مواد أخرى » الإنضمام الى حزب الله

نيكولاس بلانفورد ـ The Cairo Review of Global Affairs
تطورت عملية الإنضمام الى حزب الله، منظمة 'المقاومة' الإسلامية الشيعية منذ ثلاثين عاماً تقريباً في لبنان بقيادة حسن نصر الله ما أن كبر حجم المنظمة وأصبحت أكثر مؤسساتية وترسخاً داخل المجتمع الشيعي. ففي المراحل الأولية للمنظمة عقب الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، كان يتم تجنيد الأفراد في سهل البقاع من خلال عملية تعبئة جماهيرية على الخطين العائلي والعشائري، ما ساعد على الحفاظ على الأمن الداخلي بالإضافة الى تسهيل إدراج مئات المقاتلين المتطوعين. أما في جنوب لبنان، فالشباب الشيعي المتدين لم يكونوا بحاجة لحافز كبير للإنضمام الى صفوف المقاومة الطرية العود، نظراً لأن بيوتهم وأراضيهم هي التي كانت تتحمل وطأة الإحتلال الإسرائيلي الأشد.
في كل الأحوال، إن دوافع حزب الله اليوم ذات أبعاد أكثر تعددية، تمزج التقيد بالدين، العدائية تجاه إسرائيل، والإلتزام الشيعي بالعدالة والكرامة. أما على المستوى العادي، فينجذب عدد من الشباب الشيعي، وهذا طبيعي، نحو المنظمة التي ساعدت على تمكين مجتمعهم في لبنان وأكسبته الإحترام بسبب مآثره الهامة على إمتداد السنوات. ' إن مقاتلينا تحفزهم دوافع معقدة – الدوافع الوطنية والإسلامية،' قال لي الشيخ خضر نور الدين في العام 1996، عندما كان المسؤول السياسي في حزب الله في جنوب لبنان. ' إن معتقداتنا الإسلامية تجعل هؤلاء الشباب يرفضون قبول الظلم. هم سيفعلون أي شيء لمقاومة إسرائيل. أعلم أن الغرب لا يفهم ذلك، لكن شبابنا لا يستطيعون التعايش مع إسرائيل.'
لقد كبر المجندون الآتون من الجنوب وفي داخلهم عدم ثقة فطري متأصل بإسرائيل بحيث أنهم أشد إمعاناً بالتفكير بشأن الدفاع عن مجتمعاتهم الحدودية ضد التهديد الأبدي المتصور للدولة اليهودية.
' لنا الشرف بأن نخدم،' قال أحد مقاتلي حزب الله القدماء، مفسراً في العام 2009 السبب الذي لا يزال يخدم فيه في المقاومة الإسلامية رغم أن إسرائيل قد إنسحبت من لبنان منذ عقد من الزمن تقريباً. 'الأمر كذلك. إذا كان لديك بيت أو فيلا وإستولى أحدهم عليه، فإن أمامك نضالاً طويلاً وبعد فترة سيعطيك غرفة. تكافح لفترة أطول قليلاً وسيستسلم ويسلمك البيت. قد تعتقد بأن الصراع إنتهى، لكنه عندها يركن سيارته في الموقف الخاص بك خارج البيت. فهل تقبل ذلك؟ نحن في الجنوب لأن إسرائيل هي كهذا المغتصب القوي وليس هناك من حكومة تحمينا ولا تستطيع الأمم المتحدة حمايتنا أيضاً. هذا هو السبب الذي لأجله نحن بحاجة الى المقاومة.'
نظراً للتصور الإستراتيجي الطويل المدى لحزب الله وإلتزامه ببناء 'مجتمع مقاوم،' فإن عملية تعبئة وحشد مجنديه المحتملين وجعلهم متشددين ومتطرفين تبدأ من سن مبكرة. فالأطفال من عمر ست أو سبع سنوات يتم تشجيعهم للمشاركة في التعبئة الشبابية لحزب الله، خطوة أولى على طريق طويل كي يصبح مقاتلاً في المقاومة. وتتضمن الأنشطة محاضرات، ألعاب، ومباريات رياضية من خلالها يكون المشاركون اليافعون مستغرقين ومنغمسين بالبيئة الأخلاقية، الدينية، السياسية، والثقافية لحزب الله. فالجمعيات الثقافية ودور النشر المنتمية لحزب الله تصدر الكتب و المنشورات وتعقد الندوات والمؤتمرات لنشر عقيدة المقاومة. ومن بين هذه الجمعيات هناك جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، مؤسسة الإمام المهدي، ومركز الإمام الخميني الثقافي، وكلها تروِّج لتعاليم آية الله الخميني. وهنك مؤسسات أخرى تصدر مواداً بدءاً من شرح مفهوم حزب الله للجهاد ونشر العداء تجاه إسرائيل وصولاً الى أطروحات حول دور النساء في المجتمع الإسلامي وأهمية أسلوب الحياة الصحية. والمقصود من بعض هذه المستلزمات التوجه بها الى الجمهور اليافع، مجلات الرسوم المتحركة التي تخبر قصصاً عن مقاتلي المقاومة أو قصصاً خيالية تبرز الإسرائيليين الأنذال والأطفال الفلسطينيين واللبنانيين الأبطال.
خلال أشهر الصيف، هناك مشهد شائع في ضاحية بيروت الحنوبية وهو صفوف من الأطفال ذوي العيون الواسعة الجالسين بصبر الى طاولاتهن في صفوقف خارجية يدرسون فيها طريق حزب الله. لقد تربوا في بيئة عسكرية بشدة يتم فيها تشجيع الصغار على تبجيل ومحاكاة  مقاتلي المقاومة الإسلامية. فخلال ذكرى عاشوراء أو إستعراض يوم القدس السنوي، يسير الأطفال الصغار جنباً الى جنب مع المقاتلين النظاميين، وكلهم يرتدون البذلات العسكرية المموهة ويحملون بنادق بلاستيكية، معصبي الرؤوس بعصبات مكتوب عليها شعارات ' يا قدس، نحن قادمون.'
تستمر العملية في شبكة مدارس المصطفى المنتشرة في البلاد والمنتمية لحزب الله، حيث يدرس التلاميذ الدين ويدعون لمقاتلي المقاومة الإسلامية. ويمر مئات اليافعين كل عام عبر عشرات المخيمات الصيفية التي تقوم على ترتيبها كشافة المهدي بإدارة حزب الله في سهول وتلال جنوب لبنان وشمال البقاع، حيث يتشربون الأخوة العسكرية ويتعلمون الإنضباط الشديد بالبذلات العسكرية، المواكب، والعصبات الأساسية اللازمة.
