مواد أخرى » ليبيا: نهاية البداية

آدم غارفينكلي / The American Interest
27 تشرين أول، 2011

تناولت الموضوع الليبي العام على الأثير الإلكتروني مرتين: في 22 آذار، قبل أيام فقط من إصدار الرئيس أوباما الأمر بالقيام بهجوم على طرابلس بصواريخ كروز، ومرة أخرى في 16 آب، عندما  طرحت إحتمال حصول عمليات قتل إنتقامية على مستوى واسع  وما الذي قد ينذر به ذلك بالنسبة لسياسة الناتو المبنية ظاهرياً على أساس الإعتبارات الإنسانية. لذا يبدو الأمر مناسباً أني أفعل ذلك مجدداً، حيث أن معمر القذافي قد لاقى الآن مصيره. وكما من قبل، لقد وجدت ردة الفعل العامة، تجاه الأحداث البارزة في نشرات الأخبار، على الأقل في الولايات المتحدة، ردة فعل فضولية لا ترتكز على ما سيجلبه المستقبل بالتأكيد. وكما من قبل، السبب هو نفسه: إفتقار مزدوج للمعرفة والفضول حول البلد وثقافته الذي هو موضوع إهتمامنا المفترض.
إن الإستنتاج الغامر هو أن معظم المراقبين في البلدان الغربيية قد توصلوا، بما يتعلق بأحداث الأسبوع الماضي قرب مدينة سرت، الى أن المشكلة الليبية قد تم حلها الآن، وبأن الطيبين قد فازوا. وقد ساهمت إدارة أوباما بحصتها في هذه النظرية المهيمنة عالمياً تقريباً، كما فعلت قيادة الناتو، التي أعلنت عن خططها بإنهاء المهمة العسكرية مع نهاية الشهر. بالواقع، كان لإدارة أوباما جولة جيدة جداً مؤخراً في غزل روايات عن كوارث نزلت بالعرب. لم تعاظم الإدارة إبتهاجها بالنصر بشأن الأحداث في ليبيا فحسب؛ لقد أبرزت أيضاً الفشل بالتوصل الى إتفاق مع الحكومة العراقية حول مستقبل الجيش الأميركي هناك على أنه نجاح وإنجاز لحملة الوعد بإنهاء الحرب في العراق.
للأسف، إن الأخبار ليست جيدة جداً في كل من ليبيا أو العراق. كما أنها ليست جيدة في سوريا، وسياسة الإدارة هنا كان يشوبها الخلل أيضاً– ليس بسبب القرار بسحب السفير فورد من دمشق، وإنما، في الواقع، بسبب الإشارات الغريبة المختلطة التي أرسلها خطاب الإدارة الأميركية الى المعارضة السورية. بالإضافة الى ذلك، فإن الأخبار الأخيرة التي يحتمل أنها ستصنع الفرق الأكبر في مستقبل المنطقة والمصالح الأميركية هناك قد مرت من دون تعليق رسمي تقريباً.
تلك الأخبار، بالطبع، هي موت ولي العهد السعودي وما ينذر به ذلك بشأن الخلافة في العربية السعودية.
سنعود الى الأوضاع العراقية، السورية، والسعودية في الوقت المناسب، لأن ما يحدث في تلك البلدان وبلدان أخرى يشكل السياق الإقليمي الشامل الذي يعطي معنى للأحداث الأخيرة في ليبيا. لكن دعونا نركز الآن على ليبيا.
أفضل طريقة لوصف حالة اللعب في ليبيا ليس القول بأن الحرب قد إنتهت وبأن الرهان الغربي في شمال أفريقيا في أمن من الخطر، كما يقول الإجماع الشعبي، بل أن ما قد شهدناه هو، في أفضل الأحوال، نهاية البداية. فالحملة لإسقاط نظام القذافي بمساعدة من الغرب قد نجحت، لكنها نجحت فقط بجعل ليبيا آمنة لجهة حصول نزاع أهلي، تفكك سياسي وربما حرب داخلية، والتي قد تشتمل على أعمال إرهابية، تمرد طويل الأجل وتدخلات خارجية عديدة تحت وفوق خط الأفق.
إذا نظرنا بموضوعية الى الوضع السياسي داخل البلد، تبرز أمامنا أربع حقائق حاسمة، سبق وأشار إليها عدد من المراقبين.
