مواد أخرى » الإسلام السياسي والربيع العربي إلى أين؟

أحمد ح. الرحيم ( بروفسور مساعد في الدراسات الإسلامية في قسم الدراسات الدينية في جامعة فيرجينيا)
"رأيت الطريق لتحقيق كل أحلامي. وجدت ديناً؛ رأيت نفسي أّجد السير على الطريق الى آسيا،  ركبت فيلاً مع عمامة على رأسي، وفي يدي قرآن جديد، كتبته ونظمته ليتناسب مع رغباتي. كنت لأجمع في مشاريعي تجارب العالميْن، مستغلاً ميادين التاريخ كله لأجل منفعتي...إن الوقت الذي أمضيته في مصر كان الأجمل في حياتي، لأنه كان الأمثل". ـ نابليون بونابرت

ما كان يلقب، على نطاق واسع، بـ " الربيع العربي" أو " الثورات العربية" هو، من نواحٍ كثيرة، خطأً في التسمية. إذ سيكون من الدقة توصيف التظاهرات، وفي بعض الحالات الثورات، التي بدأت في تونس في كانون الأول 2010 واكتسحت قسماً كبيراً من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بثورات وطنية ما بعد الاستعمار ضد أنظمة الثورات القومية العربية على العموم، أ، وبشكل أدق، ضد الانقلابات العسكرية في الخمسينات والستينات التي جلبت هذه الأنظمة الجمهورية الى السلطة. وللبدء بفهم طبيعة التظاهرات الأخيرة، نحن بحاجة لدرس ثلاثة أحداث، أو تحولات، في تاريخ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. الأول، غزو نابليون لمصر في العام 1798 ـ الخلفية لقسم كبير من تاريخ المنطقة الحديث ـ الذي بشر بالحداثة للتي ستصبح، في الوقت المحدد، أمة مصر الإقليمية، كما للعالم الإسلامي بشكل أعم. الحدث الثاني هو " العصر الليبرالي العربي"، أو" النهضة العربية" (الاسم الذي اتخذته الحركة والحزب الإسلامي التونسي لنفسه)، تحديداً، الفترة الفكرية ( العربية) النابضة بالحياة حول التحديات والفرص التي تقدمها الحداثة الغربية، تحديداً في المجالات الاجتماعية ـ الثقافية، الدستورية، والاقتصادية، الممتدة من العام 1798 وحتى العام 1939. هذا الاستيعاب للفكر الغربي وإعادة التفكير بالتقاليد الإسلامية وضع الأسس الفكرية في قسم كبير من شمال أفريقيا والشرق الأوسط الحديث، والتي من دونها ربما لم تكن التظاهرات والثورات الأخيرة أمراً ممكناً ـ والأهم المطالبات بإنهاء الحكم الاستبدادي وتشكيل حكومة تمثيلية وديمقراطية. والثالث، هو السياق القومي ما بعد الاستعمار والدول القومية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالنقاش السياسي ـ أو بشكل أكثر دقة، شكاوى ومطالب المتظاهرين ـ تحول، بما يتعلق باللغة والأهداف السياسية، بعيداً وبشكل ملحوظ، عن مسارَي القومية والإسلاموية المختلفينْ اللذين هيمنا على قسم كبير من تاريخ المنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين الى أجندة على أساس وطني ـ تحديداً، تونسية، مصرية، إلخ. ـ ذات أهداف محددة بوضوح وقابلة للتحقيق بنظرهم.
 بعد مناقشة هذه المراحل التاريخية، سأحدد ثلاثة نماذج سياسية حالية في الشرق الأوسط تؤشر الى مسارات مستقبلية محتملة للإسلام السياسي اليوم.

غزو نابليون لمصر وتقديم الحداثة
إن غزو الجنرال بونابرت لمصر في العام 1798، التي كانت آنذاك تحت حكم المماليك الشركس بظل الإمبراطورية العثمانية ( 1299ـ 1923)، هو من نواحٍ كثيرة، نقطة التحول، أو الفاصل، بين أواخر العصور الإسلامية الوسطى والحداثة. هذا الحدث بشر بالحداثة على النموذج الغربي في العالم الإسلامي ( العربي). وفي حين أن غزو مصر كان يتعلق، الى حد كبير، بتوسيع المصالح الاقتصادية والتجارية الفرنسية، من خلال البحر الأحمر وصولاً الى الهند، ضد تلك التي للإمبراطورية البريطانية، فإن نابليون يصرح، في بيانه لـ " كل شعب مصر،" بأن بلدهم كان خاضعاً، حتى وصوله، للمكائد السياسية للمماليك الشركس الذين، من خلال " جشعهم"، جلبوا الخراب " للبلاد"، وأنه هو المحرر ونبي (!) الحداثة المسلم:

"لكن الله جل جلاله رحيم، عادل وحكيم. من الآن فصاعداً، وليساعدنا الله، لن يكون هناك مصري واحد ( أهالي مصر) يائس من أن يعين في مركز رفيع أو تحقيق مرتبة نبيلة. إن الرجال المصريين المتعلمين أو أصحاب الفضيلة، وذوي العقل والمنطق سوف ينظمون شؤون بلادهم، وبهذه الطريقة ستتقدم كل الأمة، كما فعلت في أوقات سابقة... لذا، يا مشايخ، يا قضاة، يا أئمة، يا تجار ويا وجهاء البلد، بلغوا شعبكم أن الفرنسيين هم مسلمون مؤمنون على حد سواء، كما ثبت من واقع غزوهم لروما الجبارة، حيث استقذروا الرؤية البابوية التي طالما حرضت المسيحيين على شن الحرب على الإسلام".

