسيحيين ولا تزال تحميهم بدماء شهدائها الابرار.
وتاريخيا، اضطلع حزب الكتائب اللبنانية برئاسة مؤسسه الشيخ بيار الجميل (الجد) بدور مؤسس معسكر الخيانة الوطنية والعمالة للاستعمار والصهيونية، في القطاع المسيحي، منذ منتصف القرن الماضي، وكان هو وحزبه المهندس ــ المتعهد المحلي الاول للحرب الاهلية في لبنان، ولاستدعاء الاحتلال الاسرائيلي للبنان، ولاستدراج "تعريب" و"تدويل" لبنان. وحزب الكتائب، بقيادة بيار الجميل واولاده، هو الذي فرّخ "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة انطوان لحد في السابق، وهو الذي فرّخ حزب "القوات اللبنانية" الحالي بقيادة السفاح الطائفي والعميل الاسرائيلي سمير جعجع. وفي تقديري الشخصي ان "المستشار" او "المعتمد" المحلي الاول في لبنان للمخابرات الاميركية، هو اليوم الابن الاكبر لبيار الجميل، اي امين الجميل القابع في وكره في بكفيا، وهو يعمل من وراء الستار مع الوكر الاميركي في عوكر، وبالتنسيق اليومي مع الموساد والقيادة الاسرائيلية (عبر الوجود الشخصي لعملاء الموساد وعبر وسائل الاتصال الالكترونية الحديثة)، لهندسة واخراج سيناريو تجديد طبعة الحرب الاهلية في لبنان، كاستمرار للدور الرئيسي لابيه بيار الجميل في هندسة واخراج سيناريو طبعة 1975. ومن ضمن هذا السياق يعمل امين الجميل لايصال ابنه "العميل الصغير" سامي الجميل الى مركز رئاسة الجمهورية بـ"جواز مرور" اميركي.
ولإخفاء وجههم الخياني والعميل، يدعي القادة المسيحيون لهذا المعسكر تمثيل المسيحية والمسيحيين، كما يدعون الانتماء الى الفينيقية والكنعانية والارامية، المنافية (في ثقافتهم الخيانية) للانتماء القومي العربي او القومي السوري.
ولكنهم، في الواقع التاريخي والسياسي الراهن معا، هم ليسوا لا مسيحيين ولا فينيقيين، بل يوضاسيون اعداء للمسيحية والمسيحيين، واعداء للإتنية والحضارة الفينيقية ــ الكنعانية ــ الارامية. فهم عمليا يسيرون في ركاب الجبهة اليهودية والدول الاستعمارية والامبريالية الغربية، وريثة الامبراطورية الرومانية القديمة، التي دمرت قرطاجة الكنعانية العظيمة وابادت نصف اهلها واستعبدت النصف الاخر، والتي ــ بمشاركة اليهود ــ وحسب الرواية المسيحية، قتلت يوحنا المعمدان ويسوع المسيح وبطرس وبولس وسائر تلامذة المسيح وملايين المسيحيين الشرقيين القدماء. وكان من "مآثر" الامبراطورية الرومانية (الشرقية) مطاردة وقتل واضطهاد السريان الاورثوذوكس اتباع القديس مار مارون في شمالي سوريا، الذين اضطر قسم كبير منهم للهرب واللجوء الى "جبل لبنان"، واحفادهم هم الموارنة اللبنانيون اليوم. ويتناسى هؤلاء القادة، الخونة للمسيحية الحقيقية، ان اليهودية المعاصرة التي تدعو الى قتل الفلسطينيين والعرب واللبنانيين الوطنيين، هي امتداد لليهودية القديمة التي تدعو "دينيا!" الى قتل الكنعانيين والاستيلاء على اراضيهم بحجة انها "ارض الميعاد" التي وهبها "الله" مزعوم، لـ"شعب" مزعوم، سموه "شعب الله المختار". وهم يتناسون ان القائد الكنعاني الاسطوري هنيبعل برقة قضى حياته في القتال ضد الاستعمار الروماني، وحينما اكتشف وجود مؤامرة للغدر به وتسليمه الى روما فضل الانتحار بالسم على الوقوع في ايدي الرومان. كما يتناسون ان الاتنية التاريخية الفينيقية ــ الكنعانية لم تنبثق وتتبوتق في "جبل لبنان"، الذي لم يكن مأهولا في زمن ظهور الفينيقيين، بل كانت "متوسطية" امتدت من جنوب تركيا الحالية، الى سوريا الطبيعية ومنها "الدول ــ المدن" في الساحل اللبناني الحالي، الى فلسطين، الى تونس وليبيا وشمالي افريقيا. واخيرا يتناسون ان الكنائس المسيحية الشرقية العريقة (ومنها الكنيسة السريانية المارونية) لا تزال الى اليوم تُنسب الى انطاكية، المدينة المسيحية التاريخية العظيمة، التي تقع في لواء الاسكندرون السوري الذي وهبه الاستعمار الفرنسي لتركيا في 1939 كما وهب الاستعمار البريطاني فلسطين لليهود في 1917. وكانت انطاكية عاصمة للاقليم السوري قبل الفتح الاسلامي في القرن السابع.
واذا كان قادة المعسكر "اللبناني" اللاوطني والخياني يوضاسيين حقيقيين ومسيحيين مزيفين، وفينيقيين ــ كنعانيين ــ اراميين مزيفين، فإن الهوية الوحيدة لهم، الفكرية و"الحضارية" والسياسية، والتي هي مبرر وجودهم ومصدر قوتهم، تبقى فقط في التزامهم المطلق بالولاء للمعسكر الاستعماري ــ الامبريالي ــ الصهيوني واذنابه من الانظمة العربية العميلة وعلى رأسها النظام السعودي. واذا اجرى اي باحث اي مراجعة لجبال الاعلام المأجور المرتبط بالمعسكر اللاوطني اللبناني، وعلى كل الموجات السياسية والفكرية والدينية، فسيكتشف انها كلها لا تخرج عن نطاق ما تقدمه مطابخ البروباغندا الامبريالية الاميركية والاسرائيلية والسعودية.
***
وكان المستعمرون الفرنسيون والانكليز، الذين تناوبوا على الهيمنة على لبنان، قد عملوا على تحويل لبنان الى منطقة نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري للدولة الاستعمارية، بدون المساس بالنمط القديم للعلاقات الاقتصادية ــ الاجتماعية، الاقطاعية وشبه الاقطاعية القديمة، التي كانت سائدة في المناطق "اللبنانية"، بل انهم عززوا واغنوا و"رسملوا" و"حدّثوا" تلك العلاقات، بالتوظيفات المالية، والعلاقات الرأسمالية والبرجوازية الجديدة؛ فنشأ في "لبنان" نظام هجين رأسمالي برجوازي ــ اقطاعي وشبه اقطاعي، تتوحد فيه خلطة "لبنانية" فريدة تتكون من: الملكية العقارية الكبيرة، والمؤسسة الرأسمالية (البنكية ــ التجارية)، والمؤسسة السياسية، والمؤسسة الدينية، والمؤسسات الثقافية والتربوية والاعلامية. وهذا ما رسّخ وجذّر التقسيم العائلي ــ العشائري ــ المناطقي، و ــ خصوصا ــ الطائفي والمذهبي، للمجتمع "اللبناني"، الذي تحول الى مجموعة "مجتمعات" متساكنة ــ متناقضة ومتزاحمة، فيما يشبه بقعة جغرافية افريقية "تتعايش" فيها فصائل وانواع مختلفة، غير قابلة للاندماج، وتسود بينها شريعة الغاب، يخشى بعضها بعضا، ويأكل بعضها بعضا.
***
اما الامبريالية الاميركية، التي ورثت اخيرا الهيمنة على لبنان، فكانت ذات رؤية جيوستراتيجية اكثر "راديكالية" و"تجديدية" و"مستقبلية" لمنطقة الشرق الاوسط المهمة؛ إذ كانت تريد "نفض" و"تغيير" انظمة سايكس ــ بيكو القديمة (ولو بالتعاون "الضمني" مع بعض القوى "الوطنية"، "التغييرية" وحتى "الثورية" في كل من بلدان المنطقة)، وذلك في اتجاه فرض الهيمنة الامبريالية الاميركية على العالم العربي والشرق اوسطي، سواء بالانقلابات العسكرية وركوب او حتى افتعال "الثورات" واحتوائها وتدجينها، واقامة ودعم الدكتاتوريات، او فرض قوالب "ليبيرالية" و"دمقراطية" شكلية ومشهدية مرتبطة باميركا. وكان لكل بلد مخطط خاص به تبعا لظروفه.
