عبير بسام(*)
.. بعد نكسة حزيران من العام 1967 اتجه الأميركيون إلى مصر وجمال عبد الناصر من أجل إقامة العلاقات ووقف حرب الإستنزاف التي عبد الناصر ضد الإسرائيلين، والتي استنفزت قدرتهم على الإستمرار، وفي ذلك الوقت قال ناصر جملته الشهيرة أن "مايؤحذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". فابتدأت في عهد الرئيس الأميركي نيكسون مجموعة من المباحثات في العام 1969 كمبادرة سلام ما بين العرب وما بين اسرائيل.
تجربة فيصل في اليمن والطريقة التي خطط لها لهزيمة جمال عبد الناصر في اليمن ليست المرة الأولى التي تدفع بها دولة عربية باسرائيل أو تهيء لها الظروف من اجل الإعتداء على دولة عربية أخرى. وقد تكرر هذا في الحرب الإسرائيلية على لبنان. حيث جاء في مقدمة كتاب "الحرب المضللة: حرب اسرائيل في لبنان" لكل من زئيف شيف واهود يعازي. بعد أن شرح الكاتبان ظروف اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن آري آرغوب، وعرف من التحقيقات أن المسؤول المباشر عن الإغتيال كان أبو نضال. بالنسبة لبيغن، لم يكن هناك فرق كبير اذا ما كان أبو نضال منشق عن منظمة التحرير أم لا، فهم جميعاً بالنسبة له واحد. ولكن المهم أن الحرب على لبنان لضرب منظمة التحرير كان يداعب مخيلة بيغن بقدر ما كان يداعب مخيلة شارون. ولكن في تلك المرحلة، وصل إلى الإستنتاج أن أبو نضال كان في العراق وأنه أخذ الأمر من صدام حسين باغتيال السفير وذلك رداً على قصف المفاعل النووي في العراق. وأما السبب الثاني الذي أراده صدام حسين أنذاك نسبة للكتاب فهو أن تنفذ اسرائيل تهديدها بالحرب ليثبت للدول العربية أن الأسد لن يحارب وأن الجيش السوري ضعيف. اذ يشرح كل من شيف وايعازي أن أبو نضال لم ينف مسؤوليته عن الإغتيال لأن الأخير كان يريد أن يجر اسرائيل إلى الحرب مع منظمة التحرير. وهذا ما يثير التساؤل حول الأسباب الحقيقية لعملية قتل السفير الإسرائيلي في بريطانيا. لأن قرار أية حرب اسرائيلية على لبنان أو أية دولة عربية أخرى لم يكن ليكون يوماً بيد أبو نضال، وأن الإستفزاز لإسرائيل هو السبب الوحيد الذي يمكنه أن يكون السبب المباشر لأي حرب تشنها اسرائيل، والحقيقة أن اسرائيل خلال تاريخها الإستيطاني كانت تدفع نحو التسبب بالأسباب المباشرة. وهذا ما تؤكده الكاتبة الإسرائيلية ليفيا روكاخ في دراستها لمذكرات موشي شاريت: "إن التهديدات العربية ما هي إلا أسطورة اخترعتها إسرائيل لأسباب داخلية. ولأسباب عربية داخلية أيضاً ولم تجرؤ الأنظمة العربية على نفيها رغم خوفها الدائم من الاستعدادات الإسرائيلية لشن حرب جديدة". وتؤكد روكاخ أن احتلال كل من غزة وسيناء، كان منذ البداية، منذ العام 1953، أي حتى قبل استلام جمال عبد الناصر السلطة، على لأئحة القادة الإسرائيليين، والتي تستمد قدرتها على الإستمرار من خلق الأخطار واختراع الحروب. كما يقول شاريت في مذكراته، أن اسرائيل تهدف دائماً إلى تفجير حرب ضماناً لتصعيد التوتر، وإن العمليات الإنتقامية تكسب الجيش الإسرائيلي قيمة معنوية تصل إلى "مستوى المبدأ المقدس" وخاصة في فرقة كان يتولاها في الخمسينات رئيس الوزراء السابق أرييل شارون.
