قراءات إعلامية » الدبلوماسية المجتمعية الأمريكية تجاه الصين والسعودية

earth_300

إعداد: مارك لاجون ـ سارة جريبوسكي(*)

في خطابه أمام الأكاديمية العسكرية بوست بوينت، في مايو 2014، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أنه لا يمكن استمرار القيادة الأمريكية للعالم اعتمادًا على الأداة العسكرية، وأشار إلى ضرورة قيام الولايات المتحدة بتحالفات مع الأفراد العاديين لا مع الحكومات فقط. وفي عام 2013، أطلقت إدارة أوباما مبادرة 'الوقوف بجانب المجتمع المدني'، لكنها لم تطبق رؤية متكاملة حول ما تعنيه 'الدبلوماسية المجتمعية' (Societal Diplomacy) أي الدبلوماسية المنخرطة مع المجتمع المدني.

في هذا الإطار، تأتي مقالة كلٍّ من مارك لاجون رئيس منظمة فريدوم هاوس، وسارة جريبوسكي في مجلة National Interest في عدد مارس/أبريل 2015 بعنوان 'القوة للشعوب.. أخذ الدبلوماسية إلى الشارع'، لتطرح رؤية متكاملة حول الدبلوماسية المجتمعية كأداة للسياسة الخارجية الأمريكية، من حيث دلالتها، وآليات تنفيذها، وأهميتها في تحقيق العديد من أهداف ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية، ثم تقدم آليات لكيفية تطبيق الدبلوماسية المجتمعية تجاه الصين والمملكة العربية السعودية، بحسبانهما حالتين يتضح فيهما العوائق التي قد تواجه هذه السياسة.

الدبلوماسية المجتمعية وخدم المصالح الأمريكية

وفق المقالة، تشير الدبلوماسية المجتمعية أداةً للسياسة الخارجية الأمريكية، إلى قيام حكومة الولايات المتحدة بالانخراط وبناء العلاقات مع المجتمع المدني في الدول الأخرى، الذي يضم في طياته النشطاء السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، ورجال الأعمال، والأكاديميين، والإعلام المستقل، والعامة بشكل أوسع، بل لا بد من أن تستهدف الولايات المتحدة حماية مؤسسات المجتمع المدني وجعل الحكومات أكثر ليبراليةً.

في سبيل القيام بذلك، طرحت المقالة آليات للانخراط مع المجتمعات؛ منها إعطاء الدبلوماسية الأمريكية الأولوية لمنظمات المجتمع المدني غير العنيفة، بدل الأنظمة غير الليبرالية، من خلال عقد اجتماعات مع أطياف المجتمع المدني، وإظهار النية في التضامن معهم والوقوف بجانبهم. وضرب الكاتبان مثالاً لذلك بقيام وزيرة الخارجية الأمريكية في أبريل عام 2005 كونداليزا رايس، بالاجتماع مع أحزاب المعارضة وقيادات المجتمع المدني من بلاروسيا في العاصمة الليتوانية فيلنيوس؛ ما أظهر تضامن الولايات المتحدة معهم في مواجهة الرئيس البيلاروسي ألكساندر لوكاشينكو.

تتضمن الآليات أيضًا إرسال البعثات الدبلوماسية لواشنطن تقارير حول المجتمع المدني موضحة أهمية وضع المجتمع المدني في حسبان صانع القرار. بل يرى الكاتبان ضرورة إعادة صياغة معايير التقدم في العمل الدبلوماسي لتتضمن التفاعل الناجح مع المجتمع المدني.

برر الكاتبان ضرورة جعل الدبلوماسية المجتمعية حجر الزاوية في السياسة الخارجية الأمريكية بأنها تحقق عدة أهداف؛ منها:

أولاً- مساعدة المجتمع المدني حول العالم، خاصةً في ظل النظم غير الليبرالية التي تسعى إلى تقييده، فيساعد الانفتاح وحرية التعبير في الدفع تجاه الإصلاح والتنمية الاقتصادية والرخاء. ويساعد أيضًا تمكين المواطنين على فرض قيود على الحروب؛ ما يؤدي إلى مزيد من السلام والتعاون بين الدول.