البيان صريح وغير مألوف في تعريفه أمة " مصر" و سكانها " التاريخيين"، " المصريين." قبل هذا البيان، كان المفهوم لـ " بلد" ما ، أو الكيان الجغرافي، يحدد بحدوده السياسية، الوطنية، واللغوية الخاصة، خارج تلك التي للخلافة أو لإمبراطورية متوسعة أو، في حالة العثمانيين، إمبراطورية منكمشة، حيث كانت الهوية تحدد، الى حد كبير إن لم يكن حصرياً، بمصطلحات دينية، مجتمعية، والتي كانت جديدة وقوية سياسياً بالنسبة للعالم الإسلامي. فالمسلم، أو المسيحي، أو اليهودي كان يعرَّف بفضائل وقوة عقيدته الدينية وليس بانتمائه العرقي بالضرورة. فكان الشخص، إذا كان مسلماً، عضواً في المجتمع أو الأمة الإسلامية الكبيرة، حراً عموماً بالتنقل في الأراضي والحدود الجغرافية التي كانت الإمبراطوريات الإسلامية مهيمنة عليها إقليمياً، على امتداد صعودها وسقوطها، وإن كان مسيحياً، أو يهودياً، أو منتمياً لدين معترف به إسلامياً، أو من" أهل الكتاب"، قد كانت تتم " حماية" وضعه ومكانته ( أهل الذمة) في مقابل جزية يدفعها تعفيه من الخدمة العسكرية. في كل الأحوال،  كان هذا الشخص يعتبر هذا الوضع تصنيفاً له كـ " مواطن" درجة ثانية، ليس على قدم المساواة مع المسلم بما يتعلق بالحقوق والامتيازات الكاملة، على الأقل وفقاً للنظرية الإسلامية ( ولكنها ليست ممارسة دوماً).
يصف البيان الجمهورية الفرنسية أيضاً بأنها تأسست على " مبادئ الحرية والمساواة". لقد بدا لعدد من رجال الدين والقضاة المسلمين أن هذا المفهوم، المتعلق بالحرية والمساواة، أو الحقوق المدنية، الذي يتقاسمه كل المواطنين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية، يؤدي الى قلب نظام مجتمعهم الطبيعي الذي نظمه الله. لقد أثبت مفهوم المساواة الاجتماعية وحقوق "المواطن القومي" المبنية، فقط، على أساس الجغرافيا، التاريخ، اللغة، والآثار القديمة المشتركة، أنها تشكل قضية كبرى طرحتها الحداثة الغربية ليس بالنسبة للفقه الإسلامي فحسب بل بالنسبة للتاريخ الاجتماعي والسياسي الإسلامي، كما تطور حتى هذه المرحلة.

العصر الليبرالي العربي: استيعاب الحداثة
جاهد مفكرو ورجال دين القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ليكون لمفهوم القومية معنى. المثال المبكر على ذلك، هو رفاعة رافع الطهطاوي ( 1801ـ1873)، الذي كان ما بين عامي 1826 و 1831، طالباً في بعثة الى باريس أصبح خلالها  ضليعاً في اللغة الفرنسية، ولاحقا، تابع الطهطاوي تأسيس " مدرسة اللغات الأجنبية"، التي أنتجت مئات المترجمين لأعمال لا تعد ولا تحصى في مختلف المجالات والميادين ـ بما في ذلك كتابات الفلاسفة المرتبطة بالثورة الفرنسية، تحديداً، فولتير، جان جاك روسو، مونتسكيو، وكوندياك. وفي محاولة لإيصال فكرة القومية  المصرية)،  يكتب الطهطاوي: )
 " الوطن هو عش الإنسان، الذي منه نشأ وفيه درج طفلاً، وحيث توجد كل عائلته، وجزء من روحه. إنه الوطن الذي تربى على ترابه وتنشق هواءه وأكل من جناه، إنه الوطن الذي ترعرع على نسماته العليلة... توصف مصر بكل عبارات الشجاعة، الحماسة، التحمل والصبر، والقيادة... وبذلك  اكتسبت حقها بالاحترام لدي جميع الأمم والمعتقدات، ودول وملوك العالم... إن شعب مصر... ملتزم بـ "الحديث النبوي": " حب الوطن جزء من الإيمان." مصرستبقى، بإذن الله، آمنة ومحمية من محن الزمان".
يمثل النص إحدى المحاولات الباكرة لتحديد مصطلح القومية في العربية. إن استخدام الطهطاوي للقرآن والأحاديث النبوية كنصوص برهانية واضح طوال عمله، الذي لم ينكب فيه على مسألة القومية فحسب،  وإنما أيضاً على " الميثاق الدستوري الفرنسي" في 4 حزيران، 1814؛ حقوق الشعب التي يضمنها البرلمان، وحقوق وواجبات المواطن؛ الحرية والمساواة الاجتماعية. وفي حين كان تأكيد الطهطاوي على المبادئ الحديثة التي تقف خلف هذه الأفكار، من حيث إنها ستساهم في إصلاح الدولة والمجتمع المصري، فقد كان عليه أن يجد، حيثما أمكن، مفاهيم إسلامية ونصوصاً عربية يمكن من خلالها أن تجد هذه الأفكار صداها لدى الجمهور المسلم. ( العكس صحيح بما يخص قسماً كبيراً من الفكر الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث كان التأكيد على أن المبادئ الإسلامية هي التي تقف خلف المبادئ الحديثة).
كانت هذه المقاربة بشكل أو بآخر، ومن نواحٍ كثيرة، السمة المميزة للكتابات الإسلامية والفكر الإسلامي حول الحداثة، الديمقراطية والإسلام، حتى وقتنا الحاضر. فكيف كانت ستُحدد مصر كوطن ذي حدود مرسومة؟ كيف ستلهم الدولة البيروقراطية الحديثة مواطينها  ليقاتلوا أو  "يستشهدوا" في  سبيل " بلدهم" أو حتى يفهموا تاريخهم الجماعي " الخاص"، أو ذاكرتهم التاريخية؟ هل إن المصريين مسلمون عرب ينتمون الى دولة ( حكومة) إسلامية أكبر، أم أنهم يتحدرون من المصريين القدماء؟ سنسعى للبحث عن الأجوبة عن هذه الأسئلة ذات الصلة ونناقشها، تحديداً بما يتعلق بـ "الإيديولوجية" في أواخر القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين، ( مصطلح وُلد بحد ذاته من نقاشات الثورة الفرنسية الفلسفية والسياسية).