وبحسب كل من شيف ويعازي أن أبو نضال أراد جر اسرائيل للحرب مع المنظمة وكان ذلك في كراسة أصدرها مطبوعة بعد بداية الحرب وجاء فيها ان عملية الإغتيال كانت مقصودة لأن شلومو آرغوب حاول أن يجمع بين ممثلي "فتح" في لندن وبين ممثلي الكونغرس اليهودي العالمي! وهذا الكلام ففاده أن بوادر اقامة علاقات سلام ما بين اسرائيل والفلسطينيين كانت قد وضعت قبل اجتياح العام 1982. ولم تكن العملية التي جر إليها أبونضال إلا من باب التسريع بخروج الفصائل الفلسطينية، من أجل البدء بمرحلة جديدة. بخاصة وأن السلام الذي يسعى إلى تحقيقه الأميركيون قبل الإسرائيليين كان يحتاج إلى جهة رسمية تتحدث باسم الفلسطينيين. إذ أن الفلسطينيين منذ أيام أمين الحسيني وحتى اتفاق أوسلو كانوا يرفضون أن يتحدث أي زعيم عربي باسمهم. وخاصة ملوك الأردن، اذ كان الأمير عبدالله، أمير إمارة شرق الأردن، ووالد الملك حسبن، كان يأمل أن يكون ملكاً على كل من شرقي نهر الأردن وغربي نهر الأردن. فالصراع على فلسطين لم يخلو من صراع عربي سلطوي عليها. كما أن شيفر يشرح أن الأميركيين كانوا يعرفون بأن لا سلام مع الفلسطينين دون التحدث مع ياسر عرفات.
يعتبر شيمون شيفر في كتابه "أسرار الغزو الإسرائيلي للبنان: عملية كرة الثلج"، أن العلاقات الإسرائيلية مع لبنان، قد بدأت في يومي 12-13 كانون الثاني من العام 1982. حيث توجه شارون بزيارة سرية إلى لبنان، وقام بجمع بعض الوثائق السرية ورافق شارون في رحلته وفد أمني وعسكري. وكانت مهمة شارون اقناع بشير الجميل بالتعاون معهم وكان في لقاء شارون في مهمته السرية كل من زاهي بستاني رئيس الإستخبارات في الكتائب وجان نادر المستشار السياسي الأكثر تعاطفاً مع الإسرائيليين، بحسب شيفر، والذي قتل في الإنفجار مع بشير الجميل وجوزيف أبي نادر شيخ المجموعة وهو منسق اللقاء، الذي ضم إيلي حبيقة، الذي يصفه شيفر بأنه المشرف على مجازر صبرا وشاتيلا. خلال الزيارة الأولى، توجه شارون إلى جبل صنين، برفقة بشير الجميل، واطلع منه على موقع السوريين في ظهر البيدر. التقى خلال الزيارة رئيس القوات اللبنانية بشير الجميل مع شارون، وقد أقنع شارون "المسيحيين" أنهم بالتعاون معهم سيمكنهم من النصر – يحاول شيفر من خلال كتابه التصوير بأن جميع المسيحيين هم كتلة واحدة في لبنان، ولكن في حقيقة الأمر التقى شارون مع جهتين سياسيتين فقط، قيادات الكتائب وجناحها العسكري القوات اللبنانية وقيادات حزب الأحرار. وعند وصول شارون إلى الأشرفية كان في استقباله كميل شمعون وبيار الجميل، حيث استقبلتهم صولانج الجميل وهي تحمل طفلها نديم.
ويوضح شيفر في تفاصيل الحديث، الذي جرى عند استقبال شارون في الأشرفية، الحقائق حول قدم العلاقات الإسرائيلية مع اليمين اللبناني، حيث قال الجميل الأب، أن السوريين "دخلوا لبنان بهدف إنقاذ المسيحيين ومنع ذبحهم، تحولوا في نهاية المطاف إلى أسياد حقيقيين للبلاد، هدفهم السيطرة على لبنان في المدى البعيد ووضع الحد لمقاومته المسيحية". وتحدث شيفر عن أن أول لقاء مسيحي مع الإسرائيليين كان في العام 1975 في شارع رابلي قرب الشانزليزيه، وأول من طرق باب السفارة الإسرائيلية في باريس هو جورج عدوان طلباً للسلاح من أجل القتال في الحرب الأهلية اللبنانية. وكان الإسرائيليون بحسب تعليق شيفر لا يعرفون إلا القليل عن مسيحية لبنان، وهذا الكلام غير صحيح، لأنه بحسب مذكرات شاريت الذي رد على بن غوريون رئيس وزاء اسرائيل في 1955، عندما أراد الإخير أن يعلن عن دولة مسيحية في لبنان اعتبر أن اعلان الدولة المسيحية في لبنان الآن : "في الظروف الحالية ستعتبر مضاربة غير محسوبة ...لمصلحة مميزات تكتيكية مؤقته لإسرائيل". وتعلق روكاخ في كتابها: قراءة في يوميات شاريت الخاصة عن : خطة اسرائيل لإقامة الكيان الماروني، "أن لإسرائيل طموحاً قديماً لتقسيم لبنان وفصله عن العرب".
