صوفيا ـ جورج حداد
ان كل شعب هو محصلة للسيرورة التاريخية لنشوء ومعاناة وتطور جماعة معينة من البشر. والجماعة البشرية التي تكوّن منها الشعب الروسي قد بدأ تشكّل وعيها الذاتي كشعب، منذ البداية، في صراعها للبقاء ضد العبودية لروما القديمة، وضد همجية صيادي البشر اليهود الخزر، وضد الصليبيين والمغول والعثمانيين والبونابرتيين والنازيين. وقد نشأ الشعب الروسي وتبوتق في امة، وتطور على مر التاريخ، كشعب شرقي مناضل بصلابة وتفان متناهيين، ضد جميع اشكال الاستعمار والعبودية الاجنبية، وضد نظم الاستبداد المطلق الداخلي. وفي هذا السياق، برز الشعب الروسي على المسرح الدولي كمدافع عن نفسه اولا، وعن جميع شعوب اسيا واوروبا ثانيا، واستطرادا عن جميع شعوب العالم القديم والجديد.
وهذا ما ينبغي على جميع الوطنيين والتقدميين، اللبنانيين والعرب، دراسته وتفهمه، ليس لاجل اتخاذ موقف سليم وصائب من روسيا والشعب الروسي فقط، بل اولا من اجل اتخاذ موقف سليم وصائب من القضايا الوطنية العربية بالذات.
وفي هذا الصدد نحاول فيما يلي تسليط الضوء على بعض الملامح الرئيسية في تاريخ نشوء وتطور الشعب الروسي ووعيه لذاته وللعالم:
ـ1ـ قبل تبلور الروس كشعب له شخصيته او هويته وثقافته القومية الروسية، سكن الاراضي ذات المناخ القاسي التي صارت تسمى في ما بعد روسيا، مجموعات بشرية قادمة من المناطق الصقيعية، الشمالية والشمالية الشرقية. وقد تمددت تلك المجموعات بالتدريج جنوبا نحو مناطق "اكثر دفئا" او الاصح "اقل صقيعية". وكانت تلك المجموعات تتحمل الصقيع وشظف العيش في مناطق غير صالحة للزراعة ومأهولة قليلا جدا بالحيوانات الصالحة للغذاء، من اجل الاحتفاظ بحريتها، كمجموعات كانت تعيش في مرتبة "النظام المشاعي البدائي" اللاطبقي، الذي يعود اليه فجر الحياة الانسانية كلها، والذي سبق النظام العبودي، الذي دشن مرحلة انظمة الانقسام والتمييز الطبقيين للمجتمع، واستعباد واستغلال وظلم الانسان لاخيه الانسان.
وفي القرون الميلادية الاولى، حينما كانت المجموعات "الروسية!" لا تزال تعيش في مرحلة "ما قبل التاريخ"، كانت الامبراطورية الرومانية قد نشأت كغدة سرطانية في المجتمع البشري، تقوم على النظام العبودي المطلق؛ واخذت تلك الامبراطورية السرطانية تواصل زحفها شرقا وتحتل الاراضي وتستعبد الشعوب، الى ان وصلت الى حدود ما صار يسمى روسيا، فتوقف تقدمها لسببين:
الاول ــ انه لم يكن يوجد "جيش روسي" تقوم القوات الرومانية المدربة والمسلحة افضل تدريب وتسليح، بسحقه، والاستيلاء على اراضيه. بل كان يوجد مجموعات متفرقة لا قيادة مركزية لها ولا تلاقٍ او تنسيق فيما بينها. وبمقدار ما ان القوات الرومانية اخذت تسحق كل مجموعة "روسية" تقع في قبضتها، فإن مجيء القوات الرومانية كان بمثابة "هدية من السماء" لتلك المجموعات التي اخذت تشن "حرب عصابات لصوصية!"، عفوية وعشوائية، ضد القوات الرومانية، لعدم الوقوع في الاسر والعبودية لدى الرومان، وللحصول على الاسلحة والالبسة والاغذية والاحصنة والدواب لاستخدامها او للاغتذاء بها. ونشأ بين الغزاة الرومان واولئك "البدائيين الروس" نوع من توازن الرعب. فبقدر ما كان يقع من الاسرى "الروس" في ايدي الرومان، كان يسقط في الوقت نفسه قتلى من الجنود الرومان. وطبعا لم تكن هذه المعادلة في مصلحة الرومان، لانه ــ بمعايير المجتمع الطبقي العبودي الروماني ــ لا يمكن المساواة بين "قيمة الروماني" و"لاقيمة الروسي".