ثانيًا- خدمة المصالح الأمريكية بالتنبؤ - وربما التأثير - بتغيير القيادات في البلدان الأخرى؛ حيث تُسهم الدبلوماسية المجتمعية في تنويع الولايات المتحدة الأطرافَ المتحاورةَ معها؛ ما يجعلها تمتلك مرونة في رد الفعل تجاه التغيرات السياسية غير المتوقعة في الدول التي لا تصمد فيها ترتيبات السلطة القائمة.

ثالثًا- تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم، بل وزيادة شرعية قيادتها له؛ فعلى مدار العقود الماضية، انخفض القبول الشعبي للقيادة الأمريكية؛ فطالما عرَّفت الولايات المتحدة نفسها كقائد للعالم الحر، لكنها فقدت جزءًا من سلطاتها الأخلاقية بالقيام منفردةً بغزو العراق وانتهاك حقوق الإنسان في معتقل جوانتانامو. تعود الولايات المتحدة لتتوافق مع مبادئها باحترام حقوق الإنسان ومساندة التطلعات الديمقراطية من خلال مساعدة المجتمع المدني؛ ما يعيد صورة الولايات المتحدة كقوة للخير، ويطرح جانبًا الأفكار السلبية الخاصة بنشر الولايات المتحدة الديمقراطية بالقوة ودعم الديمقراطية بطريقة انتقائية لخدمة مصالحها.

الدبلوماسية المجتمعية الأمريكية تجاه الصين والسعودية

في العديد من الحالات، نجحت الولايات المتحدة بالفعل في الانخراط مع المجتمع المدني وتقويته، لكن لكي تصبح الدبلوماسية المجتمعية أحد أعمدة السياسة الخارجية الأمريكية، لا بد من تطبيقها حتى عندما لا تتوافر الظروف السياسية المواتية؛ لذا وقع اختيار الكاتبين على كل من الصين والمملكة العربية السعودية لتوضيح كيفية تطبيق الدبلوماسية المجتمعية في الحالات التي يوجد صعوبات لتنفيذها؛ ففي الحالتين هناك إشكالية تعارض الدبلوماسية المجتمعية مع الدبلوماسية التقليدية بين الحكومات؛ حيث يُنظر إلى انخراط الولايات المتحدة مع المجتمع المدني بحسبانه سلوكًا عدائيًّا؛ ما يضر بعلاقات الولايات المتحدة الثنائية معهما.

بالنسبة إلى الصين، في ظل صعودها كقوة اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية، يرى الكاتبان أن إفساح المجال للمجتمع المدني وتحقيق الليبرالية السياسية، قد يجعلها شريكًا مسئولاً، ويقيد سلوكها العدائي تجاه عدة قضايا، كالنزاع الإقليمي ببحر الصين الجنوبي.

وقبل طرح آليات لتنفيذ الدبلوماسية المجتمعية تجاه الصين، توصِّف المقالة السياسة الأمريكية الحالية تجاه المجتمع المدني في الصين، خاصةً فيما يتعلق بالمعونات؛ فعلى مدار السنوات، وفي ظل صعود الصين لتصبح عملاقًا اقتصاديًّا، انخفض تمويل برامج المساعدات الأمريكية للصين، ويُستخدَم المتبقي من المساعدات لتمويل برامج حكم القانون بالتوافق مع السلطات الصينية، بالإضافة إلى توجيه جزء محدود من المساعدات للمجتمع المدني من خلال مكتب وزارة الخارجية للديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، لكن بدون الإعلان عن المنتفعين، ومن خلال الصندوق الوطني للديمقراطية.