اذاً لم تكن بدايات العلاقات ما بين اسرائيل، كدولة الكيان الصهيوني واليمين اللبناني في العام 1975، بل سبقها قبل ذلك الكثير من اللقاءات والتحضيرات، وتعود العلاقة إلى أيام بن غوريون وكميل شمعون في العام 1952 والتي تحدث عنها موشي شاريت في مذكراته. ففي 24 نيسان أشار شاريت إلى اتصالات جرت مع بعض الدوائر اللبنانية ثم أعيد بحث موضوع لبنان في 12 شباط 1955. بداية يكتب شاريت: "علمت أن أحد المغامرين ويدعى نجيب صفير. كنت أعرفه منذ العام 1952 قد قام لتوه بزيارة السفير الإسرائيلي في روما، الياهو ساسون، من الواضح أن تلك الزيارة تمت بناء على موافقة الرئيس شمعون الذي أبدى استعداداً لعقد اتفاقية صلح منفرد مع اسرائيل". ولكن شمعون ربط الصلح المنفرد بشروط ثلاث: الأول، ضمان حدود لبنان. والثاني، الإسراع إلى نجدة لبنان في حال تعرضه لهجوم سوري. والثالث، شراء فائض الإنتاج الزراعي اللبناني. وبناء عليه فقد اقترح ساسون عقد اجتماع بينه وبين كميل شمعون خلال زيارة الأخير المرتقبة إلى روما، ولكن لايذكر شاريت عما تأتى عن هذا الإقتراح.
كما أن القرار بالهجوم على الجنوب اللبناني ومحاولة احتلاله وضمه كانت فكرة نشأت منذ بداية الخمسينات والذي بنظر بن غوريون يجب تمريره بالتزامن مع بناء دولة مسيحية في لبنان. ومن أجل ذلك فقد اقترح موشي ديان، وكان رئيس الأركان في الكيان الصهيوني أنذاك، وبحسب شاريت فإنه بالنسبة لديان من المهم العثورعلى ضابط لبناني، ولو برتبة رائد، من أجل لقيام بدور المنقذ للشعب المسيحي: "وفي حال إيجاد مثل هذا الشخص يكون دور اسرائيل العمل لإستمالته بإظهار المودة تجاهه أو اغراقه بالأموال، عندها سيتمكن الجيش الإسرائيلي من الدخول إلى لبنان واحتلال الأجزاء الضرورية من الحدود، وأخيراً خلق كيان مسيحي يقيم علاقات وثيقة مع اسرائيل". وهذا الكلام يؤكده محمد جسنين هيكل في كتابه [المفاوضات السرية بين بين العرب واسرائيل: عواصف الحرب وعواصف السلام] والذي يؤكد فيه مقترح وجوب قيام الكيان المسيحي في لبنان وأن حدود الكيان الصهيوني يجب أن تصل إلى نهر الليطاني.
ومن أجل تحقيق ذلك، استغلت اسرائيل حادثة في 22 أيلول من العام 1955، حيث هوجمت سيارة ركاب اسرائيلية في الجليل بالقرب من صفد. مع أن التحقيق وصل إلى طريق مسدود، إلا أن القوات اسرائيلية هاجمت إحدى القرى الحدودية في جنوب لبنان ليلاً وأخرجت أهلها ومن ثم نسفت البيوت. وكان ذلك في إطار خلق إثارة القلاقل وإيجاد ضابط لبناني على نسق ما حدث مع الرائد سعد حداد في العام 1979، والذي أعلن دولته المارونية في الجنوب اللناني. هذا مع العلم، تعلق روكاخ، أن: "لقد حدث هذا كله ووضعت له المخططات في وقت لم يكن للعمل الفدائي فيه وجود فعلي بعد"!
