مواد أخرى » تصاعد "أمراض الحروب" في مناطق الصراعات الداخلية المسلحة العربية

تُواجه دول الصراعات الداخلية المسلحة في المنطقة العربية أنماطًا من التهديدات الأمنية غير التقليدية تتمثل في انتشار ما يُطلق عليه أمراض الصراعات وأوبئة الحروب، وهى تلك الأمراض التي تظهر بشكل فجائي وبدون إنذارات مبكرة نتيجة الظروف والتداعيات التي تفرضها الحروب والصراعات، وخاصة على المستويين الاقتصادي والإغاثي؛ حيث باتت ظاهرة واسعة الانتشار في كافة دول الصراعات، خاصة سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، ويتمثل أبرزها في الأمراض العضوية المعدية، وأمراض الصحة النفسية، علاوةً على أمراض سوء وانعدام الأمن الغذائي؛ إذ تُساهم تداعيات البيئة الصراعية في انتشارها، لا سيما انهيار منظومات الرعاية الصحية، وصعوبة وصول المساعدات الطبية إلى مناطق الصراعات، فضلا عن زيادة معدلات التلوث، سواء الإشعاعي أو العادي، وهو ما يفرض صعوبات عديدة في إطار مواجهتها.

أنماط متعددة:

ساهمت البيئة الصراعية في بعض الدول العربية في ظهور عدد كبير من الأمراض والأوبئة التي باتت تهدد حياة الملايين من سكان تلك الدول، أو حتى الدول المجاورة عن طريق العدوى، لا سيما بعد الاتساع المضطرد في حركة النزوح الخارجي، هربًا من ويلات الحرب، وبحثًا عن مكان آمن. وفي هذا الإطار، ظهرت عدة أنماط من أمراض الحرب في البؤر الصراعية العربية، ويتمثل أبرزها في:

1- الأمراض العضوية المعدية الجديدة، فقد تحولت سوريا إلى ساحة لظهور الأمراض والأوبئة الخطيرة، ومنها على سبيل المثال، ظهور مرض 'الليشمانيات الجلدي'، وهو مرض استوائي عادةً ما يظهر في مناطق الصراعات المسلحة، وقد سجلت التقديرات الصحية إصابة ما يقارب مائة ألف سوري ونحو ألف لبناني بهذا المرض. كما شهد عام 2014 اكتشاف مرض آخر في الغوطة الشرقية بسوريا يُطلق عليه 'النغف'، وهو مرض نادرًا ما يظهر في الدول الشرق أوسطية؛ حيث يتركز بشكل رئيسي في الدول الإفريقية.

وفي اليمن، أعلن مكتب الصحة، في 29 مايو 2016، مديرية بيجان بمحافظة شبوة، التي لا تزال بعض مناطقها تحت حصار الحوثيين وقوات علي عبد الله صالح، منطقة منكوبة بسبب انتشار 'حمى الضنك' بين السكان، حيث تفتقر المنطقة إلى الإمكانيات اللازمة للتعامل مع هذا المرض، وقد بلغ عدد الحالات المصابة بالحمى، حسب بعض التقديرات، أكثر من 804 حالات في حين وصل عدد الوفيات إلى 10 حالات. كما تم اكتشاف مرض الملاريا في المدينة نفسها.

ويُضاف لذلك، أمراض التشوهات الخلقية والعصبية للأجنة وحديثي الولادة التي بدأت تظهر في سوريا، على وجه التحديد بعد الهجوم الكيماوي الذي شنه النظام السوري على الغوطتين الشرقية والغربية لريف دمشق في أغسطس 2013، حيث لوحظ أن حالات الوفيات والتشوهات للأجنة تتركز في مناطق الهجوم الكيماوي، خاصة تلك التي تم استخدام غاز السارين فيها.

2- أمراض سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي، تُعد مسألة حصار بعض المدن والقرى قاسمًا مشتركًا في غالبية الصراعات الداخلية المسلحة التي شهدتها مختلف دول المنطقة، حيث ينتج بشكل رئيسي عنها اتساع نطاق أمراض سوء التغذية، خاصة لدى الأطفال والفئات العمرية الصغيرة. فقد أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة 'يونيسيف'، في يناير 2016، أنها رصدت حالات سوء تغذية حاد بين الأطفال في بلدة مضايا السورية، بسبب الحصار الذي تعرضت له من جانب النظام السوري، وأشارت إلى أن ما يقرب من 400 شخص مهددون بالموت إذا لم يتم إجلاءهم فورًا من تلك المنطقة، وذلك بسبب سوء التغذية.

