إبراهيم أبو جازية
لم يتفق أحد إلى عصرنا هذا على ماهية الفن والسياسة وعلاقتهما ببعضهما البعض؛ فالخلاف الظاهر بينهما يرجع إلى أوائل القرن العشرين. وبرغم أن أشكال الفن حينها كانت محدودة نوعًا ما، مقارنةً بالعصر الحالي؛ لاقتصارها على الرسم والنحت في الأساس، وقليل من الأغاني والمسرح، غير أنه في العصر الحالي تتعدد أشكال الفن بصورة كبيرة، متداخلة مع ما يتطور إليه العصر إجمالًا، فتُطرح تساؤلات حول طبيعة علاقة بين الفن وغيره من مجالات الحياة، كالسياسة؛ فهل ينبغي أن يُسيَّس الفن؟ أو أن تُسيَّس السينما؟ أم يجب الفصل بينهما؟ وهل بالضرورة تُعبِّر الأعمال الفنية عن الأيديولوجيات السياسية للقائمين عليها؟
تسييس الفن وتجميل السياسة
يعتبر من أوائل المفكرين الذي ناقشوا أفكارًا تخص تسييس الفن، كان الألماني والتر بنيامين في القرن الـ20، ورغم حياته القصيرة التي لا تتعدَّى 48 عامًا فقط، إلا أن أفكاره في الأدب والفن والثقافة، نالت اهتمامًا واسعًا تجاوز حدود ألمانيا إلى العالم بأسره.
وفيما يخص الفن وتسييسه وربطه بصعود الرأسمالية، أصدر والتر بنيامين عدد من المُؤَلَّفات مثل «المؤلف كمنتج»، و«العمل الفني في عصر الاستنساخ التقني»، والتي يجادل فيها بنيامين بوجود صلة وثيقة بارتباط صعود الرأسمالية بإعادة إنتاج الأعمال الفنية، بخاصة في أوج عصر الفاشية، حين تحالف هتلر مع موسيليني في الربع الثاني من القرن الـ20.
ويرى أعضاء مدرسة فرانكفورت النقدية، والتي اندرج منها والتر بنيامين، أن الفن يُعبِّر عن أيديولوجيا سياسية، كما أن المصالحة بين النظام والجماهير هي أحد أهم الوظائف السياسية للفن. غير أن بنيامين، الماركسي الفكر، فرَّق بين عمليتين رئيسيتين هما: تسييس الفن، وتجميل السياسة، منتقدًا استغلال بعض الأنظمة الفاشية للترويج للفن؛ لكي يصل للجماهير أن السياسة المُجمَّلة هي شكل من أشكال الفن.
وأشار بنيامين حينها إلى استغلال هتلر للفن للترويج للحرب بتعبئته الجماهير من ورائه عبر الدعايا للحرب بالفنون، فصوّر ما عُرف باسم «شباب هتلر»، وأعاد إنتاجها بصورة آلية مستمرة، وبثها بشكل مستمر، ونسخ الملصقات والدعاية والأعلام النازية، ووصولًا منه إلى تسييس الموسيقى، وإنتاج المزيد من الأغاني القومية، والتأثير في ثقافة المجتمع ما أدى في النهاية إلى حشد الملايين وراء هتلر للحرب العالمية الثانية، وهو ما سماه والتر بنيامين حينها «تجميل النازية للأيديولوجيا السياسية»، أي أن الفنّ لم يُسيّس بقدر ما أنّ السياسة جُمّلت بالفن.
تسييس الأوسكار
من يستطيع تحديد ما هو سياسي وما هو غير سياسي؟ هل العادات الاجتماعية وتعامل البشر مع بعضهم البعض يعتبر سياسيًّا؟ نعم هو سياسي. فسوء معاملة الأقليات المختلفة، سواءً عرقية أو دينية أو جندرية، هو من الأمور السياسية، نظرًا لتأسيس مفهوم الدولة القومي الحديثة الناتج عن صلح وستفاليا عام 1648.
ويفترض المفهوم تبني الدولة الحديث كون جميع المواطنين سواء، لا يُفرّق بينهم في اللون، أو الجنس، أو العرق، أو الأصل، أو غيره، وذلك لتوحيد هُويات المجتمع ككل في بوتقة واحدة تمثل هُوية الدولة نفسها، والتي يندرج فيها الجميع أمام القانون، وعلى قدم المساواة، وعليه فإنّ الدولة مسؤولة عن توفير الحماية للأقليات، وتوفير الدعم لهم، ومحاسبة مروجي خطابات الكراهية، والعنصريين أمام القانون.