لا يقبل حزب الله، عموماً، مقاتلين في صفوف المقاومة الإسلامية تحت سن الـ 18، إلا أن  التدريب العسكري الأساسي والتآلف مع السلاح يبدآن، بالفعل، في سن أصغر بكثير. وقد أراني، ذات مرة، مقاتل طويل و رشيق  في حزب الله في الـ 35 من عمره، وسأسميه ' الرئيس'، لقطات فيديو على هاتفه الخلوي لأكثر من 50 طفلاً تتراواح أعمارهم ما بين الست والتسع سنوات يرتدون البزات العسكرية المموهة يسيرون عبر الجبال الوعرة والأحراش في واد في جنوب لبنان. كان الأطفال أبناء ' شهداء' – مقاتلو حزب الله الذين قتلوا أثناء عملهم – وكانوا يشاركون في تدريب على النمط العسكري. وقد سار مدربون بالغون يرتدون البزات العسكرية الى جانب الأطفال، يساعدونهم على الغوص وعبور نهر ضيق وتسلق المنحدرات الصخرية الزلقة. وقد لطخوا وجوههم  بالتراب، وأطلق البعض منهم حتى بضع طلقات من بندقية AK-47، كل طلقة منها كانت تستهدف صخوراً في النهر مع مدرب راكع يساعده على رفع السلاح الثقيل.
' الجيل التالي من المجاهدين،' قال الرئيس بإبتسامة إعتزاز أبوية.
إضافة الى عملية تجنيد الطفولة، ينشر حزب الله مجندين له في كل قرية وجوار حيث الحزب يستخدم نفوذه ببراعة للبحث عن آفاق محتملة في أوساط الشبان والشابات. يبحث المجنِّد عن الأفراد المتدينين، المنضبطين، المتواضعين، الأذكياء، الأصحاء، ذوي السلوك الحسن الذين يتناسبون وأسلوب حياة حزب الله. فالشبان الذين يستمعون للموسيقى، يشربون الكحول، ويقودون السيارات السريعة، ويغازلون البنات لا يملكون فرصة كبيرة.
' الفكرة هي الإلتقاء بمجندين محتملين وتنمية صداقة معهم. أنت لا تصدمه في نفس اللحظة بعرض الإنضمام الى المقاومة. أنت تجعله يحب حزب الله أولاً. ستسوق الفكرة، ثم يكون بإمكانه الإختيار ما بين الإنضمام أو عدمه،' قال الرئيس شارحاً الأمر، وهو نفسه مجنِّد.
بعد مراقبة مجند محتمل لفترة أشهر، وحتى سنوات، يقوم المجنِّد بحركته التالية، مستفسراً عما إذا كان ينبغي له، أو لها، درس مسألة الإنضمام الى حزب الله. فإذا ما قبل الشخص بذلك هناك مرحلة مكثفة تتبع ذلك تعرف بالتحضيرات، التي تدوم عاماً، والتي يتم فيها تلقين المجندين الأسس الإيديولوجية لحزب الله. ' في هذه المرحلة، نعطيهم دروساً إسلامية، أخلاقية، سياسية و إجتماعية كتحضير وكجزء من عمل المقاومة. إننا نعيش في بيئة دينية و إيمانية،' يقول الشيخ نعيم قاسم، نائب أمين عام حزب الله.
'حياتنا تملي علينا موتنا'
يستوعب المجندون الجدد مبادئ الثورة الإسلامية في إيران، الطاعة ' لولاية الفقيه' ( رأس الدولة الإسلامية، وفق نظام ولاية الفقيه، المتمسك برؤية تقول بأن السلطة الدينية الأبرز ينبغي أن تكون للحاكم الأعلى)، والعداوة لإسرائيل. يتم تلقينهم النصوص الإسلامية وفق تفسير رجال الدين في حزب الله، ويتعلمون مواصلة ' الجهاد الأكبر'، أي جهاد النفس، الإنتقال الروحي للإقتراب أكثر من الله. ' تأتي الدروس الدينية في المقام الأول،' يقول الرئيس. ' الدين أولاً، قبل أن ترى بندقية حتى.'
في المقام الأول، قد يكون للمجند أسباباً مختلفة للإنضمام الى الحزب– الرغبة بمقاومة الإحتلال، الإلتزام الديني، أو الضغط الشريف ببساطة – إلا أن إدراك أهمية الجهاد بحسب تعاليم حزب الله مسألة حاسمة لفهم ما الذي يسيَّر مقاتل المقاومة الإسلامية الملتزم والمدرب بالكامل.
يصف الشيخ نعيم قاسم العالم بأنه ' دنيا زائلة،' أي ' مكان بلاء وإختبار عابر للإنسان،' وبأن كيفية إختيارالشخص لطريقة حياته في الدنيا هي التي تملي عليه مصيره في الآخرة. إن ' الجهاد الأكبر' هو الجهاد الروحي اليومي للنفس الشهوانية لمقاومة إغراءات ورذائل الظروف البشرية وتجاوزها لتحقيق المعرفة والحب الإلهي والتجانس الروحي. وبحسب حزب الله، فإن النجاح في  'الجهاد الأكبر' – الجهاد الروحي الداخلي – شرط مسبق ضروري للشروع ' بالجهاد الأصغر' – الخارجي، الجهاد المادي الملموس، ' الذي يُسمح فيه للمسلمين بغزو بلاد أخرى أو شن حرب ضد مجتمعات أخرى على أساس أن الإسلام هو الدين الصحيح الوحيد. في كل الأحوال، إن ' الجهاد الهجومي'، بحسب تفسير رجال دين حزب الله، لا يعتبر قابلاً للتطبيق إلا حين عودة ' الإمام المنتظر.' الفئة الثانية هي ' الجهاد الدفاعي'، الذي لا يمنح الحق للمسلمين بالدفاع عن أرضهم ومجتمعاتهم من الهجوم والإحتلال وحسب وإنما يلزمهم بذلك أيضاً. بالنسبة لحزب الله، لا يمكن أن يدعو الى ' الجهاد الدفاعي' إلا ولي الفقيه. كما أن حملة المقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان والمواجهة العسكرية مع إسرائيل ما بعد العام 2000 قد حصلت تحت عنوان ' الجهاد الدفاعي' المقبول من قبل الخميني في دوره كولي الفقيه، ولاحقاً أيده بذلك خلفه آية الله علي الخامنئي. وفقاً لذلك، لا يتم تلقين مقاتلي حزب الله وجوب مقاومة الإحتلال فحسب وإنما تحقيق الإلتزام الديني الأعمق المتعلق بمواصلة الجهاد.
أما الأمر الذي يعتبر مركزياً في تقيد حزب الله بالجهاد الأصغر ومراعاته فهو ثقافة الشهادة. فبالنسبة للشيعة، فإن نموذج الجهاد، المقاومة، والتضحية هو الإمام الحسين، الذي يلخص موته في كربلاء في مواجهته لقوات يزيد المتفوقة عديداً الصراع ضد القمع والظلم ويعمل كملهم قوي ونموذجاً يُحتذى بالنسبة لأجيال المحاربين الشيعة الذين يخدمون في حزب الله. ويلقن حزب الله هؤلاء أن الإمام الحسين قد سعى بقوة الى الشهادة في كربلاء، بدلاً من إختيار الحوار مع جيش يزيد مع علمه بوجود إحتمال ضعيف بالنجاة بالرغم من الخلافات.