أولاً، إن إئتلاف قوات المتمردين الذي أطاح بالنظام لا يربطهم أي شيئ آخر عدا المعارضة للقذافي، عائلته، قبيلته والمقربين منه المتنوعين الذين إستفادوا من حكمه السيئ والمتواطئين معه في جرائمه. إنهم منقسمون بالمنطقة والقبيلة ووجهات النظر حول الدين والسياسة وبالهويات الذاتية القوية. هناك أيضاً إنقسامات إثنية: فالطوارق، القبيلة الموجودة بإتجاه جنوب غرب البلاد، كانوا مصطفين الى جانب النظام القديم ومدوا جنود المصادمة التابعين للقذافي بجزء من الرجال. وقد يتسبب هؤلاء بالمتاعب أو يحاولون الإنفصال في الوقت المناسب إذا لم يكن النظام الجديد على هواهم. لا يوجد فئة من هذه الفئات تمتلك فهماً لمعنى كلمة إيديولوجية كما يفهمهما الغربيون. فبالرغم من جهود العلاقات العامة الهادفة من قبل قادة ' المجلس الوطني الإنتقالي'، فإنه لا يمكن وصفهم، بالتأكيد، بالديمقراطيين بأي معنى من المعاني. آمل ألا يفاجأ هذا الأمر أحداً لأن الليبيين، بعد كل شيئ، لم يختبروا الديمقراطية بأي شكل من أشكالهاعلى الإطلاق منذ جمود الدولة الليبية وتحجرها في العام 1951، والمجتمع الليبي لم يقم مطلقاً، ولأسباب تاريخية وجيهة، بنشر أو عرض الشروط الموقفية المسبقة لديمقراطية مستقرة: فكرة المعارضة المخلصة، المساواتية المفترضة، وسيادة القانون وفكرة التمثيل المجردة الى حد ما. لقد إستلزم الأمر عقوداً كي تتطور هذه المواقف في الغرب، لتحث الخطى بعد ذلك مندفعة في طريق الحداثة عن طريق النهضة والإصلاح والتنوير، أمور لم تلامس عن قرب ليبيا الحاضرة إلا بشكل طفيف جداً.
ثانياً، لقد قام نظام القذافي، الموجود في السلطة منذ 1 أيلول، 1969، منذ وقت طويل بإمتصاص كل الأوكسجين الموجود في الجو الليبي بما يتعلق بتجربة الحكم. لا أحد من بين المتمردين يعرف أي شيئ عن كيفية الحكم. لقد ذهب بعض من رجال البلطات والشماعات لدى النظام السابق الى المتمردين في مراحل مختلفة منذ شهر شباط، زاعمين بأن لديهم تبدلاً قلبياً حقيقياً لكنهم كانوا يحاولون على الأرجح إنقاذ مؤخراتهم من معاملة من النوع الذي عانى منه القذافي في الأسبوع الماضي. مع ذلك، فهؤلاء هم الوحيدون في صفوف المتمردين الذين يعرفون القيام بأي نوع من الإدارة وقد يصعدون الى  السلطة فعلاً نسبة الى المتمردين الرعاع من حولهم، معظمهم ممن قد يعودون الى منازلهم في الواقع بدلاً من البقاء في طرابلس. ومن المرجح أن تُحدَّد معارضتهم الرئيسة على أنها معارضة إسلامية أصولية. هذا الإعداد وهذا النظام لا يبشران بالخير بالنسبة لمستقبل الديمقراطية الليبية.
ثالثاً، إن مخزون السلاح الهائل للنظام القديم – من كل الأشكال والأحجام – قد أفلت من عقاله وإنتشر داخل البلاد وعلى إمتداد المنطقة عموماً، وذلك بفضل مقاولي السلاح القادمين من أماكن مختلفة. هذا ما يحدث عندما تُسقط نظاماً ما من دون وجود قوى كافية على الأرض تحمي مستودعات الذخيرة ومواقع حساسة أخرى. كل الفئات في ليبيا مسلحة وسيئة الإنضباط. كلها بحاجة للمال، إذا كانت تريد البقاء في اللعبة، وهذا يجعلها عرضة لإسترضاءات خارجية من كل نوع تقريباً.
 رابعاً وأخيراً بما يخص هذه النقطة، في حين أن القذافي قد مات، فإن بعض أفراد عائلته الواسعة وقبيلته لم يموتوا. إن الحروب الأهلية في مكان كليبيا لا تشبه مباريات التنس في نادي قِطري.