الثاني ـ ان الارض الروسية كانت صقيعية وجدباء. وحينما تقع احدى المجموعات "الروسية" في قبضة الرومان، لم يكن لدى تلك المجموعة البائسة اية مؤونة زائدة يستفيد منها الجيش الروماني. وكان ابتعاد القوات الرومانية عن خطوط امدادها بالمؤن من المؤخرة صعبا للغاية ويزداد صعوبة كلما توغلت القوات الرومانية اكثر في تلك الارض "اللعينة!".
ولهذين السببين الرئيسيين توقفت روما عن الزحف، وفشل الاحتلال الروماني للارض "الروسية". ولو نجح ذلك الاحتلال الاسود، لكانت روما احتلت العالم القديم باسره، ولانقسم سكان العالم منذ ذلك الزمن الى قسمين: الاسياد الرومان؛ والعبيد من جميع امم الارض.
وبتوقفها عن الزحف وتحقيق الانتصارات، بدأت روما تتآكل من داخلها، وضعفت الى درجة انها اصبحت في النهاية فريسة سهلة للقبائل البدائية الجرمانية التي هاجمتها من الشمال. وبعد توقفها عن الزحف على الاراضي الروسية، استعاضت روما عن ذلك بشن غارات على الاراضي الروسية، واصطياد من يمكن اصطياده من الاسرى "الروس" (او السلافيين) وتحويلهم الى عبيد وارقاء بؤساء في خدمة "روما العظيمة!" التي استبدلت في تلك المرحلة بالذات دين الدولة من الوثنية الى الكاثوليكية. ومن هنا جاء اطلاق تسمية السلافيين (Slavs) (اي الروس) بأنهم عبيد (slaves). وقد دخلت هذه المفردة في جميع قواميس لغات اوروبا الغربية واميركا حتى اليوم.
ونستنتج من ذلك ان الشعب "الروسي"، ومنذ بدايات تشكله وتشكل وعيه الذاتي كشعب، ومع ان تسميته القومية الاصلية (السلافيون Slavs) قد رادفتها روما بكلمة (العبيد slaves)، فإن الشعب "الروسي!" (= "الاماجد" Slaviani بالتعبير الروسي \ "العبيد" slaves بالتعبير الروماني) ــ وبعد ان نجحت روما في سحق قرطاجة وصلب السيد المسيح ــ هو الذي دق اول مسمار في نعش الامبراطورية الرومانية وانقذ شعوب العالم من التحول الى مزرعة عبيد كبيرة يسود فيها الرومان على سائر البشر.