إن مقاتل حزب اله  الذي يكون قد تقدم في مجال ' الجهاد الأكبر' سيكون قد إنتقل روحياً وتخطى الخوف البشري من الموت، بل أنه سيرحب به بدلاً من ذلك بصفته تضحية في سبيل الله خلال إستكماله بالـ ' الجهاد الأصغر' وتحقيقه. وعلى خلاف الإنتحار، المحرَّم في الإسلام، يعتبر حزب الله فعل التضحية بالنفس أعظم برهان على الإيمان بالله، بعيداً عن الهواجس المادية الدنيوية. فالزخارف المتعلقة بالشهادة لا مفر منها في معقل حزب الله، حيث الشوارع والطرقات مخططة بلوحات وصور لـ ' الشهداء' – المقاتلين الذين ماتوا في المعركة – وباللوحات الإعلانية لرسومات عن مقاتلين يسقطون ليدخلوا الجنة ذات التصاوير الزاهية لمشاهد ملونة غنية بالتلال الخضراء، الزهور البرية، والأنهار المتدفقة اللامعة تحت أشعة الشمس المشرقة. كما أن ذكرى ' يوم الشهيد' الذي يُحتفل به سنوياً في 11 تشرين الثاني ( ذكرى التفجير الإنتحاري الذي قام به أحمد قصير ضد مركز قيادة جيش الدفاع الإسرائيلي في صور عام 1982) هو أحد أهم الأحداث الهامة في روزنامة حزب الله. فكل مقاتل في حزب الله يتم تصويره وأخذ صورة رسمية لـ ' الشهيد' المنضم الى المقاومة الإسلامية. فصورته ستزين عواميد الإنارة في حيه إذا ما قتل في أثناء أدائه الواجب، وكل عام يقوم بتحديث ' رسالة الشهيد' له، يضمنها أفكاره ورغباته الأخيرة.
إن الحوار مع مقاتلي حزب الله الملتزمين حول موضوع الشهادة يحمل في طياته خصيصة سوريالية معينة. فعندما إلتقيت ماهر، قائد قطاع في جنوب لبنان، في أيار 2000، ذكر لي بأن إثنين من أصدقائه قد قتلوا قبل أيام في عملية داخل المنطقة المحتلة. والمرء هنا سيقدم مؤاساة مهذبة،وهذا طبيعي، لكن ماهر أحبط أي تعبير عن التعزية بيد مرفوعة. ' لا تحزن عليهم، كن سعيداً لأجلهم،' قال لي بإبتسامة حزينة. ' لقد إختارهم الله ليكونوا شهداء، وسأكون يوما ما، بإذن الله، شهيداً وأنا أقاتل الإسرائيليين.'
كان لون شعر ماهر بني فاتح مقصوصاً قصة بحرية وكانت له لحية مشذبة بشكل مرتب، وكانت عيناه الزرقاوان تلمعان بثقة لا لبس فيها بيقينه بعقيدته. كان ماهر مقاتلاً قديماً في الثالثة والثلاثين من عمره، كونه إنضم الى المقاومة في العام 1983. وكان مسؤولاً عن أربع وحدات، إثنين للهجوم وإثنين للإسناد الناري. لكنه كان متزوجاً وأباً؛ عندما إلتقيت به، كانت زوجته حاملاً بطفلهما الرابع. فإذا ما مات في الحرب، فإن حزب الله سيقدم لعائلته منزلاً، تعليماً مجانياً لأطفاله، الرعاية الصحية، ومعاشاً شهرياً يقدر بحوالي 350 دولار. مع ذلك كيف يمكنه الإستمتاع بإحتمال الموت عندما يكون سيترك وراءه أرملة وأربعة أطفال أيتاماً؟ إبتسم ماهر مجدداً، وهو يهز رأسه بتعاطف.
' من الصعب عليك أن تفهم لأنك لست مسلماً. زوجتي ستشعر بفرحة وإعتزاز عظيمين إن أنا إستشهدت،' قال ماهر. ' الشهادة مفهوم ديني وفلسفي. الإسلام هو كالمسيحية واليهودية بمعنى أنك إذا ما إتبعت الله فسوف تذهب الى الجنة. لكن في الإسلام، الأمر يُفسر بشكل مختلف. نحن ولدنا كي نكون على معرفة بالله. فهدفنا في الحياة هو الوصول الى الله. وللوصول الى الله علينا الإنتقال من عالم الأحياء الى العالم الآخر. وهذا يحصل بالموت. كلنا سنموت، لكن كل إنسان لديه خيار بكيفية الموت. إن الطريقة التي نقود بها حياتنا تملي علينا موتنا. فبحسب ما يقول الإسلام،  أفضل طريقة للموت هو الموت في سبيل الله.'
بإمكان مقاتلي حزب الله التطوع للإنضمام الى وحدة  الإستشهاديين، ما يعني بأن بالإمكان إختيارهم للقيام بهجمات إنتحارية محددة أو بمهمات محفوفة بالمخاطر حيث تكون فرص النجاة متدنية. ورغم أن حزب الله كان مرتبطاً على الدوام بأذهان العامة بالتفجيرات الإنتحارية، فإنه لم يقم سوى بـ 11 عملية من هذا النوع في لبنان خلال سنوات الإحتلال الإسرائيلي ما بين عامي 1982 و 2000. ومن أصل الـ 11 عملية نُفذت أربع منها خلال التسعينات.
' الشهادة مبادرة  شخصية،' يقول ماهر. ' فالشهيد المحتمل يتخذ قراره، ثم يخبر قائده الديني (مرجعه الديني). يقرر القائد الديني ( المرجع) ما إذا كان المرشح مناسباً أم لا. والسيد حسن نصرالله هو الوحيد الذي يمكنه أن يقرر هذه الأمور في لبنان. فهو يتخذ القرار بحسب الأولويات. إنه يقيِّم ما إذا كانت النتيجة تستحق الفعل، ثم يقرر. كما يعتمد الأمر على الوضع على الأرض. إن فِعل الشهادة يشبه عملية عسكرية.
هذا النوع من الشهادة هو مفهوم غريب عن الفلسفة الغربية، التي تشدد على قدسية الحياة، لكن بالنسبة لكثير من مقاتلي حزب الهن، السعي للموت نتيجة مرغوبة، حصيلة تُرعى وتعزز على الدوام عن طريق البيئة الدينية والثقافية التي يعيش فيها. وعلى خلاف أي عضو في حزب سياسي غربي، يستسلم مجند حزب الله لطريقة حياة تملي عليه، تقريباً، كل جانب من جوانب مستقبله، أو مستقبلها: إختيار الأصدقاء، الوظيفة، المتع الإجتماعية، وحتى الزواج غالب الأحيان.
' يمكن أن تجد في بيت واحد أخ شيوعي، آخر مع أمل، وثالث مع حزب الله،' يقول الرئيس مفسراً. ' كلهم إخوة في نفس العائلة، لكن بالنسبة لرجل حزب الله، حزب الهل هو عائلته. فهو يتنفس حزب الله، يأكل حزب الله، كل شيئ بالنسبة له حزب الله... لا يوجد أحد من مقاتلينا إنضم الى حزب الله لأنه يريد وظيفة. كثيرون منا متعلمون – خريجون جامعيون، معلمون، أطباء. نحن ككل شخص آخر، نريد العيش بسلام، لكننا نريد أن نحيا بكرامة وعزة من دون أن تُداس حقوقنا.'