وتماماً كما أن هناك ركائز عقائدية في الإسلام ( السني) ـ خمسة ركائز تقليدياً أو ستة ركائز مع الجهاد ( الحرب المقدسة)ـ كذلك هو الحال في الحداثة كما قُدمت الى العالم الإسلامي. فركائز الحداثة تشمل القومية والدول القومية؛ التكنولوجيا المبنية على العلم؛ التكنولوجيا العسكرية تحديداً؛ العقلانية البيروقراطية، الاقتصادية والإدارية؛ والعلمانية الغربية والتعليم العلماني العلمي. أما بما يتعلق بالنظرية السياسية، فقد كانت أقوى الأفكارـ المعروضة في ثورتيْ تونس ومصر، وعند كتابة هذه المقالة، في تظاهرات البحرين وسوريا، والتمرد في ليبيا ـ أفكاراً تتمسك بالمبادئ الدستورية، تحديداً الحد من سلطة السلطان أو السلطة الاستبدادية؛ الحقوق المدنية؛ المساواة؛ والحرية. هذه الركائز ستأتي لتدعم، نظرياً على الأقل، نوعاً مختلفاً من الصروح عن ذاك الذي للنظرية السياسية الإسلامية ( أو بشكل أدق، التطبيق العملي السياسي للإسلام) في أواخر العصور الوسطى، التي كانت السلطة السياسية والعسكرية أثناءها في يد السلطان واقعاً ( المعنى الحرفي للسلطة العسكرية لدى العرب). وسيجلب تأسيس الجامعات الحديثة الى المقدمة طبقة دينية جديدة من المفكرين والعلماء الذين لم تكن أسسهم المعرفية للعلم دينية ومتعلقة بالشريعة الإسلامية وإنما  كانت علوماً تجريبية. هذه الطبقة الجديدة ستأتي لتحل محل مؤسسة رجال الدين التقليدية، ومدارسها، وما يتعلق بمكانتها وهيبتها الاجتماعية والأهم نفوذها السياسي ومحاباتها من قبل الحاكمين، ما تسبب بصدع فكري بين العلمانية والدين في العالم الإسلامي التحديثي. مع ذلك، جاهد المفكرون من الجانبين، العلماني والديني، للإجابة عن السؤال الخالد بلا جواب عن سبب تراجع " الحضارة الإسلامية"، بما يتعلق بقوتها، وكيف أصبحت وراء الغرب، أيا كان تعريف هذا التراجع.
 وفي حين دام الاحتلال الفرنسي لمصر ثلاث سنوات تقريباً، فإن تأثيره سيكون، فكرياً وسياسياً، بعيد المدى بما يتعلق بتحديث الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إلا أن هذه التغييرات لن يتم إدراكها بالكامل قبل عهد الخديوي ( نائب الملك) محمد علي ( 1805ـ1848) وأسرته، التي حكمت مصر، بشكل أو بآخر، حتى حصول ثورة الجمهورية عام 1952، التي بشرت بالقومية العربية لجمال عبد الناصر ( الذي حكم من العام 1956 وحتى 1970). مع إرتقائه العرش، بدأ محمد علي بجد وإخلاص ببيروقراطية وعقلنة نظام الإقطاع القديم المتعلق بالمزارع، الذي، وفقاً له، كانت الأراضي مقتسمة فيما بين أعضاء الطبقة العسكرية الحاكمة، المماليك الشركس. وقام بتأسيس كل المؤسسات البيروقراطية الحكومية واللا حكومية تقريباً التي كانت مرتبطة عادة بصعود الدولة الحديثة، بما فيه الوزارات، المحاكم، الجامعات، معاهد الترجمة، تجنيد جيش وطني ( لا جيش عبيد بعد الآن)، مصانع، ومطبوعات ( كان العثمانيون قد أسسوا بحلول عشرينات القرن السابع عشر مطبوعة تركية). كانت ترجمة الكتب الأوروبية، وليس كتب العلوم التكنولوجية الحديثة والصناعات العسكرية فحسب، وإنما كتب الفلسفي، والفكر السياسي، والأدب الغربي، ضربة الإصلاح الكبرى لمحمد علي. لقد أرست حركة الترجمة هذه، التي قد تكون ربما أكبر مسعى فكري في اللغة العربية منذ حركة الترجمة اليونانية ـ العربية في القرنين التاسع والعاشر ميلادي، هي الأساس للعصر الليبرالي العربي وما كان سيأتي.
بالرغم من هذه المحاولات لتحديث الاقتصاد المصري ودمجه في الاقتصاد العالمي، فقد ظل قسم كبير من السلطة السياسية في أيدي محمد علي وأسرته بالإضافة الى المفضلين لديهم. وكان لا بد من أن يترك حكمه وحكم أولاده وخلفائهم الاستبدادي إرثاً سياسياً دائماً في مصر. فمن جوانب عديدة، كان الذي أدى الى الثورة الجمهورية عام 1952 هو الفجوة المتسعة ما بين الأهداف الإيديولوجية للثورات، تحديداً، القومية، الاشتراكية، ولاحقاً العروبة، والحالة السياسية الصعبة والضائقة الاقتصادية الراسخة في النظام القديم ـ وقد يقول البعض إن تقليد الحكم الاستبدادي هذا، الذي لم يتم التخلي عنه بالكامل، هو الذي لعب دوراً حاسماً في ثورة مصر اليوم. وبالتالي، فإن التحديث كان يعني بالنسبة لمحمد علي الحصول على دولة ذات إدارة مركزية، وتعزيز وإدامة تلك الدولة، والحاجة الى إنشاء جيش حديث الى جانب سلك من الضباط المتعلمين، ما يعني، على نحو فاعل، جيش مبني على النموذج الأوروبي، منظم ومدرب من قبل مستشارين تكنوقراطيين وعسكريين غربيين. لكن برغم هذه المحاولات لتحديث مصر ومحاولات شبيهة أخرى على امتداد المنطقة، يبقى السؤال عن كيفية الحد من السلطة الاستبدادية السائبة.