ـ2ـ في منتصف القرن السابع الميلادي أسست القبائل الخزرية الطورانية المتوحشة "مملكة الخزر" على سواحل بحر قزوين في محيط مصب نهر الفولغا الروسي. وكان المصدر الاقتصادي الرئيسي لهذه المملكة هو غزو اراضي الروس (الوثنيين حينذاك) وبلغار الفولغا (المسلمين حينذاك)، ونهب مقتنياتهم واسر الرجال والنساء منهم وبيع المنهوبات والاسرى (كعبيد وجواري) للتجار اليهود العرب. وقد استنجد بلغار الفولغا المسلمون بالخليفة العباسي "المقتدر بالله" ليرسل لهم نجدة عسكرية تحميهم من الغزاة الخزر. ولكن عوضا عن ذلك ارسل لهم الخليفة سنة 921م، بعثة كبيرة برئاسة الرحالة العربي الشهير احمد بن فضلان، وقد ضمت بضعة آلاف من البنائين ومدرسي اللغة العربية والقرآن الكريم لاجل بناء مسجد جامع وتعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم. وقد دون احمد بن فضلان مشاهداته وانطباعاته عن قبائل وشعوب تلك المنطقة في كتابه "رسالة ابن فضلان" (من منشورات وزارة الثقافة السورية وغيرها). وفي هذا الكتاب يذكر ابن فضلان عن إيتل، عاصمة مملكة الخزر، انها كانت مقسومة الى حيين: حي للملك الخزري ونسائه وحاشيته واتباعه، وحي ثان يسميه "الحي الاسلامي" يتزعمه رجل تركي يدعى الغز. ويقول احمد بن فضلان ان احدا لم يكن ليتدخل في شؤون ذلك الحي، الذي كان يأتي اليه "التجار المسلمون"(؟) ويقضون اشغالهم ويرحلون بتجارتهم. ولم يجرؤ احمد بن فضلان ان يدخل ذلك الحي ويقابل أولئك التجار "المسلمين!"، لانه كان يعلم علم اليقين انهم لم يكونوا عربا مسلمين، بل كانوا يهودا، واذا تجرأ وكتب عنهم وعن طبيعة تجارتهم بالمنهوبات وبالبشر ("الروس" الوثنيين وبلغار الفولغا المسلمين)، فإن حياته هو وجميع افراد عائلته في بغداد ستكون في خطر.
ومن خلال تلك العلاقة المصلحية الاساسية بين الخزر والتجار اليهود العرب (العبرانيين) تحول ملك الخزر وقبائله الهمجية الى الديانة اليهودية. والخزر الطورانيون الآريون (وغير الساميين كاليهود العبرانيين) هم بالضبط من يسمون اليهود الاشكينازيم او اليهود الغربيين، ويشكلون اكثر من 90% من يهود العالم.
وانطلاقا من المكانة المميزة التي كان يشغلها المرابون والتجار والنخاسون اليهود في الولايات والامارات العربية والاسلامية، وسيطرتهم على التجارة العالمية من اوروبا والاندلس حتى سور الصين، من جهة، وتحول الخزر الى اليهودية، من جهة ثانية، فإن القيادة اليهودية العالمية اتجهت نحو دعم وتقوية وتوسيع المملكة الخزرية، والعمل لاضعاف الدولة العربية الاسلامية من داخلها، تمهيدا لانقضاض مملكة الخزر اليهودية عليها، واعادة تأسيس "مملكة داود وسليمان" عالمية كبرى، فوق جماجم العرب والمسلمين. ولكن الروس، الذين كانوا يعانون الامرين من عدوانية مملكة الخزر قطعوا الطريق امام تحقيق هذا المخطط اليهودي ــ الخزري. فقد تأسست اول امارة روسية في مدينة نوفغورود سنة 962م. واول "قرار دولة" اتخذته تلك الامارة هو مهاجمة "مملكة الخزر" والانتقام منهم ووضع حد نهائي لغزواتهم ضد الروس. وقد شن الامير سفياتوسلاف الأول حملة عسكرية اقتحمت مدينة إيتل عاصمة خزاريا، ودمرها تدميرا كاملا، ولم يعثر الاثريون على اثر لها حتى الان، ويفترض انها كانت موجودة في موقع مدينة استراخان الحالية. وبعد هذه المعركة منع الروس اليهود الخزر من السكن في محيط بحر قزوين ومصب نهر الفولغا، ومنعوهم من الدخول الى كل المدن الروسية، مما اضطرهم للعيش في الارياف فقط، وقد هاجر قسم كبير منهم الى بولونيا الكاثوليكية التي تحالف اليهود معها ضد روسيا، ببركة الفاتيكان. ولكن مشروع اسرائيل كبرى يهودية ــ خزرية تحكم العالم دُفن الى الابد على ايدي الشعب الروسي. والكلمة الاولى اليوم في اسرائيل هي على وجه التحديد لليهود الغربيين الاشكينازيم الخزر، احفاد "مملكة الخزر" القديمة التي دمرها الروس، الذين ــ لهذا السبب ــ يكنون حقدا دفينا على الروس اكثر بكثير من حقدهم على الفلسطينيين والعرب. ولكن اذا كان الروس قد حموا اليهود الغربيين الاشكينازيم من الافناء على ايدي النازيين في الحرب العالمية الثانية، فإنهم بالتأكيد لن يسمحوا لهم في الزمن الحاضر ان يحققوا المشروع الذي فشلوا في تحقيقه في القرون الوسطى، اي بناء اسرائيل كبرى جديدة يهودية ــ خزرية، معادية للروس والعرب ولكل شعوب العالم ("الغوييم" في "الثقافة! اليهودية").
