مواد أخرى » أبعاد الصراع بين السلطة و الإسلاميين على الصلاة في مصر

ارتبطت النشأة الحديثة للدولة المصرية، والتي بدأت بشكل كبير مع مشروع محمد علي التحديثي، بالتكريس لنمط من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المتمركزة حول الدولة، والمسيطرة على المجال العام بكافة مكوناته، بما في ذلك المكون الديني الذي تحول بمرور الوقت إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة خاضعة لتنظيم السلطة القائمة.4743_632_02

ولكن سرعان ما تعرضت شرعية هذا التنظيم لاهتزازات عميقة، لا سيما مع بزوغ مشروع الإسلام السياسي الذي طُرح كمشروع بديل للمشروعات السياسية والأيديولوجية التي تبنتها الأنظمة الحاكمة المتعاقبة، وينافسها على المساحات المجتمعية المختلفة. ونتاجًا لذلك أضحت فكرة الصلاة والمسجد، بأهميتهما الرمزية في المخيلة المجتمعية، موضوعًا للصراع السياسي بين السلطة والإسلاميين.

وفي هذا الصدد، يتناول أرون روك سينجر من خلال دراسته المعنونة بـ'الصلاة والصحوة الإسلامية: تحدٍّ في أوانه'، والمنشورة في عدد (مايو 2016) من المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط؛ الصلاة كمساحة للصراع السياسي بين السلطة الحاكمة والإسلاميين خلال فترة حكم الرئيس الأسبق أنور السادات.

ويستدعي الكاتب النصوص المنشورة داخل الدوريات الإسلامية على غرار مجلة 'الاعتصام'، ومجلة 'الدعوة'، ومجلة 'منبر الإسلام' خلال الفترة (1976 – 1981)، والتي كان لها تأثير مركزي في تشكيل خطاب الإسلاميين تجاه السلطة، وكذلك في تشكيل الخطاب المضاد من السلطة، والذي كان يسعى إلى الحفاظ على المكون الديني في المجتمع كموضوع خاضع للإطار التنظيمي المفروض من الدولة.

مأسسة الدولة:

في دراسته لتاريخ الدولة المصرية، يفترض تيموثي ميتشل أن نشأة الدولة المصرية الحديثة خلال القرن التاسع عشر ارتهنت بخلق آليات جديدة لإدارة الدولة، وفرض إطار نظامي محدد تعمل من خلاله المؤسسات وكذلك المجتمع، فالدولة المصرية استعارت من الغرب آنذاك الشكل المؤسسي الذي كان سائدًا في الكثير من الدول الغربية، والذي كان يُعلي من قيمة التنظيم، وتأطير عمل الأفراد، سواء داخل المؤسسات الحكومية أو حتى في المجتمع بشكل مجمل، وهو ما كان يعني السيطرة الحكومية على كافة مكونات المجال العام.

واتساقًا مع تلك الفرضية، يُشير روك سينجر إلى أن التنافس بين مؤسسات الدولة والتيارات الإسلامية بدأ مع الإرهاصات الأولي لتكوين الدولة المصرية المعاصرة خلال القرن التاسع عشر عبر مشروع تحديثي، فمع توجه الدولة نحو تقوية الوضع الاقتصادي والسياسي لمصر في مواجهة الخارج، طمح المشروع التحديثي إلى تشكيل نظام سياسي مستند إلى مؤسسات (مثل: المدرسة، والمصنع، والبيروقراطية) تستطيع إنتاج الفرد الجديد، كمادة سياسية منعزلة، ومنضبطة وكادحة. وفي هذا المضمار اعتمد مخططو الدولة على المدرسة بشكل خاص من أجل إنتاج نظام مجتمعي يقوم على انتقال الطلاب من مهمة إلى أخرى بشكل منضبط، ووفقًا لمهام ووظائف واضحة ومحددة.

وفي خضم هذا التأطير النظامي للمجتمع، لم تكتفِ مؤسسات الدولة -بحسب سينجر- بإضفاء تصور معين للنظام، ولكنها سعت أيضًا لإخضاع الدين لمقتضيات السياسة، وتوظيفه في الترويج للقومية أو أيديولوجيات معينة، ومن ثم أصبح الدين الذي ترعاه الدولة، والذي يجب على المواطن اعتناقه، هو ذلك النمط من التدين الذي يعكس الأولويات القومية، ومصالح النظام الحكام، ويمنع المنافسين الآخرين من استخدام المساحة الدينية لتحقيق مكاسب سياسية.