بعد أن يظهر بأن هناك من ربح وهناك من خسر، لن يسير الإثنان بسرور نحو الشبكة الفاصلة ليتصافحا. لق رحلت قبل أسابيع عن ليبيا بطانة كبيرة داعمة للنظام، بمن فيهم أفراد العائلة، قاصدة النيجر، ومعهم بعض المال والكثير من المعلومات. كانت بلدان الناتو محظوظة بأنه خلال الأشهر السبعة التي لزمتها لإسقاط هذا النظام الهش والضعيف جداً لم يكن هناك من أعمال إرهابية متوقعة موجهة ضدهم من مخبأ القذافي. إن خطر حدوث هذا الأمر الآن أقل بكثير، لكنه ليس صفراً. ما يعنيه هذا هو أن التهديد للنظام الليبي الجديد ولتلك البلدان التي تدعمه بطريقة أو بأخرى سيأتي الآن من خارج ليبيا. لقد إقتربت الحرب ضد النظام من نهايتها، لذا، وكما نعلم من الحكمة المأثورة عن القنابل اليدوية والخيول، فإن الإقتراب من النهاية ليس هو نفسه النهاية واقعاً، حقاً، و'بأمانة'- كما وضع الأمر الطبيب الشرعي في قصة ' ساحر أوز'.
سيكون على الناتو بالوضع الحالي في ليبيا كما هو عليه، ما أن تهدأ طقوس العربدة بنشوة الإنتصار، أن يقرر ما الذي سيفعله. قد تكون الكيفية التي سيقرر بها، جزئياً، تابعة لما يعتقد بأنه قد سبق وفعله.  فقد تم نسج حملة الناتو على إنها قصة نجاح ممتازة. وأنا واحد ممن لا يلومون الناسجين على نسجهم، لأن التصورات والمفاهيم مهمة جداً. لكن لا ينبغي لعاقل أن يشعر بالثقة والتفاؤل بخصوص ما تقوله حملة الناتو في ليبيا حول التحالف. وكما سبق وذكرت سابقاً، إن واقع صرف سبعة أشهر لإسقاط هذا النظام والقبض على الوغد القائد العام للقوات المسلحة ليس أمراً مطمئناً جداً. ( شعرت بنفس الطريقة بشأن نشوة الإنتصار التي إنفجرت بعد موت أسامة بن لادن في أيار الماضي. أن يستلزم الأمر عشر سنوات تقريباً للنيل من هذا النغل ليس بالأمر الذي يُفتخر به.)
أما بما يتعلق بأعضاء التحالف من غير الأميركيين، فإنهم لم يميزوا أنفسهم عسكرياً.  لقد إحتاج الأمر  أكثر من 9000 طلعة جوية لتحقيق شيئ هام، وقد تمت تلك الطلعات الجوية بوتيرة تشغيلية تجعل بزاقات الموز تبدو سريعة. وحتى بوتيرة من هذا النوع، فقد نفدت، تقريباً، الذخيرة، قطع الغيار، ووقود الطائرات الخاص من سلاح الجو الفرنسي، البريطاني، وقوات جوية أخرى منخرطة في الهجمات. أما على المستوى السياسي،  فقد إختلف الحلفاء الأوروبيين فيما بينهم الى ما لا نهاية، مع رفض عدد منهم التحليق بمهمات قتالية لأنهم كانوا إما قلقين من نكسات وردود فعل عكسية، أو لأنهم، أخلاقياً، يشعرون بتأنيب الضميرأو لأنهم آمنوا فعلاً بأن قرار الأمم المتحدة الذي أعطى التفويض بالعملية كان بناء على إعتبارات إنسانية وحدها. ليس صعباً أن نفهم كيف أن القادة الأوروبيين إستغبوا وكانوا نصف بلهاء وعنيدين في طريقهم الى ما يقرب من هزيمة بسبب تراكماتهم عندما تنظر الى الكيفية التي تصرفوا بها في ليبيا.
أما بما يتعلق بإدارة أوباما، فقد فضلت قيادة التحالف من الخلف. شخصياً، لا مشكلة لدي مع مفهوم القيادة من الخلف. هذا أمر جيد، كما يبدو لي، عندما تكون سمعة المرء قوية للغاية بحيث يمكن جعل الآخرين يسحبون العبء بدلاً عنه. لكن ككل فكرة جيدة، تعتبر الفكرة عقلانية، أو غير عقلانية، إعتماداً على السياق. والسياق هنا هو الذي تبدو فيه الولايات المتحدة في كل مكان في المنطقة متوجهة الى الباب للخروج حالاً. فنحن نترك العراق تماماً، كما يبدو. ومضى علينا وقت طويل ونحن نمهد الطريق المنحدرللخروج من أفغانسشتان. لقد دعمنا شفهياً المعارضة السورية، لكننا أوضحنا بأنه ليس هناك من تدخل وشيك من جانبنا، والأمر الأكثر غرابة حتى – خاصة في نظر العرب وآخرين في المنطقة- هو أننا إشترطنا بدعمنا للمعارضة السورية بألا تحمل السلاح. وقتل نظام الأسد أكثر من 3000 من المتظاهرين السلميين منذ أوائل الربيع، وهذا أكثر مما إرتكبه نظام القذافي في ليبيا قبل تدخل الناتو. وأي شخص قرأ خطاب قبول جائزة نوبل للسلام للرئيس أوباما قد يكون إستنتج بأن هذا رجل لم يكن ليساوي العنف الهجومي بأعمال الدفاع عن النفس أبداً. لكن ذلك الشخص، بحسب ما هو ظاهر، سيكون مخطئاً.