تأخرت الخطط المتعلقة بلبنان في تلك المرحلة بسبب القرار الأميركي بمهاجمة مصر- جمال عبد الناصر- من أجل اسقاط نظام الحكم فيها، والسبب في ذلك بات من البديهيات: وهو قلق الولايات المتحدة من العلاقة المتنامية ما بين مصر عبد الناصر وما بين الإتحاد السوفياتي. ولهذا فقد أعطت حكومة الولايات المتحدة عبر المخابرات المركزية الأميركية الإذن لاسرائيل بشن العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956. ويقول شاريت أن عودة بن غوريون إلى رئاسة الوزراء في نهاية العام 1955 تزامنت مع هذه الرغبة الأميركية.
ابتدأت المحادثات الأميركية مع مصر بشأن السلام مع اسرائيل في الخمسينات، وفي الجزء الثاني من كتاب محمد جسنين هيكل، يتحدث الكتاب عن المحادثات التي جرت ما بين جمال عبد الناصر وما بين الوسيط الأمبركي "جون فوستر دلاس وزير الخارجية الأميركي، من أجل إقامة سلام دائم مع اسرائيل. فطالب عبد الناصر أنذاك بترسيم الحدود مع اسرائيل مقابل السلام. كما طالب بالنقب في فلسطين مقابل السلام معتبراً أن النقب هي صلة الوصل ما بين مصر وبلاد المشرق العربي وأن بقاء النقب محتلاً سوف يعزل مصر عن محيطها العربي، ومقابل ذلك فقط يمكنه أن يجلس مع اسرائيل. لأن عبد الناصر كان يرى أن فلسطين هي الجسر الذي يصل مصر بالمشرق العربي. كما طالب عبد الناصر بعودة اللاجئين الفلسطينيين، فجاء الرد الإسرائيلي على لسان شاريت- الرجل المعتدل فيها! - على عرض دلاس أنذاك من خلال التقرير الذي رفعه السفير "لوسون": إن شاريت كان يفضل لو أن دلاس لم يستخدم كلمة "عودة" اللاجئين بل كان يجب أن يستخدم كلمة "توطين" اللاجئين. وبرأيه أن توطينهم ممكن ولكن عودتهم مستحيلة، وذلك في الدول التي لجئوا إليها. وثانياً، إن عبء اللاجئين اليوم هو على الدول التي تستضيفهم أو تلك التي تهتم لأمرهم وليس على اسرائيل. وثالثاً، أكد شاريت أنه لا يمكن لأحد أن يطلب من اسرائيل أن تتخلى عن أية أرض في حوزتها (فالأمن بالنسبة لإسرائيل أوسع بكثير من أي خطوط حدود). وحتى تلك الأراضي التي يعتبرها بعض الناس جرداء بلا قيمة اقتصادية، اكتسبت بعد عام 1948 قيمة معنوية لا يمكن التنازل عنها. ومن ثم قال للسفير الأميركي: "إنني لا أعرف من أين جاء المصريون بهذا الذي يقولونه عن الإتصال بينهم وبين العالم العربي...[ليصل الى نتيجة مفادها بعد استعراض التاريخ على طريقته] واذا قبلت اسرائيل بهذا المنطق فإن مصر سوف تجيء ذات يوم وتقول أن اسرائيل تعترض سكة الحديد القديم بينها وبين بيروت، وعليه فلا بد أن تزول اسرائيل لتمشي القطارات". وطبعاً رفض اقحام موضوع القدس.
غير أن جمال عبد الناصر وبعد أن أنهكت حرب الإستنزاف اسرائيل ما بين الأعوام 1967- 1969، جاء روجرز إلى مصر بمبادرة سلام ما بين مصر واسرائيل. ويذكر هيكل في الجزء الثاني، أنه في العام 1969 جاء روجرز إلى مصر من أجل التحاور مع مصر حول وقف حرب الإستنزاف التي ابتدأت مع اسرائيل على الجبهة المصرية بعد عدوان 1967، والتي انهكتها. إذ استنتج عبد الناصر أن الحرب الوحيدة التي يمكن للعرب أن تربحها هي حرب المقاومة الشعبية، وحيث يتم استنزاف اسرائيل فيها. كان رد عبد الناصر أنذاك وعلى الرغم من الإعتراض الشعبي الفلسطيني، أن وقف حرب الإستنزاف سيكون تجريبياً ولمدة ثلاثة أشهر لإعطاء الفرصة للذهاب إلى معاهدة مفادها الأرض مقابل السلام. غير أن عبد الناصر توفي بعد مبادرة روجر بشهر تقريباً. وفي 30 أيلول/ سبتمبر 1970، أي بعد أقل من يومين على رحيل جمال عبد الناصر، تلقى أنور السادات اتصالات أميركية ( ولم يكن رئيساً بعد)، كما تواصلت معه اسرائيل بشكل سري معه من أجل السير باتفاقية وقف اطلاق النار إلى أجل غير مسمى.
