دراسة وبحث: عبير بسام(*)
لمناقشة المحادثات أو العلاقات العربية الإسرائيلية علينا أن نفصل بين مرحلتين زمنيتين أساسيتين. الأولى تبدأ مع تاريخ إقامة المؤتمر الصهيوني الأول في بازل/ سويسرا في العام 1897، والذي دعا إليه مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل. والمرحلة الثانية تبدأ منذ العام 1948، والذي تم فيه إعلان دولة اسرائيل والمصادقة عليه في الأمم المتحدة. اذ لم تخلُ المرحلة الأولى من اتصالات مع السلطان عبد الحميد في عهد الدولة العثمانية والذي رفض تماماً فكرة إقامة دولة صهيونية في فلسطين. وتواالت المحاولات لفتح المباحثات مع ملوك ورؤوساء عرب ورجال دين من أجل الدفع نحو القبول بدولة اسرائيل. ولكن مواقف الشعوب العربية أنذاك والثورات التي قامت كان لها دوراً هاماً في تقويض أي محاولة من شأنها أن تأخذ هذا المنحى. ثم أنه علينا أن ننظر بعمق إلى الظروف والحيثيات التي نشأت فيها الدول العربية من خلال تقسيمها ومن ثم وضعها تحت الإحتلال الأوروبي. فالدول العربية عند نشأتها لم تكن سوى مجموعة من أشباه الدول مسلوبة الإرادة والقرار، وما كادت تتحرر بعض هذه الدول حتى وقعت فلسطين تحت الإستعمار الإستيطاني الصهيوني، ليعلن في 14 أيار/ مايو 1948 قيام دولة اسرائيل وقبل ثمان ساعات من إعلان خروج الإنتداب البريطني منها.
ابتدأت حرب العصابات الصهيونية مع الثوار الفلسطينين فيها. لم تكن الحرب متكافئة بالمعايير العسكرية، فالعصابات الصهيونية كانت مدربة ومسلحة، ومنها من شارك إلى جانب الحلفاء في حربها ضد هتلر، ومع ذلك فقد قاتل الفلسطينيون حتى الرصاصة الأخيرة. كما أن الصهاينة كانوا قد أسسوا لعلاقات جيدة مع الحكومات الغربية من أجل دعم إقامة دولتهم في فلسطين. نشوء العلاقات العربية بعد اعلان دولة اسرائيل، أمر دقيق وقد أخذ التحضير له قبل اعلان اتقاقية كامب ديفيد في العام 1978، أي بأكثر من 25 عاماً.
يشرح محمد حسنين هيكل في الجزء الأول من السلسلة التي تحمل عنوان: "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل: الإسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية" أن اسرائيل كانت حاجة استعمارية من أجل فصل المشرق العربي عن مصر وهذا الفصل من شأنه أن يعيق إقامة دولة عربية موحدة. وبالتالي ومنذ إقامة دولة اسرائيل كان البريطانيون والفرنسيون يحاولون دفع العالم العربي إلى تقبلها وإقامة العلاقات الطبيعية معها، وبعد الحرب العالمية الثانية انضم الأميركيون إلى الجوقة التي نادت بالتطبيع، بعد أن تحولت العلاقة الاستراتيجية مع اسرائيل من الراعي البريطاني إلى الولايات المتحدة، والتي عملت جاهدة من من أجل إقامة محادثات سلام ما بين الكيان الصهيوني والدول العربية والإعتراف بدولة اسرائيل وإقامة العلاقات المختلفة معها وفرض التطبيع.