ـ3ـ جسدت الحروب الصليبية في حينها "الطفرة الجديدة" الاكبر، للغزو الاستعماري للشرق (بمعناه الواسع: العربي ــ الاسلامي، الاسيوي ــ الافريقي، الاغريقي ــ الروسي ــ الاورثوذوكسي). وقد شُنت تلك الحروب بمبادرة من الفاتيكان الكاثوليكي، بهدف مباشر معلن هو تحرير الاراضي المقدسة وقبر السيد المسيح من ايدي "الكفار!" المسلمين. ولكن الهدف الرئيسي الاكبر للحملات الصليبية انما كان فرض سيطرة امبراطورية كاثوليكية ـ صليبية على الشرق كله، ومن ثم على العالم بأسره!
وقد استمرت الحروب الصليبية من أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096 – 1291).
وقد تشكلت تلك الحروب من فرعين:
الفرع الاول ــ هو "الفرع الشرقي"، الذي توجه من اوروبا الوسطى والغربية باتجاه شرقي اوروبا، حيث اكتسح بيزنطية واوروبا الشرقية الاورثوذوكسيتين, واسقط البطريركية المسكونية الاورثوذوكسية في القسطنطينية، المزاحم المسيحي الشرقي الرئيسي لبابوية روما الكاثوليكية، ثم توجه نحو سواحل شرقي المتوسط، وصولا الى فلسطين والقدس؛ كما توجه من اوروبا الغربية والوسطى نحو مصر. وكان الهدف الستراتيجي لهذا الفرع من الحروب الصليبية، وتحت الشعار الكاذب حول "تحرير!" الاراضي المقدسة، السيطرة التامة على كامل الشريط الساحلي، الشمالي والشرقي والجنوبي، للبحر الابيض المتوسط، من اليونان حتى مصر وشمالي افريقية.
وقد نجح الغزاة الصليبيون في اقتحام القدس في حزيران 1099، وارتكبوا فيها مجزرة رهيبة ضد السكان الاصليين ولا سيما المسلمين.
ولكن الغزاة الصليبيين واجهوا في الشرق مقاومة شديدة متواصلة من قبل السكان الاصليين، ومن قبل الامراء المحليين. وفي تموز 1187 حقق صلاح الدين الايوبي الانتصار الكبير على الصليبيين في معركة حطين. وفي تشرين الاول من السنة ذاتها دخلت قواته الى القدس بعد ان استسلمت حاميتها الصليبية الصغيرة.
ومن ثم حرر المماليك المدن الساحلية المحتلة من قبل الصليبيين، وفي نهاية المطاف تم تحرير عكا في ايار 1291، وبه انتهت الحملات الصليبية الشرقية.
والفرع الثاني ــ هو ما يمكن تسميته "الفرع الشمالي للحروب الصليبية". وكان هدفه الستراتيجي: اكتساح واحتلال روسيا، القاعدة الرئيسية للاورثوذوكسية، والعبور من خلالها اولا نحو ايران والعراق، للوصول الى الاراضي المقدسة من الشرق. وثانيا نحو الصين والهند، لفرض الهيمنة الاستعمارية الاوروبية الغربية على الشرق بأسره، باسم التبشير ونشر الديانة الكاثوليكية.
وقد اتجهت الحملات الصليبية الشمالية من شمال المانيا وبولونيا وليتوانيا والبلطيق، ومن السويد وسكندينافيا.