بعدما يخضع المجند الى مرحلة التحضيرات الأولية، يدخل الى المرحلة الثانية من التجنيد، المعروفة بالإلتزام، التي تدوم حوالي العام، تكون خلالها متطلبات الإنضباط الحزبي قد إنغرست فيه الى جانب التدريب العسكري الأساسي. ' بعد ذلك، يعتمد الأمر على تحسنه وتطوره، بإمكانه الخضوع لمسارات أخرى ذات مستويات أعلى تمكنه من إستلام مواقع داخل المنظمة،' يقول قاسم. ' البعض متدرج والبعض الآخر متخصص. تستطيع القول بأن الأمر يشبه الجامعة.'
وبشكل متناقض، وبرغم الجوانب العقيدية للتلقين الحزبي والعملية التعليمية، حزب الله ليس مهتماً بإنتاج جيش من 'ذكور النحل' الحمقى الذين يضحون بأنفسهم بشكل أعمى. إذ هناك درجة من الإستقلالية الذاتية والإعتماد على النفس يتم التشجيع عليهما، طالما أن حدود الإنضباط الحزبي ليست منتهكة. فحتى داخل حزب الهي، ه هناك الذين يمارسون إلتزامهم الديني بشكل أعمق من الآخرين. وقد إعترف نصرالله، متحدثاً في سياق المقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي في أواخر التسعينات، بأن هناك فئتين من المقاتلين في المقاومة الإسلامية: ' المقاتلون وموظفو المكاتب الذين هدفهم الذهاب الى بيوتهم في نهاية المطاف، وأولئك الذين هدفهم الشهادة، ببساطة كاملة. فالمقاتلون لديهم روح معنوية أعلى بكثير في الميدان، وبصرف النظر عن نوع السلاح الذي يحملونه، فإن إيمانهم وروحهم تجعلهم أقوياء وثابتين وتسمح لهم بالتسبب للعدو بضربة شديدة.'
إن عملية التعليم والتوجيه الديني المطولة والمكثفة هي محاولة لغرس الإستقامة الدينية والأخلاقية في المجند والموجودة في الفئة الثانية التي يقصدها نصر الله. فماهر، على سبيل المثال، يُناسب تصنيفه في هذه الفئة. فقد نشأ في بيئة عنيفة وصارمة في جنوب لبنان وهو متدين منذ الطفولة، لم يكن يعلم شيئاً عدا المقاومة والجهاد على إمتداد حياته من الطفولة وحتى بلوغه سن الشباب.كان ماهر مقاتلاً صاحب عزيمة يعتبر فعل مقاومة إسرائيل واجباً دينياً يتصدر حتى رغبته بإنهاء إحتلال إسرائيل لقريته التي هي مسقط رأسه.
أما الرئيس، من جهة أخرى، وبرغم تدينه، فلم يصل الى نفس مستوى قوة التدين التي حصَّلها ماهر. فقد إعترف لي بأن دافعه الرئيس كان حماية لبنان من إسرائيل. لقد كانت نشأة الرئيس علمانية، وكان رياضياً موهوباً قبل الإنضمام الى حزب الله. فطبيعته المتساهلة والصديقة جعلته شخصية محبوبة في حيه، السبب الذي  جعل حزب الهح يعينه مجنِّداً ووضع عشرات المقاتلين بعهدته. كان الرئيس قائداً تنظيمياً وقائد فريق بدلاً من أن يكون ساعياً عازماً على الشهادة.
' مسألة القناعة '
مع ذلك، وبرغم عملية التجنيد الشاقة، ليس هناك من إكراه وإلزام بمسألة الإنضمام الى حزب الله. فالحزب لا يسعى إلا خلف الملتزمين بصراحة ومن غير تحفظ بإيديولوجيته والمستعدين لإتباع عقيدة ولاية الفقيه، التي تعتبر شرطاً لازماً ومسبقاً تاماً غير مشروط للعضوية. فالمجندون الذين يظلون غير مقتنعين بعد أسابيع من البرامج والمقرارات الدراسية والتعليمية أحرار بأن يتركوا.
' إن ولي الفقيه هو القائد بالقدر الذي يهمنا ذلك،' يقول قاسم. ' فمكانته في الإسلام مكانة دينية. فإذا كنا نريد الإطمئنان بأن تطبيقنا لتعاليم ديننا صحيح، نحن بحاجة لمعرفة الضوابط والقواعد التي يجيزها الدين. إنه يقدم لنا تلك القواعد بالإضافة الى أدائنا السياسي العام.هو لا يتدخل بالتفاصيل.'
كمثال على ذلك، قال قاسم بأن ولي الفقيه أجاز حملة المقاومة ضد إسرائيل في لبنان من العام 1982، الخميني في ذلك الحين. إلا أن ولي الفقية لم يكلف نفسه عناء معرفة التفاصيل التكتيكية للكيفية التي يشن بها حزب الله حملته المقاومة. وعلى نحو مماثل، كان ولي الفقيه، الخامنئي هذه المرة، الحكم النهائي في قرار حزب الله الدخول في الحياة السياسية البرلمانية اللبنانية في العام 1992. لكن الحياة البرلمانية متروكة للحزب ولا تتطلب،فردياً، موافقة ولي الفقيه.
' خلال هذه الفترة، سيكون لدى المجند رؤية تتشكل من خلال المعلومات. فإذا ما أصبح مقتنعاً... فسيصبح عضواً. وإذا لم يؤمن بها، فإنه سيتركنا. إنها مسألة قناعة،' يقول الشيخ قاسم مفسراً لي. 'لدى حزب الله مدونة قوانين إسلامية فكرية عقائدية. وتعتبر ولاية الفقيه جزءاً من نظامها. نحن نؤمن بقيادة ولاية الفقيه. هذه قضية دينية بالقدر الذي نوليها إهتمامنا. وكل أولئك الذين يريدون أن يكونوا جزءاً من حزب الله عليهم إلزام أنفسهم بمدونة قوانينه الفكرية، وولاية الفقيه جزء من هذا الأمر.'
يتلقى عدد من المجندين القليل من المال، أو لا مال على الإطلاق، من حزب الله في الشهرين أو الثلاثة الأولى، ومعظمهم يجد وظائف نهارية لتوفير مدخول لأنفسهم. لاحقاً، يتلقى هؤلاء معاشات شهرية ودعماً مالياً يتعلق بالسكن، تعليم الأطفال، والحاجات الطبية.
بعد حرب 2006 مع إسرائيل، أعطى نصر الله التفويض بدفع مبلغ 100 دولار لكل مقاتل في حزب الله وأفراد عائلته المباشرين مرة واحدة في إشارة تقدير بسيطة. وقد أُبقي مبلغ المال صغيراً عمداً. ' إذا ما أعطينا الجميع سيارات رانج روفر، فلن يريد أحد القتال بعد الآن،' أشار أحد مسؤولي حزب الله.