ابتدأت المحاولات الإسرائيلية لبناء علاقات مع الدول العربية منذ أن ابتدأت الوكالة اليهودية بعملها من أجل إقامة دولة اسرائيل. ولكن لم من الممكن أنذاك اقناع الشعوب العربية بالقبول بهكذا مشاريع. اذ تشرح لورا ايزنبرغ في كتابها [عدو عدوي: الصلات الصهيونية اللبنانية 1900-1948] أن العلاقات التي حاولت الوكالة اليهودية التأسيس لها مع الأقليات في المشرق الوطن العربي وخصوصاً مع مسيحيين من لبنان: "[اذ] أن القوميون السوريون والعروبيون كانوا يعلنون بانتظام، إيمانهم بأن لبنان يشكل جزءاً طبيعياً من سورية، وبأن فلسطين في الواقع هي سوريا الجنوبية". وتتابع: "وقد رأى الصهيونيون المتفائلون، في تهديد سوريا الكبرى، قوة أخرى تدفع المسيحيين ( وغيرهم من المجتمعات غير العربية وغير الإسلامية) إلى أحضان الصهيونية. وفي هذا رأت الصهيونية أن بإمكان الوكالة اليهودية أن تستغل هذا الخطر الناجم عن إقامة سورية الكبرى من أجل تعزيز الروابط بين اليشوف - وهو المصطلح الذي أطلقه الصهاينة على الوجود اليهودي في فلسطين، قبل إقامة الدولة الصهيونية- ولبنان المسيحي. وبما أن تأثير سورية والأفكار العروبية والقومية سيكون كبيراً في لبنان فكان من الأفضل للوكالة منذ البدء التوجه نحو المسيحيين الموارنة ذوي النزعة الإنفصالية منهم. وما شجع الصهاينة على العمل مع الموارنة هو الطرح الماروني، الذي قُدم والذي يعود إلى العام 1913. اذ بحسب ايزنبرغ أن أول من فاتح حاييم وايزمن بهذا الطرح هو نجيب صفير [الذي سيتبين فيما بعد الدور الذي لعبه ما بين الرئيس كميل شمعون وما بين بن غوريون]. فقد فاتح صفير وايزمن في العام 1919 باقتراح تقسيم المنطقة على أساس طائفي لبنان للمسيحيين وسوريا للمسلمين وفلسطين لليهود، ودائماً بحسب ايزنبرغ. ويبدو أن هذه الإتصالات لم تنقطع طوال فترة الإنتداب الفرنسي. غير أن الدستور اللبناني الذي كتب في العام 1926 والذي نظم العلاقة ما بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، نبه الموارنة بأن لا مصلحة لهم في إقامة علاقات مع الصهاينة، ولكن هذا لم يمنع البعض الآخر من أن يستمر بالعلاقات. وتتابع ايزنبرغ، أنه حتى الوكالة اليهودية حاولت استقطاب دروز لبنان من خلال التأثير عليهم عبر دروز فلسطين. ولكن ليس هناك من معلومات متوافرة حول هذا الشأن من الطرف اللبناني.
تتابع ايزنبرغ، لم يكن يستطع الصهاينة في فلسطين ضمان الموقف المسيحي مجتمعاً، اذ أن في داخل المجتمع الفلسطينىي (أسواء كانوا مسيحيين أم مسلمين)، كانت المشاعر مضطربة وكان الشعار السائد هو مناهضة دولة اسرائيل وفكرتها. حتى في لبنان، وما بين الموارنة، لم يكن الرأي مجتمعاً حول إقامة دولة مارونية في لبنان تربطها علاقة جيدة مع اسرائيل. ففي حين كان بطرس البستاني وهو ماروني من أوائل من جزموا بأن الأمة العربية هي كيان سياسي يضم كلا من المسيحيين والمسلمين، وقد أصبح بفضله العديد من المسيحيين قوميين عرب. وأعانت في لبنان مواقف العديد من الموارنة المناهضة للصهيونية مما جعل من إقامة العلاقات الإسرائيلية العلنية مع الموارنة مستحيلة، إلا أنه كانت هناك بعض العلاقات السرية الحذرة وبعض المراسلات السرية الودية ما بين الطرفين، فعلى سبيل المثال، رسائل التهنئة المتبادلة ما بين إميل اده عند انتخابه رئيساً للبنان في العام 1936، والتي أجاب عنها بحرارة، بقيت سرية بتوصيات من الوكالة اليهودية، والتي نصحت بما يلي: "تعابير الصداقة التي نتلقاها من دوائر عربية... لأنفسنا، لأن كل عملية نشر تحول العداوة ضد حلفائنا، وتجعل علاقاتهم الودية بنا عبئاً عليهم". كما أن الموارنة لم يكونوا قادرين على الزام أنفسهم بتحالف مع الصهاينة.