ولكن الروس الفقراء وشبه الجياع تصدوا ببسالة للجحافل الكاثوليكية الصليبية، كما تصدوا في السابق لجحافل الامبراطورية الرومانية القديمة. وفي تموز 1240 سحق الروس في "معركة نهر نيفا" الجيش السويدي المؤلف من 100 الف فارس مدرع، وفي نيسان 1242 سحقوا جيش الفرسان التيوتونيين الالمان في معركة بحيرة بايبوس المتجمدة، ليس بعيدا عن بتروغراد. وبذلك تحطمت قرون التيوس الصليبيين الشماليين على الصخرة الروسية، ولم يستطع ولا صليبي شمالي واحد ان يعبر الاراضي الروسية ليصل الى الشرق العربي الاسلامي، او الى الصين والهند.
ولو قدر للحملات الصليبية الشمالية ان تنتصر هي على الروس، وان تلتقي مع الحملات الصليببية الشرقية، على ارض فلسطين، لكان تم تسمير الانسانية بأسرها، وحتى اليوم، على "الصليب المزيف!" لروما، المضرج بدماء ما لا يحصى من البشر في مشارق الارض ومغاربها!
ـ4ـ وفي المرحلة التاريخية ذاتها استغل الغزاة المغول ــ التتار الظروف الدولية القائمة، التي اوجدتها الحروب الصليبية، ولا سيما تضعضع الدولة العربية الاسلامية، وضعف وتفكك روسيا، فبدأت الامبراطورية المغولية، في عام 1205، بغزو الاراضي الصينية، وفي عام 1279 كانت الاراضي الصينية كلها قد وقعت تحت سيطرة المغول.
وفي عام 1237 بدأ الغزو المغولي لروسيا، وخرب المغول معظم المدن الروسية. وقد اطلقت على هذه الحقبة التاريخية في روسيا تسمية مرحلة النير المغولي ــ التتاري. وظل النير المغولي في إمارات شمال شرق روسيا حتى عام 1480. ولكن الشعب الروسي لم يوقف يوما مقاومته الباسلة للغزاة، الذين كانوا يهدمون ويحرقون القرى والمدن الروسية ويبيدون ملايين السكان. الا ان الشعب الروسي كان يعيد بناء مدنه وقراه، ويدفع الجزية مكرها لخانات المغول، ثم يعود الى الثورة من جديد. فكانت المدن والقرى الروسية تدمر وتحرق اكثر من مرة، ودماء الرجال والنساء والاطفال تخضب باستمرار الانهار الروسية.
وترى جمهرة واسعة من المحللين للتاريخ ان مقاومة الشعب الروسي استنزفت قوة الغزاة المغول وهي التي حالت دون تقدم جحافلهم إلى عمق أوروبا. وبذلك انقذت روسيا الشعوب الأوروبية من النير المغولي. ونحن نضيف ان المقاومة الروسية للمغول والتتار هي التي منعت هولاكو من العودة للانتقام من الشرق العربي ــ الاسلامي بعد هزيمة المغول في معركة عين جالوت في 1260، وهي التي منعت تيمورلنك من مواصلة الزحف باتجاه فلسطين ومصر وما وراءها، بعد "فتح" واستباحة دمشق في 1401.
ـ5ـ بعد فشل ""المملكة اللاتينية" التي اقامها الصليبيون بالقوة في القسطنطينية منذ 1204 حتى 1264، عاد الحكم البيزنطي الى القسطنطينية؛ ولكنه كان حكما ضعيفا. وفي الوقت ذاته كان الروس قد طردوا المغول والتتار، وتغلبوا عليهم، واسقطوهم الى الابد من معادلة القوى الدولية الكبرى؛ وبدأت قوة الدولة الروسية الصاعدة تشتد وتتحرك بقوة على المسرح الدولي. وفي تلك الظروف المتغيرة، بدأ يبرز اكثر فأكثر احتمال ان يقوم تحالف او اتحاد، سياسي وتجاري او عسكري، بين روسيا القوية وبين بيزنطية الضعيفة، الاورثوذوكسيتين كلاهما، وان تتموضع روسيا في القسطنطينية وعلى شواطئ البحر الابيض المتوسط، وتتوطد العلاقات بين روسيا والعالم الاورثوذوكسي وبين العرب والعالم الاسلامي. وهذا ما كان يثير الهستيريا لدى بابوية روما والدول الاوروبية الغربية والطغمة المالية اليهودية العالمية، لانه يقطع الطريق تماما ونهائيا على مطامعها في استعمار ونهب البلدان العربية واوروبا الشرقية وروسيا جميعا. وكان ذلك هو الدافع الاساسي للبابوية وللمتمولين اليهود لتشجيع السلطنة العثمانية لغزو بيزنطية الضعيفة واحتلال القسطنطينية وتحويلها الى عاصمة للسلطنة، ومن ثم التوسع واحتلال البلدان العربية.