وقد تبنت الدولة عدة مسارات لتحقيق ذلك الأمر، من أهمها قيام الدولة عبر وزارة الأوقاف منذ عقد الأربعينيات من القرن المنصرم ببسط سيطرتها على المساجد المتواجدة داخل أراضي الدولة، كما استخدمت الدولة وسائل الإعلام المتاحة لديها في إنتاج خطاب ديني يحقق أهدافها.
وبالرغم من محاولات السلطة الحاكمة احتكار المساحة الدينية لصالحها، فقد كانت تُدرك أن تيارات الإسلام السياسي تشكل تهديدًا حقيقيًّا لها، وهو الأمر الذي تنبّه له الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر ليقوم بتضييق حيز الحركة المتاح أمام هذه التيارات.
 
ولكن مع مجيء الرئيس السادات إلى الحكم اختلفت المعطيات السياسية القائمة، فقد سمح النظام حينها لتيارات الإسلام السياسي بأريحية أكبر في العمل والنشاط السياسي والمجتمعي، وهو ما تحول بمرور الوقت إلى عنصر ضغط على السلطة، إذ طورت هذه التيارات عدة مداخل للتنافس مع السلطة، ولعل مدخل صلاة الظهر -وفقًا لسينجر- كان المدخل الأهم للصراع السياسي بين السلطة وتيارات الإسلام السياسي.

الصلاة والصراع السياسي:

يُشير سينجر إلى أن نظام السادات استخدم المؤسسات الدينية والتعليمية للتكريس لرؤية قومية يمتزج عبرها الولاء السياسي بالتقوى الدينية، ولذا أوجد نقاشًا حول قضية الصلاة وأهميتها من خلال مجلة 'منبر الإسلام' الصادرة عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وفي هذا الصدد، أبرزت المجلة الأنشطة الدينية للسادات، ومنها -على سبيل المثال- زيارته لمسجد السيد البدوي بطنطا في يناير 1976، كما أصبحت صلاة الجمعة جزءًا من الشعائر الرئيسية للحاكم.

وفي مقابل هذا الخطاب الديني للسلطة، كان لقوى الإسلام السياسي هي الأخرى خطابها الخاص بها والمغاير لخطاب السلطة، فقد استدعت هذه القوى صلاة الظهر كصلاة متداخلة مع أوقات العمل الرسمية بأجهزة ومؤسسات الدولة، وجعلتها موضوعًا للصراع السياسي مع السلطة، فإثارة هذه القضية كان يعني إعطاء تيارات الإسلام السياسي (وفي مقدمتها جماعة الإخوان) حيزًا أكبر للتعبير عن نفوذها الديني في المساحة المكانية والزمانية التي كانت تعتقد السلطة أنها حكر عليها.

 وهكذا بينما كان مخططو الدولة والتربويون يسعون إلى غرس قيم النظام والطاعة من خلال السيطرة على الهيكل المكاني والزماني لمؤسسات الدولة، كان القياديون داخل التيارات الإسلامية يحشدون الناس للصلاة في أوقات محددة، وهو ما شكل تحديًا أمام مزاعم المؤسسات البيروقراطية والتعليمية بسيادتها الزمانية والمكانية على الطقوس الدينية.

وبالرغم من أن صلاة الظهر ظلت متداخلة مع أوقات العمل الرسمية بأجهزة الدولة طوال القرن العشرين؛ فإن القضية لم تُثر بشكل كبير حتى عقد السبعينيات، والذي شهد تصاعد الضغوط من جانب الإخوان والسلفيين على المؤسسات الحكومية لإعادة تنظيم توقيتات العمل لاستيعاب ممارسة صلاة الظهر، فضلا عن تخصيص أماكن لأداء هذه الصلاة داخل مؤسسات الدولة.

وكان من شأن هذه الضغوط أن تحقق للإسلاميين هدفين رئيسيين، أولهما إتاحة الفرصة لتدعيم شعبيتها داخل مؤسسات الدولة، وحشد أفراد من فئات مختلفة، دون أن يصور الأمر على أنه تحدٍّ مباشر للسلطة الحاكمة. وثانيهما، أن استحضار قضية الصلاة يمكن أن يمثل إحراجًا لنظام الحكم الذي كان يرفع حينها شعارات من قبيل 'دولة العلم والإيمان'، و'الرئيس المؤمن'، وبالتالي سيصبح أمام النظام خياران؛ أحدهما ألا يعارض التزام الناس بصلاة الظهر في مواعيدها وأثناء تواجدهم في أماكن عملهم، وهو ما يعني تحقيق تيارات الإسلام السياسي مكاسب سياسية في مواجهة السلطة.