كيف يبدو كل هذا بالنسبة للمحليين؟ إنه يبدو وكأن الولايات المتحدة، وبرغم إمتلاكها لجيش هو أكثر قدرة جراحياً عما كان عليه في أي وقت من الأوقات، مصممة على مغادرة المنطقة على عجل. فإدارة أوباما، بعد كل شيئ، كانت عاجزة حتى عن جعل بيبي نتانياهو ومحمود عباس يتوقفان عن القيام بأمور لا تخدم حتى مصالحهما الخاصة. ليس هناك ما هو أعجز من هذا. هذا هو السياق الذي تسقط فيه فكرة ' القيادة من الخلف'، وهو السياق الذي يجعل هذه الإستراتيجية غير ذات قيمة. (يتردد المرء بأن يسميها إستراتيجية، لكن...)
 كما يعرف أولئك الذي قرأوا مشاركاتي المكتوبة السابقة، لقد عارضت التدخل الأميركي وتدخل الناتو في ليبيا على خلفيات بأن الفوضى المتوقعة جداً التي ستنجم من البدء بهذه الحرب بالتحديد لن تبررها، على الأرجح جداً، أية نتيجة إيجابية متصورة. لكن ما أن رفضت إدارة أوباما نصيحتي، فإن وجهة نظري كانت إنهاء العمل بالسرعة الممكنة، لأن الحيوان الكاسر المجروح سيكون أكثر خطراً بكثير من الحيوان الميت وبسبب رؤيتي الى أن تردد الناتو سيعطي رسالة لأولئك الذين لديهم الوسائل والدوافع لإلحاق الضرر بالولايات المتحدة وحلفائها. أنا آسف للقول بأن هذه الرسالة الأخيرة قد رُفضت بدورها أيضاً. ما قال عنه الرئيس بأنه سيأخذ ' أياماً ، وليس أسابيع'، تحول الى أشهر عديدة من العمليات ذات الإنطباع الأقل شأناً لأن الولايات المتحدة رفضت إستثمار قوتها لضمان حملة سريعة وقاطعة.
مرة أخرى، تواجه إدارة أوباما وحلفائها في الناتو مرحلة قرار حاسمة. فهل ينبغي على الناتو إرسال الجنود الى ليبيا لمنع  وقوع خلاف سياسي عام قد يتطور الى حرب أهلية؟ أم عليه البقاء بعيداً مع معرفته، بالدرجة الأولى، بأن ليبيا ليست مهمة إستراتيجياً، وبأن من المرجح جداً، ثانياً، قيام العناصر الإسلامية في إئتلاف المتمردين، كما هو الآن، وبالحد الأدنى، بإطلاق النار على تلك القوات أو إستخدامها كدعائم لنشر سياساتهم السلفية في السياق الليبي الهائج والعنيف؟
كما هو الحال مع معظم القرارات الأصيلة في بداية حرب ما، هذا ليس خياراً سهلاً. نحن نواجه هذا الخيار تحديداً لأن قلة قليلة جداً من الحروب إنتهت بشكل نظيف، وهو سبب آخر كذلك لترددي بالتورط في هذه الحرب في المقام الأول. هذا يعني، إنه خيار ينبغي إتخاذه.
من وجهة نظري، إن أي تدخل خارجي في ليبيا ينبغي أن يرتدي وجهاً مدنياً قدر الإمكان، وبأن أي وجه عسكري ينبغي أن يكون خفيفاً الى أقصى حد، قصيراً الى أقصى حد وغير أميركي الصفة الى أقصى حد أيضاً. إن قراراً آخر لمجلس الأمن الدولي قد يساعد بأي شيئ يتم القيام به مهما كان، لأنه لأسباب فضولية لسنا بحاجة لتكرارها هنا،  لا تزال تلك المنظمة تنضح بالشرعية بالنسبة لكثيرين. أما أسوأ ما قد نقوم به فهو عسكرة آثار وعواقب الأزمة الليبية بمظهر أميركي بارز. سيكون من الغرابة بمكان الإنسحاب عسكرياً من أماكن هامة إسترتيجياً فقط لندخل مكاناً ليس كذلك. في كل الأحوال، وكما سبق وتعلمنا، لا يمكن إستثاء أي أمر مع وجود هذا الطاقم.
