تُقبِل تركيا في الوقت الحاليّ على فصل جديد من تاريخ جمهوريتها الحديث، بعدما صادق البرلمان التركي على التعديلات الدستورية في الجولة الثانية والأخيرة من التصويت يوم 21 من يناير الماضي بأغلبية 339 صوتًا ومعارضة 142، وانتهت الجولة الأخيرة بإقرار التعديلات برلمانيًا عقب تصويت البرلمان على جميع البنود الـ18 من التعديلات، التي من شأنها تغيير نظام الحكم في البلاد من برلماني إلى رئاسي.
امتلك حزب العدالة والتنمية الحاكم (صاحب مشروع التعديلات) 316 صوتًا في البرلمان المكون من 550 عضوًا، وبمساعدة بعض أعضاء حزب الحركة القومية اليميني تم تمرير التعديلات الدستورية على هذا النحو بعد جدل واسع في البرلمان.
حيث صوت حزب الشعب الجمهوري الكمالي ضد التعديلات المقترحة، رافضًا فكرة تغيير شكل نظام الحكم، في الوقت الذي قاطع فيه حزب الشعوب الديمقراطي الكردي التصويت بعد اعتقال عدد من نوابه في البرلمان على خلفية قضايا متعلقة بالإرهاب.
ذهبت الكرة بعد ذلك إلى ملعب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي بدوره وقع على القانون المتعلق بالتعديلات الدستورية الخاصة بالتحوّل إلى النظام الرئاسي يوم الـ10 من فبراير الماضي، وأحاله إلى رئاسة الوزراء لطرحه للاستفتاء الذي من المنتظر أن يجري يوم 16 من أبريل المقبل.
ملامح مشروع لجمهورية جديدة
نشرت الجريدة الرسمية التركية بعد ذلك القانون الذي تم التصديق عليه، والذي بموجبه يتيح طرح التعديلات الدستورية الخاصة بالتحول إلى النظام الرئاسي على الاستفتاء الشعبي.
اعتمدت تركيا النظام الجمهوري سنة 1923، ووصفته بالنظام الديمقراطي العلماني، أما من وجهة نظر الحزب الحاكم الآن (العدالة والتنمية) فإن اقتراح التعديلات الدستورية الجديد يهدف إلى وضع نموذج جديد حيز التنفيذ من شأنه تعزيز الخصائص الأساسية للنظام الجمهوري بطريقة واضحة.
وعليه يقول متبنو التعديلات الجديدة إنها لا تهدف لتغيير السمات الأساسية للنظام الجمهوري، وإنما إعادة النظر في النظام الحكومي، وليس في النظام الجمهوري.
امتلك حزب العدالة والتنمية الحاكم (صاحب مشروع التعديلات) 316 صوتًا في البرلمان المكون من 550 عضوًا، وبمساعدة بعض أعضاء حزب الحركة القومية اليميني تم تمرير التعديلات الدستورية على هذا النحو
تجاوز إرث الانقلابات العسكرية
كما أن هناك إرادة واضحة لدى النظام التركي الحالي لتجاوز إرث دساتير الانقلابات العسكرية السابقة، والتي يُعد الدستور بشكله الحالي أحد منتجاتها، حتى وإن طرأت عليه عدة تعديلات منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002، لذا كان فشل انقلاب الـ15 من يوليو 2016 إيذانًا بإطلاق عملية التعديلات الدستورية الحالية التي كان يرتب لها حزب العدالة والتنمية منذ فترة.
من وجهة نظر الحزب الحاكم الآن (العدالة والتنمية) فإن اقتراح التعديلات الدستورية الجديد يهدف إلى وضع نموذج جديد حيز التنفيذ من شأنه تعزيز الخصائص الأساسية للنظام الجمهوري بطريقة واضحة
سلطة ذات رأسين
تتهم إدارة أردوغان الحالية الدستور بشكله الحالي والذي وضع عقب الانقلاب العسكري عام 1982، بأنه جعل السلطة التنفيذية ذات رأسين، حيث ورد في المادة 104 من الدستور التركي تفاصيل صلاحيات الرئيس في المجال التشريعي والتنفيذي والقضائي، وإضافة إلى هذه المجموعة الواسعة من النفوذ، منح الدستور الحصانة السيادية للرئيس، على الرغم من اعتماد النظام البرلماني كنظام للحكم.