حزب الله يقاتل في سبيل الله، وليس الثروة، لكن قيادة الحزب تعلم من تجارب الآخرين الإغراءات التي تظهر عندما تفيض المنظمة بالمال وتمارس التراخي في المحاسبة. إذ أن إغراءات السيولة النقدية يمكن  أن تبهت، وبسهولة، الشحذ الحاد للهمم للإلتزام بالقضية. ففي السبعينات، شهد قادة حزب الله المستقبليين القيادة الفلسطينية وقد أصبحت فاسدة وكسولة عندما تلقت تمويلات أساسية وجوهرية من بلدان خارجية مانحة. وحركة أمل اليوم غير فعالة ومنتفخة بسبب التطعيم، فاسدة بسبب قدرتها على الوصول الى أموال الدولة لتقوية شبكاتها الرعائية – إرث قذر بالنسبة الى نزاهة  رؤية موسى الصدر الأصلية وأمانته.
يُتوقع من مجندي حزب الله أن يكونوا نزيهين وموثوق بهم مالياً بحسب العقائد الإسلامية. ويستذكر أنيس النقاش، المربي السابق للشاب عماد مغنية، مشاركته سيارة أجرة من دمشق الى بيروت مع مقاتل شاب في حزب الله كان قد عاد لتوه من دورة تدريبية في إيران. إذ عرض النقاش أن يدفع للمقاتل 15 دولار أجرة التاكسي، لكن الشاب أصر على أن يدفع بنفسه الأجرة. وإتخذ النقاش وضعية الهجوم وقال له،' هذا عيب عليك، أنا كوالدك. أنا رجل أعمال وأنت تلميذ.' لكن الشاب لم يخضع. لاحقاً، ناقش النقاش الحادثة مع صديق له في حزب الله.
'نعم، هذا طبيعي،' قال الرجل في حزب الله. 'لا بد أننا أعطيناه هذه الـ 15 دولاراً ليدفعها للتاكسي، فمن المستحيل عليه أن يحتفظ بها لنفسه.'
رغم أن المعاشات قد تكون محدودة، فإن العضو في حزب الله يعلم بأن حاجاته ستلبى من قبل الحزب، الذي يتصرف كشبكة ضمان إجتماعي في بلد دعم الدولة غير موجود تقريباً. فإذا ما حصل حادث ما مع مقاتل في حزب الله وتطلب الأمر إستشفاء لكنه كان يفتقر للضمان أو المال للدخول الى المستشفى للعلاج، فإن الحزب يتدخل ويوفر التغطية المالية ويتولى الإجراءات المتخذة. وقد سمعت بشاب في حزب الله قاتل بشجاعة على الخطوط الأمامية في جنوب لبنان خلال حرب 2006 وكوفئ بعد ذلك بمنحه 40000 دولار ما سمح له بالزواج وشراء منزل.
إن الطاعة والإنضباط الذاتي جزء لا يتجزأ من خصائص حزب الله. إذ يُتوقع من مقاتلي حزب الله إطاعة كل الأوامر فوراً وبالكامل ما أن تعطى. كما يُتوقع منهم التصرف بشكل صحيح تجاه بعضهم البعض وتجاه الناس الآخرين خارج الحزب أيضاً، نتيجة طبيعية للمواصلة الناجحة لـ  'الجهاد الأكبر.' أما المتجاوزون فيواجهون عقاب التغريم، وضعهم في قفص الإتهام، أو تمضية الوقت في سجون حزب الله الخاصة في ضاحية بيروت الجنوبية.
خلال المرحلة التحضيرية، يتم إخضاع كل مجند الى فحص وتدقيق ذي خلفية أمنية دقيقة من قبل أجهزة الأمن الداخلي التابعة لحزب الله. فأي شخص يكون قد عاش في الخارج لفترة طويلة من الزمن، على سبيل المثال، ستتم معاملته على أنه خطر أمني محتمل ويواجه صعوبة كبيرة في الإنضمام الى صفوف الحزب. ويتم تحديث التقييم الأمني بشكل دائم أثناء حياة المجند داخل حزب الل لاحقاًه. وقد إستطاع حزب الهم الحفاظ على مستوى عال من الأمن الداخلي بمرور السنوات بسبب تعلم كل مجند الإنضباط الذاتي وتطوير مفهوم وشعور الأمن لديه. مع ذلك، يشعر مقاتلو حزب الله الفرديين بهزات العواطف البشرية العنيفة – الغضب، الحسد، حس الفكاهة – تماماً كأي شخص آخر. إن عدداً من مقاتلي حزب الله من الذين تحدثوا معي لم يكونوا مخولين فعل ذلك، لكن بعضهم أصبح صديقاً لي بمرور السنوات، وكان هناك آخرون مستعدين للحديث بضمانة معارف مشتركين.
يميل رجال حزب الله لأن يكونوا حذرين من الغرباء ومطلوب منهم إرسال تقرير عن أي  إتصال لهم مع أجنبي لرؤسائهم. أما الأجانب الذين يظهرون في مناطق يسيطر عليها حزب الله فيتم توقيفهم ومساءلتهم أحياناً وتتبعهم من وقت لآخر. فالآن، وفي كل حين، يسمع المرء روايات عن سواح أجانب مشتبه بهم يتم الإنقضاض عليهم من قبل رجال حزب الله اليقظين بينما هم يلتقطون الصور الفوتوغرافية ببراءة في ضاحية بيروت الجنوبية. فالوافد الجديد الى لبنان سيكون، في الحد الأدنى، في حالة غير مستقرة من دون شك، عندما يُقبض عليه من قبل رجال حزب الله الأشداء أو يتم تعقبه من قبل مسلح يركب دراجة نارية وهو يقود سيارته عبر القرى الجنوبية. إلا أن موظفي حزب الله، عموماً، منضبطين، مؤدبين، برغم حزمهم، عند إستجواب الزائر. وقد خضعت بمرور السنين لسلسلة الإجراءات الأمنية الكاملة لحزب الله، بدءاً من الإجراءات اللطيفة ( التوقيف وسؤالي بتهذيب ومصادرة شريط الفيلم بحوزتي) الى الإزعاج الخفيف ( التوقيف، سؤالي بتهذيب، تصويري صورتين: وجهاً لوجه وصورة جانبية ، من قبل ضابط أمن في حزب الله) الى الإزعاج الكامل ( التوقيف، الإحتجاز، الإستجواب، إتهامي بأني جاسوس، تسليمي للإستخبارات العسكرية اللبنانية، ورميي في السجن كل الليل).
السير في خط أهل البيت     
لم يكن خضر مولوداً حتى عندما غزت إسرائيل لبنان في العام 1982، لكن الطالب الجامعي اللطيف المعشر علم منذ الطفولة بأنه سوف ينضم الى حزب الله في يوم من الأيام ويخدم في صفوف المقاومة، تماماً كما فعل والده. فكونه نشأ في بيئة متدينة في ضاحية بيروت الجنوبية، كان خضر في الثانية عشرة من عمره عندما إنضم الى البرنامج الشبابي لحزب الله في العام 1998.