ازدادت حدة الضربات المقاومة بعد ذلك من لبنان باتجاه فلسطين، خصوصاً بعد إقرار إتفاقية العرقوب، الإتفاقية التي رعاها عبد الناصر قبل وفاته، في الجامعة العربية في العام 1969، والتي شرعت الضربات المقاومة الفلسطينية من الجنوب اللبناني ضد اسرائيل، ومن منطقة العرقوب بالذات، والتي وقف في وجهها اليمين اللبناني. وعلى المقلب الآخر في لبنان، كان في رأي الإسرائيلين كان أنه كلما طال الصراع ما بين اللبنانيين والفلسطينيين كلما كان ذلك أفضل لهم. في العام 1976 جاء أول وفد اسرائيلي إلى لبنان، وكان المسيحيون بحسب شيفر يتحضرون للإنتقام من مجزرة الدامور. جاء الوفد بقيادة العقيد بنيامين بن أليسار، وهوقائد لواء من الجيش الإسرائيلي. ووصل الوفد في بارجة حربية اسرائيلية. وكان بانتظارهم في الميناء ممثلون عن شمعون وعلى رأسهم ابنه داني. وعندما سأل الإسرائيليون شمعون عن أسباب اتصالهم بهم فأجابهم بما فاجئهم: "لقد فعلت ذلك تلبية لنصيحة الملك حسين- ملك الأردن-". وشرح شمعون العلاقة المميزة مع ملك الأردن، الذي قال لشمعون: "إن الإسرائيليين وحدهم فقط يستطيعون المحافظة على بقاءكم". ثم نقل شيفر حديث شمعون عن ضرورة طرد السوريين من لبنان ووصفهم بأنهم "أسوء قوم في العرب"، كما طلب مساعدة الإسرائيليين في دفع السوريين للانسحاب قبل الإنتخابات الرئاسية التي ستجري في 27 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1979.
في 7 أيار/ مايو التقى بشير الجميل مع محمد الخولي المستشار الشخصي للرئيس حافظ الأسد في العام 1981، والذي كان قائداً لإستحبارات الطيران. وطلب منه السوريون أن يعلن عن قطع العلاقات بالكامل مع الإسرائيليين، فاختار بشير التريث. صحيح أن الإسرائيليين وبشير كانوا قد ابتدؤوا المحادثات وقامت اسرائيل بتسليح وتدريب القوات اللبنانية، إلا أن بشير لم يتدخل بالحرب مباشرة في حرب اسرائيل على لبنان، وهذا ما أزعج الإسرائيليين. ثم أن الأميركيين لم يتحمسوا كثيراً بإقامة معاهدة سلام ما بين اسرائيل ولبنان دون أن تكون هي من ترعاها، خصوصاً وأن واشنطن كانت متمسكة باطلاق مبادرة سياسية جديدة تحمل اسم مبادرة ريغان. وخلال أشهر كانت وزارة الخارجية تعد لمحادثات سرية بمشاركة مجلس الأمن القومي والبنتاغون، مشروعاً هدفه دفع العملية السياسية إلى الأمام، تلك العملية اتي أخذت تراوح مكانها منذ اغتيال الرئيس السادات وإعادة سيناء إلى مصر. وكانت الحرب في لبنان بمثابة عقبة جديدة تثبت ما فيه الكفاية أنه من غير الممكن إقامة مشروع السلام دون مناقشة القضية الفلسطينية.