فوفقًا للمادة الثامنة من دستور سنة 1982، تُمارس السلطة التنفيذية من قبل الرئيس ومجلس الوزراء "معًا"، وفي الجزء المتعلق بالجهاز التنفيذي للدولة، فإن القوى الممنوحة للرئيس ومجلس الوزراء ذُكرت بشكل منفصل.
فأصبح رئيس الجمهورية الذي يتم انتخابه حاليًا من قبل الشعب بعد تعديلات دستورية سابقة لديه جزء من السلطة التنفيذية، ورئيس الوزراء الذي يُنتخب أيضًا من قبل الشعب يقود جزءًا من السلطة التنفيذية.
هناك إرادة واضحة لدى النظام التركي الحالي لتجاوز إرث دساتير الانقلابات العسكرية السابقة
أما التعديلات الجديدة فتقترح أن يكون الرئيس المنتخب من الشعب بانتخاب حر مباشر هو قائد السلطة التنفيذية بلا منازعة من الائتلافات البرلمانية، وأن يتفرغ البرلمان المنتخب من الشعب إلى التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية دون نزاعات الائتلافات والمحاصصة.
حيث يقترح التعديل الدستوري فرض مسؤولية جنائية على الرئيس الذي سيتم انتخابه مباشرة من قبل الشعب لمدة 5 سنوات، ويمكنه تولي منصب الرئاسة على أقصى تقدير لمدة فترتين، وسيُفرض على نواب الرئيس والوزراء الذين سيعملون في الجهاز التنفيذي جنبًا إلى جنب مع الرئيس، أيضًا نفس المسؤولية الجنائية.
علاوة على ذلك، نصّ اقتراح تعديل الدستور أنه عندما يبدأ تحقيق رسمي من قبل البرلمان التركي ضد الرئيس، فإنه لا يحق للرئيس أن يقرر تجديد الانتخابات.
تعديل في التمثيل
التعديلات الجديدة ستسعى إلى وضع نظام تمثيلي في البرلمان أشمل وأعم من النظام الحالي وسيتم تمثيل الأحزاب الصغيرة في البرلمان في كل الأحوال، إذ إنه من المفترض وضع نظام انتخابي جديد (سواء دون نسبة عتبة انتخابية أو بنسبة عتبة انتخابية منخفضة، كجزء من النظام الرئاسي)،
حيث يعتمد النظام التركي الحالي على ما يسمى بـ "التنازل عن العدالة في التمثيل من أجل الاستقرار الإداري"، وقد كانت هناك عدة محاولات لجعل النظام الانتخابي أكثر استقرارًا من قبل الحزب الحاكم، لكن وضع نسبة العتبة الانتخابية (10%) في قانون الانتخابات، حرمت العديد من الأحزاب التركية الصغيرة من دخول البرلمان، ويزعم مؤيدو التعديلات الدستورية الجديدة أن النظام المقترح يُعالج هذه السلبية.
التعديلات الجديدة فتقترح أن يكون الرئيس المنتخب من الشعب بانتخاب حر مباشر هو قائد السلطة التنفيذية بلا منازعة من الائتلافات البرلمانية
إلغاء القضاء العسكري
كما تحاول إدارة العدالة والتنمية أيضًا بالتعديل المقترح، إلغاء القضاء العسكري، بحيث يتحقق وحدة في السلطة القضائية، كما أن أعضاء المؤسسات الإدارية القضائية العليا طبقًا للتعديل الجديد المقترح لن يُنتَخَبُوا من قبل القضاة وأعضاء النيابة العامة كما كان في السابق، بل ستعطى السلطات المنتخبة الحق في تنظيم الاختيارات بواقع انتخاب 7 أعضاء (من مجموع 13 عضوًا) من قبل البرلمان.
وكما هو مقترح سينخفض عدد القضاة في المحكمة الدستورية إلى 15، لكن عضوية القضاة الحاليين المستمدة من القضاء العسكري ستستمر إلى غاية انتهاء فترة ولايتهم.