إن بنية جسمه الممتلئة وعضلات ذراعيه المنتفختين شهادة على الساعات التي أمضاها في رفع الأثقال والحديد في ناد رياضي محلي. لكن في الوقت الذي يختلط فيه مع أصدقائه الشيعة في الحي  برغم أنهم لا يشاركونه معتقداته، ليس لدى خضر شهية للإستماع الى الموسيقى، الذهاب الى الحفلات، أو الإستمتاع بسن الشباب المتراخي عموماً. ' أنظر الى أصدقائي وأراهم يطاردون الفتيات ويشربون، لكني في النهاية أنا سأضحك وهم سيبكون،' يقول خضر. ' إن كل ما أقوم به يكون في ذهني  أن يكون ذلك في خط النبي محمد وآل بيته ( خط آل بيت النبي من خلال الإمام علي). أنا أسير في نفس الدرب'.
يخضع كل مجند الى برنامج تدريب عسكري أولي يدوم 30 يوماً، يتم خلاله تعليمه المبادئ الأولية لحرب العصابات واللياقة البدنية الأساسية. وخلال فترة الثمانينات وأوئل التسعينات، كان قسم كبير من التدريبات يتم تنفيذه في مخيمات تم تأسيسها في وديان وسهول الجبال القاحلة اللبنانية المعاكسة في السلسلة الشرقية من سهل البقاع في المنطقة المحاذية للحدود مع سوريا. لم يكن هناك من غطاء أرضي يخفي أنشطة حزب الله عن الطائرات الحربية والإستطلاعية الإسرائيلية، وكان المجندون ينامون عادة في خيم، كهوف وأكواخ. وإفترض حزب الله بأن وجود منظوماته الدفاعية الجوية – أسلحته البدائية وصواريخ سوريا الأكثر تطوراً على الجانب الآخر من الحدود المتاخمة – كافية لردع سلاح الجو الإسرائيلي عن مهاجمة مواقع التدريب.
في كل الأحوال، وفي ليلة 4 حزيران، 1994، إنقضت الطائرات الحربية الإسرائيلية وطائرات الأباتشي على مخيم عين الدردارة شرقي بعلبك، حيث كان حوالي 150 مجنداً ينامون في خيامهم.  وأسقطت الطائرات قنابلها على المخيم ومسحت طائرات الهليكوبتر المكان، مستخدمة التصوير الحراري لتحديد مكان المسلحين الفارين وتمزيقهم إرباً برشقات نارية من رشاشتها عيار 30 ملم. قتل أكثر من 40 من المجندين في الغارة، الأعمق داخل لبنان في غضون سبع سنوات. وأخذت الوحدات المضادة للطائرات التابعة لحزب الله والجيش اللبناني تطلق نيرانها المضادة بشكل أعمى في السماء المظلمة من دون أن تصيب أياً من الطائرات الإسرائيلية، وظلت بطاريات صواريخ سام السورية صامتة. كانت تلك أكبر خسارة في الأرواح يتعرض لها حزب الله في حادثة واحدة، وأسرع قادة الحزب بالتعبير عن الإنتقام. ' نحن نحضر لعملية ستفاجأ العالم،' قال الحاج حسن حب الله محذراً، وهو مسؤول كبير في حزب الله.
بعد ستة أسابيع، في 18 تموز، فجر إنتحاري سيارة فان تحمل أكثر من 600 باوند من المتفجرات بجانب مبنى seven-stars التابع لجمعية الأرجنتين الإسرائيلية المشتركة، مظلة لمجموعة من الجمعيات الخيرية في بوينس آيرس. تسبب الإنفجار بمقتل 85 شخصاً وجرح 300 آخرين وهدم المبنى بالكامل. أنكر حزب الله مسؤوليته عن الهجوم، لكن بالنسبة لإسرائيل، أثبت الإنفجار مجدداً لها قدرة حزب الله وإرادته بإنتزاع الثأر على مستوى عالمي إزاء أعمال غير إستثنائية يقوم بها الجيش الإسرائيلي. وعما إذا كانت إسرائيل يمكن أن تكرر ضربة عين الدردارة في ضوء الضربة الإرتدادية في الأرجنتين فأمر غير واضح، رغم أن حزب الله لن يعطيها الفرصة لذلك.
'يمكننا سماع هسهسة الفتيل'
في أعقاب غارة عين الدردارة، غير حزب الله إجراءاته التدريبية في سهل البقاع، متحولاً الى مناطق السهل الغربية الأكثر تشجيراً، والتي وفرت غطاء أرضياً أفضل ضد الطائرات الإسرائيلية. وكان التدريب يتم بمستوى إرتجالي، في الوقت الذي ظل فيه مكثفاً وقوياً كما من قبل، من دون أن ينام المجندون بعدها في أية مواقع ثابتة على أساس منتظم.
يبدأ التدريب العسكري الأساسي مع تلقي المجند تعليمات بأن يكون في نقطة لقاء معينة في وقت محدد. لا يجلب المجند معه أي شيئ عدا قطعة غيار واحدة من الثياب الداخلية ومستلزمات النظافة. يلتقطه ميني باص زجاجه مغطى بقماش قطني أسود اللون، ومع حوالي 15 مجنداً تبدأ الرحلة الى منطقة تدريب في سهل البقاع. ورغم أن من الطبيعي أن يحتاج الوصول الى أقرب مناطق التدريب التابعة لحزب الله إنطلاقاً من ضاحية بيروت الجنوبية الى 90 دقيقة فقط، فإن الرحلة بالنسبة للمجندين تكون عادة أطول بشكل لا بأس به، حيث أن سائق الميني باص يتبع عمداً طريقاً متعرجاً، مضاعفاً أكثر من مرة المسافة ليضلل المسافرين معه بالكامل. عندما يقترب من منطقة التدريب، يترك المسافرون الميني باص، وفي المرحلة الأخيرة من الرحلة على طول المسالك الترابية الوعرة، يجلس المجندون مختبئين تحت ستائرمن القماش الكتاني السميك في مؤخرة شاحنات بيك- آب صغيرة أو في سيارات الدفع الرباعي. وفي الوقت الذي يتم فيه إيداعهم عند سفح الجبل مع مجموعتين أو أكثر ربما من المجندين من أماكن أخرى في لبنان، لا يكون لدي أي منهم فكرة عن المكان الموجودين فيه.
إن التشديد على فترة التدريب الأولى الممتدة 30 يوماً يكون على بناء اللياقة البدنية والقدرة على التحمل. ويتم إرسال المجندين، في مجموعات ودفعات مؤلفة من حوالي 50 شخصاً يرتدون البزات العسكرية المموهة، في مسيرات عقابية عبر الجبال الصخرية الكلسية تثقلهم البنادق وحقائب الظهر المملوءة بالحجارة. أحياناً يحملون ذخيرة فارغة مملوءة بالإسمنت لبندقية B-10 من عيار 82 ملم العديمة الإرتداد. يتم إعطائهم قربة واحدة من الماء يومياً، ويستخدمونها للشرب والوضوء قبل الصلاة. أما مدربيهم  فمن المقاتلين القدماء المتمرسين أصحاب الخبرة، في منتصف الثلاثينات من العمر عادة أو أكبر، والذين يحافظون على وجود ضغط ثابت على الودائع الشابة. ويُزاد على المسيرات سباقات السرعة صعوداً على التلال وتمارين الضغط التي لا تنتهي على ما يبدو.