من أهم الأسباب التي قامت بها لأجلها الحرب على لبنان في العام 1982، والتي تم من أجلها اتخذ القرار بالإجتماع مع المسيحيين وبخاصة قيادات حزب الكتائب وحزب الأحرار، كان عقد اتفاقية سلام منفصلة ما بين اسرائيل ولبنان بعد تعيين بشير الجميل رئيساً له. الأمر الذي لم تكن على توافق معه ادارة رونالد ريغان رئيس الولايالت المتحدة أنذاك. لأن الولايات المتحدة كانت تريد دفع محادثات السلام إلى الأمام وأن تسير وفق مخططاتها وترتيباتها. غير أن محادثات السلام كانت قد توقفت في مصر منذ اغتيال السادات في 6 تشرين الأول/ اكتوبر من العام 1981. وكانت ترى الولايات المتحدة أنه يجب التحرك من أجل إعادة الإتفاقيات على الطريق. وأول ما فعلته اسرائيل أنذاك لتثبت قوتها، هو أنها في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1981، قامت بطرح قانون ضم الجولان على الكنيست، والذي تم اقراره. هذا القرار لم يعجب الأميركي، لأن أراضي الجولان تعتبر أراض محتلة. وبحسب شيفر فقد عارض العالم كله هذا القرار وطالبت الولايات المتحدة بإلغائه، واتخذت اجراءات قمعية ضد اسرائيل وهي تأخير وصول المساعدات الإقتصادية والعسكرية. ولكن ليس لوقت طويل.
في 28 كانون الأول من العام 1981 أوفد ديفيد كيمحي المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية سراً إلى واشنطن من أجل مواصلة المحادثات مع الأميركيين. كان في اللقاء انتقاد شديد لقرار ضم الجولان وأنه سيحرج واشنطن والذي قد يصعد التوتر الدولي. حضر اللقاء، الذي عقد مع وزير الخارجبة الأميركي الكسندر هيغ، موشي أرينز. وقال هيغ إن الوقت قد حان لتهدئة النفوس وأن هذا رأي الرئيس أيضاً. وأنه ستكون هناك محاولات من أجل توسيع عملية السلام حتى تشمل العربية السعودية والأردن ، وأن ذلك كان يجب أن يحصل في كامب ديفيد. ولم يكن الرئيس ريغان حتى نهاية العام 1981 قد حدد موقفه بالضبط تجاه القضية اللبنانية، أو اتجاه اجتياح لبنان من أجل القضاء على المقاومة الفلسطينية. صحيح أن القرار الأميركي بوجود البدء بمحادثات سلام ما بين السعودية واسرائيل لم يكن الأول، ولكن يبدو أن هناك يتضمن تصميماً أميريكياً على اتمامه، وعلى إعادة اتفاقية كامب ديفيد إلى الطريق بعد أن كانت قد تعثرت منذ العام 1979. غير أن نتائج الإجتياح الإسرائيلي والظروف الدولية أنذاك لم تكن قد تهيأت للبدء بها. اذ يبدو أن المحادثات كانت تريد توافقاً مع الإتحاد السوفياتي الذي بدا أنه بعد إعادة تسليح الجيش العربي السوري إبان الإجتياح الإسرائيلي على لبنان، داعماً لموقف القيادة السورية، التي كانت تعيش قبل ذلك فترة من العزلة السياسية، والتي لم تكن لتسمح بإتمام المحادثات. ولكن بعد 1982 عادت العلاقات السورية السوفياتية إلى درجات أفضل بعد استلام بريجينيف للحكم، والذي أعيد في عهده تسليح الجيش وسلاج الطيران الروسي. بعد وفاة بريجينيف استلم أندروبوف الحكم ولمن لسنتين فقط. بعد وفاة اندروبوف في العام 1984 واستلم الحكم غورباتشيف. عندها ذهب الرئيس حافظ الأسد للقائه، وعاد من الإتحاد السوفيتي وقال: "لم يعد بإمكاننا أن نعتمد على الإتحاد السوفياتي". وطرح أن الأمور على شفا تغيير أساسي في السياسة العالمية. في العام 1989 سقط الإتحاد السوفياتي، وكان على سوريا كما غيرها من دول المنطقة إيجاد الطريق للعبور عبر التغييرات التي حملتها الحقبة الجديدة، وبناء عليه ابتدأت محادثات مدريد في العام 1991 بعد حرب الخليج الثانية والتي كانت الحرب الأميركية الأولى والمباشرة على العراق في العام 1990، حيث وصلت هذه المحادثات إلى طريق مسدود مع سورية، والتي نتج عنها اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين ووادي عربة مع الأردن.
(*) ماجستير في العلاقات الدولية