وستخضع المراسيم الرئاسية للرقابة الدستورية من قبل المحكمة الدستورية، ويشترط أن تكون المراسيم الرئاسية الصادرة خلال حالة الطوارئ خاضعة للرقابة شكلًا وجوهرًا.
النظام الرئاسي.. تغييرات في بنى السلطة التشريعية والتنفيذية
سيتم وفقًا للتعديلات المقترحة زيادة عدد أعضاء مجلس النواب من 550 إلى 600، كما سيتم تحديد سن الترشح بداية من 18 عامًا، وسيجبر أعضاء البرلمان الذين يختارون كوزراء في الحكومة على تقديم استقالتهم من البرلمان.
على مستوى السلطة التنفيذية سيتم انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب وتمتد فترة ولايته خمس سنوات لفترتين رئاسيتين كأقصى تقدير، وتعتبر السلطة التنفيذية من صلاحيات الرئيس، حيث إن الرئيس هو القائد الأعلى للدولة وليس رئيس الوزراء أو رئيس مجلس الوزراء.
وتُتيح التعديلات للبرلمان التركي اتخاذ قرار بإجراء انتخابات جديدة بموافقة ثلاثة أخماس مجموع عدد الأعضاء وتسمح للبرلمان بفتح تحقيق مع رئيس الجمهورية استنادًا إلى مقترح تطرحه الأغلبية المطلقة من إجمالي أعضاء البرلمان التركي.
سيتم وفقًا للتعديلات المقترحة زيادة عدد أعضاء مجلس النواب من 550 إلى 600، كما سيتم تحديد سن الترشح بداية من 18 عامًا
بإمكان الجماعات السياسية الحزبية والأحزاب السياسية التي حصلت على 5% على الأقل من مجموع الأصوات المشروعة، بمفردها أو بالتشارك في الانتخابات العامة الأخيرة، وبإمكان عدد لا يقل عن 100 ألف ناخب تقديم أو ترشيح مرشح رئاسي.
ولن يتم إعفاء الرئيس من العمل الحزبي، ويجوز للرئيس إصدار مراسيم رئاسية تنفيذية وتكون سيادة القانون المبدأ الرئيسي وتكون المراسيم تحت رقابة المحكمة الدستورية.
تعيين ورفت نائب الرئيس والوزراء وكبار الموظفين العموميين وإقالتهم من مناصبهم تكون من قبل الرئيس، كما يقرر الرئيس الإجراءات والمبادئ التي يتم، بناء عليها، تعيين كبار الموظفين العموميين، وذلك وفقًا للمراسيم الرئاسية، وينوب نائب الرئيس عنه في حالتين: في حالة شغر مكانه حتى الانتخابات القادمة، وفي حال السفر إلى الخارج أو المرض أو الغياب الاضطراري. هذا وستعقد الانتخابات التشريعية والتنفيذية كل خمس سنوات وفي نفس اليوم.
مستويات نظرية وعملية
بلا شك وبعد استعراض أبرز ملامح التعديلات المقترحة من جانب الحزب الحاكم في تركيا (حزب العدالة والتنمية)، والمعروضة في استفتاء عام على الشعب التركي، لا يمكن التسويق لحالة توافق على المطروح، حيث إن هذه القضية كانت مسار جدل في وسائل الإعلام التركية وفي الوسط السياسي والاجتماعي التركي بشكل عام، وعكست انقسامات حادة في المجال العام بين مؤيد ومعارض لهذه التعديلات، حيث ترفض القوى السياسية المعارضة للعدالة والتنمية وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري (الحزب الثاني في البرلمان) فكرة التحول إلى نظام رئاسي، وتتهم الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان بمحاولة جمع خيوط السلطات في يده عبر هذه التعديلات التي نجح نواب حزبه بالتحالف مع بعض نواب حزب الحركة القومية في تمريرها للاستفتاء الشعبي.
إلا أن هذا الاستعراض في النهاية هو لأحد أبرز محاولات تمرير تعديلات على الدستور التركي من شأنها إذا مرت أن تكون تأسيسًا جمهوريًا جديدًا في تركيا، بعيدًا عن تقييم الممارسات السياسية المختلف عليها داخل النسيج التركي.
أسامة الصياد / www.noonpost.net