سياق مرحلة ما بعد الاستعمار لـ " الربيع العربي والإسلام السياسي
إن مركزية القومية في التظاهرات والثورات الأخيرة وصولاً الى إقصاء الخط العروبي والخط الإسلامي، اللذين حركا الحياة السياسية في قسم كبير من النصف الثاني من القرن العشرين، أمر لا يمكن المغالاة بها. ونظراً للزوال الظاهر لكل الإيديولوجيات، فإن السؤال هو: ما نوع الثقافة السياسية التي ستتطور وتتظهر؟ أولاً، بإمكاننا فصل طوباوية القاعدة، كما فعل عدد من المتظاهرين في مصر وأماكن أخرى، بالإضافة الى فصل أهداف الإسلاميين بشأن انهيار نظام الدولة القومية، الذي كانت فرضته، الى حد كبير، إتفاقية سايكسـبيكو عام 1916 ( الفكرة الرئيسة المفضلة في خطابات وبيانات رئيس القاعدة الحالي، أيمن الظواهري)، وإعادة تأسيس خلافة موحدة متصورة تمتد من إسبانبا حتى أندونسيا، مرتبطة بإمبراطورية إسلامية منصرمة، عبر " العالم الإسلامي". ثانياً، بينما يسعى الإخوان المسلمون المصريون، الحركة التي تأسست بصفتها " حركة اجتماعية،" وليس حزباً سياسياً على يد حسن البنا ( 1906ـ1949) في العام 1928، والمنظمات الشقيقة التي ألهمها الإخوان المسلمون على امتداد العالم الإسلامي، وبما يتعلق بإيديولوجيتهم التأسيسية، الى إعادة تأسيس الخلافة وتوحيد " الحكومة الإسلامية"، اشتغل الإخوان المسلمون عملياً ـ من المغرب الى مصر وصولاً الى العراقـ كمنظمات إسلامية وطنية. لذا، فإن أهدافهم الإيديولوجية، مهما كانت كبيرة وطوباوية، ينبغي أن يحكم عليها مقارنة بقيود وضوابط السياق السياسي الوطني الذي يعملون فيه.
علاوة على ذلك، وبما يتعلق بالإخوان المسلمين المصريين، فإن السؤال المتعلق بتأسيس حزب سياسي رسمي ( إضافة الى كونه حركة اجتماعية " غير ملوثة" بالسياسة، كما يزعمون أحياناً) ـ أمر كان حسن البنا، الذي خاض بنفسه انتخابات برلمانية، صريحاً برفضه، بسبب الطبيعة المحازبة للأحزاب السياسية خلال فترة الملكية المصرية بشكل رئيس ـ تتم الإجابة عنه الآن في تشكيل حزب العدالة والحرية، الذي أعلن عنه في 21 شباط، 2011. إن تشكيل حزب العدالة والحرية يضع الإخوان المسلمين على قدم المساواة الانتخابية، بما يتعلق بوجوب وضع مسودة مشروع برنامج وسياسات محددة لحزب وطني. لن يكون بإمكان المرشحين المستقلين من الإخوان المسلمين الفوز بعد اليوم بالإنتخابات على أساس غموض سياسات المنظمة المتصورة أو الحقيقية، المصرح بها أو غيرالمصرح بها؛ بمعنى آخر، سيكونون محاسبين من قبل جمهور الناخبين، كما ستكون أحزاب سياسية مصرية أخرى، الأقدم ليبرالية والسلفية الآن بشكل رئيس. وهذا يعني أن المكسب التنافسي للإخوان المسلمين هو أنهم حالياً الحركة الاجتماعية السياسية ـ والآن الحزبـ الأفضل تنظيماً في مصر، وهذا طبعاً بعد الحزب الديمقراطي الوطني المنحل الآن التابع للرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي حكم مصر أكثر من 30 عاماً، محيّداً كل أشكال المعارضة السياسية تقريباً، ما عدا الإخوان المسلمين ( رغم أنهم لم يسْلموا على الإطلاق). إن الإخوان المسلمين هم الأحدث على الساحة لجهة تشكيل حزب سياسي وخوض غمار المنافسة رسمياً في الانتخابات الوطنية.
إن إسلاميين آخرين ممن شكلوا مؤخراً أحزاباً سياسية تشمل عناصر الحركة السلفية السياسية التقليدية لمصر ـ حركة  ترجع الى الأحاديث ونموذج السلوك الديني أو الفضيلة، أياً كان تعريفها، مرتبطة بالسلف الصالح. كان السلفيون ممولين ومدعومين، الى حد كبير، من قبل المملكة العربية السعودية ودول الخليج والجمعيات الخيرية التابعة لهم، وهؤلاء السلفيون يتقيدون عموماً، دينياً وشرعياً، برؤية المملكة التي تحمل شعار الإسلام السلفي، الوهابية. وقد امتنع السلفيون عموماً من الانضمام الى التظاهرات في ميدان التحرير، على أساس خلفيات إسلامية  بشكل رئيس، وهي أن المتظاهرين يمثلون نوعاً من  العصيان ضد " الحاكم،" بحسب قولهم لكن الآن و " الحاكم" مبارك لم يعد رئيساً ( مع معاناة عدد من السلفيين في ظل حكمه)، فقد تقبلوا المسألة على أنه إملاء الأمر الواقع، ثورة يناير التي قادت الى طرده ليعلنوا أنهم سيشكلون أحزاباً سياسية لخوض المنافسات في الانتخابات البرلمانية المقررة في تشرين أول 2011. هذا الشكل من النشاط السياسي السلفي جديد في مصر، لكن له جذور في بلدان الخليج، أبرزها الكويت، حيث كان للسلفيين بعض التأثير، من خلال صندوق الانتخابات، على السياسات الاجتماعية والدينية بشكل رئيس.
