مواد أخرى » البؤر المحلية الأكثر انتاجا للمتطرفين من أوروبا إلى الشرق الأوسط

يتدفق دومًا المقاتلون الأجانب من كل مكان في العالم إلى سوريا والعراق للانضمام لتنظيم 'الدولة الإسلامية'؛ إلا أن بعض الإحصاءات الأخيرة تؤشر إلى أن غالبية هؤلاء المقاتلين يأتون من دول بعينها، هي: تونس، وليبيا، والسعودية، ومصر، وبلجيكا، وفرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، وروسيا (وتحديدًا منطقة الشيشان وداغستان)، كما أنهم إما نشأوا داخل تلك الدول، أو لديهم روابط مع مناطق محددة داخل كل دولة، وهو ما يمكن وصفه بأنه 'بؤرة محلية/إقليمية' لصناعة التطرف داخل تلك الدول.

في هذا الصدد، نشر المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية ISPI، بالتعاون مع المؤسسة الأوروبية للديمقراطية ببروكسل، كتابا بعنوان: 'البؤر الإرهابية: فهم عمليات التطرف المحلية'، أعدها مجموعة من الباحثين وحرَّرها 'أرتورو فارفيللي'، وذلك لتحليل العلاقة الجدلية بين التطرف والإقليم الناشئ فيه من خلال دراسة كيفية عمل بؤر التطرف داخل الدول المذكورة، وفهم الظروف والدوافع التي تساهم في تجنيد مزيد من المواطنين المحليين ودفعهم نحو التطرف.

بؤر أمريكية وأوربية :

انتشرت في عدد من المدن الأوروبية بعض بؤر التطرف الأساسية التي أسست لفكرة انضمام المقاتلين الأجانب من أوروبا والولايات المتحدة لتنظيم داعش في سوريا والعراق، وأبرز الكتاب في هذا الصدد بعض تلك النماذج مع تحليل الأسباب وراء انتشار الأفكار الجهادية، بما جعلها بيئات حاضنة للتطرف، لعلَّ أبرزها:

1) مولينبيك في بلجيكا: يبلغ عدد المقاتلين منها حوالي 562 مقاتلا، أغلبيتهم إما وُلدوا في مقاطعة 'مولينبيك' أو أمضوا وقتًا طويلا فيها، والتي تتسم بكونها مقاطعة فقيرة وملجأ للمهاجرين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المقام الأول، فضلا عن ارتفاع معدلات البطالة بها. وقد ساهمت تلك العوامل في تهيئة البيئة داخل 'مولينبيك' لظهور الشخصيات الجهادية الكاريزمية مثل 'خالد زرقاني' الذي ترأس واحدة من أكبر وأنجح شبكات التجنيد الإسلامية في أوروبا، حيث وظَّف فيها الشباب المسلمين الذين لديهم سجلات إجرامية، والذين عانوا من التهميش وتشتت الهُوية وضعف الفرص طوال حياتهم، عن طريق استخدام الأيديولوجية الإسلامية كمبرر للسلوك الإجرامي؛ إذ أقنعهم بأن تلك الجرائم تخدم هدفًا أخلاقيًّا أسمى وأعظم مبنيًّا على تلك الأيديولوجية.

وقد تعاونت تلك الشبكة، طبقًا للكتاب، مع تنظيم الدولة الإسلامية في تنفيذ الهجمات التي وقعت في باريس في نوفمبر 2015، وكذلك هجمات بروكسل في 2016. ويشير الكتاب إلى أن أحد أكثر العوامل مساهمةً في نجاح قدرات تنظيم داعش في أوروبا حتى الآن هو التماسك الاجتماعي والروابط العائلية بين أعضائها؛ حيث إن غالبية أعضاء تلك الخلية يعرفون بعضهم البعض من قبل وتربطهم روابط أسرية أحيانًا بما جعل من الطبيعي تعزيز ذلك التماسك واتساع انتشار أفكار التنظيم.