وبما أن الهدف من العلاقات مع اسرائيل هو فرض التطبيع، فإن ذلك يفترض بالتأكيد تصفية القضية الفلسطينية. وبالتالي وبحسب الإسرائيلي فإن توطين الفلسطينيين يجب أن يكون في الدول التي هم فيها، وبالتالي إنهاء حالة العداء والقتال مع الكيان الصهيوني، وهذا ما يؤكد عليه موشي شاريت في يومياته التي نشرته عائلته بعد وفاته والذي صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في العام 1996 وترجمه أحمد خليفة عن العبرية. وأهم ما جاء في هذه المذكرات: أن اسرائيل لم تكن تريد في الخمسينات إنهاء حالة العداء مع الدول العربية، اذ كان يرى فيها بن غوريون أنذاك خطراً على اسرائيل. وذلك أن انتهاء حالة العداء يعد خطراً على دولة اسرائيل التي قد يعود سكانها فينصهرون في داخل المجتمع العربي، وبخاصة أنهم مازالوا أقلية حتى في فلسطين. وبحسب ليفيا روكاخ في كتابها "قراءة في يوميات موشى شاريت: خطة اسرائيل لإقامة كيان صهيوني"، فإن المفاوضات مع العرب كانت قد ابتدأت في العام 1940، حيث اتهم بن غوريون موشى شاريت بالتعاون مع وايزمن حول عقد اتفاقية بين الحركة الصهيونية والأمير سعود بن فيصل وليس الملك عبد العزيز، تقوم فيها الولايات المتحدة بدور الوسيط. وكان هذا مجرد اتهام لا أساس له من الصحة بالنسبة لشاريت، لأنه كان يسعى في الواقع لإحباط مثل تلك المفاوضات. مع العلم أن فكرة إقامة كيان مسيحي أو إقامة العلاقة من كيان مسيحي في لبنان كانت حاضرة في مخططات الكيان الصهيوني. فبحسب مذكرات شاريت، أعلن بن غوريون في العام 1952 إلى أن الوقت قد حان من أجل افتعال اضطرابات وإحداث فوضى في لبنان من أجل دفع الموارنة إلى المطالبة بدولة مسيحية فيه. وفي رسالة أرسلها في 27 شباط/ فبراير 1954 إلى شاريت، يشرح بن غوريون وضع الموارنة في لبنان وأنه يعتقد أن الوقت قد حان من أجل العمل على ارسال مجندين يتحدثون باللغة العربية إلى لبنان كما يؤكد: " لن نتقاعس عن توفير الأموال اللازمة لإنجاح هذه السياسة". ويصر بن غوريون على تجنيد الياهو ساسون، الذي يتحدث العربية بطلاقة من أجل القيام بالمهمة. كما طلب بن غوريون في رسالته من شاريت تجنيد اللبنانيين من الداخل والخارج من أجل إقامة الدولة المسيحية. بل أنه حتى طالب بتمويل الأموال اللازمة من أجل العمل على التسريع بهذا المشروع وبناء جيش من العملاء ولوكلف ذلك ليس 100 ألف دولار فقط، بل حتى لو كلف مليون دولار، وكما يجب تجنيد الوكالة اليهودية من أجل تمويل هذا المشروع.
كان الأميركيون مقتنعون بوجوب إقامة علاقات طبيعية ما بين العرب واسرائيل فتكررت المحاولات على مستوى المملكة العربية السعودية. ابتدأت المحاولات الأولى لإستقطاب العربية السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز آل سعود، ولكن المبادرات جاءت بواسطة الإدارة الأميركية منذ البدء، وليس بشكل مباشر مع اسرائيل. وبحسب هيكل فإن الملك عبد العزيز آل سعود أكد على موقفه في رفض القبول بدولة اسرائيل بقوله أن: "أي مساعدة للصهاينة خيانة لرسول الله والمؤمنين"، كما جاء في وثيقة، هي عبارة عن برقية أرسلها الوزير المفوض في السعودية، ويليام ادي، إلى وزير خارجية بلده في أمريكا بتاريخ 5 كانون الثاني/ يناير 1945، وفيها أن: الملك عبد العزيز آل سعود أثار مسألتين مع عبد الرحمن عزام، وزير الشؤون العربية في مصر، عندما جاء هذا الأخير من أجل توقيع بروتوكول الجامعة العربية. جاء في الوثيقة نقطتان هامتان: الأولى تشير إلى ضرورة إنشاء تحالف عسكري بين الدول العربية يحميها بالسلاح إذا دعا الحال. والثانية، هي ضرورة الحصول على تعهدات من الولايات المتحدة الأميركية بالدفاع عن العرب الفلسطينيين ضد الصهيونية، وبالسلاح اذا اقتضت الحاجة.