وبالنسبة للبنان تحديدا كان المخطط الاميركي يهدف الى تحويله الى محمية اسرائيلية، ورقعة جغرافية كوسموبوليتية لا هوية وطنية لها، ومرفأ ومطار دوليين مفتوحين، ومنطقة حرة للبنوك والوكالات التجارية العالمية وشركات الاوف شور وقنوات غسيل الاموال القذرة، ووكر مافياوي دولي، ومغارة للجواسيس وعملاء المخابرات الاميركية والغربية والاسرائيلية وحليفاتها العربية، ومنتجع سياحي ونادي قمار ومنتزه ترفيه ودعارة "راقية" لشيوخ النفط والاغنياء وابناء "النخب" والمجتمعات "المخملية" العربية، المرتبطة ذاتيا وموضوعيا (طبقيا) بالسياسة الاميركية، بالاضافة طبعا الى ضباط وجنود الاساطيل الاميركية والناتوية والاسرائيليين.
ولتحقيق هذا المخطط كان من الضروري تنفيذ "مشروعين" هما:
1ــ القضاء على قطاع الاقتصاد الانتاجي (الزراعة والحرف والصناعة)، الذي يضخّم عدد سكان الرقعة الجغرافية "اللبنانية"، وتحويل البلد الى الاقتصاد الريعي (العقاري ــ المالي ــ السياحي ــ الخدماتي). وهذا ما يقتضي تنفيذ "المشروع" الثاني وهو:
2ــ تخفيض عدد سكان الرقعة الجغرافية "اللبنانية" بشكل ملحوظ، اولا لجعل عدد السكان على مقاس الحاجات المحدودة للقطاع الريعي ــ الخدماتي فقط؛ وثانيا، لايجاد نوعية معينة من السكان "الانتفاعيين"، المطواعين و"الخزمتشية" او "الخدمتشية"؛ وثالثا، لافساح المجال لاحقا لزرع الاراضي اللبنانية بالمستوطنات اليهودية.
***
ولتبرير وممارسة دوره الخياني والعميل، يضرب المعسكر اللاوطني اللبناني دوما على وتر "عقدة الخوف المسيحية"، التي لا تتحمل الحركات الوطنية والمقاومة اي مسؤولية فيها، بل على العكس؛ وكانت تلك العقدة قد نشأت في ظروف تاريخية تعود الى مراحل الحكم "الاسلامي!" (قبل الاستعمار الفرنسي)، اي مرحلة الحكم العثماني وما قبله الذي دام مئات السنين، حيث كانت الجماهير الشعبية المسيحية تتعرض لاضطهاد مركب ومضاعف، من قبل الطبقات الاقطاعية المسيحية ذاتها، ومن قبل السلطة الاجنبية التركية (وقبلها المملوكية والايوبية والبويهية الخ) التي كانت تضطهد "كل العرب" بمن فيهم الاكثرية الشعبية الاسلامية؛ ومن قبل الحكم المتجلبب بالدين الاسلامي (!!!)؛ ومن قبل اقسام غوغائية من الجماهير الشعبية "المسلمة" المضللة والمسممة بالروح الطائفية على الطريقة الداعشية في ايامنا. اذ ان كل تمرد شعبي مسيحي كان يقمع من قبل الحكم الاستبدادي الاجنبي، والطبقي المسيحي معا، ولكنه كان يغلّف بالغلاف "الاسلامي" السلطوي و"الشعبي". وللمثال، حينما ثارت جماهير الفلاحين الموارنة ضد الاقطاعيين الموارنة تحديدا في جبل لبنان في 1858، تم تصوير الانتفاضة الفلاحية المارونية، للمزارعين والريفيين الدروز، بأن الثورة الفلاحية المارونية ما هي سوى "قومة طائفية مسيحية" ضد الدروز والمسلمين، فجرى في مذبحة 1860 سحق الانتفاضة الفلاحية المارونية ضد الاقطاعية، وذبح الوف المسيحيين في جبل لبنان وفي البقاع وفي دمشق ذاتها، طائفيا، على ايدي "الدروز والمسلمين!". ومما يؤكد الطابع التآمري لمذبحة 1860، ان احد رجال الدين المسيحيين الذي كان على علاقة بالقونصلاتو الفرنسية في بيروت، اخذ بعد بدء الانتفاضة الفلاحية في كسروان عام 1858، يوزع الاسلحة في القرى المسيحية ويحرض السكان ضد الدروز، وحينما رفض السكان المسيحيون في احدى البلدات استلام السلاح منه للوقوف ضد الدروز قال لهم مهددا "اذا لم يذبحكم الدروز، سنقوم نحن بذبحكم" (راجع "ثورة وفتنة في جبل لبنان" بقلم الشاهد المعاصر انطوان عقيقي، تحقيق ونشر المؤرخ يوسف ابرهيم يزبك).
وفي تلك المذبحة، وفي جميع اشكال الاضطهاد الذي تعرض له المسيحيون في الشرق على امتداد مئات السنين، كانت الدول الاستعمارية الاوروبية (المسيحية التصنيف)، ولاجل مصالحها الاستعمارية ومخططاتها التوسعية، تلعب مسرحيات "حماية المسيحيين في الشرق"، كوسيلة سياسية "مشروعة" للتدخل واستعمار بلدان الشرق، بما فيها لبنان. ومن هنا نشوء ما يسمى عقدة "طلب الحماية الاوروبية والدولية"، المترادفة مع "عقدة الخوف" عند المسيحيين والمكملة لها. ومما يعزز هذه "العقدة المسيحية" المركبة، الارتباط الديني بين الكنيسة المارونية وغيرها من الكنائس الكاثوليكية، الشرقية اساسا، بالبابوية. ويستفيد قادة المعسكر اللاوطني المسيحيون من هذه العقدة التاريخية لدى المسيحيين بطريقتين:
الاولى ــ هي القدرة على تضليل اوسع قسم ممكن من الجماهير الشعبية المسيحية، والمارونية خصوصا، وجرها الى المواقف اللاوطنية، بحجة الدفاع عن المسيحية والمسيحيين.
والثانية ــ القدرة على رفع شعارات "حماية المسيحيين" و"الدفاع عن المسيحية" والتلطي خلف الطائفية المسيحية لاخفاء خيانتهم الوطنية وعمالتهم للاستعمار والامبريالية الاميركية واسرائيل والسعودية.
ومثلما نجحت الطغمة المالية اليهودية العالمية العليا، واداتها: الحركة الصهيونية العالمية، في تضليل القسم الاكبر من الجماهير الشعبية اليهودية والايحاء لها بأن كل تحرك تحرري عربي وكل حركة نضالية عربية (وغير عربية) معادية للرأسمالية الاحتكارية اليهودية والاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والارض العربية، هما معاديان لليهود، عنصريا ودينيا؛ يمكن القول بكل اسف ان القطاع "الشعبي" المسيحي في المعسكر "اللبناني"، العميل للاستعمار والامبريالية، وبفعل الهيمنة على المؤسسات الكنسية والتربوية والاعلامية، نجح "تاريخيا" في "تخمير" و"تثمير" و"تطوير" "عقدة الخوف" لدى قطاع واسع من الجماهير الشعبية المسيحية العادية، وتحويلها الى"عقدة خوف" من كل ما هو "مسلم" و"عربي" الا اذا كان عميلا للاستعمار والامبريالية؛ ومن ثم تصوير الحركات الوطنية العربية بمجملها، بمن فيها من مسيحيين، وحتى ولو كانت مسيحية التأسيس، بأنها حركات عنصرية ــ طائفية اسلامية معادية للمسيحيين وتهدد وجودهم، وان كل مسيحي "وطني" و"عروبي" و"معاد للاستعمار والامبريالية والصهيونية واسرائيل" هو "خائن للمسيحية" و"عدو للمسيحيين" ويجب نبذه واستئصاله من "المجتمع المسيحي". وهذا الفهم التضليلي، العقدي المريض، والسياسي الخياني والعميل، للحركات الوطنية والتحررية العربية، يقلب الحقائق التاريخية رأسا على عقب، ويصور كل وطني ومعاد للاستعمار والامبريالية والصهيونية بأنه "عدو للمسيحية والمسيحيين"، وكل عميل للاستعمار والامبريالية والصهيونية، حتى الدواعش، بأنه "صديق للمسيحية والمسيحيين". وهذا الفهم المقلوب والخياني ينطبق اليوم بشكل نموذجي على حزب "القوات اللبنانية"؛ وينسحب على المقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله، حتى في النضال والتضحيات المؤلمة والجسيمة ضد الدواعش انفسهم؛ اذ يعتبر هؤلاء "العقديون" و"المرضى نفسيا" المسيحيون، انه حتى الدواعش هم حلفاء واصدقاء لهم لانهم مرتبطون بالامبريالية الاميركية والسعودية واسرائيل وتركيا؛ اما حزب الله وحماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وكل حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعربية، فينظر اليها على انها حركات "اسلامية" معادية للمسيحية والمسيحيين، لانها معادية للاستعمار واسرائيل وعملائهما.