ما هي مسارات الإسلام السياسي وما ستكون عليه مصر ما بعد الحكم الاستبدادي ـ بلد كان، على الأقل تاريخياً، الريادي في الحياة السياسية والآن بالثورات اللاعنفية في العالم العربي؟ في كل الأحوال كان نجاح المصريين في إزاحة الرئيس حسني مبارك من منصبه، الذي حكم حوالي ثلاثين عاماً، أمراً يعود جزئياً الى واقع أن المجتمع المصري، عدا المجتمع القبطي المسيحي ( الذي تقدر نسبته ما بين 7 الى 10 بالمئة من السكان) وأقلية صغيرة جداً من الشيعة، مجتمع سني موحد بعقيدته وبالشريعة الإسلامية. بمعنى آخر، كان المصريون قادرين، الى حد كبير، على التوحد على أساس  القومية، ضد نظام مبارك، دون أن يشوب ذلك تاريخ من الانقسام المذهبي العميق؛ في حين أن المذهبية في سوريا ( والطبقة الاقتصادية أيضاً)، رغم عدم وضوحها دائماً، هي قضية بين الأقلية العلوية الحاكمة ( المعتبرة " مهرطقة " وفرع من المذهب الشيعي) وبين الأكثرية السنية؛ وفي البحرين، ما بين الملكية السنية الحاكمة، المتحدرة من نجد، السعودية في وقتنا الحاضر، والأكثرية الشيعية، المنقسمة بحد ذاتها بحسب العرق، البحرانيين الأصليين والبحرانيين الفرس، وبحسب المرجعيات الشرعية الشيعية، التقليديين والعقلانيين.
كانت القومية كفكرة هي الأكثر فاعلية فيما يسمى الربيع العربي في تونس ومصر، حيث المذهبية الإسلامية غير حاضرة، ضمناً أو صراحة، ويوجد هناك وحدة نسبية بما يتعلق بالهوية السنية، أياً كان تعريفها. ما يعني أن المذهبية تتفوق على القومية ـ مما لا يعني أن أشكال الهويات هذه لا يمكن أن تتعايش حالاً، إنها تتعايش وهذا واضح، لكن السؤال، اعتماداً على الظروف السياسية والاقتصادية، يتعلق بدرجة هذا التعايش والتأكيد عليه، مع تشديد الأقلية السياسية التي هي الأكثرية المذهبية على الوحدة الوطنية وتأكيد الحكام، بمعظمهم، على مذهبية الأكثرية ( على سبيل المثال في البحرين) ـ لأن رهانات فقدان السلطة مرتفعة جداً بالنسبة لأقلية تحكم أكثرية، أو حتى بالنسبة للتعددية، خاصة في حالات تجري فيها انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة ( أنظر مثال العراق تحت).
علاوة على ذلك، كيف سيخوض الإخوان المسلمون المنافسة، من خلال جناحهم السياسي المعلن حديثاً، حزب العدالة والحرية، مع أحزاب سلفية أخرى أكثر محافظة دينياً ومع أحزاب ليبرالية وعلمانية  تعيد تشكيل نفسها ببطء، والتي كانت، على مدى نصف قرن تقريباً، مدمرة سياسياً ومالياً؟ وكيف سيتكيف الإخوان المسلمون، الذين كانوا منذ الثمانينات مشاركين في الساحة السياسية المصرية ـ ووفق قواعد اللعبة كما أرساها الحزب الديمقراطي الوطني البائد الآن ـ ( من خلال حزب العدالة والحرية) مع وضع انتخابي يبدو، ظاهرياً على الأقل،  أقل فساداً وبالتأكيد أكثر إنصافاً، حيث نتائج استطلاعات الرأي، بما يتعلق بمخصصات المقاعد والأكثريات في البرلمان، قدراً غير محتوم؟ هل بإمكان الإخوان المسلمين وحزبهم حزب العدالة والحرية، المعتبرين  المنظمة السياسية الأكثر تنظيماً وإنضباطاً في مصر اليوم، الفوز بنصف المقاعد البرلمانية التي يسعى الإخوان للتنافس عليها ( حزب العدالة والحرية لا يريد في الوقت الحاضر مرشحاً في الانتخابات الرئاسية)؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف سيكون النظام السياسي المصري العلماني ظاهرياً محمياً إذا ما فرض حزب العدالة والحرية أو ائتلاف الأحزاب " المدنية" الإسلامية رؤيتهم للدولة الإسلامية، أو الشريعة الإسلامية على كل المصريينـ لأنه بإمكانهم ذلك سياسياً؟ يبدو السيناريو الأخير حالياً، حتى ولو تقبل المرء الالتزامات العلنية للإخوان المسلمين وحزب العدالة والحرية تجاه النظام السياسي المصري الحالي ( والذي أتقبله في هذه اللحظة)، سيناريو غير مرجح، نظراً الى الطبيعة المعقدة والمجزأة للمشهد السياسي والإيديولوجي الحالي لمصر.