ترأس الحديث أنذاك الأمير فيصل، عندما كان وزيراً لخارجية المملكة، وأكد أنه يتحدث باسم كل عربي. وقال أنه لا يعرف متى يقتنع الأميركيون أنهم مهما فعلوا فلن يغيروا موقفنا. ويبدي فيصل شكه بأن الأميركيين قد يعتبرونه معاد لسياستهم ولكنه بالنسبة للموقف العربي من المحادثات مع اسرائيل فيؤكد: "إني أحدث بالحق- بالحق، عن شعور كل عربي". وطلب فيصل من الأميركيين أن يتركهم وشأنهم لأن هذا سيقوض العلاقات السعودية-الأميركية. هذا مع العلم، أنه خلال فترة ملك فيصل حدث أمران متناقضان، الأول دخول السعودية في حرب مع مصر حول اليمن في العام 1962، والتي استمرت عدة أعوام. والثاني هو استخدام النفط في المملكة في عهد فيصل وهو قطع النفط عن دول الغرب خلال حرب تشرين التحريرية في العام 1973، والتي شنها كل من الجيش المصري والسوري مع قوات متفرقة من الأردن والعراق والمغرب ضد اسرائيل. الأمر الذي كلف فيصل حياته حيث تم تدبير اغتياله، في عملية لم تكشف ملابساتها بعد.
إن بدأ الخلافات العربية- العربية ما بين مصر والسعودية وضع العرب منذ اللحظة التي ابتدأت فيها في مواقف لا تحسد عليها، وبنيت على أساس القبض على السلطة وتوسيع نطاقها الجغرافي والعسكري بدلاً من العمل على التنسيق الإقتصادي الذي كان يمكن أن يحول العرب إلى قوة ذات فعالية كبرى على المستوى الإقليمي والدولي. اذ اعتبر فيصل أن مساندة جمال عبد الناصر لثورة الضباط الأحرار في اليمن في العام 1962 ضد الملكيين في اليمن جاءت من أجل تقويض سلطة المملكة على أراضيها. وابتدأت حرب استمرت أكثر من خمس سنوات ما بين الملكيين المدعومين من قبل السعودية وما بين الثورة مدعومة بالجيش والعتاد المصري. وبحسب محمد حسنين هيكل كان للملك فيصل موقف عدائي ضد جمال عبد الناصر، حتى أنه طالب الأميركيين بالتدخل من أجل وضع حد لسلطته، واقترح عليهم مساندة الأكراد وتمويل حركة البرزاني في العراق من أجل منع قيام أي وحدة عربية. وتدخلت قوات من المرتزقة من أجل دعم الملكيين. وتطوعت اسرائيل وقتها بارسال الطيران الإسرائيلي من أجل دعم قوات المرتزقة ضد الثورة والقوات المصرية في اليمن ومن خلال إنزال المعدات لهم وبمباركة سعودية، في حين أن الطيارين السعوديين والأردنيين رفضوا تنفيذ المهمة وهربوا إلى مصر طالبين اللجوء. وبلغ عداء فيصل لناصر لدرجة أنه، وبحسب الوثيقة التي نشرها حمدان حمدان في كتابه "عقود من الخيبات"، وهي عبارة عن رسالة من فيصل إلى الرئيس الأميركي ليندون جونسون في تاريخ 27 كانون الأول/ ديسمبر 1966 يطلب فيها منه التدخل وشن الحرب على مصر، وأنه لا بد من احتلال الضفة الغربية وغزة حتى لا يبقى مجال يتحرك ضمنه الفلسطينيون. واحتلال مناطق حيوية مثل القناة في مصر حتى تبقى منشغلة بها. كما طالب باقتطاع جزء من سوريا كيلا تسلم "هي الأخرى" فتندفع لسد الفراغ بعد سقوط مصر. وهذه المعلومات نشرت أيضاً على موقع الفكر القومي العربي وعلى موقع منتديات الفكر العربي القومي. كما نشرت على الموقعين الرسالة التي كتبها فيصل إلى ليندون جونسون. وكانت هذه بداية التعاون ما بين المملكة السعودية وبين اسرائيل، ولكن بشكل غير مباشر. وفي الحقيقة لم تقم محادثات علنية مباشرة ما بين السعوديين واسرائيل حتى العام 2016. ولكن يبدو أن العلاقات ما بين المملكة السعودية واسرائيل قد تحسنت كثيراً بسبب تخوف السعوديين ومنهم الملك فيصل بعد اعلان الوحدة ما بين سورية ومصر في العام 1958. وأنه اذا ما كتب لهذه الخطوة النجاح فستكون خطراً مباشراً ليس فقط على العرش السعودي وإنما على جميع العروش العربية. ثم جاءت بعد ذلك ثورة الضباط الأحرار في اليمن في العام 1962 لتأجج الخلافات ما بين فيصل وعبد الناصر، وتثير مخاوف السعودية لدرجة أنها طلبت في الرسالة السابقة الذكر إعلان الحرب على سورية ومصر واحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية. وهناك العديد من التفاصيل التي تفندها بالتواريخ والوثائق العديد من الكتابات في هذا الموضوع.
(*) ماجستير في العلاقات الدولية