***
وقد شرع الامبرياليون الاميركيون في التدخل الفعال في لبنان منذ الخمسينات. ومنذ ذلك الحين، بدأ تحضير الساحة للحرب الاهلية ذات القالب الطائفي، لتهجير اكبر عدد ممكن من السكان، مسيحيين ومسلمين، وللقضاء على الاقتصاد الانتاجي، تمهيدا للتحول الى الاقتصاد الريعي، لفرض الهيمنة المطلقة على البلد بواسطة الاقتصاد. وبدأ التحريض واضفاء الطابع الطائفي على النزاعات السياسية، وعلى القضية الفلسطينية، والقضية الوطنية اللبنانية خاصة والعربية عامة. وطبعا كان يشارك في التحضير للحرب الاهلية خبراء في علم النفس الاجتماعي. ومن الامثلة الفاضحة على ذلك انه في اعقاب حرب السويس عام 1956 حينما عارض كميل شمعون اتخاذ موقف مناوئ لانكلترا وفرنسا، نُشرت في المناطق المسيحية صورة شبه ايقونة للسيدة العذراء مريم تحمل على صدرها الطفل يسوع وله وجه كميل شمعون. طبعا ان كميل شمعون ذاته لم يكن من الممكن ان تخطر له هذه الفكرة، واذا خطرت له فلم يكن ليجرؤ على تنفيذها وتحمل المسؤولية امام المسيحيين والمسلمين وامام بابا روما والمجتمع الدولي. ان هذه "الايقونة الاميركية" التي امتهنت الدين المسيحي وأحلّت العميل كميل شمعون محل السيد المسيح هي من صنع مخابرات دولة قوية وذات سلطة عالمية اعلى من سلطة البابا ذاته، كالولايات المتحدة الاميركية.
وفي تلك المرحلة بالذات بدأت غزوة "الاخوة" الخليجيين للمصايف اللبنانية، وبدأت البنوك تنتفخ بودائع البترودولار الخليجي، ويدأ التوجه نحو تقليص الانتاج الزراعي والصناعي، والاتجاه نحو الاقتصاد العقاري والخدماتي وزيادة الاستيراد. ولاجل فرض هذا التوجه الاقتصادي ــ السياسي الاميركي جرت عملية الافلاس المفتعل لبنك انترا وغيره من البنوك اللبنانية في 1966 بهدف فرض السيطرة الاميركية على القطاع المصرفي اللبناني، والتحكم من خلاله بالوضع الاقتصادي اللبناني بمجمله.
وبموازاة الهجمة البترودولارية و"السياحية" و"الاصطيافية" و"العقارية" لـ"الاخوة" الخليجيين، نظمت المخابرات الاميركية العلاقات المباشرة المفتوحة بين حزب الكتائب واسرائيل، وبدأ التسليح الكثيف وتدريب وتمويل القوات المسلحة لهذا الحزب ولحزب "الوطنيين الاحرار" (الشمعونيين) من قبل اسرائيل والسعودية والاردن وايران الشاه. وحاول المعسكر اللاوطني اللبناني حينذاك التجديد لرئاسة كميل شمعون في 1958. ولكن هذه المحاولة فشلت امام صعود موجة حركة التحرر الوطني حينذاك في لبنان وسوريا ومصر والعراق وباقي الاقطار العربية؛ وتم اختيار الجنرال فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية بصفقة سياسية مشبوهة اميركية ــ "ناصرية" شكلا، "هيكلية" فعلا (نسبة لمحمد حسنين هيكل، المستشار اللوذعي لعبدالناصر).
وفي عهد فؤاد شهاب وما تلاه تنامت بشكل ملحوظ قوة الحركة الوطنية اللبنانية، الداعمة للمقاومة الفلسطينية، وتأطرت في جبهة وطنية موحدة بقيادة كمال جنبلاط. كما برزت "حركة امل" بقيادة الامام السيد موسى الصدر. وفي الوقت ذاته استمرت اميركا واسرائيل والسعودية في تمويل وتسليح حزب الكتائب و"قواته اللبنانية". وتم في حينه تسريب قسم كبير من "الاسلحة الشرقية" التي غنمها الجيش الاسرائيلي من مخلفات الجيش السوري الذي كان قد تلقى الاوامر بالانسحاب الكيفي من الجولان في حرب حزيران 1967، تاركا خلفه كميات كبيرة من الاسلحة سليمة.
وطوال الفترة التي سبقت والتي اعقبت طرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية من الاردن وترحيلها الى لبنان في نهاية ايلول 1971، قامت اجهزة الدولة اللبنانية بكل ما تستطيع لضرب المقاومة الفلسطينية في لبنان، بالتعاون المفضوح مع "القوات اللبنانية" المسلحة لحزب "الكتائب" وحزب "النمور الاحرار" لشمعون واضرابهم، الذين نزلوا الى الساحة على المكشوف جنبا الى جنب القوات النظامية اللبنانية، التي اسسها المستعمرون الفرنسيون، واصبحت اخيرا في عهدة الامبريالية الاميركية. ولكن كل تلك الحملة فشلت فشلا ذريعا، امام صمود جماهير المخيمات الفلسطينية والتلاحم الكفاحي الوطني اللبناني ــ الفلسطيني. وكانت اخر حملة للدولة اللبنانية ضد المقاومة الفلسطينية في ايار 1973، حينما قامت القوات المسلحة اللبنانية النظامية و"غير النظامية" بتطويق وضرب المخيمات الفلسطينية تمهيدا لاقتحامها، وبلغ الامر حد اطلاق الطيران الحربي اللبناني لقصف مخيم برج البراجنة وغيره من المخيمات. ولكن تلك الحملة، الاميركية ــ الاسرائيلية الايعاز والتخطيط، "اللبنانية" التنفيذ، فشلت ايضا فشلا ذريعا؛ لان الحركة الوطنية اللبنانية ضربت طوقا جماهيريا حول مطوقي المخيمات الفلسطينية، كما ان الطيارين الوطنيين اللبنانيين خالفوا التعليمات والقوا قنابلهم على الرمول خارج مخيم برج البراجنة. وكان احدهم الضابط الطيار الشهيد عبدالله شمص، الذي تم فيما بعد تفجيره في طائرته فوق بلدته البقاعية بوداي وهو في طلعة تدريبية روتينية، وكان والده الشيخ في الحقل، وكان يعرف ان قائد تلك الطائرة هو ابنه. وشاهد ذلك الشيخ الجليل ابنه الضابط الشاب يتناثر اربا في الجو امام عينيه لا لذنب ارتكبه سوى انه وطني.
وبطبيعة الحال فإن معسكر الخيانة الوطنية "اللبناني"، في معركته ضد الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية في تلك المرحلة، قرع طبوله وصدحت ابواقه عاليا بمعزوفة "الحياد" و"السيادة اللبنانية" التي لا تكون الا بمهادنة اسرائيل والسير في ركاب الامبريالية الاميركية والانظمة العربية الموالية لها وعلى رأسها النظام السعودي. وكانت جميع الابواق تزعق ضد التعدي الفلسطيني على السيادة اللبنانية، وتجهد لاعطاء الصراع طابع صراع لبناني ــ فلسطيني.
ولكن اجهزة الدولة اللبنانية، وبالتعاون مع حزب الكتائب والقوى العميلة الاخرى، فشلت سياسيا وعسكريا في مهمة ضرب وتقزيم الحركة الوطنية اللبنانية، وضرب وطرد المقاومة الفلسطينية كما جرى في الاردن في 1971. وتشير الدلائل انه في تلك الظروف اتخذت "غرفة العمليات" الاميركية السوداء قرارا يقضي بقلب الاسطوانة، والتحول من إضفاء الطابع القطري، اللبناني ــ الفلسطيني، الى اضفاء الطابع الطائفي، الاسلامي ــ المسيحي، على الصراع؛ اي الاتجاه نحو اشعال الحرب الاهلية بقالبها الطائفي.