2) قادة التطرف في المملكة المتحدة: والتي شهدت ظهور عدد من القادة والدعاة الجهاديين الذي لعبوا أدوارًا هامة ليس فقط في تنفيذ العمليات الإرهابية عبر أوروبا، بل أيضًا في تجنيد مزيد من المواطنين المحليين. ومن أبرز الأمثلة التي ظهرت في 'لندن' كان 'أبو حمزة المصري' الذي أصبح في عام 1997 إمام مسجد حديقة 'فينسبري' والذي عُرف بكونه مركزًا لدعم الجهاديين، فضلا عن دوره في الربط بين عناصر تنظيم القاعدة والمجندين المحليين في لندن.

كذلك من ضمن نماذج هؤلاء القادة المؤثرين 'عمر بكري محمد'، والذي أسس جماعة 'المهاجرون' في لندن، وترك تأثيًرا كبيرًا ساهم في تسهيل عمليات التجنيد التي اتبعها تنظيم داعش للسكان المحليين، وذلك عن طريق خليفته الداعية السلفي 'أنجم شودري' الذي تولى رئاسة الجماعة فيما بعد، والذي اعتمد بشكل أساسي في عملية تجنيده للمحليين على شبكات التواصل الاجتماعي بجانب اللقاءات المباشرة مع الشباب، ويمكن القول إن غالبية المقاتلين من بريطانيا والذين يبلغ عددهم 760 مقاتلا تأثروا بشكل مباشر بأفكار ومبادئ 'شودري'.

3) جورنيا ماوسي في البوسنة: ففي أعقاب الهجمات الإرهابية عليها في 2011-2012، شنَّت الحكومة البوسنية حملة ضد الجماعات الجهادية داخل البلاد بما دفعهم إلى الانسحاب إلى مناطق بعيدة عن البوسنة مثل قرية 'جورنيا ماوسي Gornje Maoče' والتي أصبحت معقلا للإسلاميين المتطرفين في البلاد، بما دفع إلى ظهور قائد جديد يُدعى 'حسين بلال بوسنيك' والذي عمل على توحيد أصوات المجتمع الجهادي في البوسنة، ومع ظهور داعش تحول إلى أقوى مُجنِّد للمحليين للانضمام للتنظيم، إلى درجة أنه كان يذهب للمواطنين في منازلهم، مستغلا في ذلك معدلات البطالة غير العادية، وافتقار غالبية الشباب المسلم لآليات تحسين حياتهم.

وبرغم أن 'بوسنيك' تم القبض عليه في 2014 وحُكم عليه بالسجن 5 سنوات فإن جهوده مهَّدت الطريق لتقوية العلاقات بين الجهاديين البوسنيين وتنظيم الدولة، بل وجعلت من البوسنة محطة لكل الجهاديين في العالم الراغبين في الذهاب إلى سوريا أو العراق.

4) مينيابولس في الولايات المتحدة: تُقدَّر أعداد المقاتلين من الولايات المتحدة بحوالي 250 مقاتلا فقط من إجمالي عدد سكان يبلغ حوالي 320 مليون مواطن، ومن ثم يمكن اعتبارها نسبة أقل بكثير مقارنة بالدول الأخرى. بيد أنه بالتدقيق في هؤلاء المقاتلين نجد أنهم، طبقًا للكتاب، من مدينة 'مينيابولس' وهي أكبر مدينة في ولاية مينيسوتا الواقعة في شمال الولايات المتحدة.

ومثَّلت مينيابولس، كغيرها من بؤر التطرف العالمية، بيئة خصبة لتجنيد المتطرفين لبعض الوقت، خاصة أنها تستضيف مجتمعًا صوماليًّا-أمريكيًّا كبيرًا، ومنذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين شهدت المدينة عددًا من المجندين يسافرون إلى الصومال للانضمام إلى جماعة الشباب التابعة لتنظيم القاعدة، ثم تحولوا بعد ذلك إلى سوريا والعراق بعد ظهور تنظيم داعش.