 
نمذجة الإسلام السياسي
في محاولة للإجابة عن بعض هذه الأسئلة، سأحدد ثلاثة نماذج دستورية سياسية ديمقراطية (ليس بالمعنى الليبرالي دائماً ) وشرق أوسطية موجودة من حيث صلتها بمسارات الإسلام السياسي المحتملة في مصر، إن لم يكن المرجحة ( امتداداً الى تونس أيضاً، لكن ليس في سوريا أو البحرين، أنظر آنفاً، في حين يظل مستقبل كل من اليمن وليبيا غير معروف في الوقت الحاضر).
النموذج الأول هو النموذج الوطني العلماني التركي كما أسسه مصطفى كمال أتاتورك ( 1881ـ1938) في العام 1923. فبعد إلغاء " الخلافة" العثمانية في العام 1924 ( المعتبر بمثابة صدمة شاملة لكل الإسلاميين تقريباً)، خطط أتاتورك لتعريف الدولة التركية الوطنية الحديثة على أنها دولة متمايزة جغرافياً، لغوياً وعرقياً عن باقي العالم الإسلامي ـ جزء هام منه كان قد شكل سابقاً معظم ميادين الإمبراطورية العثمانية، في حين كانت أجزاء أخرى من العالم الإسلامي، أو بقاياه، ابرزها الهند مع "حركة الخلافة " ( 1919ـ1924)، مصدر عون ونجاة، بالنسبة للخليفة العثماني والرمز الأخير المتبقي للوحدة الإسلامية، التي ينبغي للحكومة الإسلامية الاحتشاد حولها في مواجهة الإمبريالية والاستعمار الغربي المتقدم أبداً، البريطاني بشكل رئيس. من خلال هذه الإجراءات الحاسمة، لم يعد أتاتورك مثقلاً بعبء حكم الأراضي والاقتصادات الفاشلة خارج الحدود الوطنية للجمهورية التركية، ولا بالواجبات الأخلاقية والمسؤوليات الدينية بدعم المظهر المتبقي للدولة الإسلامية ووحدتها، والتي كانت السمة  المميزة لإسلامية الإمبراطورية العثمانية. بإمكان تركيا اليوم التركيز على أن تصبح دولة وطنية حديثة وعلمانية مبنية بشكل ينسجم مع الخطوط والأسس الأوروبية.
أما فيما يتعلق بالركائز الإيديولوجية للقومية التركية، أو ما اصطلح لاحقاً على تسميته بـ "الكمالية" ( نسبة الى كمال أتاتورك)، من المهم الإشارة الى أنها كانت موجودة في حركة " تركيا الفتاة" مع تبنيها لفلسفة ألمانية هي المادية الفولغارية ـ رؤية فولغاريس المادية، العلمية، الداروينية، التي دعمت دور العلم الحديث وضمناً، المؤسسات السياسية الحديثة ـ في الوقت الذي نبذت فيه الدين وخط الأسلمة العثماني ـ على أنه الدواء الشافي لكل العلل الثقافية، الاقتصادية والسياسية المرتبطة بالخلافة العثمانية وفشل إصلاحاتها الحديثة. ما يعني أن العلم الحديث والقومية كانا المفتاح لتركيا كي تلحق، مادياً وسياسياً بركب الغرب الأكثر تطوراً. إن هذا الشكل المستفيض من العلمانية، الذي هو في الصميم رفض لدور الدين، الإسلام أو شكله السياسي، الإسلاموية، هو الذي كان ولا يزال اليوم أساس الجمهورية الوطنية التركية، دستورياً على الأقل. هذه الإيديولوجية التأسيسية، مقترنة بالعسكرة القوية والجيش ( ما يشار إليه أحياناً بـ " الدولة العميقة") قد ميزت  تطور الإسلام السياسي التركي عن قسم كبير من باقي منطقة الشرق الأوسط ( باستثناء خبرة تونس العلمانية ربما). ما يعني أن العلمانية الوطنية التركية، الكمالية، قد أجبرت الأحزاب الدينيةـ السياسية في تركيا، دستورياً على الأقل، ( بعضها متأثر إيديولوجياً بالإخوان المسلمين )، من خلال تكراراتهم المختلفة  لـ " العلمنة" سياسياًـ بدءاً من حزب  Tascii117rgascii117t Ozal Motherland Anavantan Partisi)، ANAVANTAN أو ANAP) الذي تأسس في العام 1983 وتم حله في العام 2009؛ الى حزب الفضيلة لعبد الله غول، الذي تأسس في العام 1997 وحُلَّ في العام 2001؛ وصولاً الى حزب العدالة والتنمية لرجب طيب أردوغان، الذي تأسس في العام 2001 وهو حالياً حزب الأكثرية الحاكم.
هذا الوضع قاد الى بيئة سياسية فيها إسلاميون سياسيون من دون " إسلام"، أو لا يقودون حملاتهم الانتخابية، معظم الأحيان، باسم الدين صراحة ـ مثال على أفكار حملة حزب العدالة والتنمية الاجتماعية المحافظة الفعالة عن دعم الفضائل والأخلاق ( الإسلامية) العامة، بينما يحارب الفساد المرتبط، الى حد كبير، بأقدم حزب سياسي كمالي وسطيـ يساري في تركيا، أي حزب الشعب الجمهوري. وفي حين أن هذا السياق السياسي العلماني، ليس فريداً بالضرورة في تركيا، دستورياً على الأقل، ( أنظر دستور مصر حول منع الأحزاب الدينية لكن ليس " المدنية")، فإن العلمانية والقومية الكمالية ( نسبة الى كمال أتاتورك)، التي كانت في قلب نظام الحكم الدستوري والحياة السياسية في تركيا منذ تأسيسها في العام 1923، تجعل من التجربة السياسية الإسلامية هناك أمراً فريداً على المستوى السياسي.