ولهذه الغاية، ولاجل التمويه والتضليل السياسي، وتمهيدا لاستدعاء "التعريب" والتدخل العربي لاحقا، وبسحر ساحر لبست قيادة حزب الكتائب "الكوفية" العربية، وفتحت قناة "حوار" مع حزب البعث العربي الاشتراكي (الجناح السوري)، وسمح لهذا الحزب، ذي الوجه العروبي البارز، بفتح مكاتب له في المناطق المسيحية التي كان يسيطر عليها حزب الكتائب. وفي مؤتمر لحزب الكتائب عقد في اواخر 1973 او اوائل 1974، ارتفعت اصوات كتائبية تشيد ببطولات الجيش العربي السوري في حرب اكتوبر\تشرين الاول 1973. ومن ضمن هذا الاخراج المسرحي السياسي، وفي الخامس عشر من شهر تشرين الثاني 1974 سافر رئيس ما كان يسمى "الجبهة اللبنانية"، الرئيس الراحل سليمان فرنجية، الى مدينة نيويورك الاميركية حاملاً الملف الفلسطيني لـ"تمثيل العرب" أمام الجمعية العمومية للامم المتحدة، بتكليف من القمة العربية السابعة التي انعقدت في الرباط المغربية ذلك العام.
وفي ظل هذا الكاموفلاج او القنابل الدخانية "العروبية" المفاجئة، اخذت الابواق المأجورة للمعسكر اللاوطني تنفخ بشدة في معزوفة "الخطر على المسيحيين"، و"تهديد وجود المسيحيين" و"حق المسيحيين في الدفاع عن انفسهم" ولو بالاستعانة بالشيطان، الى اخر هذه المعزوفة. واخذت القوات المسلحة للكتائب والشمعونيين وتنظيم "حراس الارز" بقيادة العميل الاسرائيلي (ضابط الامن اللبناني السابق) اتيان صقر وغيرهم، بالظهور علنا وبكثافة في مختلف المناطق المسيحية؛ وتمت دهورة البلاد بسرعة نحو الحرب الاهلية بقالبها الطائفي. وما كان يهم الدول الاستعمارية الاوروبية والامبريالية الاميركية هو بالدرجة الاولى تخريب لبنان وتدميره، تمهيدا للتدخل الخارجي ووضع اليد على الارض اللبنانية، حتى ولو كان ذلك على حساب المسيحيين انفسهم. وفي هذا الصدد يقول العميد الاسبق لحزب "الكتلة الوطنية" (الحزب المسيحي القديم) المرحوم ريمون ادة، الذي رفض ان يحمل حزبه السلاح "ان اورويا تبيع كل المسيحيين ببرميل نفط". وبسبب هذا الموقف تعرض ريمون ادة لمحاولة اغتيال، نسبتها الصحف لحزب الكتائب، مما اضطره لمغادرة المنطقة المسيحية واللجوء الى فرنسا. وفي لقاء بين رئيس الجمهورية سليمان فرنجية والمبعوث الرئاسي الاميركي الخاص الى لبنان دين براون، ابدى فرنجية تخوفه على مصير المسيحيين. ولكن دين براون "طمأنه" قائلا له "ان السفن الاميركية جاهزة لنقل المسيحيين اللبنانيين الى الغرب".
***
وفي 26 شباط 1975 اطلقت النار على القائد الشعبي معروف سعد، الذي توفي بعد ايام متأثرا بجراحه. وحامت الشبهات حول الاجهزة الامنية باغتيال هذا القائد الوطني المعروف. وفي تلك الاجواء المشحونة جدا، تم في 13 نيسان 1975 ارتكاب مجزرة بوسطة عين الرمانة التي انطلقت منها شرارة الحرب اللبنانية، التي استمرت على موجات متقطعة حتى نهاية عام 1990، وتخللها دخول "قوات الردع العربية" والقوات الدولية "متعددة الجنسية"، والاحتلال الاسرائيلي للبنان، بالتعاون الوثيق مع القوات المسلحة للاحزاب المسيحية، وعلى رأسها حزب الكتائب. ولتأكيد حرصها على "الحياد" و"السيادة اللبنانية" ساهمت الكتائب واضرابها في الحصار الاسرائيلي الطويل لبيروت الغربية، وقطع الكهرباء والماء والغذاء والدواء عنها، وتدميرها الوحشي، جنبا الى جنب القوات النازية اليهودية. وكانت القوات اللبنانية بقيادة المجرم الطائفي والعميل سليل الخيانة بشير الجميل تصطاد بعض المواطنين الهاربين من جحيم القصف الجهنمي للغربية، والذين كانوا ينجحون في التسلل عبر خطوط التماس، وتقتلهم على الهوية. وقد امتلأت حينذاك خطوط التماس بالجثث مجهولة الهوية.
واذا نظرنا الى مجريات الحرب اللبنانية من اولها الى اخرها (1975 ــ 1990) نظرة سطحية "خارجية" نخلص الى الاستنتاج بأنها كانت حربا عبثية وفوضوية كان فيها الجميع يقاتل الجميع. ولكن الواقع هو غير ذلك تماما. فالحرب كانت تدار، بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، من قبل "غرفة عمليات سوداء" مشتركة (اميركية ــ ناتوية ــ اسرائيلية ــ سعودية ــ طابورخامسية لبنانية "اسلامية ــ مسيحية") تقودها طبعا المخابرات الاميركية. وكل ما كان يجري على الساحة اللبنانية كان يجري ضمن مخطط مدروس وموضوع مسبقا ويهدف الى الوصول لاهداف محددة. ونكتفي بمراجعة الوقائع التالية:
1ــ القتل على الهوية والقصف والمفخخات العشوائية: كانت هذه الجرائم من ابشع مظاهر الحرب الاهلية في لبنان، وكان يبدو في الظاهر انها فعلا عشوائية و"عمياء". ولكنها في الواقع كانت عمليات مدروسة تماما و"واعية" تماما. فحينما كان ينصب حاجز للخطف على الهوية، كان يتم اخذ اسماء المخطوفين، وكان بعض مسؤولي الخاطفين يقومون باتصالات مع طرف ما وتقديم الاسماء، ومن ثم كان الخاطفون يتلقون تعليمات بقتل بعض المخطوفين، والاحتفاظ ببعضهم، والافراج عن بعضهم الاخر. ومن خلال هذه الانتقائية كانت تتم تصفية اشخاص من مختلف المناطق او العائلات في "المنطقة المعادية" لم تنخرط بعد في النزاع الطائفي. و"المبدأ" ذاته كان يطبق على القصف والتفخيخ "العشوائي"، الذي لم يكن عشوائيا ابدا، بل يهدف الى استفزاز مختلف المناطق لزجها في الصراع الطائفي، وإضعاف التوجهات الوطنية ودفع الجماهير للالتفاف حول القوى الطائفية المشبوهة.
2ــ "مشروع سوليدير": في اعقاب الحرب الاهلية اللبنانية (1975 ــ 1990)، نشأت على الفور شركة "سوليدير" على انقاض الاسواق الشعبية القديمة في وسط بيروت. وصوّر الاعلام اللبناني التجاري والمأجور إنشاء شركة "سوليدير" على انه تعبير عن "وطنية" القائمين به، ومبادرة خلاقة لاعادة بناء ما دمرته الحرب، ومظهر من مظاهر "معجزات" العبقرية الاقتصادية اللبنانية و"الاخوة العربية" (مع "عرب" السعودية بالاخص).