وقد اعتمدت عملية التجنيد في مينيابولس على شبكات التواصل الاجتماعي بشكل أساسي، على الأقل في المرحلة الأولى، ثم بعدها استهدف الدعاة المجتمعات الشبابية الهشة وتفاعلت معها بشكل مباشر. ونجح بعض نماذج الدعاة في الذهاب إلى سوريا، ثم بعدها حاولوا إقناع أقاربهم وأصدقائهم من خلال شبكات التواصل لخوض هذه التجربة. ومن أبزر الأمثلة على ذلك الشاب العشريني 'عبدالنور' الذي أقنع 6 من أصدقائه بالذهاب مثله إلى سوريا، ولكن تم القبض عليهم قبل رحيلهم من الولايات المتحدة.

بؤر الشرق الأوسط والقوقاز:

عرض الكتاب عددًا من النماذج داخل بلدان الشرق الأوسط والتي يصفها بأنها بؤر للتطرف والإرهاب، وتمثلت تلك النماذج فيما يلي:

1- بن قردان والقصرين في تونس: والتي تُعد من أكبر مُصدِّري المقاتلين الأجانب إلى العراق وسوريا وحتى ليبيا، ويأتي غالبية هؤلاء المقاتلين من مدن محددة في تونس؛ على سبيل المثال مدينة 'بن قردان' التي تقع أقصى الجنوب الشرقي للجمهورية التونسية قرب حدودها مع ليبيا، والتي تشتهر بكونها واحدة من أخصب البيئات المُغذية للأفكار الجهادية في العالم. ولكونها تقع بعيدًا عن المناطق السياحية الأساسية للاقتصاد التونسي، فقد وقعت دومًا فريسة لإهمال الحكومات التونسية المتعاقبة، بما رفع من معدلات الفقر والبطالة بها، فضلا عن أن تهميشهم داخل المجتمع وعدم حصولهم على فرصهم المشروعة جعلهم أكثر تأثرًا واستجابةً للأفكار الجهادية.

وينطبق الكلام ذاته على مدينة 'القصرين' حيث استغل أعضاء تنظيم داعش هشاشة المجتمعات الشبابية الكبيرة التي تشعر بخيبة أمل، واستطاعوا تأسيس علاقات قوية مع المواطنين والجيران والعائلات من خلال المساجد والمحادثات الصغيرة حول جاذبية الجهاد، مع الاستفادة من الشبكات الاجتماعية الموجودة بالفعل لضمان انتشار أوسع لتلك الأفكار من خلال المواطنين أنفسهم، وهو ما حدث أيضًا مع مدينة 'بنزرت' التي استطاع تنظيم داعش فيها تجنيد المقاتلين الذين كانوا مسجونين منذ أيام الثورة في 2011 واستقروا بعدها في المدينة.

2- سرت ودرنة في ليبيا: والتي تعمل بها كتائب تنظيم الدولة بشكل فعَّال في بعض المدن؛ مثل 'سرت' التي استطاع التنظيم تحويلها إلى أرض خصبة لتجنيد مزيد من المقاتلين بعد دمج التنظيم عددًا كبيرًا من الموالين للقذافي داخل صفوفه، واستطاع عبر ذلك أن يستخدم المدينة ليس فقط كعاصمة للتنظيم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل وأيضًا من المرجح أن تلعب دورًا أكثر محورية في عمليات التنظيم القادمة.

كذلك في مدينة 'درنة' التي يشير الكتاب إلى أن سياسة القمع التي اتبعها القذافي ضد الجماعات الإسلامية التي كانت منتشرة بها ساهمت في ترسيخ الأيديولوجيا الإسلامية وظهور الجماعات الإسلامية المسلحة في الثمانينيات والتسعينيات بما جعلها بيئة مستهدفة لتنظيم الدولة.