الآن، لو أراد الفرنسيون، البريطانيون، الدانماركيون، الكنديون، وحتى الإيطاليون ( آه، أليس هذا الخليط غنياً؟) من نفض الغبار الليبي عنهم لبضعة أشهر، لا يمكننا منعهم ولا ينبغي أن نلوث أنفسنا بمحاولة القيام بذلك. وإذا ما دخلوا في المتاعب، ينبغي علينا مساعدتهم لأن هذا ما يقوم به الحلفاء. لكن إذا لم نضع القوات الأميركية على الأرض، ونحن لن نفعل، فإننا سنصادر حقنا بالإنتقاد والإعابة، وهذا طبيعي، عندما يخربون الأمور ويجدون أنفسهم يتمنون لو أنهم قاموا بعملهم بشكل أفضل بإحتلال أفغانستان بدلاً من ذلك. هذا ثمن أنا مستعد لأن أدفعه.
قبل مناقشة موضوع العراق، سوريا وباقي المنطقة بإختصار، أعتقد بأن كلمة أو إثنتين حول الكلام الغربي الرسمي  الذي كان موجهاً الى المتمردين الليبيين في الأيام، الأسابيع، والأشهر الأخيرة هو أمر سليم. فبما أن الكلام لايزال طازجاً في الذاكرة، دعونا نبدأ  مع الإتهامات المحمومة الموجهة الى المتمردين والمتعلقة بالطريقة التي قابل فيها العقيد القذافي نهايته وبأنها قد تشكل جريمة حرب. ربما الذين قالوا تلك الأشياء كانوا يحاولون حماية نزاهة المحكمة الجنائية الدولية ومبدأ تمثيلها لسلطة قضائية تتجاوز الحدود الوطنية. وتجدر الإشارة الى أن المحكمة الجنائية الدولية إتهمت القذافي قبل بضعة أشهر، لتجعل بذلك أية فرصة للقيام بتسوية تفاوضية أكثر صعوبة مما كانت عليه قبلاً ( وكأنما الأمر كان  أصلاً مرجحاً ). لكن مهما كانت أسباب هذه التصريحات، فقد كانت ردة الفعل من كل ليبي تقريباً متوقعة تماماً. ' مهلاً، هذه حرب'، أجاب المتمردون.
إني أفترض بأن قادة ' المجلس الوطني الإنتقالي ' في ليبيا قالوا هذه الكلمات بالإنكليزية، أو ربما بالفرنسية، عندما سجلوا ردهم اللاذع المعتدل على الإنتقاد الغربي، لكني أتساءل ما هي الكلمة العربية التي كانت في أذهانهم عندما فكروا بما فكروا به. هناك أكثر من طريقة لقول كلمة ' حرب' بالعربية. إحدى المعاني تشتمل على قوانين أبو بكر للحرب، الذي يمنع الهجمات ضد المدنيين، عدم إحترام كبار السن والأطفال، قطع الأشجار المثمرة إضافة لأمور أخرى. هذه 'حرب'، والتي تعني حرفياً السيف أيضاً. لكن هناك مصطلح آخر يشير ضمناً الى فوضى مفهوم 'أنقذ نفسك' الشامل المتبادل في حرب بدأها الأشرار لإخافة المجتمع بحد ذاته. في حالة الدفاع في حرب كهذه، من المسموح لك، كما يؤمن معظم الناس، القيام بأي شيئ كان، والى حد كبير، لإلحاق الهزيمة بالفساق الأشرار. هذا النوع من الحرب هو ' الحرابة' هذا يتوازى تقريباً مع النكتة الإنكليزية التي تحول  'القاعدة الذهبية' لغايات رياضة الدم : 'إفعلوا بالآخرين قبل أن يفعلوا هم بكم'. إنه هذا المعنى الثاني الذي كان في أذهان معظم الليبيين ربما عندما زعموا، بصدق، بأنهم ليسوا فقط متفاجئين وإنما مذهولين صراحةً من الشكوى الغربية.