أكد الإخوان المسلمون المصريون مؤخراً ( كما الإخوان الآخرين من قبل) على اتباعهم طريقة ونموذج حزب العدالة والتنمية، من خلال تأسيسهم حزب العدالة والحرية. في كل الأحوال، من غير المرجح أن يثبت النموذج التركي، بما يتعلق بمسار الإسلام السياسي في العالم العربي، قابليته للتكيف، حتى  ولو كان هناك بعض التشابه مع " الدولة العميقة" التي تتقاسمها كل من مصر وتونس مع تركيا؛ ما يعني أن ذلك يعود الى أن العلمانية من النوع الجمهوري العروبي والوطني ، قد فشلت أو أنها تفشل تقريباً، إن لم يكن تماماً، بما يتعلق بالسياسة، والأهم، بالنجاح الاقتصادي في تونس، مصر، ليبيا، سوريا والعراق ( قبل الغزو الأميركي له في العام 2003) وذلك من بين بلدان أخرى. هذا كي نقول إن طبيعة القومية والعلمانية الكمالية ( نسبة الى كمال أتاتورك)، وأسسها الإيديولوجية هي ألمانية، ومختلفة بشكل نوعي عن تلك الموجودة في العالم العربي والتي كانت في جزء كبير منها فاعلة في تحويل المجتمع والاقتصاد التركي وتحويل الإسلاميين أيضاً، الى حد معين، الذين عارضوا، بالعقيدة على الأقل، بعض السياسات الكمالية، تحديداً تلك المتصلة بالمجتمع والثقافة ـ في حين أن العلمانية في العالم العربي لم يكن لديها نفس التأثير، بنفس الدرجة، على المجتمع والقانون.
 النموذج الدستوري الثاني هو الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. إذ بشرت الثورة الإيرانية بأول محاولة كاملة لتنفيذ شكل من أشكال الشريعة الإسلامية والديمقراطية. وبالرغم من شيعيتها على المستوى السياسي، فإنها اجتذبت في ذلك الحين، وربما لا تزال، بعض الإسلاميين السنة، بما يتعلق بالحماسة الثورية، ( في الآونة الأخيرة حماس، فرع من الإخوان المسلمين، والجهاد الإسلامي الفلسطيني)، بما في ذلك الإخوان المسلمين المصريين. في كل الأحوال، لقد أقصت الصيغة الإيرانية للديمقراطية الإسلامية، عملياً، كل أشكال المعارضة السياسية تقريباً التي لا تمشي على خط مؤسس الثورة الرسمي، آية الله الخميني ( 1902ـ 1989)، الذي يعتبر إرثه وتفسيره موجوداً في صميم الإرباك والتظاهرات السياسية الجارية المرتبطة، في جزء منها، بحزب الخضر. لقد شكلت إيران، الى حد كبير، حالة اختبار لديمقراطية إسلامية فاشلة بالنسبة للمنطقة ولعدد من الإسلاميين السياسيين. علاوة على ذلك، إن التحالف الإستراتيجي ودعم إيران لنظام الأقلية العلوية في سوريا، النظام الذي حاول مؤخراً إخماد التظاهرات بالعنف، والبلد الذي غالبيته من السنة بشكل رئيس، جعل الإسلاميين السنة ينفرون، مما جعل الهوة المذهبية الإسلامية أكبر والنظام الإيراني غير محبوب، إن لم يكن مشبوهاً، في نظر الشعوب العربية. بسبب هذه الأمور، ولأسباب ذات صلة أيضاً يبدو أن الجمهورية الإيرانية قد بدأت تصبح عائقاً سياسياً بالنسبة للإسلاميين السنة في العالم العربي، كالإخوان المسلمين وحزبهم، حزب العدالة والحرية، بينما هم يعدون لحملتهم للانتخابات البرلمانية المصرية المقبلة. فالنموذج الإيراني لن يكون بعد الآن، هذا إن كان من قبل، نموذجاً شرعياً من الناحية الدينية أو قابلاً للتطبيق من الناحية السياسية بالنسبة للإسلاميين السنة.
ثالثاً، يمثل نموذج البرلمان والحكومة الديمقراطية في العراق ما بعد الغزو 2003، ما يتعلق بالائتلافات والأحزاب العلمانية والدينية المتنافسة، المثال الأهم والأبرز، ربما، للتنوع والاختلاف الحزبي السياسي في العالم العربي اليوم. ففي حين تطور نظام الحكومة البرلمانية بالإضافة الى الممارسة الديمقراطية للعراق، يبدو أن الحياة السياسية العراقية قد برهنت عن أن ليس هناك من شخص أو حزب، أو حتى ائتلاف من الأحزاب الشيعية، بما فيه ما يسمى بـ " قائمة السيستاني"، التي تمثل الأكثرية في العراق، بإمكانه الهيمنة بالضرورة على كامل الحياة السياسية للبلاد ـ برغم الآليات السياسية الأخيرة لنوري المالكي لإعادة تعيينه رئيساً للوزراء. فالحياة السياسية في عراق ما بعد صدام حسين متشظية جداً، حيث المصالح الوطنية محددة والهيمنة السياسية تأخذ مكانها من خلال صندوق الاقتراع وبناء حكومات ائتلافية، بصرف النظر عن الانقسامات الدينية والسياسية غالباً، لكن ليس من خلال الانقسامات المذهبية أو العرقية بالضرورة (العامل الأخير، بالطبع، ليس حاضراً بحدة في حالة مصر أو تونس). فإذا ما كان الأفراد والجماعات السياسية قد تمثلوا في التظاهرات التي بلغت ذروتها في الثورة في مصر ـ بمن فيهم عدد من أولئك الذين وصلوا، كالسلفيين، متأخرين الى هذه الأحداث ـ والآن لا تتنبأ الحملات بأي شيء مقبل في الحياة السياسية، هذا لأن الحياة السياسية المصرية متنوعة جداً لتسمح لمجموعة سياسية واحدة أو حزب بالهيمنة على كامل النظام، حتى مع اعتبار الإخوان المسلمين الآلة السياسية الأفضل تنظيماً في مصر  (الأخير كان بالطبع الحزب الديمقراطي الوطني، كحزب البعث في العراق، المحظور الآن). وبذلك، وكما هو الحال في العراق مع نظامه البرلماني، سيكون على التحالفات ألا تكون مبنية ما بين الأحزاب الإسلامية " المدنية" المتنافسة فحسب ـ التي برغم أجندتها المحافظة المشتركة قد لا تكون قادرة على التوحد لتشكيل حكومة ـ وإنما عبر الانقسامات العلمانية والدينية في المجتمع المصري. نفس الأمر يعتبر صحيحاً بما يتعلق بالأحزاب السياسية الأقلية، إن كانت علمانية أو تكمل المصالح القبطية ـ التي سيكون من الواجب منافستها في استطلاعات الرأي بناء على ما يفهمه الناخب على أنه مصلحة "وطنية". إن المفهوم السياسي السابق: " الفائز يأخذ كل شيء"، الذي قاد الى النظام الاستبدادي السابق، لا يبدو قابلاً للحياة بعد الآن، ينقصه استيلاء الجيش في مصر ( وربما في تونس أيضاً). يبدو أن البيئة السياسية في عالم ما بعد الربيع العربي، مقترنة بالتكنولوجيا الجديدة، الإنترنت، والمحطات الإخبارية الفضائية على مدار 24 ساعة، قد فتحت صندوق باندورا للتعبير والتنظيم السياسي، الذي لن يغلق بالكامل مجدداً أبداً.