ولكن الواقع هو عكس ذلك تماما، فعملية الاعمار والبناء لشركة "سوليدير" ليست عملية "منقطعة" عن الحرب اللبنانية و"مضادة" لها؛ بل على العكس هي حلقة مكملة للحرب اللبنانية، بل هي حلقة "ختامية" للحرب اللبنانية التي لم تكن سوى "وسيلة" للتوصل اليها بواسطتها. ونسجل هنا الوقائع التالية:
أــ ان التسويق هو حلقة مركزية في العملية الانتاجية التي تتسلسل في ثلاث حلقات هي (الانتاج ــ التسويق ــ الاستهلاك). وقد كانت الاسواق الشعبية القديمة في وسط العاصمة بيروت تضطلع بدور رئيسي كحلقة مركزية بين المنتجين اللبنانيين (وخصوصا المزارعين حتى اصغرهم) وبين عامة المواطنين ــ المستهلكين. فكان اصغر مزارع في الارياف يستطيع يوميا تحميل بضع صحاحير من حقله الصغير في البيك اب (الذي قد يكون صاحبه قريبه او ابن ضيعته)، وبعد ان يكمل صاحب البيك اب حمله ينقله الى السوق في بيروت ويبيعه لـ"تاجر الجملة"، ويعود الى الضيعة ويحاسب كل مزارع على المنتوج الذي استلمه منه. وكان جميع "تجار الجملة" او "تجار المفرق" او الحرفيين، او محلات تسويق الالبسة والاحذية والمفروشات والمواد الغذائية وغيرها من المنتوجات الاستهلاكية، اما ملاكين قدماء، او مستأجرين قدماء، لمحلاتهم، اي ان ملكياتهم او اجاراتهم كانت قديمة اي رخيصة. وكان ذلك يعني ان "تاجر الجملة" او "المفرق" في الاسواق الشعبية القديمة في بيروت لم يكن يزيد مبالغ كبيرة على اسعار السلع، للتعويض عن الملكية او اجار المحل. ومن جهة ثانية كان بامكان اصغر "دكنجي" في اي حي في بيروت، وافقر "بياع عربية" ان ينزل الى السوق الشعبي ويشتري الكمية التي يريد، حسب امكانياته، ويذهب لبيعها في محله او على عربيته، بربح معتدل عادة يتناسب مع دخل افقر مواطن. وهذه "الدورة الانتاجية ــ التسويقية ــ الاستهلاكية" الشعبية، كانت تشجع استمرار وتطوير الاقتصاد الانتاجي (الزراعي والحرفي والصناعي الاستهلاكي) في لبنان؛ وهو ما كان المخطط الاميركي يريد ضربه. وبالتالي فإن تدمير الاسواق الشعبية في وسط بيروت كان احد الاهداف "الواعية!" المهمة للحرب الطائفية اللبنانية "العمياء!".
ب ــ لم يعد سرا ان السعودية كانت مصدرا رئيسيا لتمويل حزب الكتائب اللبنانية منذ ما قبل اندلاع الحرب اللبنانية في 1975. وقبل وخلال الحرب كان حزب الكتائب و"قواته اللبنانية" يحصلون على مئات ملايين الدولارات من السعودية. وفي الوقت ذاته كانت السعودية تمول بعض المنظمات الفلسطينية والاسلامية اللبنانية او بعض الجيوب او بعض المتنفذين او القبضايات او "الابوات" في منظمات او مجموعات فلسطينية او اسلامية او "عروبية" لبنانية. ويذكر الكثير من معايشي الحرب اللبنانية (وانا واحد منهم)، انه في الكثير من الاحيان كان بعض الاطراف يستغلون الاشتباكات القائمة على خطوط التماس ويقومون بتوجيه المدفعية في ايديهم لقصف الاسواق الشعبية بالذات، بدون ان يكون فيها اي "طرف معاد" او اي سبب عسكري. واحيانا كان يتم افتعال اشتباكات وهمية وكاذبة، وخصوصا في الليالي، لقصف الاسواق الشعبية من "الشرقية" ومن "الغربية" على السواء في وقت واحد.
وهذا كله يعني انه كان يوجد مخطط مسبق ومدروس لتدمير الاسواق الشعبية في وسط بيروت، اولا، لوضع البلد ــ بعد نهاية الحرب ــ امام الامر الواقع، لوضع اليد على وسط بيروت من اجل "اعادة الاعمار!". وثانيا، للتحرر او التخلص من اثمان و"خلوات" المحلات في الاسواق الشعبية، فيما لو اريد وضع اليد عليها واستملاكها وهي غير مدمرة.
وهذا يعني ان تدمير الاسواق الشعبية في بيروت كان جزءا لا يتجزأ من مشروع تأسيس شركة "سوليدير" بأقل كلفة ممكنة. ولو اجريت اي دراسة عن الموضوع، وبمعزل عن الجانب السياسي للمخططات الاميركية، لخلصت الى نتيجة ان الفارق بين اثمان الاستملاكات و"الخلوات" للاسواق الشعبية في وضع عادي، وبين ما دفعته "سوليدير" للملاكين والمستأجرين القدماء، هو بمليارات الدولارات. اي ان ما دفعته "سوليدير" هو اقل بكثير جدا من التمويل الذي دفع لمختلف الاطراف المتحاربة ظاهريا لتدمير الاسواق.
وربما تكتشف تلك الدراسة ان "الممولين السعوديين او المسعودين" لعملية تدمير الاسواق الشعبية في وسط بيروت، هم انفسهم كانوا من كبار مؤسسي "شركة سوليدير".
3 ــ "التعريب" و"السعودة":
جرى تفجير الحرب اللبنانية في اعقاب حرب تشرين الاول/اكتوبر 1973، وفي ارتباط وثيق معها. وكان الهدف من تلك الحرب التوصل الى توقيع اتفاقيات "السلام" مع "اسرائيل". ولهذه الغاية "تواطأت" الادارة الاميركية، موضوعيا على الاقل، مع نظام السادات في تحقيق الانجاز البطولي للجيش المصري في عبور قناة السويس واختراق "خط بارليف". اذ ان الجانب الاميركي، (بما يمتلك من الاقمار الصناعية التجسسية وطائرات التجسس "اواكس" التي تطير من السعودية وتمسح المنطقة شبرا شبرا بالطول والعرض) لم يقم بابلاغ حليفه الستراتيجي اسرائيل، بحشودات الجيش المصري، حيث فوجئ قسم من الجنود الاسرائيليين في خط بارليف بالهجوم وهم بالبيجامات. كما استخدمت الادارة الاميركية نفوذها لدى اسرائيل لدفعها للانسحاب من سيناء، عملا باتفاقية كامب دايفيد "للسلام". وكان الهدف من كل ذلك هو اضفاء طابع بطولي على نظام السادات ( الذي اطلق عليه لقب "بطل العبور") لتبرير وتمريرعملية "السلام" بأنها لا تتم من "موقع ضعف" بل من "موقع قوة" وانها ايضا "عمل بطولي". والحكمة الاميركية ــ الاسرائيلية من هذه "اللعبة الشطرنجية" كانت بسيطة للغاية وهي: "خذ سيناء، واعطنا مصر!". لقد سمى النظام الساداتي حرب اكتوبر بأنها "حرب تحرير". ولكن الكثيرين من المحللين التاريخيين سموها "حرب تحريك!".
وقد لجأ النظام الساداتي، ومن فوقه اميركا، ومعهما دول الناتو والاتحاد الاوروبي والانظمة العربية العميلة وعلى رأسها النظام السعودي، لاستخدام نفوذهم وضغوطاتهم واغراءاتهم لدفع النظام السوري ومنظمة التحرير الفلسطينية نحو مستنقع "السلام!" مع اسرائيل، على "الطريقة الساداتية".
ولكن الاتجاه لتوقيع اتفاقية "سلام" بين اسرائيل والنظام السوري كان اصعب بكثير مما بينها وبين نظام السادات، لانه اذا كان بامكان اسرائيل ان تقدم شيئا لنظام السادات، بالانسحاب من سيناء تحت شعار "الارض مقابل السلام!"، فإنها لم يكن بامكانها ان تنسحب من الجولان المحتل لان ذلك يعني الانتحار الستراتيجي لاسرائيل. وقد رفع النظام السوري الشعار الملتبس عن "السلام العادل والشامل"، واصر على الانسحاب الاسرائيلي الى خطوط 4 حزيران 1967. وهو ما ترفضه اسرائيل واميركا تماما.
ومن اجل اضعاف النظام السوري و"تليين" موقفه، جرى اغراؤه واستدراجه للتدخل في الساحة اللبنانية، والغرق في وحول الحرب اللبنانية.