في هذا السياق، تطرح المقالة آليات متعددة لتنفيذ الدبلوماسية المجتمعية تجاه الصين؛ منها:

أولاً- دعم الحوار مع تنظيمات المجتمع المدني المستقلة، ومع الداعين للإصلاح السياسي. لكن يثير ذلك عدة قضايا؛ فمن ناحية، تمثل منظمات المجتمع المدني المستقلة النخبة أكثر من العامة، لكن على الرغم من ذلك تعد النخب السياسية والمعرفية والاقتصادية، داعمين محتملين للديمقراطية وفق تقرير مؤسسة بروكينجز لعام 2014 بعنوان 'التنمية السياسية في الصين'.

من ناحية أخرى، تبرز الحاجة لتحديد المناطق التي تحتل الأولوية عند تطبيق الدبلوماسية المجتمعية؛ فهناك أربع مناطق بداخل الصين تشهد تيارات صاعدة من التعبئة الاجتماعية لا بد أن تعطى لها الأولوية؛ هي: (1) المدن الساحلية الكبرى؛ حيث تنمو كمراكز للقوة السياسية والاقتصادية. (2) المدن الأخرى والمناطق الريفية غير المستفيدة بشكل ملحوظ من تقدم الصين الاقتصادي. (3) شينجيانج والتبت، يمثلان إقليمين مستقلين بداخل الصين، لديهما أغلبية عرقية تسيطر عليها الهان، وهي الأغلبية العرقية في الصين، (4) هونج كونج؛ حيث تمثل نموذجًا للرخاء الاقتصادي، ولديها مجتمع مدني نشط، تجسد في تظاهرات حاشدة مع بداية يوليو 2014.

ثانيًا- تلعب وسائل الإعلام المستقلة دورًا مهمًّا في تمكين المجتمع المدني؛ لذا لا بد أن توفر الدبلوماسية المجتمعية الأمريكية بدائل لغياب وسائل الإعلام المستقلة في الصين، كتقوية إذاعة آسيا الحرة. وفي إطار الآليات، يمكن تجنب الحديث عن 'الديمقراطية' و'الحرية' و'حقوق الإنسان' والتركيز على إثارة التساؤلات حول التناقضات الداخلية بداخل حكم الحزب الشيوعي الصيني.

وعن حالة المملكة العربية السعودية، يعترف الكاتبان في البداية بصعوبة تطبيق الدبلوماسية المجتمعية تجاه المملكة العربية السعودية؛ فمن ناحية، تمثل العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والنظام السعودي أحد دعائم السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط؛ فالسعودية شريك للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، وموازنة النفوذ الإيراني في المنطقة، وتعد أكبر منتج للنفط عالميًّا. ومن ثم توجد إشكالية في تطبيق الدبلوماسية المجتمعية التي قد تؤثر في علاقة الولايات المتحدة بالعائلة المالكة، خاصةً في ظل تصاعد الخلاف بين الدولتين حول عدة قضايا؛ منها التدخل في الصراع السوري، والمفاوضات مع إيران.

من ناحية أخرى، يعاني المجتمع المدني في السعودية من ضعف؛ فعلى الرغم من وجود المئات من منظمات المجتمع المدني، فمعظمها تابع للحكومة، ويعد عدد قليل منها مستقلاًّ. ولا يسمح إلا للمنظمات الخيرية بالتسجيل الرسمي، وتوضع تحت رقابة صارمة من قبل السلطات. وينص القانون السعودي على ضرورة حصول المنظمات غير الحكومية على موافقة قبل التواصل مع أطراف إقليمية أو دولية، ويحظر على المنظمات الحصول على تمويل أجنبي؛ لذا يقتصر دعم الولايات المتحدة الحالي للمجتمع المدني على بعض المبادرات غير الخلافية مع الحكومة السعودية، كالعمل مع المنظمات المحلية لدعم الإصلاحات السعودية لتحسين التعليم، ووضع المرأة، والتنمية الاقتصادية، وحكم القانون.