 أما الخيار الآخر -وهو لا يقل صعوبة عن الخيار الأول- أن يرفض النظام مطالب تعديل أوقات العمل الرسمية لتتماشى مع توقيت صلاة الظهر، وحينئذ يكون النظام موضع انتقاد نظرًا للانفصال والتعارض بين شعارات 'الدولة المؤمنة الداعمة للشريعة'، وبين مدى التزام هذه الدولة بشروط أداء صلاة الظهر.

بدأ الجدل حول صلاة الظهر من خلال مجلة 'الاعتصام' الصادرة عن الجمعية الشرعية، ففي عددها ديسمبر 1976 أشاد رئيس الجمعية عبداللطيف مشتهري بعضو البرلمان آنذاك محمد سعيد أحمد نظرًا لأدائه صلوات الظهر والعصر والمغرب أثناء جلسات البرلمان. واتخذ مشتهري من هذا السلوك مدخلا للمطالبة بضرورة إعادة هيكلة توقيتات العمل بالدولة حتى تتناسب مع شعائر الصلاة.

وعززت مجلة 'الدعوة' التابعة لجماعة الإخوان المسلمين هذا الجدل في عددها الصادر بمارس 1977 من خلال المقال الذي كتبه صالح عشماوي بعنوان 'أين يمكن أداء الصلاة في دولة العمل والإيمان؟'، حيث انتقد دعوة السادات للتقوى والتدين في حين أنه يصعب أداء شعائر الصلاة داخل مؤسسات الدولة، واعتبر عشماوي أن الصلاة إلزام على الحكام، ومن ثم يجب أن تُؤدَّى يوميًّا في أوقاتها داخل قصر الرئاسة، وكذلك في البرلمان، والوزارات، والمؤسسات القضائية، والمدارس، وغيرها من المؤسسات.

فالفكرة التي طرحها عشماوي هي أن 'أداء صلاة الظهر في موعدها داخل كافة مؤسسات الدولة يُعد المسار الجاد نحو تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما سيقود إلى خلق وتأسيس المجتمع الإسلامي'.

كانت هذه الكتابات -وغيرها من الكتابات والآراء التي حفلت بها تلك الفترة- مقدمة لمرحلة أكثر تعقيدًا في العلاقة بين السلطة والإسلاميين، فالسلطة تعاطت مع القضية بآليات متنوعة، ففي مرحلةٍ ما كانت تسمح بحيز للحركة مثلما حدث في كلية الزراعة بجامعة أسيوط خلال الشهور الأولى من عام 1977؛ حيث أصدر عميد الكلية تعليماته بإتاحة الفرصة للطلاب والموظفين بالصلاة في أوقاتها داخل مسجد كلية. وفي مرحلة أخرى، وخاصة فيما بعد كامب ديفيد، كانت تتعامل مع مطالب الإسلاميين بشكل أكثر صلابة، فالسلطة اعتبرت هذه القوى توظف الصلاة والمسجد في الترويج لخطاب مناهض لها.

المساجد لله


وفي هذا السياق، كتب عبدالعظيم المهدي في عدد أكتوبر 1981 من مجلة 'منبر الإسلام' -المعبرة بشكل أو بآخر عن السلطة- مقالا بعنوان 'المساجد لله' لتفنيد خطاب الإسلاميين حول حرمة مساجد الجامعات، ووصف المعارضة الدينية بأنها مصدر للاضطراب الاجتماعي الذي يقوض ما تقدمه الدولة من أمن ورفاه.

وفي المقابل كان الإسلاميون (وفي مقدمتهم الجماعة الإسلامية والإخوان) وصلوا إلى قناعة بأن النظام الحاكم يرفع شعارات الإيمان والشريعة الإسلامية دون أن يكون له نية حقيقية في تطبيق ذلك في الواقع، ومن ثم شرع الإسلاميون في إعادة صياغة خطاب المظلومية، مستغلين في ذلك اتفاقية كامب ديفيد، وأحداث الصدام بين قوات الأمن وطلاب التيارات الإسلامية داخل الجامعات، لتدفع كافة هذه الأحداث في نهاية المطاف إلى اغتيال الرئيس السادات على أيدي عناصر محسوبة على الإسلام السياسي.

وبالرغم من هذه النهاية الراديكالية لحكم الرئيس الأسبق السادات، فإن قضية الصلاة والمسجد، بما يحمله كل منهما من دلالات رمزية يتقاطع فيها الروحي مع السياسي، لا تزال من القضايا غير المحسومة في الواقع المصري لتشكل مساحة لا يستهان بها من السياسة وتفاعلاتها.

أرون روك سينجر

المصدر:المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية.

 

 

موقع الخدمات البحثية