وكان لدعم السلطنة العثمانية في عملية الاستيلاء على القسطنطينية ثلاثة اهداف: الهدف الاول والاقرب هو تقويض البطريركية المسكونية الاورثوذوكسية في القسطنطينية. والثاني هو عزل روسيا واقامة حاجز اسلاموي بينها وبين العالم العربي. والهدف الثالث الابعد هو شن حملة غزو جديدة ضد روسيا، على الطريقة المغولية ــ التتارية، ولكن على يد السلطنة العثمانية هذه المرة.
وتاريخ السلطنة العثمانية بعد اغتصاب القسطنطينية هو تاريخ سلسلة حروب بينها وبين روسيا. وفي كل مرة كانت السلطنة توشك على الهزيمة امام الروس كانت الدول الاوروبية الغربية ولا سيما بريطانيا وفرنسا تسرع لمساعدتها وانقاذها. وبفضل العلاقات الممتازة مع بريطانيا وفرنسا وحلفائهما، والتمويل اليهودي لها، فإن السلطنة العثمانية تغولت تماما. وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر امتدت أراضيها لتشمل أنحاء واسعة من قارات العالم القديم الثلاث: أوروبا وآسيا وأفريقيا؛ حيث خضع لها كامل آسيا الصغرى، وأجزاء كبيرة من جنوب شرق أوروبا، وغربي آسيا، وشمالي أفريقيا. واصبحت السلطنة تهدد جميع الدول الاوروبية بما فيها الدول الاوروبية الغربية ذاتها. وكان للجيش الروسي دور رئيسي في تحرير شعوب اوروبا الشرقية من النير العثماني في القرن التاسع عشر. والذي منع السلطنة العثمانية من اجتياح اورويا الوسطى والغربية هو ما اصابها من ضعف بسبب حروبها مع روسيا. وفي سنة 1853 أطلق قيصر روسيا نيكولاي الأول على الدولة العثمانية تسمية "رجل اوروبا المريض"، وذلك قبل ثلاثة ارباع القرن من انهيارها في الحرب العالمية الاولى.
ـ6ـ بعد انحراف الثورة الفرنسية وتحولها الى البونابرتية، وضع الامبراطور نابوليون بونابرت خطة الهجوم على روسيا واحتلالها واجبار القيصرية الروسية على التحالف معه في مخططه الكبير للسيطرة على اوروبا والعالم القديم بأسره. وحشد نابوليون جيشا ضخما يتراوح تعداده (حسب مختلف المعطيات) بين 550 الفا و680 الفا اكثر من نصفهم من الفرنسيين، والباقون من المناطق التي كانت قد سيطرت عليها فرنسا. وشن نابوليون الهجوم على روسيا بهذا الجيش العرمرم في حزيران 1812. وكان الجيش الروسي اضعف بكثير من الجيش الفرنسي، في العدد وخصوصا في التسلح ومستوى التدريب. ولكن الروس حاربوا بضراوة، وكانوا يحرقون قراهم ومدنهم التي يضطرون للانسحاب منها، ومنها مدينة موسكو ذاتها، حتى لا يجد الفرنسيون ما يقتاتون به. وللتعويض عن ضعف الجيش النظامي الروسي شن الفرسان القوزاق والفلاحون الروس حرب عصابات شرسة ضد الفرنسيين. وفي كانون الاول 1812 اضطر نابوليون للفرار من روسيا مع 10 ــ 20 الف جندي وضابط فقط، اما مئات الالوف الاخرين من الجنود والضباط، من زهرة شباب فرنسا واوروبا الغربية، فقد زرعت عظامهم الى الابد في الارض الروسية، كعبرة تاريخية لم يتعلم منها هتلر لاحقا.