3- أمراض الصحة النفسية، فمنذ بداية الصراع في ليبيا انتشرت الأمراض النفسية بشكل واسع النطاق، فوفقًا لتقرير أجراه المعهد الدنماركي بالتعاون مع جامعة بني غازي، فإن أكثر من ثلثي الليبيين باتوا يعانون من أمراض نفسية بمختلف أنواعها لا سيما الاكتئاب. وقد انتشرت الأمراض النفسية أيضًا في سوريا، خاصة ما يسمى 'متلازمة الألم العضلي المتفشي' أو 'الفيبروميلغيا'، حيث يُعاني مرضى المتلازمة من آلام مفصلية 'عضلية-عظمية' نتيجة التداعيات النفسية للحرب، وليس لوجود علل جسدية معينة، حيث يعاني من المرض -وفقًا لعدة تقديرات طبية- ما يقارب ربع سكان سوريا، خاصة في إدلب وحلب.

بيئة حاضنة:

باتت البيئة الصراعية وما تفرضه من آثار سلبية تمثل حاضنة مناسبة لانتشار الأمراض المعدية والأوبئة المتنقلة والتأثيرات النفسية الناتجة عنهما، إذ تتسم تلك البيئة بالعديد من السمات، حيث يأتي في مقدمتها انهيار منظومات الرعاية الصحية، فوفقًا لتقديرات غير رسمية، فإن ما يقرب من 57% من المستشفيات السورية قد باتت خارج الخدمة أو تعمل في نطاق جزئي، وهو ما يأتي متسقًا مع ما أعلنته منظمة الصحة العالمية بأن 60% من المستشفيات الحكومية دُمِّرت بالكامل، فضلا عن إغلاق 50% من المنشآت الطبية الأخرى. كما انخفضت نسب العاملين في القطاع الصحي إلى ما يقرب من 45%. 

ووفقًا لدراسة صدرت عن المركز السوري لبحوث السياسات بعنوان 'حرب على التنمية'، فقد تراجعت نسبة الأطباء للمواطنين لتصل إلى طبيب لكل 4041 مواطنًا في يونيو 2015 بعد أن كانت طبيبًا لكل 661 مواطنًا قبل الحرب وتحديدًا عام 2010. ذلك، علاوة على توقف حوالي 90% من الصناعات الدوائية محلية الإنتاج بعد تدمير ما يزيد عن 25 معملا لصناعة الأدوية، وهو ما تكرر بشكل محدود النطاق في العراق، لا سيما بعد اقتحام تنظيم 'داعش' لمحافظة الأنبار، حيث قام التنظيم بتدمير كافة المستشفيات والمراكز الطبية بالمحافظة.

كما شهدت ليبيا سيناريو مشابهًا، حيث وضع الاقتتال الداخلي القطاع الصحي في ليبيا في ظروف صعبة، إذ تم إغلاق عدد كبير من المستشفيات، ولم تعد الخدمات الطبية متوافرة في ظل رحيل الكفاءات المهنية، ونقص المواد الطبية.

ويُضاف لذلك، صعوبة وصول المواد الطبية اللازمة لبعض المناطق، نتيجة الحصار الذي تفرضه بعض القوى المتصارعة، وتجلى ذلك بوضوح في حالة اليمن لا سيما بعد الحصار الذي فرضته حركة الحوثيين حول منطقة تعز في نهاية العام الماضي، مما حال دون إمكانية وصول شاحنتين محملتين بمواد طبية كان يفترض إرسالهما إلى مستشفيين في المنطقة، وهو ما أسفر عن نقص حاد في المواد الطبية المستخدمة لمقاومة الأمراض ومنع انتشارها.

وقد ساهم ارتفاع معدلات التلوث الناتج عن الحروب في انتشار نمط أمراض الحرب، وتتمثل أبرز مصادر هذا التلوث في المواد الكيماوية والبيولوجية المتواجدة في الأسلحة المستخدمة، وكان من أبرز تجلياته استخدام نظام الأسد للبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية في الغوطتين الشرقية والغربية لريف دمشق في أغسطس 2013، والذي ساهم بدوره في انتشار الأمراض المعدية، علاوة على أمراض تشوهات الأجنة، إلى جانب تراكم القمامة نتيجة انشغال أجهزة الدولة، سواء الأمنية أو العسكرية، بالمواجهات المسلحة، وعدم التركيز على الخدمات العامة ومنها جمع القمامة، وذلك علاوة على تلوث المياه والتربة، وهو ما أدى لانتشار أمراض مثل الكوليرا والتيفود والأمراض المعوية في كل من العراق واليمن بشكل واسع النطاق.

خلاصة القول، على الرغم من الجهود الكبيرة التي تقوم بها المنظمات الطبية الدولية لمكافحة أمراض الحروب، إلا أن استمرار تلك الصراعات يفرض تداعيات سلبية عديدة تؤدي إلى عرقلة تلك الجهود، لا سيما فيما يتعلق بظهور أمراض فتاكة تحتاج إلى تبني استراتيجيات موسعة لمواجهتها، وبالتالي فإن العامل الحاسم في مواجهة تلك الأمراض هو تهيئة مناخ ملائم للتهدئة يبدأ من إقرار وقف إطلاق نار والالتزام بهدنة حقيقية بين الأطراف المتصارعة لتمكين الجهات الطبية من القيام بعملها.

المصدر: المركز الاقليمي للدرسات الاستراتيجية.

 

موقع الخدمات البحثية