الهنود الحمر
«اعتقدت أنها فرصة جيدة كي يتمكن الهنود الأمريكيين من توصيل أصواتهم، وأن تُسمع هذه الأصوات، وأن تبث آراؤهم إلى 85 مليون مشاهد حول العالم. كان لديهم الحق في أن يوضِّحوا ما فعلته فيهم هوليوود. أعتقد أن ساشين قامت بعمل رائع، لم يريدوها هناك، لم يريدوا أن يستمعوا إلى هذه الملاحظة الخاصة»، كان هذا هو رد الممثل الأمريكي الشهير مارلون براندو، وتعليقه في أحد اللقاءات التليفزيونية على رفضه استلام جائزة الأوسكار عام 1973، كأفضل ممثل رئيسي عن دوره في الجزء الأول من فيلم «العراب – The Gogfather»، أحد أفضل سلاسل الأفلام في التاريخ، وفقًا لنقاد.
وكان براندو قد أعلن مقطاعته للحفل قبيله بساعات، وأرسل بدلًا عنه الممثلة الأمريكية الشابة ذات الأصل الهندي ساشين ليتل فيدز، والتي كانت رئيسة لجنة الدفاع عن الأمريكيين الأصليين، وصعدت على المسرح بدلًا عن براندو، إذ كان يُفترض بها قراءة خطاب من 15 صفحة كتبه براندو، إلا أن مُنتج الحفل هددها بالطرد إن فعلت ذلك، فاكتفت بالإشارة إلى عدم قبول الممثل الأمريكي جائزة الأوسكار بسبب الصورة التي تُصدّر عن الهنود الحمر من قبل صناع الأفلام. وتزامن ما حدث مع محاصرة قوات أمريكية لمجموعة ناشطين من الهنود الحمر في قرية صغيرة جنوب ولاية داكوتا الشمالية الأمريكية.
وجدير بالذكر أنها لم تكن الأوسكار الأولى التي يفوز بها براندو، فقد سبق له وأنا فاز بواحدة عام 1955، عن دوره في فيلم دوره في فيلم «على الواجهة البحرية – On the Waterfront»، من إنتاج 1954.
يقول براندو: «لا أعتقد أن الناس تدرك ما فعلته صناعة السينما الأمريكية في الهنود الأمريكيين، والأشخاص غير البيض، وجميع الأقليات. لا تعاملوهم بهذه الطريقة، لا تظهروهم كالأغبياء فإن ذلك يؤذيهم نفسيًّا، ويؤذي أطفالهم أكثر من أي شيء، فإنهم بذلك يكبرون ولديهم صورة سلبية عن أنفسهم، معتقدين بذلك أنهم حثالة، وأنهم أقل من الأمريكيين، وسيظل هذا الشعور يراودهم طوال حياتهم».
الحقوق والحريات والشرق الأوسط
ولم يكن براندو هو الأول أو الأخير الذي يعطي طابعًا سياسيًّا لحفل الأوسكار الفني، فقد تلته الممثلة البريطانية فانيسا ريدجريف بعد استلامها الأوسكار عام 1978 بإدانتها الشديدة للصهيونية في خطاب فوزها: «إن سلوك السفاحين المجرمين الصهاينة يعد إهانة لليهود حول العالم، ولكفاحهم ضد الفاشية». استقبل الحضور خطاب الممثلة الأمريكية بصدمة كبيرة، وعقبه مُباشرة تجمّع يهود أمام المسرح، وأحرقوا صور ريدجريف.
ومن أشهر الخطب السياسية في محفل فني، خطبة المخرج الأمريكي مايكل مور في حفل الأوسكار بعد استلامه جائزة أفضل فيلم وثائقي عن فيلمه «Bowling for Columbine»، والتي انتقد فيها الغزو الأمريكي للعراق، قائلًا: «نعيش في زمن يرسلنا رجل إلى الحرب لأسباب خيالية»، مُختتمًا الحرب صائحًا: «نحن ضد هذه الحرب، العار عليك يا سيد بوش، نحن لا نريد تلك الحرب».
لم ينته الأمر عند ذلك، فثمة العديد من الخطب ذات المضمون السياسي خلال حفلات للأوسكار، سواءً التي نادت بحقوق أقليات، أو أدانت حروبًا وممارسات عُنف، من بينها مع ما سبق ذكره، خطبة الممثل والمخرج والسيناريست الأمريكي داستن لانس، التي تحدث فيها عن حقوق المثليين، بعد فوزه بجائزة أفضل سيناريو مقتبس عام 2009. في عام 2015، أيضًا شكرت الكاتبة لورا بويتراسس، إدوارد سنودن على شجاعته لكشف الوثائق التي تدين الولايات المتحدة، وتكشف تجسسها على عدد من البلدان والدول.