3- شمال سيناء في مصر: وبالتحديد في سيناء بعد ظهور جماعة 'ولاية سيناء'، حيث يشير الكتاب إلى أن تنظيم الدولة نجح في توصيل رسائله الجهادية المسمومة للمحليين في سيناء عن طريق استغلال المظالم والمشكلات التي يتعرض لها المواطنون هناك، مؤكدًا أن غياب التنمية الاقتصادية للمنطقة، وتأسيس بنيتها التحتية، فضلا عن تنامي شعور عدائي تجاه الحكومات المصرية المتعاقبة؛ تعد كلها أسباب مباشرة لسرعة انتشار التنظيم داخل سيناء، بما جعلها بؤرة لتجنيد المتطرفين.

4- شمال القوقاز وجورجيا : حيث تُقدَّر أعداد المقاتلين المنتمين لداعش منها بحوالي 5 آلاف مقاتل، أغلبهم، طبقًا للكتاب، جاءوا من شمال القوقاز وتحديدًا الشيشان ووادي بانكيسي، وداغستان. فلطالما كان شمال القوقاز بؤرة لتنامي التطرف الإسلامي، منذ بدايات صراع الانفصال عن روسيا، والذي تمت تغذيته بالمشكلات المحلية والنزعة الإسلامية الشيشانية المعادية للروس، ونتيجة لذلك تم تشكيل 'إمارة القوقاز الإسلامية' في 2007، والتي كانت منتمية لتنظيم القاعدة وقتها، نتيجة للقهر الذي كانت تستخدمه السلطات الروسية والجورجية ضد المحليين، إلا إنها أعلنت البيعة لتنظيم داعش بعد ظهوره، وتغيَّر اسمها إلى 'ولاية القوقاز' وتعمل بقوة في الوقت الحالي.
 

على صعيد متصل، ظهر 'وادي بانكيسي' في جورجيا والذي مثَّل نقطة انطلاق للمجاهدين الإسلاميين في الشيشان، خاصة بعد تعزيز وجود تنظيم داعش داخل أراضيه، واستغلاله سمعة وتأثير القائد أبو عمر الشيشاني الذي قُتل في ضربة جوية أمريكية في مارس 2016 بما حفَّز المحليين للانضمام لصفوف التنظيم بسهولة.

حواضن التطرف :

من خلال النماذج السابقة استنتج الكتاب عددًا من الدوافع المشتركة التي تُساهم بقوة في تجنيد مزيد من المتطرفين على المستوى المحلي داخل الدولة، وهما: 

أولا- المظالم المحلية والمشكلات الشخصية التي يمر بها المواطنون، والتي تُمثل الدافع الأكثر أهمية للتطرف؛ فبرغم أن الأعمال الوحشية التي يقوم بها نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا -على سبيل المثال- تُمثل الدافع الأكبر لمعظم المسلمين السُنّة للانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن الغالبية العظمى التي هربت من سوريا للعراق والذين تم تجنيدهم في صفوف داعش فعلوا ذلك لأسباب شخصية بالأساس؛ كالبحث عن الهُوية، والهدف، والانتماء، والمغامرة، وليس لأسباب دينية بحتة.

ثانيًا- وجود نماذج كاريزمية مؤثرة في صفوف الشباب، وهو ما يظهر بقوة في عدد من الدول الأوروبية التي تشهد حضورًا فعَّالا للنماذج المنتمية لداعش؛ حيث تستهدف تلك القيادات المجتمعات الشبابية الهشّة المتواجدة في المناطق المحيطة، وتعمل على توجيه خطاب كاريزمي قوي يربط بين حاجاتهم وبين المشكلات التي يواجهونها في مجتمعهم، ثم يربطونهم بهدف أعلى يتمثل في الجهاد لإصلاح ذلك المجتمع، ومن ثم يصبح من السهل إيصال الرسالة العنيفة لهم وتجنيدهم في صفوف تلك الجماعات الإرهابية، خاصة بعد اعتمادهم أسلوب الند بالند في الحوار، وتعميق المحادثات مع المواطنين المحليين.

ثالثًا- سياسات التهميش وانخفاض معدلات البطالة وتنامي الفقر في المجتمعات، والتي أثبتت أنها محفزات هامة للإرهاب والتطرف في معظم الدول بصرف النظر عن مدى تقدمها.
المصدر: المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية.

موقع الخدمات البحثية