هذه العبارة الغربية المقلوبة حول جرائم الحرب التي قيلت في الأسبوع الماضي ليست حدثاً معزولاً. فقبل بضعة أشهر، وبعد تحول مد وجزر المعركة ضد النظام، بدأ مختلف المراقبين الأوروبيين والأميركيين، والمسؤولين الحكوميين والى ما ذلك بتحذير قوات المتمردين بخصوص المعاملة الصحيحة والمناسبة للسجناء. كان هناك قلة من السجناء عما كان يفترض به أن يكون لأنه كان هناك عدد أكبر من عمليات الإعدام العاجلة عما يفترض به أن يكون. ( ذكر الصليب الأحمر في تقريره أمس عثوره على 267 جثة من الداعمين والموالين للقذافي وقد أعدموا في مدينة سرت، وأن هذه الجثث هي من دون شك الأولى من بين أخرى كثيرة سيتم العثور عليها لاحقاً.) نحن لا نعلم، وقد لا نعلم ربما، كم هو عدد الإعدامات العاجلة التي قام بها المتمردون. وربما قد لا نعلم أبداً كم من عمليات القتل إرتكبت - لمدنيين بالإضافة لجنود – إنتقاماً لمجزرة سجن أبو سليم التي قام بها نظام القذافي عام 1996. مهما كان من أمر الأعداد، فقد علق المسؤولون الغربيون في الصحافة معبرين عن ذعرهم مما سموه ' عمليات قتل خارج نطاق القضاء.'
عندما رأيت هذه العبارة على الصفحة الأولى من صحيفة النيويورك تايمز، كنت سأقع من على الكرسي. سألت نفسي ماذا كان يفكر المراسل تماماً عندما كتب ما كتبه. إن إتهام المتمردين بعمليات قتل خارج نطاق القضاء يفترض مسبقاً وجود عمليات قتل بموجب القضاء، ما يعني وجود عقوبة الإعدام. لكن إفتراض وجود عمليات قتل بموجب القضاء يفترض مسبقاً وجود نظام قضائي نزيه ومتماسك شغال، على الأقل بمعاييره الثقافية الخاصة. لكن ليبيا لم يكن لديها نظام قضائي كهذا لجرائم بهذه الخطورة منذ أيلول 1969. إذن عن ماذا كان يتحدث هذا المراسل هو مصادره؟ فإذا كان هناك من مصطلح لم تتم ترجمته أبداً من الناحية الثقافية فإنه مصطلح ' القتل خارج نطاق القضاء.'
سرعان ما لمعت برأسي فكرة وهي أن المسؤولين في واشنطن وفي عواصم أوروبية مختلفة كانوا معتادين، جزئياً، على قول أشياء من هذا النوع لأن التبرير لتدخل الناتو كان مبنياً على المعايير الإنسانية. ينبغي للمرء أن يعجب بتجانسهم وإنسجامهم . فإذا كان الناتو يستند الى مفهوم ' مسؤولية الحماية'، فمن البديهي القول بأن المبدأ الأخلاقي الأساسي المشتمل ينبغي تطبيقه على الجانبين، أو بالأحرى كل الأفرقاء، في حرب أهلية. لكن الحقيقة المجردة هي أن هذا النوع من الكلام يحط بشكل غريب جداً في سياق ليبي ليفسر بوضوح أكثر فقط الفصل بين ما يدور في رؤوس أناس كهؤلاء وبين ما يجري في العالم خارج فقاعتهم الليبرالية الصغيرة.
عنما أسمع الحديث الليبرالي الغربي الأخرق حول جرائم الحرب والقتل خارج نطاق القضاء في مكان كليبيا، لا أستطيع منع نفسي من التفكير بنوع الناس الذين قادوا العالم الى ' ميثاق Locarno' و'معاهدة Kellog ـ Briand'.  أناس كهؤلاء، كانوا متأكدين تماماً من أنهم يمثلون ححافة التقدم القيادي في العالم، حصلوا، بدلا من ذلك، على الحرب العالمية الثانية والهولوكست لمشاكلهم. ربما في زمنهم الأفضل حالاً يمثل الطاقم الحالي لمدرسة الفكر هذه الحافة القيادية للتقدم في العالم، لكنهم في كل أيامهم الأخرى كانوا قد أظهروا أنفسهم بأنهم شعب أخلاقي ورع ينتمي الى أسمى الأعراق على هذا الكوكب وبأنه شعب متنازل من غير قصد.
دعوني أكن فظاً: للشعوب العربية واللا غربية طرقها الخاصة بالقيام بالأمور، وهذه الطرق كانت تعمل بشكل لا بأس به ومقبول جداً قبل أن يفكر معظم الأوروبيين بمحاكمات أفضل بسبب المحن والمصائب. لكن الليبراليين الغربيين المنتمين لأكثر من قومية لا يمكنهم أن يفهموا أو يتسامحوا فحسب مع واقع أن الشعوب الأخرى لا تفكر بهذه المواضيع أو هي في معرض إبداء نفس موروثات القيم كما يفعلون هم؛ ربما الأمر هو أن خبرتهم الشخصية وتاريخهم الجماعي قد يكونا مختلفين فحسب. فعندما ينتقد مسلمون متدينون الغرب بسبب ماديته، العلاقات الجنسية غير الشرعية، وعدم الإحترام الظاهر للمعلمين، كبار السن، والنساء، يهمل معظم الغربيين هذه الإنتقادات بإزدراء وقح بسبب طبيعتها البدائية التي عفا عليها الزمن بحسب إفتراضاتهم. مع ذلك، وعندما يجد نفس هؤلاء الناس بأن إنتقادهم للعرب ولمسلمين آخرين أمر مرفوض، حتى ولو بطريقة أكثر تهذيباً، فإنه لا يمكنهم فهم السبب. هذا مضحك إن لم يكن فاجعة، لكن الواقع بأن هناك العديد في الغرب اليوم ممن لا يفهمون أو لا يحترمون منزلة الثقافات الأخري هو أمر محزن حقاً لأنه يوصلنا الى مشاكل لا تنتهي.