ان هزيمة نابوليون في روسيا، حتمت هزيمته في معركة واترلو في حزيران 1815، وهي السبب الرئيسي لفشل مشروع نابوليون للسيطرة على اوروبا والعالم القديم.
ـ7ـ في 21 حزيران 1941 شنت النازية الالمانية هجومها الغادر، وبدون اعلان حرب، ضد الاتحاد السوفياتي. وكان خائن الشيوعية ستالين قد "رفض تصديق!" كل التحذيرات من قبل المخابرات الخارجية السوفياتية ومن قبل الشيوعيين الالمان بقرب الهجوم الهتلري على الاتحاد السوفياتي، حتى ان بعض تلك التحذيرات كان قد حدد بالضبط تاريخ الهجوم. كما رفض الخائن ستالين كل مطالبات القيادات العسكرية السوفياتية بتحضير الدفاعات الضرورية على الحدود. وعوضا عن ذلك فإنه اقدم على اعدام عشرات الوف الضباط الروس والسوفيات، بمن فيهم جنرالات ومارشالات ونصف اعضاء هيئة اركان الجيش، من الذين طالبوا بالاستعداد للحرب، بتهمة انهم "استفزازيون!" و"عملاء المان!". ولهذا السبب تكبد الاتحاد السوفياتي، ولا سيما روسيا، خسائر فادحة في الاسابيع والشهور الاولى من الحرب، وتمكن النازيون من قتل واسر ملايين الجنود والضباط والمواطنين السوفيات والروس، والتغلغل مئات الكيلومترات داخل القسم الاوروبي من روسيا، ووصلوا الى مشارف موسكو ذاتها، وحاصروا لينينغراد وستالينغراد (بتروغراد وفولغوغراد حاليا). ولكن الشعب الروسي هب للدفاع عن وطنه ببسالة اسطورية منقطعة النظير، اذ تم تفكيك المعامل والمصانع من منطقة الاورال الاوروبية الروسية ونقل الالات بالسكك الحديدية التي مدت للتو الى اعماق سيبيريا، وكان يتم صب الارضية وتركيب الالات والبدء بالعمل عليها في العراء قبل بناء الجدران والسقوف، في درجة حرارة تبلغ احيانا 50 تحت الصفر، وكانت النساء يعملن على الالات في هذه الظروف شديدة القساوة لمدة 18 ساعة متواصلة في اليوم، ويأكلن حساء قشور البطاطا، حتى يمكن ان يتوجه جميع الرجال، وان ترسل كل الاغذية المتوفرة، الى الجبهة. ومن هذه المعامل كانت تخرج الطائرات الحربية والدبابات والمدافع وجميع انواع الاسلحة لتشترك فورا في القتال. وفي الجبهة فإن ملايين الجنود والضباط الذين كانوا يبقون احياء ولم يقعوا في الاسر لم يكونوا يعودون الى بيوتهم وعائلاتهم، بل كانوا ينتشرون في الغابات والاراضي خلف خطوط العدو وينضمون الى وحدات المقاومة الشعبية (التي كانت تسمى "بارتيزان" اي الانصار) التي تضرب القوات الالمانية في جميع المناطق المحتلة. وقد دمر "البارتيزان" الوف القطارات والكميونات والسيارات والمصفحات والدبابات والمدافع والمواقع والمقرات العسكرية الالمانية، وتصيدوا وصفّوا مئات الوف الجنود والضباط الالمان والخونة والعملاء في المناطق المحتلة. وهذا كله كان يستنزف قوى الجيش الالماني النازي، الذي كان مضطرا للاحتفاظ باعداد كبيرة من قواته في جميع المناطق المحتلة. وقد سجلت المقاومة الشعبية الروسية والسوفياتية ملاحم اسطورية، نذكر منها ان بعض النسوة كن يتزنرن بالقنابل اليدوية ويلقين بأنفسهن تحت جنازير