' لقد مزقوني من التعب،' يقول خضر مستذكراً دورة التدريب الأولى. ' كان علي القيام بخمسين تمرين ضغط، لكن لم أستطع القيام إلا بثلاثين، لذا جعلوني أركض صعودا الى أعلى التلة مرة أخرى. وفي إحدى المرات، أخبرونا بأن علينا خلع جزماتنا وكلساتنا وتسلق الجبل بينما يطلقون النار علينا. كان عليك أن ترى كم عانينا. قضيت ليال لم أتمكن فيها من النوم بسبب الألم الذي شعرت به من جراء التقرحات وآلام العضلات.'
تحدث هذه التدريبات على إمتداد العام، بصرف النظر عن الطقس. ففي أشهر الشتاء، يستفيد حزب الله من ظروف الطقس المثلجة في الجبال لتلقين المجندين تقنيات حرب 'جبال الألب'. إن تدريبات جبال الألب ليست من دون معنى كما قد يتبادر للوهلة الأولى. فقمم جبال حرمون بين لبنان، سوريا ومرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل، مسرح المواجهات الشرسة في الحرب العربية- الإسرائيلية عام 1973، تكون مكللة بالثلوج مدة 5 أشهر من العام. وتكون 'وحدة جبال الألب' التابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي منتشرة على جبل حرمون لحماية محطة إستخبارات سلاح الإشارة الموجودة على إحدى القمم الأقل إرتفاعاً.
' عندما يصبح الطقس بارداً جداً، أبقى بعيداً عن المياه،' يقول خضر. ' أول مرة إستحميت بها بالمياه في الشتاء لم أستطع التنفس. أمضينا ليلة في العراء من دون خيم أو حقائب النوم. قضيت الليل كله أرتجف محاولاً الحصول على القليل من الدفء.أحد الشباب الذي كان نائماً بجانبي كان يشعر بالبرد الى درجة أنه وقف وأخذ يطلق اللعنة تلو الأخرى ثم سقط أرضاً وعاد الى النوم.'
في الليل، يقوم كل مجند بواجب الحراسة مدة ساعة واحدة على الأقل، مقاوماً الإعياء والتعب ومحاولاً البقاء متيقظاً في حال قرر المدربون الخروج بمفاجأة أخرى. ' إن ساعة حراسة واحدة تبدو كسنة كاملة. تبدو الأشجار في الظلام كأنها تسير. نشاهد خنازير برية، ضباعاً، وفي الصيف نعاني من مشاكل مع الأفاعي،' يقول خضر.
على المجندين أيضاً تحمل' يوم صعب' عندما يكونوا مجبرين على الزحف على الأشواك أو القفز من علو. يُبقي المدربون المجندين على الحافة  بواسطة ' تكتيكات الصدمة'، مثل نصب الكمائن لهم عن طريق إطلاق ذخائر حية عند أقدامهم وقذائف الآر بي جي فوق رؤوسهم. ' في دورتي التدريبية الأولي، كانوا يجعلوننا نقف في صفوف ويقوم المدربون بزرع كتلا من متفجرات C-4 بيننا موصولة بصواعق. كان يمكننا سماع هسهسة الفتيل لكن كان علينا البقاء الوقوف بثبات،' يقول خضر.
ويتذكر خضر إحدى المناسبات عندما قام بمسيرة مع حوالي 50 مجنداً آخر لعدة ساعات وكانوا يمرون عبر واد ضيق عندما نصبت مجموعة من المدربين المختبئين عن الصخور في أعلى الجبل كميناً لهم. ' لقد وضعوا قنبلة على جانب الطريق قريباً منا. بعض المجندين كانوا في حالة صدمة. الشبان في وسط الصف نزلوا الى الأسفل في حين أن الشبان عند طرفي الصف إنقضوا على سفح التلة لمهاجمة المدربين الذين كانوا يطلقون علينا الذخائر الحية من الخاصرة.'
إضافة الى اللياقة البدنية والقدرة على التحمل، يتم تلقين المجندين كيفية إستخدام الأسلحة الأساسية المعيارية بالنسبة للمقاتل في حزب الله – بندقيتيْ AK-47 و M-16 الهجوميتين، رشاش PKC الخفيفة من عيار 7.62 ملم، الرشاش الثقيل  caliber عيار 50، آر بي جي -7، الى أن يتمكنوا من فك، تجميع وتعبئة كل قطعة سلاح وهم معصوبي الأعين. وهم يتمرنون على إطلاق النار خلال النهار والليل مستخدمين طلقات يُمكن تتبع أثرها. ويتم تسليم كل مجند كمية محدودة من الذخائر ويبلغون أهمية المحافظة على الطلقات. أطلقوا طلقة واحدة مصوبة نحو الهدف، بحسب ما يقال لهم، وتجنبوا تحويل البندقية الى الأتوماتيك: تفقد الدقة وتهدر الذخيرة.
يتعلم المجند كيفية زرع المتفجرات على جوانب الطرق وزرع الألغام الأرضية. ويدرسون أنواع الآليات المدرعة المختلفة المستخدمة من قبل الجيش الإسرائيلي وكيفية إطلاق الآر بي جي على نقاط الضعف فيها وأكثرها إستهدافاً.
كان المدربون يدفعون بقوة بهدف الحفاظ على اليقظة المستمرة بصرف النظر عن مدى تعب المجندين. ينبغي الإحتفاظ بالسلاح باليد كل الوقت، بما فيه عند النوم، الأكل، أو الصلاة. يتم تلقين المجندين أن يكونوا يقظين بالكامل والقتال بغضون ثوان عند الإستيقاظ في منتصف الليل. يجب الإجابة على الإتصالات حالاً. فالإخفاق بالإذعان لهذه القوانين الأساسية نهايته العقاب، كإجبار المجند على البقاء في مواقع توتر لفترة مطولة.
يتعلم المجندون فن التمويه والتسلل، أنواع الزحف المختلفة، والقدرة على الإستلقاء في مواقع مهمات المراقبة من دون التحرك لساعات حتى النهاية. يتم تعليم المجندين الملاحة بإستخدام الخريطة والبوصلة ووسائل الـ GPS قبل الشروع برحلات التزلج عبر الجبال. إذ يتعلمون كيفة العثور على إتجاههم من ساعة شمسية بسيطة تتألف من عصا مزروعة بالأرض، أو تحديد الشمال بإستخدام ساعة يد. ومن فترة لآخرى، يعطى الأمر لإحدى مجموعات المجندين بشن غزوة تسلل ضد مجموعة أخرى تخيم على بعد بضعة أميال في الجبال أو إبقائها تحت المراقبة من دون أن تكون رُصدت.