قد نكون قادرين في وقت قريب على الحديث بوضوح أكبر، فيما يخص مصر وتونس، عن الحياة السياسية في العالم العربي بمصطلحات ليست مطلقة بالضرورة، بكلمات لا تتعلق بالإسلامي في مقابل العلماني ( كما كانت إرادة الرئيس مبارك وحكام استبداديين آخرين في المنطقة)، لكن بما يتعلق بتحالفات اليمين و اليسارـ الوسط الوطنية، الدينية والعلمانية، لا يبدو أي منها قادراً، على الأقل في المستقبل القريب، على الهيمنة على كامل المسرح السياسي.
باختصار، ما يبدو هاماً بشأن هذه اللحظة في تاريخ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو طبيعة التظاهرات ما بعد الاستعمار للإطاحة بعقود من الحكم الاستبدادي. لقد كان هناك تحول من إيديولوجيات العروبة والأسلمة التي سادت في القرن الماضي الى سياسات يكون فيها الوطن مبنياً على متطلباته، برامجه السياسية، ورمزيته. هذا لا يعني أن علاقة التوتر بين التجاذب الشامل لعموم الإيديولوجيات قد خمدت في المنطقة، يبدو فقط أنها توقفت عن أن تكون على صلة بالسياق السياسي والاجتماعي المحدد لهذه الدول ـ القومية ونظام الدولة القومية جزء نهائي ( يتعذر تغييره) من "العالم الإسلامي العربي" الحديث. لهذا السبب وأسباب أخرى ذات صلة تراجع الظواهري زعيم القاعدة في الآونة الأخيرة عن القيام بهجماته اللاذعة والساخرة ضد الإخوان المسلمين، مثنياً على الشعب المصري وثورته، قائلاً، بشكل أساس، إن صيغة القاعدة للأسلمة هي على إحدى طرفي طيف الإيديولوجية والعمل الإسلاميين، الطرف الآخر وهم الإخوان المسلمون منخرطين سياسياً  (وديمقراطياً). إن القومية والأسلمة القومية، عدا الإيديولوجية الطوباوية للقاعدة حول انهيار الدولة القومية، نظام سايكس ـبيكو وإعادة تأسيس خلافة موحدة متصورة، عامل إيديولوجي له علاقة بسبب خسارة القاعدة حملة كسب " العقول والقلوب" في " العالم الإسلامي."
بالنسبة لمسار الإسلام السياسي، سيثبت النموذج التركي أنه غير قابل للتكيف في سياق ما بعد الاستعمار للعالم العربي، بسبب الطبيعة الإيديولوجية المستفيضة للعلمانية الألمانية التي أسس عليها كمال أتاتورك الجمهورية التركية الحديثة. لقد فشلت الصيغة الإيرانية بخصوص الحكومة الإسلامية، الى حد كبير، كنموذج للإسلاميين السنة، لأسباب سياسية ومذهبية، وليس بالضرورة بسبب إخفاقاتها الاقتصادية والإيديولوجية المحلية بترويج إيديولوجيتها ( بما يتعدى حزب الله في لبنان والجماعات الإسلامية الفلسطينية المذكورة آنفاً). ومن ثم هناك النموذج العراقي للحياة السياسية البرلمانية، برغم مذهبيته الديمغرافية، الذي تم تقبل واقعه من الجميع تقريباً، بمن فيهم، وهو الأهم، " الأكثرية" السياسية السابقة للعرب السنة ( الأقلية الآن). إنه يقدم نموذجاً ـ غير معترف به أو مفهوم دوماً ـ بخصوص الطبيعة المتجزئة للحياة السياسية والأهم الطبيعة التنافسية للحياة السياسية العلمانية والدينية في تونس، مصر وربما ما هو أبعد في العملية الحالية المنتشرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم. علاوة على ذلك، يبدو أن التاريخ المختصر لغزوة نابليون وتقديم الحداثة، القومية، الحكومة الدستورية الغربية الطابع الى هذه المنطقة قد اكتملت دائرته بما يتعلق بالمطالب السياسية والدستورية للعالم العربي الإسلامي ما بعد الاستعمار ـ كلمة لم تعد بحد ذاتها ما كانت عليه أو ما يُتصور أنها تعني، في ذاكرة التاريخ".

موقع الخدمات البحثية