على الرغم مما سبق، يرى كل من لاجون وجريبوسكي أن الربيع العربي أظهر وجود قوى للتغيير تحت السطح، حتى في النظم السلطوية، فيجب على الولايات المتحدة بناء علاقات مع الإصلاحيين؛ لتجنب أخطاء التعامل مع مصر وتونس وغيرهما؛ حيث أسهمت الولايات المتحدة في تكميم هذه الأصوات بدعمها الثابت للنظام.

ففي المملكة العربية السعودية، يوجد أصوات معتدلة، بل وبعضها ليبرالي، تلعب دورًا في الضغط على النظام السعودي بالمطالبة بمزيد من الحريات المدنية وحماية حقوق الإنسان والإصلاح المؤسسي. لا بد أيضًا من الاعتراف بدور وتأثير تيارات الإسلام السياسي؛ فعلى سبيل المثال، كانت 'حركة الصحوة' أكثر نجاحًا من التيارات الليبرالية في المطالبة باحترام حقوق الإنسان مع بداية الألفية الثالثة. تلعب الجماعات الثقافية والدينية الشيعية أيضًا دورًا مماثلاً في المطالبة باحترام حقوق الإنسان والتعددية.

مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قد تتجنب العديد من منظمات المجتمع المدني في السعودية التعامل مع الولايات المتحدة؛ تطرح المقالة فرصًا لانخراط الولايات المتحدة مع المجتمع المدني السعودي؛ فمن ناحية، يمكن أن تدافع الولايات المتحدة عن العدد المحدود من تنظيمات المجتمع المدني السياسية غير المسجلة في وزارة الشئون الاجتماعية، وتعرضت لحملات قانونية في السنوات الأخيرة. من ناحية أخرى، يمكن أن تدعم الولايات المتحدة الناشطات المطالبات بمزيد من المساواة بين الجنسين؛ حيث يمثلن أكثر الحركات نشاطًا في المطالبة بالإصلاح. من ناحية ثالثة، تستمر الولايات المتحدة في علاقاتها بالشباب السعودي من خلال زيادة برامج التبادل الثقافي والتدريب الإعلامي؛ حيث أدى استخدام الإعلام الإلكتروني إلى خلق ثقافة سياسية جديدة بين الشباب. من ناحية رابعة، على مستوى الدبلوماسية التقليدية بين الحكومات، وفي ظل الحفاظ على التحالف مع السعودية لتحقيق بعض أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لا بد من ممارسة الولايات المتحدة مزيدًا من التأثير على النظام كلما كان ذلك ممكنًا لانتزاع تنازلات تتعلق بحماية حقوق الإنسان.

معوقات تطبيق الدبلوماسية المجتمعية

في نهاية المقالة، يعترف الكاتبان أن تطبيق الدبلوماسية المجتمعية تجاه كلٍّ من الصين والسعودية، قد يؤدي إلى توترات في العلاقات الثنائية يمكن أن تؤثر في الموقف الصيني من التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وموقفها تجاه ترسانة كوريا الشمالية النووية، وتجاه الخلافات التجارية، وفي التعاون السعودي في عدة قضايا، كمكافحة الإرهاب، وسوريا، وإيران، والوصول إلى الطاقة.

لكن في الوقت نفسه، يرفض الكاتبان التركيز على الدبلوماسية التقليدية مع أنظمة غير ليبرالية، كأنها أنظمة دائمة تحت دعوى تحقيق الاستقرار؛ فقد ركزت هذه الاستراتيجية على الاستقرار قصير المدى، فيما أضرت بالاستقرار طويل المدى؛ ففي ظل تغير الظروف السياسة، وعدم القدرة على التنبؤ بتوقيت التغير وطبيعته، كما حدث في إيران تحت حكم الشاه، ومصر تحت حكم مبارك؛ يجب على الولايات المتحدة الانخراط مع المجتمع المدني، ومع تيارات التغيير؛ من أجل تحقيق الاستقرار طويل المدى، واتباع استراتيجية أكثر واقعيةً لسياستها الخارجية.

(*) عرض: هايدى عصمت كارس، المدرس المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية

موقع الخدمات البحثية