أخيراً، وكما وعدنا، دعونا ننظر الى المنطقة بشكل أشمل وأوسع. وسأكون مختصِراً للموضوع لسبب ليس أقله أن عدداً من المراقبين الآخرين قد سلكوا هذا الطريق قبلي، ملقين الكثير من الضوء على الموضوع الذي لا يزال يحتاج الى إضاءة أكثر قليلاً.
فكما يمثل الوضع في ليبيا نهاية البداية تماماً، يمكن قول الشيئ نفسه عن العراق. ليس هناك ما نحتفل به. لست مطلعاً على الخطأ الذي حدث في مفاوضات SOFA ( مفاوضات SOFA هي محادثا البنتاغون حول ' إتفاقية وضع القوات.')  يزعم بعض المراقبين بأن الحكومة العراقية منقسمة للغاية وغير مؤهلة عموماً لإتخاذ أي قرار على الإطلاق، بما يتعلق بدعوتها الولايات المتحدة للبقاء أو إبلاغها بالرحيل. لقد سحبنا قابس المفاوضات. وفقط الذين يعلمون التاريخ المفصل لهذه المفاوضات هم في موقع الحكم الموثوق حول ما حدث، وآمل بالتأكيد أن يفعلوا علناً، عندما يكون الوقت مناسباً. لكن الآن، فإن ما يعنيه الخروج التام والوشيك تقريباً للقوات العسكرية الأميركية من العراق وصفه بسيط جداً: إيران ربحت الحرب.
ليس هذا زمان ولا مكان إثارة نعرات قديمة. يكفي القول بأن رواية النصر بحرب العراق قبل أن تُشن فعلاً، كانت تسيطر عليها فكرة بأن قيام الولايات المتحدة بالمناورة بنفسها بالقرب جداً من إيران، ومدعومة بحكومة جديدة وصديقة جداً في بغداد، سيحسن، وبشكل مؤثر، من الموقف الأميركي في مقابل إيران. يمكنني القول، في أفضل الأحوال، بأن لا أحد فكر بأن يسأل قبل آذار 2003 ما الذي قد يحدث لو أن الحرب لم تتحول الى إنتصار ممتاز من هذا النوع -  لو أننا إنتهينا، على سبيل المثال، بحكومة يهمين عليها الشيعة في بغداد خاضعة لنفوذ إيراني هام، إن لم يكن خاضعة لفيتو على أحكام السياسة الخارجية والأمنية الأساسية للعراق. الآن نحن نعلم، أو في طريقنا لأن نعلم.
عندما تسحب الولايات المتحدة في النهاية فعلاً كل قواتها العسكرية من العراق، ولن يطول الأمر كثيراً قبل أن تفعل الشيئ نفسه في أفغانستان، فإن هذا سيحرر الهواجس الإيرانية من هاجسين على حدودها. فهل أن هذا التخفيض بالقوة الأميركية على حدود إيران سيجعل القيادة الإيرانية تصبح متهورة، عنيفة ومتغطرسة؟ بقليل من الحظ سوف تصبح كذلك، لأن ذلك سيقود الى التوسع الإيراني البالغ والذي من شأنه أن يكون ساماً في العالم العربي الكبير وما بعده. لكننا لا نعرف إن كان هذا سيحدث. يعتمد قسم كبير من ذلك على ما يحدث في سوريا. فإذا ما تشبث النظام العلوي بالحكم فإن السنة سيشعرون بالخوف من التطويق الشيعي تماماً كما كان الشيعة يشكون غالباً من التطويق السني لهم. أما إذا صعد السنة الى الحكم في سوريا، فإن هذا الأمر سيغير الأمور من حولنا. فهذا سيجعل النظام السعودي يتنفس بسهولة أكبر بالتأكيد، لأن هذا النظام يعتقد، إن لم يكن الأمر كذلك فعلاً، بأنه الهدف رقم واحد للإندفاع الإقليمي الشيعي بإتجاه هيمنة جماعية.