وفي اطار "تعريب" الازمة اللبنانية منذ كانون الثاني 1976، تواجدت على الساحة اللبنانية ثلاث قوى عربية، معادية لاسرائيل، ولكنه يوجد بينها اختلافات سياسية واستراتيجية، هي: قوات النظام السوري، منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية والبيئة الاسلامية اللبنانيتان. وكانت هذه القوى الثلاث جميعا مخترقة بوضوح من قبل اميركا والسعودية. وللمثال، انه في جانب النظام السوري كان يوجد عبدالحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان. وقد عملت المخابرات الاميركية والسعودية كل ما تستطيع لان تضرب تلك القوى "العربية" الثلاث بعضها ببعض، لاضعافها جميعا. وفي تلك الظروف أنشئت المنظمات التكفيرية (السابقة على الداعشية) مثل "جند الله" في بيروت، و"حركة التوحيد الاسلامي" بقيادة الشيخ سعيد شعبان في طرابلس. وتم إخراج حرب طرابلس بين الحركة الوطنية، من جهة، وحركة التوحيد الاسلامي ومنظمة التحرير الفلسطينية، من جهة اخرى، وحرب امل ضد المخيمات الفلسطينية حيث حوصرت المخيمات الى درجة ان احد الشيوخ افتى بجواز اكل الكلاب والقطط، وحرب امل والحزب الشيوعي، وحرب امل والحزب الاشتراكي، واخيرا لا آخرا "حرب الاخوة" امل ــ حزب الله. وتحت عباءة "التعريب"، وبوجود القوات والمخابرات السورية تم اغتيال الزعيم الوطني كمال جنبلاط، وتغييب الامام السيد موسى الصدر (على ايدي نظام معمر القذافي الذي اطلق عليه في حينه عبدالناصر هيكل اللقب الشرفي "امين القومية العربية").
وفي تلك الاجواء العكرة جرت شيطنة كل الاطراف اللبنانية والعربية، باستثناء النظام السعودي الذي ظل على علاقة ظاهرية جيدة مع كل الاطراف المعنية والمتصارعة في الساحة اللبنانية. واخيرا اسفرت هذه الكوميديا السوداء، ذات السيناريو المخابراتي الاميركي ــ الاسرائيلي ــ السعودي المحبوك جيدا، عن بسط العباءة السعودية على لبنان؛ فعقد في الطائف في السعودية الاجتماع الذي حضره 62 نائبا لبنانيا وسمي "مؤتمر الطائف" برعاية المملكة السعودية، وصدر عنه ما سمي "اتفاق الطائف" في 30 ايلول 1989، الذي صدق عليه مجلس النواب بتاريخ 5/11/1989. وبناء عليه اعلنت "نهاية!" الحرب الاهلية اللبنانية.
وعلى الاثر انقضّت المملكة السعودية على لبنان الجريح، كما ينقض الباز الكاسر على الطريدة الضعيفة، بواسطة المؤسسة المالية ــ الاعلامية ــ السياسية، الحريرية، المرتبطة ارتباطا وثيقا ومباشرا بالمراجع العليا في السعودية. وبدأ تنفيذ خطة شاملة للتقويض التام للاققتصاد الانتاجي اللبناني، ولدولرة الاقتصاد، واغراق البلد بالديون، وزيادة الانفاق غير المجدي، وتعميم وتغويل الفساد والصفقات المشبوهة ونهب الممتلكات العامة، وتحويل البنك المركزي الى "ثقب اسود" لابتلاع مالية الدولة وكل الاقتصاد الوطني، وفرض الوكالات الحصرية وامساك عدد من المافيات الاحتكارية بكل عمليات الاستيراد التي تشمل جميع مقومات الحياة اليومية من طاقة وكهرباء وغذاء ودواء. اي باختصار: جرى احتلال البلد اقتصاديا، والتحكم بحياة الشعب تحكما كاملا. ولتغطية كل هذه الجرائم بدأت طباعة مئات مليارات الليرات الورقية واغراق الدورة الاقتصادية بها تحت الشعار الناعم لرياض سلامة "الليرة بخير"، واقامة الاحتفالات البرّاقة، ومسابقات الغناء والرقص وملكات الزهور والربيع والتبولة والكبة النية وطبعا الجمال و"هزي يا نواعم خصرك الحرير"، للايحاء ان كل شيء يسير على ما يرام في اكذوبة "سويسرا الشرق".
***
والان "راحت السَكرة واجت الفكرة"؛ وكل ما تريده اميركا والسعودية من الشعب اللبناني الان هو "فقط" التخلي عن المقاومة والرضوخ للوصاية الاميركية ــ السعودية المشتركة والتطبيع مع "الجارة المسالمة" اسرائيل؛ والا... فعوْد على بدء؛ وتجديد الحرب الاهلية اللبنانية بقالبها الطائفي.
وكل الاحداث التي جرت على الساحة اللبنانية في السنتين الاخيرتين، منذ فبركة مسرحية "ثورة الواتس اب" المشبوهة والمشؤومة في 17 تشرين الثاني 2019، الى تفجير مرفأ بيروت، الى الاستفزازات التي تعرضت لها المقاومة في حادثة شويا، وجريمة كمين خلدة، ومجزرة الطيونة الاخيرة، تدخل تحت العناوين التالية:
ــ اما التخلي عن المقاومة وتفكيكها وتصفيتها؛ والدخول تحت مظلة الاستسلام لاميركا والسعودية والتطبيع مع اسرائيل.
ــ واما العودة للحرب الاهلية وتدمير جميع مقومات المجتمع، وتعميم المجاعة والكورونا، وتهجير اغلبية سكان لبنان، كي لا يبقى سوى اقل من مليون نسمة هو اقصى ما تحتاجه عملية تحويل لبنان الى "منطقة تجارية حرة" مفتوحة، ومدينة ملاهي وقمار وكرخانة للجنود ابناء "العم سام"، ولليهود "احفاد النبي داود".
وطالما ان المجرمين المرتكبين ومشغّليهم لم ينالوا عقابهم القانوني فإن الاستفزازات ضد المقاومة وجماهيرها ستتواصل، وتزداد اجرامية وشراسة، في مختلف الاماكن ومختلف الاشكال.
***
هل يمكن الانتصار على العدوان الاقتصادي الحالي، الاميركي ــ السعودي ــ الطابورخامسي، الوحشي، على الشعب اللبناني الصغير والضعيف والفقير؟
لقد تم في السابق الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية، قبل احتلال الاراضي اللبنانية.
وكانت القوى الوطنية (بل و"الثورية") العربية قد وصلت الى السلطة، على اكتاف الجماهير المناضلة، وباسم التحرير، في بلدان عربية كبيرة وقوية وغنية (اكبر واقوى واغنى بما لا يقاس من لبنان). ولكن تلك القوى فشلت في التحرير (الا بالخيانة الوطنية والقومية كما فعل نظام السادات).
ــ لماذا؟
لان تلك القوى التهت بالسلطة. فوضعت العربة امام الحصان. ولم يعد المهم بالنسبة لها وضع السلطة في خدمة التحرير، بل صار همها الاحتفاظ بالسلطة، وتحويل التحرير الى شعار ديماغوجي في خدمة الاحتفاظ بالسلطة.
اما في لبنان فإن تعقيدات تركيبته الطائفية ــ السياسية كانت كافية لعدم وجود وهم لدى القوى الوطنية العلمانية والاسلامية بامكانية الوصول الى السلطة قبل التحرير، ولا بامكانية الاعتماد على السلطة القائمة من اجل التحرير.
اي ان القوى الوطنية "اللبنانية" (بالمعنى الجغرافي او ""القطري") واهمها كان حزب الله، وجدت نفسها موضوعيا انها ملزمة بالاعتماد على الذات وانتهاج وتطبيق ستراتيجية المقاومة الشعبية وحرب التحرير الشعبية، خارج السلطة وبدونها واحيانا ضدها، مثل اي ثورة وحرب تحرير شعبية اخرى، في روسيا والصين وفيتنام وكوبا والجزائر وغيرها من بلدان العالم.
ان لبنان ليس من المريخ او اي كوكب اخر، بل هو من هذا الكوكب الارضي وجزء من هذا العالم. ومثلما انتصرت المقاومة الشعبية والثورة الشعبية وحرب التحرير الشعبية في البلدان الاخرى، كان من المحتم ان تنتصر المقاومة الشعبية بقيادة حزب الله في لبنان ايضا.
وحينما كانت بعض الانظمة العربية "الوطنية" تحديدا تنتظر تحقيق اعجوبة "التوازن الستراتيجي مع العدو" (يعني الحصول على كل الترسانة الحربية السوفياتية من اجل تحقيق التوازن الستراتيجي للبلد المعني مع اميركا وحلف الناتو اللذين يدعمان اسرائيل) وذلكك ليس حتى من اجل تحقيق "التحرير" بل من اجل "السلام العادل والشامل" مع العدو؛ فإن المقاومة الشعبية اللبنانية الباسلة بقيادة حزب الله استطاعت ان تهزم "جيش اسرائيل الذي لا يقهر" والذي ولى هاربا من الارض اللبنانية المحتلة، هو وعملاؤه، في 25 ايار 2000؛ ثم تمت هزيمته في عدوان تموز 2006؛ وهو اليوم يحسب مليون حساب قبل ان يفكر بالاعتداء مجددا على لبنان؛ ويذهب رئيس وزرائه النفتالين الى موسكو ليستجدي (باسم المليون يهودي روسي في اسرائيل) من الرئيس الروسي بوتين ضمانات لعدم تدمير الدولة الاسرائيلية بصواريخ المقاومة ومطيّراتها في حال نشوب اشتباك واسع في المنطقة.