الدبابات الالمانية لتفجيرها. وقد صمدت مدينة لينينغراد البطلة للحصار حوالى 900 يوم. وكان عدد سكان المدينة 3 ملايين نسمة منهم 400 طفل، ومات منهم ما يتراوح بين 900 الف و1،5 مليون ونصف المليون انسان (حسب مختلف التقديرات)، ــ ماتوا من القصف والجوع والمرض والفقدان التام للادوية. ولكن المدينة كانت على استعداد لان تفنى بالكامل ولا تستسلم. وبعد المعركتين التاريخيتين الكبريين في ستالينغراد وكورسك اللتين هزم فيهما الجيش النازي شر هزيمة، تحول الجيش السوفياتي من ستراتيجية الدفاع الى ستراتيجية الهجوم واسع النطاق ودحر الجيش النازي من الاراضي السوفياتية واقتحم الحدود الالمانية واقتحم برلين ذاتها وتجاوزها بـ 400 كلم، ورفع العلم الاحمر بالمنجل والمطرقة فوق الرايخستاغ الالماني، واضطر هتلر على الانتحار.
ان روسيا السوفياتية كان لها الفضل الاول في انقاذ الانسانية جمعاء من الوحش النازي. الا ان هذا النصر كان له ثمن باهظ دفعه الشعب الروسي والشعوب السوفياتية الاخرى، حيث بلغ عدد القتلى الروس والسوفيات ما بين 27 و30 مليون شهيد (حسب مختلف التقديرات) وعشرات ملايين الجرحى والمعاقين والاسرى الذين اجبروا على العمل بالسخرة في ابشع الظروف في المانيا، ودمر اكثر من 80% من الاقتصاد الروسي والسوفياتي، ودمرت واحرقت الوف المدن والبلدات والقرى الروسية والسوفياتية، مما انعكس بشكل مأساوي وحتى الان على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في روسيا.
ومع كل ما اصاب روسيا والاتحاد السوفياتي من ابادة جماعية للطاقات البشرية وتدمير فظيع للبنية التحتية والعمران والاقتصاد، وقبل ان ينجلي دخان الحرب العالمية الثانية، عمدت الدول الامبريالية الغربية في 1946 الى شن ما سمي "الحرب الباردة" ضد الاتحاد السوفياتي، وفرضت على الشعوب السوفياتية وعلى رأسها الشعب الروسي الحصار والقطيعة، العقوبات الاقتصادية، بهدف خنق الاتحاد السوفياتي وتفجيره من الداخل، تحت شعارات "مكافحة الشيوعية الهدامة" و"اشاعة الدمقراطية"!
ولكن بالرغم من جميع الصعوبات، وبالرغم من خيانة قيادة ستالين الذي التزم بتطبيق "اتفاقية يالطا" التي عقدها مع روزفلت وتشرشل، واعترف بموجبها بتقسيم فلسطين وانشاء دولة "اسرائيل" العنصرية والاغتصابية، فإن الاتحاد السوفياتي اضطلع بدور القاعدة العالمية الرئيسية الداعمة لحركات التحرر الوطني ضد الاستعمار التقليدي في العالم اجمع، بما في ذلك حركات التحرر الوطني لجميع الشعوب العربية.
واليوم فإن روسيا الجديدة، القومية ــ الاورثوذوكسية، بقيادة فلاديمير بوتين، وبعد ان تخلصت من البيروقراطية النيوستالينية ــ الاوليغارشية ــ اليهودية، لغورباتشوف ويلتسين، تضطلع بدور فصيلة الطليعة والمحرك الرئيسي لمعركة جميع شعوب العالم، بما فيها الشعب اللبناني الصابر والمظلوم، ضد الهيمنة الامبريالية الاميركية ــ اليهودية على العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب لبناني مستقل