في نزاع مذهبي من هذا النوع، هناك بلدان أخرى تعتبر عاملاً في الموضوع: مصر قلقة سياسياً وضعيفة إقتصادياً ( وهي تصبح أكثر ضعفاً)، كذلك تركيا بظل حكومتها الإسلامية الحالية قد تجد أبوابها مشرعة لبلدان عربية سنية لا تعير إلتفاتاً كبيراً لأهميتها الإستراتيجية. هذا سيسعد الأتراك الذين يمكن وصف سياستهم الخارجية بأنها شيئ وسطي ما بين الحنين والوهم.
الأمر يتحمل الإشارة الى أن الميوعة الجيوسياسية الشرق أوسطية الآن لا علاقة لها تقريباً بإسرائيل والفلسطينيين. في كل الأحوال، يحمل الموضوع إشارة أكبر وأهم، وهو أن الميوعة الحالية لها علاقة كبيرة بالتصورات المتعلقة بالإنسحاب الأميركي من المنطقة.
من السهل جداً فعلاً وصف الإستراتيجية  الكبيرة الأميركية، بالرغم من أن قلة يكلفون أنفسهم عناء القيام بذلك. الأمر هو كالتالي: منذ الحرب العالمية الثانية، ونحن منتشرون في المقدمة، بين قوسيْ أوراسيا بشكل رئيس، لمنع أيه هيمنة محتملة من جمع الموارد في كل من شبه جزيرة أوروبا وشرق آسيا وإستخدامها ضدنا. نحن نقوم بذلك عن طريق قمع التنافس الأمني في تلك المناطق بمختلف الطرق. فمنذ الإنسحاب البريطاني من شرق السويس في العام 1971، والولايات المتحدة توسع، واقعاً، بظل إداراتها المتعاقبة هذه المقاربة الأساسية للشرق الأوسط. لم تكن الولايات المتحدة ناجحة في قمع كل المنافسات الأمنية في الشرق الأوسط، لكنها كانت ناجحة في قمع معظمها وإبقاء تلك التي لم نتمكن من قمعها بمستوى لا يعرض النظام والسلام الدوليين للخطر. كان هناك بعض النداءات القريبة بالتأكيد، ليس أقلها في تشرين أول 1973، لكن السياسة، ككل، نجحت بشكل يثير الإعجاب على إمتداد فترة الحرب الباردة وما بعدها. ويبدو الآن بأن هذه السياسة تضعف إن لم يكن تفشل، ويبدو بأن التنافس الأمني المتعدد الأجزاء الجديد يتطور في المنطقة. ويمكن تخيل الأمرعلى أنه شيئ بارز عجيب حقاً، بوجود الكثير من الأجزاء المتحركة والعواقب التي لا يمكن لأحد التنبؤ بها في هذه المرحلة.
هل فات الوقت جداً بالنسبة للولايات المتحدة لوضع الغطاء مرة أخرى على القدر في الشرق الأوسط؟ لدينا بالتأكيد الموارد العسكرية للقيام بذلك – رغم مواجهة الجيش لتقشف مالي غير مسبوق في السنوات المقبلة. لكننا نفتقر الى عدد من الموارد غير الحركية التي نحتاجها ونفتقر، قبل كل شيئ، الى قيادة مصممة حكيمة كفاية تفهم المشهد الإستراتيجي في المنطقة، وما يعنيه ذلك للولايات المتحدة وحلفائها عبر العالم في السنوات المقبلة.
هذا هو السبب، في نهاية المطاف، لم أن كل المال والحماس والإهتمام الذي بددناه على ليبيا في الأشهر السبعة الماضية، برغم محدوديته، يدعم هذه النقطة تماماً. فالتوجس بشأن ليبيا مع وجود المنطقة ككل في حالتها الحالية المضطربة تشبه رجلاً غرق حتى وسطه في الوحل ومياه المجاري لكنه قلق بشأن نظافة أظافره.
معمر القذافي مات، والجماهير جامحة. تشعر وكأنها لعبة كرة قدم ليل الإثنين- والأحلى أننا قلقون بشكل مبرر بشأن كل ما يجري في البلد تقريباً. من الذي يستطيع لوم شعب على بهجة صغيرة في الوقت الذي حصلوا فيه على غنيمة جيدة؟  لكن بعض الحكماء قالوا منذ زمن، '  لا تشمت بسقوط أعدائك.' كان لدى هؤلاء أسباباً عديدة حتى أعطوا هذه النصيحة. البعض على وشك التعلم منها، إنما بالطريقة الصعبة.

موقع الخدمات البحثية