السود
أولى جوائز الأوسكار التي منحت لممثل من أُصول إفريقية، كانت في عام 2002، أي منذ 15 عامًا فقط، أي بعد 74 عامًا كاملة على تدشين الجائزة، وحصلت عليها هال بيري كأفضل ممثلة رئيسية عن دورها في فيلم «Monsterus Ball». وقالت بيري في خطابها: «هذه لحظة أكبر مني بكثير، إن هذه الجائزة هي لكل امرأة مجهولة الهوية، مُحررة من الألوان التي تمارس عليها عنصرية بها، فإن الباب قد فُتح اليوم».
وواجهت أكاديمية السينما خلال العامين السابقين، لحفلة الأوسكار، عددًا كبيرًا من الانتقادات، لغياب ترشيحات أصحاب البشرة السمراء، أو ذوي الأصول الإفريقية، وليس حتى الفوز الذي هو نادرٌ ما يحدث. ونتيجة لهذا الأمر أعلن عددٌ من النجوم مقاطعتهم للأوسكار بسبب سياسة الاختيار والترشيح للفوز بالجائزة، والقائمة أساسًا على أهواء وميول أعضاء لجنة التصويت في الجائزة. من هؤلاء النجم العالمي جورج كلوني، والنجمة جادا بينكت زوجة النجم ويل سميث، والممثل البريطاني ديفيد أويلو، وذلك خلال حفل العام الماضي؛ ليعلنوا تأسيس حملة «الأوسكار بيضاء للغاية»، منتقدين اختيارات أعضاء الأكاديمية، وليغردوا على وسم (هاشتاج) الحملة «#oscarissowhite».
من جانبها، أعلنت إدارة الجائزة قبولها عضوية 600 فرد ليكونوا ضمن فريق المصوتين على ترشيحات الجائزة، ويصبح بذلك مجمل المصوتين لهذا العام 6687 فردًا، بعد اتهامها بالعنصرية العام الماضي لخروج أصحاب البشرة السمراء من ترشيحات الأوسكار، فضلًا عن إعلانها وضع نظام الكوتة للمرشحين من أصحاب البشرة السمراء.
أوسكار 2017 وتصحيح المسار
ويبدو أن إدارة الأوسكار قد أخذت في الحسبان ما حدث خلال العامين الماضيين، لتعلن في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي ترشيح أعداد من ذوي البشرة السمراء ضمن الفئات المختلفة في توزيع حفل جوائز الأوسكار، إذ كان هناك 12 ترشيحًا لسود بين ممثلين، ومخرجين، من أفلام مختلفة أبرزها «Moonlight» و«Fences» و«Hidden Figures».
وحصل أربعة من بين الـ12 الذين رُشّحوا على جوائز بالفعل، وهي جوائز أفضل فيلم لـ«Moonlight»، وجائزة أفضل سيناريو مقتبس لنفس الفيلم، وجائزة أفضل ممثل في دو ثانوي، والتي حصل عليها ماهرشالله علي، الذي يعتبر أول مسلم يحصل على جازة للأوسكار في التمثيل في تاريخ الأوسكار.
الشكل المختلف للسياسة في هذا العام هو وجود دونالد ترامب في حكم الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الذي سبق له وأن انتقد الممثلة المرموقة ميريل ستريب بوصفها أنها «مبالغٌ فيها»، وذلك لأنها سخرت منه في حفلة توزيع جوائز جولدن جلوب.
الطابع السياسي دائمًا موجود، ولكن المختلف أيضًا هذا العام هو قرار الحظر الجديد الذي أصدره ترامب ليمنع دخول مواطني سبع ذات أغلبية إسلامية، وهو الأمر الذي منع وجود عدد كبير من المرشحين للجوائز من الحضور، مثل المخرج الإيراني أصغر فراهيدي، والذي رُشح فيلمه «The Salesman» لجائزة أفضل فيلم بلغة أجنبية غير إنجليزية، وحصل عليها بالفعل.
ولذلك فحصول ماهرشالله على جائزة أفضل ممثل مساعد، ولكونه مسلمًا وأسود، بالإضافة إلى حصول الفيلم الإيراني «The Salesman» على جائزة أفضل فيلم أجنبي، يُعد بمثابة ضربة استفزاز لترامب من داخل الحفل.