وفي رأيي المتواضع انه مثلما انتصرت المقاومة على الاحتلال والعدوان الاسرائيلي بتطبيق ستراتيجية حرب التحرير الشعبية، من خارج الدولة وبدونها وحتى ضدها، فإنها حتما يمكنها تجنيب لبنان والشعب اللبناني المظلوم خطر الانجرار الى فخ الحرب الاهلية بقالبها الطائفي العبثي والمقيت، وهزيمة العدوان الاقتصادي وحرب التجويع، وتحطيم جيش الطابور الخامس الخياني المرتبط بالامبريالية الاميركية واسرائيل والسعودية، والذي هو نفسه جيش الفاسدين والمرتشين واللصوص والنهّابين والمحتكرين ومهربي الاموال والمواد الغذائية والاستهلاكية الشعبية والمضاربين ضد العملة الوطنية واصحاب الصفقات المشبوهة وسماسرتهم وناهبي الاملاك العامة واصحاب الهندسات المالية ومخططات اغراق البلاد في الدين العام المنهوب الخ.
ان الحرب المظفرة، كل حرب مظفرة، تبدأ بالامساك بزمام المبادرة من البداية حتى النصر، مهما كانت الامكانيات الاولى ضعيفة والخطوات الاولى صغيرة. المهم الاحتفاظ بأفضلية الهجوم، ومباغتة العدو باستمرار، وجعله في حالة بلبلة وضياع. ومهما كانت ردات فعل العدو، ان يبقى الفعل، وتبقى المبادرة، بأيدي المقاومة الشعبية.
وفي رأينا المتواضع انه، وردا على الاستفزازات الامنية ــ السياسية ذات البعد والاهداف الطائفية التي تتعرض لها المقاومة وجمهورها في الوقت الراهن، على خلفية الحرب الاقتصادية الشاملة، فإن المقاومة بإمكانها ان ترد بهجوم ستراتيجي مضاد شامل، على جبهتين:
اولا ــ سياسيا:
بمختلف اشكال التعاون مع الحلفاء والوطنيين وجميع المواطنين المستقلين الشرفاء في لبنان، من جميع الطوائف والاحزاب والمعتقدات والتوجهات، ان تعمل المقاومة لشن حرب سياسية ــ اعلامية ـــ قضائية شاملة، يومية ومتواصلة، ضد المعسكر المعادي بشكل عام، وبشكل تفصيلي وفردي، ضد سياسة الخيانة الوطنية والعمالة لاميركا واسرائيل والسعودية وزعانفها، وجميع الفاسدين واللصوص والمحتكرين مجوعي الشعب؛ وتحضير ونشر الملفات حول جميع القضايا وحول كل شخص على حدة، وبالاسم، ونشر الحقائق والفضائح على الملأ، وتقديم سيل من الشكاوى القضائية واتخاذ صفة الادعاء الشخصي حيث يمكن في كل قضية مطروحة، كدعاوى المواطنين الذين عانوا من الاحتلال وقُتل ابناؤهم ودمرت بيوتهم وتضرروا، ودعاوى المودعين الذين سرقت البنوك اموالهم، ودعاوى المرضى واهالي المرضى الذين ماتوا بسبب فقدان الدواء، وجميع اشكال الدعاوى الممكنة التي يمكن ان توجه ضد اسرائيل كدولة احتلال وضد المؤسسات الاميركية التي تمارس الحصار والعقوبات على لبنان واللبنانيين، وضد كل لبناني متورط في اي جريمة خيانة وطنية وعمالة وفساد؛ ينبغي اغراق القضاء بمثل هذه الدعاوى، ونشر الفضائح وشن الحملات الاعلامية في مختلف وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي؛ ينبغي ان لا نترك اي عدو وطني واي عميل واي مرتكب ان يرتاح، ونمنعه ان ينام هادئا في اي يوم.
ومن ضمن هذا السياق ينبغي عقد الاجتماعات الصغيرة والكبيرة، واقامة التجمعات الجماهيرية، وتسيير المظاهرات السلمية الاحتجاجية في جميع القطاعات والقرى والاحياء والمدن اللبنانية تحت شعارات تعبوية شعبية مثل "الموت للعملاء والخونة"، "لا مكان للصوص والفاسدين والمحتكرين في لبنان"، "مجوعو الشعب الى المشانق"، "القتلة محتكرو الدواء الى المشانق"، "لا للاعلام العميل والطائفي والمأجور" الخ.
ان من شأن مثل هذه الحرب السياسية ــ الاعلامية ــ القضائية ــ التعبوية ان تقض مضاجع قيادات الطابور الخامس والاحزاب العميلة، وان تنتزع المبادرة السياسية والتآمرية ــ الامنية منها، وان تحطم الحواجز الطائفية بين المناطق والاطياف السكانية وفي القطاعات المهنية والاجتماعية، وتنزع الصبغة الطائفية عن النزاعات وتوجهها في الاتجاه الوطني والاجتماعي والحقوقي.
ثانيا ــ اقتصاديا واجتماعيا:
عدم الاكتفاء بالموقف الدفاعي والشكوى وكشف المعاناة والمظالم المعيشية والصحية الخ. التي تتعرض لها جماهير الشعب اللبناني، وتحميل المقاومة المسؤولية الكاذبة عما يحدث، من اجل ايجاد شرخ بين المقاومة والجماهير، لدفع الجماهير الى الاستسلام، وتسهيل جر المقاومة الى ردود الفعل الطائفية تمهيدا للتعريب والتدويل ولجم وضرب المقاومة؛
بل الانتقال من الموقف الدفاعي الى الموقف الهجومي الشامل على الجبهة الاقتصادية ــ الاجتماعية، بالاستناد الى عاملين ستراتيجيين رئيسيين هما:
ــ أ ــ الرصيد السياسي والمعنوي الكبير الذي حققته المقاومة بفضل التضحيات الكبرى التي قدمها الشهداء والجرحى والمتضررين، في النضال ضد الاحتلال الاسرائيلي والطاعون التكفيري، وبفضل التحرير والانتصارات التي تحققت.
ان توظيف هذا الرصيد لاقناع اوسع الجماهير الشعبية بالمشاركة ودعم المبادرات التي تطرحها المقاومة، هو "رأسمال" مسبق لا يقدر بثمن، لانجاح وتطوير جميع المبادرات التي تطرحها المقاومة على صعيد الحرب الاقتصادية ــ الاجتماعية المضادة، ضد حرب الافقار والتجويع والموت التي تشنها جبهة الاعداء: اميركا واسرائيل والدول الغربية والسعودية والانظمة العربية العميلة، والطابور الخامس اللبناني.
ــ ب ــ التقاليد الشعبية العريقة في التقشف والصبر والتكافل والصراع المشترك لاجل البقاء في اقسى ظروف الحروب والاحتلال والمظالم والمجاعات، التي عانت منها جماهيرنا المظلومة منذ مئات السنين؛ والاريحية والعبقرية الشعبية في التعاون والابتكار والعمل والانتاج الفردي والعائلي والمشترك في مختلف الحقبات ومختلف الظروف واشدها صعوبة.
ان الشعب اللبناني ليس هو الشعب الوحيد الذي واجه حرب الحصار والتجويع؛ وليست هي المرة الاولى التي يواجه فيها شعبنا مثل هذه الحرب. ولكن شعبنا الان ليس وحده؛ وهو يمتلك التجارب والقدرة على مواجهة جبهة الاعداء الامبرياليين الخارجيين والخونة ومصاصي الدماء وتجار الموت الداخليين؛ وهو يمتلك الصخرة الجبارة التي يمكن ان يبني عليها الصمود والانتصار، والمتمثلة في المقاومة بقيادتها الشجاعة، المخلصة، الصادقة والحكيمة.