'التمرد مقابل الخوف'
التدريب العسكري أمر إلزامي لكل مجند في حزب الله حتى لو كان لا ينوي الخدمة في صفوف المقاومة الإسلامية لاحقاً. مع ذلك، لا يطمح كل المجندين بأن يصبحوا مقاتلين يمرون ببرنامج التدريب العسكري. فأولئك الذين لا يستطيعون التأقلم مع جدول العقاب لكنهم مع ذلك يؤمنون بالقضية يمكن تركهم وتخصيصهم في أجهزة حزب الله الإدارية.
كل مقاتل في حزب الله هو متدرب في مجال الإسناد الطبي ويحمل علبة إسعافات أولية معه الى المعركة. ففي وحدة قتالية بحجم وسطي من خمسة مقاتلين، سيكون هناك مسعفان. إذ يولي حزب الله أهمية عظيمة للعلاج الطبي الميداني، والسبب في ذلك، جزئياً، ضمان ألا تكون شهور التدريب قد ذهبت هباء وأن يعيش المحاربون ليقاتلوا يوماً آخر، والجزء الآخر يعود لغايات أخلاقية –  قد يكون المقاتل في حزب الله  يسعى في النهاية الى الشهادة في المعركة لكن لا أحد منهم يحبذ ميتة طويلة في وحول وادي ما على الجبهة الأمامية لأن رفاقه يفتقرون إما الى صندوق الإسعافات أو  الى المعرفة بالتعامل مع الجروح. علاوة على ذلك، إن أي  جثة متروكة على أرض المعركة يمكن أن يسترجعها الجيش الإسرائيلي لتصبح ورقة في يد إسرائيل خلال أية عملية مفاوضات لاحقة تتعلق بتبادل الأسرى.
يوفر حزب الله حتى، دروساً تدريبية على حرب نووية، بيولوجية وكيميائية، يتعلم فيها المقاتلون كيفية التغلب على صعوبات الحرب وهم مرتدين بذلات، جزمات، وكفوف الحماية الحمائية السميكة مع إرتدائهم أقنعة الغاز التي تشوش الرؤية.
وليس كل العمل عملاً مادياً؛ إذ يشرع المجندون بإمتحانات خطية وعملانية في الميدان  تحت نظر ومراقبة مدربيهم.
ورغم أن مناطق التدريب موجودة في مناطق الأشجار الكثيفة المتشابكة وتحت غطاء الأشجار، فإن ' مراقبي السماء' يفتشون على الدوام عن أية طائرات حربية إسرائيلية أو طائرات إستطلاعية تقترب ( طائرات ascii85AV من دون طيار). إذ أن كل منطقة تدريبية تكون محمية بوحدات الدفاع الجوي المزودة بمدافع مضادة للطيران وبصواريخ تطلق من على الكتف.
إن مرحلة التدريب الأولية هي الأولى فحسب من عدة تدريبات في مسار مهنة المحارب.  وبصفته طالباً جامعياً – يدفع حزب الله بعضاً من الرسوم الدراسية – فإن بإمكان خضر إختيار الوقت الذي يحضر فيه دورات التدريب على اللياقة البدنية ودورات التجديد في سهل البقاع بعد إختياره لتدريب متخصص في الأسلحة المضادة للدروع.
في الوقت الذي يكون فيه المجند قد أتم المراحل الأولية من التوجيه الديني والتدريب العسكري بشكل مرض لرؤسائه، سيكون قد إكتسب مستوى أكبر من الثقة وبإمكانه الإنضمام الى وحدات محددة أو مواصلة تخصصات عسكرية متطورة معينة كالقنص، الصواريخ المضادة للدبابات، الإتصالات، أو المتفجرات. وفي حين أن هناك مرونة بالسماح للمجندين بإختيار مجال تخصصهم، فإن قادة حزب الله سيوجهونهم أحياناً نحو وحدات تعاني من نقص بالقوى البشرية، أو يشجعونهم على إتباع تخصصات معينة تتماشى وتعليم المجند وشخصيته.
' لدينا مسار تدريب متدرج. إنه مسار منوع بحسب التخصص،' يقول ماهر، قائد قطاع في المقاومة الإسلامية.' نحن ندرس كل نقاط قوى المجندين، مادياً وعقلياً. فإذا كان جيداً بالفيزياء، عندها يدرس المسارات ( لسلاح المدفعية). إذا كان جيداً في الكيمياء، عندها يدرس المتفجرات. إنهم يتلقون تدريباً في مهاراتهم تماشياً مع تدريبهم الأساسي.
إن برنامج التدريب العسكري الذي يبدأه كل مجند في المقاومة الإسلامية لا يحضِّره لعمليات قتالية مستقبلية فحسب، وإنما يساعده أيضاً على بناء عصبية روح التضامن، قيمة معنوية هامة في الميدان بالإضافة الى الإلتزام العميق بالدين الإسلامي. إن نجاحات حزب الله العسكرية، خاصة خلال التسعينات، ساعدت على إنتقال شعور الأخوة والعزة الشعبية، الإنجاز والتمكين بين الكوادر،مشاعر تلهم أجيالاً جديدة من المتطوعين لكي ينضموا الى الحزب.
يحصل التدريب التخصصي عادة في إيران، أو في سوريا أحياناً.فسهل البقاع صغير جداً لغرض التدريب على منظومات الأسلحة الكبيرة كقذائف المدفعية ومنظومات الدفاع الجوي. فأولئك الخاضعين للتدريب في إيران يسافرون الى سوريا، ومن ثم يركبون على متن الطائرات المتوجهة الى طهران قبل أن يتم نقلهم بحافلات الى إحدى معسكرات التدريب العديدة التي تديرها قوات القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني قرب كراج، أصفهان، قم، أو طهران. بإمكان المقاتلين حضور دروس عديدة في إيران يدوم كل منها عدة أسابيع. أما المدربون فيعملون بدوام كامل لتدريب حزب اهلت، فهم مقاتلون متمرسون أثبتوا أنفسهم في جنوب لبنان ويقاسمون المجندين اللغة العربية والخلفية الثقافية نفسها.
يتحمل المجندون في وحدة القوات الخاصة التابعة لحزب الله، أرفع عنصر قتالي في المقاومة الإسلامية، درساً مكثفاً يمتد الى ثلاثة أشهر ينقسم خلالها الدرس الى برنامجين يمتد كل منهما 45 يوماً مع فاصل خمسة أيام بينهما. وفي حين يعمل معظم مقاتلي حزب الله بدوام جزئي ولديهم وظائف أخرى أو هم من طلاب الجامعات والكليات، فإن كوادر القوات الخاصة مقاتلون بدوام كامل يتدربون بلا هوادة. فهم ليسوا مقاتلين محفزين بشدة فحسب بل أنهم تجسيد أيضاً للقيم الدينية والثقافية التي تصنع طريق حزب الله. إذ يميل المقاتلون في القوات الخاصة، حتى داخل صفوف المقاومة الإسلامية المتجانسة، لأن يكونوا بارزين. فعلى المستوى الشخصي، عادة ما يكونوا مهذبين ومتواضعين يحملون حس الدعابة الهادئة في الوقت الذي يحافظون فيه على مستوى من التحفظ والمسافة أمام الغرباء.
يؤمن حزب الله بأن التوجيه الديني والإيديولوجي المطرد

موقع الخدمات البحثية