وبناء على هذه المعطيات الموضوعية والذاتية الاساسية، يمكن للمقاومة ان تقوم بمبادرات وطنية كبرى اهمها:
1 ــ تشكيل "حكومة ظل وطنية" لبنانية، لكل وزارة وزير؛ وتتألف من كادرات من المقاومة والحلفاء والمستقلين الوطنيين والشرفاء؛ وهي ممارسة متبعة في الكثير من البلدان "الدمقراطية" الغربية. وتجمع كل "وزارة ظل" كل ما يمكن جمعه من الملفات والقضايا القديمة والجديدة، الموجودة في الوزارة الرسمية، وتقوم بدراستها وابداء الرأي فيها ومراقبة الوزارة الرسمية على اساسها، كما تبادر وزارة الظل التابعة للمقاومة بوضع الدراسات وطرح المشاريع والخطط والمقترحات الجديدة ضمن اختصاصها وكأنها هي الوزارة الاصلية. وتُطلع وزارة الظل الرأي العام على كل نشاطاتها، لاجل اشراك الجماهير في جميع القضايا المطروحة.
ان "حكومة الظل الوطنية" يمكن ان تكون اداة فعالة لمراقبة ونقد وتوجيه عمل الحكومة الرسمية وكشف تقصيرها وانحرافها في اي مشروع كان، ودعمها حين تستحق الدعم. وباختصار ان "حكومة الظل الوطنية" يمكن ان تلعب دور "الضمير الوطني" للرأي العام اللبناني.
ومن اهم القضايا التي يتوجب على "حكومة الظل" الاضطلاع بها، مع الدولة وبدونها، هي: مشكلة الكهرباء والمحروقات، قضية النظام الصحي، وقضية النظام التعليمي، وقضية النقل العام.
2 ــ تشكيل "مجلس اقتصادي وطني اعلى" يتكون من خبراء ماليين واقتصاديين اكفاء من كوادر المقاومة والحلفاء والمستقلين الوطنيين والشرفاء، ويضم في عضويته حكما ممثل رئيسي من كل من "وزارات الظل" ذات الصلة المالية والافتصادية في "حكومة الظل الوطنية".
ويقوم هذا المجلس بالمهمات الرئيسية التالية:
أ ــ مراقبة السلوك المالي والاقتصادي للدولة، وللبنك المركزي، وللمصارف، وللمرافق العامة، ولجميع المؤسسات والشركات الكبرى، ودعمها حيث يلزم، ونقدها وفضحها عند الضرورة، وذلك بالتعاون الوثيق مع البلديات والهيئات النقابية المعنية ومع الموظفين والعاملين الشرفاء في جميع المؤسسات العامة والخاصة. واطلاع الرأي العام على كل ما هو ضروري. وفي حال وجود تجاوزات وارتكابات، فضحها امام الرأي العام واقامة الدعاوى القضائية بالشكل المناسب حين الضرورة.
ب ــ تجميع الوثائق والمعلومات الضرورية واجراء الدراسات المعمقة عن السياسة الاقتصادية الكارثية التي طبقت على لبنان، منذ اقامة "جمهورية الطائف" الى اليوم، وخصوصا اغراق البلاد في الديون المبذرة والمنهوبة والتي هدفت الى تقييد واستعباد الشعب اللبناني؛ وفضح جميع اطراف كل قرض على حدة (دولا ومؤسسات واشخاصا) بالاسماء، والتشهير بهم ورفع الدعاوى القضائية ضدهم والمطالبة بالتعويضات حيث يلزم.
ج ــ اقامة الاتصالات واجراء المباحثات مع جميع الدول الصديقة، والمؤسسات الاقتصادية الدولية التي يمكن التعاون معها، واقتراح او الاطلاع على العروض والمشاريع التي يمكن لتلك الدول والمؤسسات ان تنفذها في لبنان، وكذلك امكانيات تصدير المنتجات اللبنانية اليها، ومن ثم امكانيات عقد اتفاقيات اقتصادية وتجارية مع تلك الدول والمؤسسات؛ وبحث ودراسة هذه العروض والمشاريع والاتفاقات مع النقابات والهيئات المهنية والحكومية المعنية في لبنان، ونشرها على الرأي العام، والنضال بالاشكال الجماهيرية المناسبة لاجل دفع الدولة الى الاخذ بها وتطبيقها. وفي حال وجود تلكؤ او ممانعة مشبوهين، فضح المسؤولين عن ذلك، بالاسماء والوقائع، امام الرأي العام اللبناني.
د ــ واهم ما يمكن عمله من قبل "المجلس الاقتصادي الوطني الاعلى" هو وضع خطة مالية ــ اقتصادية عامة للبلد، تتمحور حول التوجه نحو بناء اقتصاد انتاجي نام. ونشر هذه الخطة في وسائل الاعلام، ودراستها جملة وتفصيلا مع البلديات والنقابات والاتحادات المهنية والمؤسسات والهيئات المعنية، والعمل لتأليب الرأي العام الى جانب تطبيقها.
وبناء على هذه الخطة ان يبدأ المجلس بالتحويل الكامل للبلد الى الاقتصاد الانتاجي، من ابسط واصغر الاشكال الانتاجية الى اكبرها. ويمكن البدء بتشجيع وتطوير القطاع الزراعي، لتشغيل المزارعين في اراضيهم، ولتأمين المواد الغذائية للمواطنين. وكخطوات اولى يتم تشكيل مجموعات من المهندسين الزراعيين، مجموعة لكل عدة قرى متجاورة، ويدرس هؤلاء المهندسون طبيعة المنطقة التي هم في اطارها، ويقدمون الارشادات والمساعدة الضرورية لكل عائلة كي تستغل ارضها بأفضل ما يمكن. ومن خلال مجموعة المهندسين الزراعيين يتم استيراد الاسمدة والادوية الكيماوية الضرورية لمكافحة الحشرات والآفات الزراعية، وبيعها للمزارعين باسعار محددة مدروسة، وارشاد المزارعين الى افضل الطرق لاستخدامها. ويمكن تطوير مجموعة المهندسين كي تستورد آلات زراعية يتم تأجيرها للمزارعين باسعار محددة ومدروسة ايضا. وبالتدريج يمكن تحويل كل قرية الى وحدة زراعية تعاونية متكاملة تستخدم الآلات وتطبق اساليب الانتاج الكبير، مع احتفاظ كل عائلة بملكية ارضها. ومن خلال هذا التعاون يمكن وضع وتنفيذ برامج لتربية الماشية، وانشاء حظائر مشتركة مع احتفاظ كل مزارع بملكيته، وكذلك التوجه نحو البستنة وزراعة الاشجار المثمرة، وصناعة الكونسروة، اولا بالعمل اليدوي لملء المراطبين والقناني، والانتقال بالتدريج نحو الانتاج الآلي، وتشغيل الايدي العاملة من غير المالكين بالاضافة الى عمل الملاكين.
والشيء ذاته يمكن ان يطبق في الحرف، كشغل كنزات الصوف والالبسة والاحذية والمفروشات وغيرها من اللوازم، فيجري البدء بالعمل اليدوي المنزلي، ثم تجميع محترفات، ثم الانتقال الى استيراد واستخدام الآلات.
ويمكن لـ"المجلس الاقتصادي الوطني الاعلى" المدعوم من المقاومة ان يستخدم علاقاته مع المتمولين الوطنيين، وكذلك علاقاته الخارجية، لتأسيس مؤسسات صناعية وتجارية مناطقية ومركزية، على اسس مساهمة رأسمالية بحت، وتشغيلها والاشراف عليها، وهو ما لا يتعارض مع قوانين الاقتصاد الرأسمالي الحر في لبنان، ولكنه يضمن عدم الاحتكار وعدم رفع الاسعار الاستغلالي كما يجري الان. ويمكن للمجلس ان يؤسس بنوكا متخصصة: صناعي، زراعي، عقاري، تجاري، بنك تسليف للافراد والعائلات الخ. وغير ذلك من المبادرات ذات الطابع الوطني العام.
ان شن الحرب الاقتصادية الوطنية المضادة من شأنه ليس فقط ان يكسر تماما الحصار وحرب التجويع التي يشنها المعسكر الامبريالي ــ الاسرائيلي ــ السعودي ــ الطابورخامسي على الشعب اللبناني، بل وان يكسر ايضا ونهائيا امكانية جر لبنان الى الفتن الطائفية من جديد، لانه سيسقط من ايدي الاعداء السلاح المالي والاقتصادي، مثلما اسقط ويسقط تفوقهم العسكري.
وان ضرورة تجنب ووأد خطر "الحرب الاهلية الطائفية" تقتضي التصعيد والتطوير النوعي لـ"حرب التحرير الوطنية" والسحق النهائي لمعسكر الخيانة الوطنية في لبنان، واستكمال النصر على يهود الخارج بالنصر على يهود الداخل!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل