قراءات سياسية » مُلاعَبَة الغول على الطريقة التونسيّة

tascii117nis_300

آدم فتحي

1/ اللعب مسألةٌ جديّة

التونسيّون ماهرون في لعبتين شعبيّتين: لعبة 'الشّكُبَّة'، أكثر ألعاب الورق انتشارًا في حوض المتوسّط (كلمة Scopa تعني المكنسة في اللغة الإيطاليّة). ولعبة 'الخَرْبقَة' الشبيهة بلعبة الشطرنج التي تُحفَر رقعتها عادةً في الرمل وتكون قطعها من الحجارة والنوى. يمارس التونسيّون هاتين اللعبتين بحماسة وجديّة كبيرتين، على الرغم من صعوبة أن يكون معظمهم قد اطّلع على 'نظريّة الألعاب' التي ظهرت منذ 1944 وحصل بفضلها ناش وزميلاه على جائزة نوبل للاقتصاد في العام 1994 وأثبتت أنّ اللعب مسألة جديّة تهمّ مجالات الحياة كافّة ومن بينها مجال السياسة والانتخابات. علمًا بأنّ اللعبتين التونسيّتين تشتركان في أنّ الحساب لا يلغي الحظّ وأنّ التكتيك والإستراتيجيا لا يستغنيان عن المصادفة. كأنّنا أمام ترجمة شعبيّة لفكرة شوبنهاور: 'الحياة تشبه لعبة الشطرنج، فليس من خطّة نرسمها إلاّ وهي رهينة ما يقوم به الخصوم أمام الرقعة وما يحدّده المجهول في الحياة'.
قريبًا من هذا المناخ خاض التونسيّون يوم 26 تشرين الأول 2014 انتخاباتهم البرلمانيّة، التي خسر على إثرها حزب 'حركة النهضة' أكثريّتَه النيابيّة. بناءً على ذلك ينظر التونسيّون إلى نتائج هذه الانتخابات باعتبارها مجرّد 'نقلة' على الرقعة، سيكون من السابق لأوانه تحميلها أكثر ممّا تتحمّل. إنّهم سعداء بما حقّقوه، لكنّهم يعتبرون أنفسهم بعيدين عمّا يريدون تحقيقه. لذلك تراهم يقفون على مسافةٍ من متعجّلي الفرح الذين ذهبوا بتأويل النتائج في كلّ اتّجاه: أراد 'الأخوان' تغيير تونس لكنّ تونس هي التي غيّرت 'الأخوان'. انهزمت 'الخلافة' أمام 'الجمهوريّة'. آلت الغلبةُ إلى 'الانتخاب' في مواجهة 'البَيْعَة'، وإلى 'المواطِن' في مواجهة 'الرعيّة'. لم يعد الخيار بين حكم العمامة وحكم الخوذة قدرًا محتومًا على الشعوب العربيّة. لم يعد الخوف من الإسلامويّين حجّةً للاستبداد كي يساوم الشعوب على الأمن بالحريّة أو على الحريّة بالرغيف. أثبتت التجربة التونسيّة أنّ في وسع الشعب أن يطيح الحاكم الذي لا يريده، سواء أكان حاكمًا باسم الدنيا أم باسم الدين، دونما حاجة إلى الدبّابة 'الداخليّة' أو 'الخارجيّة'. إلخ.
استنتاجاتٌ لا تخلو من وجاهة لكنّها تظلّ حتى الآن أقرب إلى الطموحات منها إلى الواقع المُنْجَز. وتأويلاتٌ تغلب على أصحابها الرغبة في تحويلها إلى 'وصفةٍ' يمكن 'تعميمها'، من دون الانتباه الكافي إلى ضرورة ربطها بأمرين. الأمر الأوّل يتمثّل في كلّ ما تدين به هذه النتائج إلى ما حدث في عدد من البلاد العربيّة وصولاً إلى العمليّات الإرهابيّة التي كان آخرها ما حصل في 'وادي الليل' على أطراف العاصمة التونسيّة، قبل أيام من الانتخابات. الأمر الثاني يتمثّل في معادلة تونسيّة ثلاثيّة البعد قد لا تتوفّر في مكان آخر: مشروع بورقيبيّ ترسّخ في معظم الوجدان العامّ لم يُخْفِ 'مرجعيّته المتوسّطيّة' بعيدًا من 'نداءات الشرق'. وامرأة تونسيّة ذات وضعٍ متفرّد أتاح لها أن تملك من العُدّة والعدد ما يجعلها عصيّةً على كلّ نمط مجتمعيّ ماضويّ. ومنظّمة نقابيّة عريقة ورابطة حقوقيّة جسورة أتاحتا ازدهار 'مجتمع مدنيّ' قادر على النهوض بدور 'الضامن' الذي ينهض به في أماكن أخرى 'العسكر' أو 'الثلث المعطّل' أو 'الراعي الأجنبيّ'.

2/ اللعب على رقعة متحرّكة
يتطلّب نجاح الثورة، كلِّ ثورة، شرطًا جوهريًّا: أن يثور الشعب لأنّه تغيّر لا أن يتوهّم أنّه قد يتغيّر لأنّه ثار. في الحالة الأولى يستطيع تحقيق أكبر قدرٍ من أحلامه، أمّا في الحالة الثانية فإنّ ثورته قد تتمخّض عن 'انقلاب'، أو في أفضل الأحوال عن عمليّة إصلاحٍ سطحيّة للنظام شبيهة بعمليّات 'شدّ الجلدة'. ليس من شكٍّ في أنّ الشعب التونسيّ قد تغيّر بقدْرٍ ما، وفهم أنّه يُلاعب 'غُولاً' يتمثّل في حلف الفساد والاستبداد الذي يمكن أن يكشّر له عن أنيابه من كلّ جانب وفي كلّ لحظة ومن خلف أكثر من قناع. لذلك ذهب إلى صندوق الاقتراع، وفرح بنتائج هذه الجولة الانتخابيّة (أو النقلة كي نعود إلى استعارة الشطرنج) لأنّ من الطبيعيّ الفرح بأن يتمّ التداول على السلطة بواسطة صندوق الاقتراع في بلادٍ لم تعرف إلاّ 'الرئاسة مدى الحياة'.
إلاّ أنّ هذا الشعب ظلّ منتبهًا إلى أنّ على فرحته أن تتواضع أمام أرواح الشهداء الذين جعلوها ممكنة، وأن تتذكّر أنّ الحلم أكبر ممّا تحقّقَ بكثير. الفرحةُ بنتائج الانتخابات تظلّ منقوصة، بل زائفة، ما لم تشمل الأغلبيّةَ الحقيقيّة، تلك التي دُفعت دفْعًا إلى الامتناع عن التصويت لطول ما هُمِّشت وحُرِمت وخُدِعت، ولطول ما شعرت بأنّها مدعوّةٌ إلى وليمةٍ هي اللحم الذي يُؤكَل فيها. لذلك ليس مهمًّا السؤال: مَن المنتصر ومَن المنهزم؟ الانتصار لا يكون إلاّ عند نهاية المعركة. والمعركة مستمرّة. بل هي بالكاد بدأت لأنّ ميدانها الحقيقيّ في العقول والذهنيّات وليس في الاحتراب السياسويّ على كعكة السلطة.
لقد أدرك الشعب التونسيّ ما عليه إدراكه: أنّ عليه تغيير قواعد اللعبة وإملاءها لا تلقِّيها إذا أراد الانتصار والخروج من مُربّع 'الهزيمة المُشرِّفة' و'العبرة في المُشاركة'. لذلك شرع في وضع قواعد جديدة للعبة. في مقدّم هذه القواعد قاعدة 'الرقعة المتحرّكة'. ولعلّه استمدّها من لعبتيه الأثيرتين، 'الشكُبّة' و'الخربقة'، اللتين تدوران في أجواء حماسيّة ويحفّ بلاعبيهما جمهورٌ من المشجّعين أو 'النبّارة'، يدّعون في العلم فلسفةً وينحازون إلى هذا الفريق أو ذاك، فيعلو الصياح و'النباح'، وكثيرًا ما يضرب لاعبُ 'الشكُبَّة' على الطاولة بجُمْعِ كَفِّهِ فرحًا بكنس الأوراق الأخيرة فتكاد الرقعة تطير، وكثيرًا ما تنطمس رقعةُ 'الخَرْبقَة' فيعيد أحد اللاعبين حفْر 'ديارها' غارسًا أصابعه في الرمل. فإذا نحن أمام لعبتين تُمارَسان على رقعتين متحرّكتين.
أنصت التونسيّون إلى أنفسهم فقلبوا المعادلة في هذه الانتخابات مواجهين 'دوغما الاستقرار' التي ما انفكّ غول الفساد والاستبداد يرفعها في وجوههم كي يضطرّهم إلى الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع. لأنّهم فهموا أنّ الاستقرار ليس مرادفًا للجمود. وأنّ اللعبة السياسيّة تدور (ويجب أن تدور) على رقعة متحرّكة منفتحة دائمًا على راهنٍ لا بدّ من تحيينه في كلّ حين، وعلى مستقبل لا بدّ من استنباطه في كلّ آن. وهي من ثمّ تتطلّب إستراتيجيا متحرّكة مرنة تعتمد على تحريك المشهد باستمرار كي يعرف كلّ جالسٍ على 'الكرسيّ' من الآن فصاعدًا أنّه جالسٌ على بركان يمكن أن ينفجر من تحته في كلّ لحظة.

3/ ملاعبة الغول بعد تعريته
أُخِذَ الشعب التونسيّ على غرّة في انتخابات 23 تشرين الأول 2011. شأنُه في ذلك شأن أيّ شعب يُطلَب منه اختيار قيادةٍ جديدة في أعقاب ديكتاتوريّة، من دون أن يُمَكّن من الوقت الكافي كي يحسن الاختيار، فإذا هو يلجأ بشكلٍ غريزيّ (شبه آليّ) إلى مكوّناته البدائيّة (الهُوَويّة أو الجهويّة) ويصوّت لمن يخمّن أنّهم أقرب إلى ثقافته الشعبيّة (الدينيّة أو الدنيويّة) ويختار من يتوهّم أنّهم نقيض النظام السابق. على الرغم من ذلك صوّت أكثر التونسيّين إلى غير الإسلام السياسيّ في تلك الانتخابات. لكنّ أصواتهم تشرذمت بتشرذُم الأحزاب. كما أنّهم فوجئوا بأحزابٍ 'حداثيّة' تخذلهم وتتحالف مع 'النهضة'، الأمر الذي جعلها تحظى بأكثريّة نيابيّة على الرغم من كونها أقليّة اجتماعيّة.
استوعب الشعب التونسيّ الدرس في انتخابات 26 تشرين الأول 2014. فسحب ثقته من الأحزاب التي خذلته مع استثناء مَن يستحقّ الاستثناء، بعدما رآها تعيد الكرّة وتدخل السباق منقسمة متشرذمة متناحرة، معيدةً إنتاج ذهنيّة الغُول نفسه: حلف الفساد والاستبداد. من ثمّ أعاد 'النهضة' إلى قواعدها (69 مقعدا)، وأزاح حليفيها في الترويكا من المشهد ('المؤتمر' 4 مقاعد و'التكتل' مقعدًا واحدًا)، وكافأ 'الجبهة الشعبيّة' التي تمثّل اليسار على مبدئيّتها (15 مقعدًا)، وأتاح لحزبين ليبيراليّين جديدين الظهور ('آفاق تونس' 8 مقاعد و'الاتّحاد الوطنيّ الحرّ' 16 مقعدًا) ومنح حزب 'نداء تونس' مهمّة تشكيل الحكومة (85 مقعدًا).
هكذا أعلن الشعب التونسيّ بواسطة هذه الانتخابات عن قاعدة اللعب الثانية التي اختارها لنفسه: تعرية الغول قبل ملاعبته، فأسقط الأقنعة عن الكثير من أدعياء الثورة والديموقراطيّة والطهرانيّة. معاقبًا الأحزابَ 'الهُوَويّة' التي زجّت به في ماضيه، والأحزاب 'الهوائيّة' التي تقلّبتْ حتى خسرت تموقُعَها، والقيادات 'الهُرائيّة' الشعبويّة التي لم تحترم ذكاءه، والقيادات 'الباثولوجيّة' التي ضحّت بأحزابها فداءً لأطماعها الشخصيّة وجراحها النرجسيّة وهوسها الثأريّ. من دون أن يغفل عن الإشارة إلى رغبته في إعادة الأخلاق إلى السياسة، فعاقب أصحاب الخطاب الهابط، خطاب الشماتة والعربدة الانتصاريّة الفجّة من نوع 'اشربوا ماء البحر' و'موتوا بغيظكم' و'أنتم جماعة الصفر فاصل'. وهو خطابٌ لا يمكن أن يُنسَب إلاّ إلى السكر بالسلطة.
ما كان الشعب التونسيّ ليعيد رسم ملامح مشهده السياسيّ لولا أنّه شعر بأنّه أخطأ في الانتخابات السابقة، واختار نخبةً تدّعي أنّها لم تقصّر ولم تخطئ على الرغم من أنّها لم تكن في مستوى المرحلة. تلك طريقته في الاعتراف بالخطأ، وفي تدريب نخبته على ثقافة الاعتراف بالخطأ. كأنّه يُعاقب نفسه من خلال نخبةٍ هو مسؤول عنها بقدر ما هي مسؤولة عنه. فالعلاقة جدليّةٌ بامتياز. لا يكمن غولُ الفساد والاستبداد في الحكّام وحدهم، ولا يكمن في النخبة وحدها، بل يكمن في الشعب أيضًا، لأنّه أبو نخبته بقدر ما هو ابنُها. وهل النخبة في النهاية إلاّ مرآة عاكسة يرى بواسطتها الشعبُ أفضلَ وأسوأ ما فيه؟

4/ أن تكون اللاعب لا اللعبة
لكلّ وجهٍ قفاه طبعًا. لذلك ثمّة في تونس وخارجها مَن يعتبر هذه الانتخابات 'مُفارَقة عجيبة' ويتّهمها بإعادة 'أعداء الثورة' إلى الحكم، ولا يرى في نجاح حزب 'نداء تونس' عاملَ توازن مع حزب حركة 'النهضة'، بقدر ما يرى فيه 'بروزًا للاستقطاب الثنائيّ' و'خطرًا على الديموقراطيّة' و'عودة للمنظومة القديمة'، ونتيجةَ تصويتٍ 'غير عقلانيّ' وقع تحت سلطان 'المال السياسيّ والتخويف من الإرهاب' وأثّرت فيه 'ماكينة التجمُّع'. وجهة نظر قد لا يخلو بعضُها من وجاهة. لكنّها تنمّ عمومًا عن رؤية 'ميتافيزيقيّة' للانتخابات. فلا وجود لفردوس انتخابيّ. وما يراه البعض 'مُفارقة'، قد يكون مجرّد عيِّنةٍ من لعب الشطرنج السياسيّ على الطريقة التونسيّة. أمّا أعداء الثورة فقد يتمكّن بعضهم من التسلّل حقًّا إلى المشهد، ولا بدّ من مواجهتهم، لكن هل من نصرةِ الثورة أن يتمّ الارتداد بها من الطموحات المواطنيّة المجتمعيّة إلى الهوس الهُوَويّ والمسائل الدينيّة والشعبويّات الفجّة كما تمّ في عهد الترويكا؟
لقد قال الشعب كلمته. ومنح الأكثريّة لحزبٍ صغير السنّ، متكوّن من خليط من اليساريّين والحقوقيّين والنقابيّين والليبيراليّين والدستوريين، وكأنّه رأى فيه صورته بما فيها من عناصر مختلفة تزعم الدفاع عن نمطٍ اجتماعيّ حداثيّ متفتّح. الشعب شبيه هنا بلاعب الشطرنج، يتصرّف في القطع المتاحة أمامه وليس في وسعه جلب قطعةٍ من خارج الرقعة. ولا يعني اختيارُه هذا الحزب او ذاك أنّه اهتدى إلى المثال المنشود، بقدر ما يعني أنّه تعامل مع الأحزاب الموجودة بناءً على حسن ظنّه بمزاعمها. فإذا صدقته جدّد لها وإذا خيّبته انصرف عنها. تلك هي القاعدة الثالثة التي أسّست لها هذه الانتخابات: أن يستعيد الشعب زمام اللعب. وأن يكون اللاعب لا اللعبة.
لقد كسب 'نداء تونس' هذه الجولة لأنّ الشعب وجد في قائد السبسي الكاريزما المطلوبة، ورأى فيه استئنافًا للمشروع الحداثيّ من حيث تعطّل وتوقّف، ومن ثمّ رأى في حزبه بديلاً جاذِبًا، فمارس ما يُسمّى بالتصويت المفيد (Le vote ascii117tile). إلاّ أنّ هذا الحزب لم يتشكّل حتى الآن إلاّ من طريق 'ضديّته' لمشروع 'النهضة'. أمامه شوطٌ طويل كي تصبح له هويّة واضحة يستقرّ في كنفها المنخرطون والأنصار. أمّا حركة 'النهضة' فقد خسرت المتعاطفين معها من خارجها، لكنّها لم تفقد نواتها الصلبة، شأنها في ذلك شأن الأحزاب الدينيّة بشكل عامّ، لأنّها تملك هويّةً واضحة وكتلة صلبة وقواعد منضبطة ومنخرطين أوفياء للحزب، ينطلقون من عقيدة. هذه النواة الصلبة تمثّل أقليّة في المجتمع لكنّها تظلّ قادرةً على إنتاج أكثريّة نيابيّة لقدرتها على التجمّع في المواعيد الانتخابيّة، مقابل تشتّت العائلة الديموقراطيّة وضياع أصواتها بين أحزاب وزعامات تحرّكها الأطماع الكاسرة والنرجسيّات المريضة.
تحاول حركة 'النهضة' الآن أن تنظّف خطابَها من كلّ ما يصلها بمنظومة 'الأخوان'، وتسعى إلى التخلّص من جلبابها الدينيّ كي تظهر في مظهر الحزب السياسيّ العاديّ الذي يقبل بقواعد الديموقراطيّة ويُسلّم بالخسارة في الانتخابات ويتخلّى عن السلطة بسلاسة وروح رياضيّة، ويهنّئ الفائز إلخ. هذا كلّه جميل وجمييييل جدًّا. المهمّ أن يكون حقيقيًّا. ومرحبًا بـ'النهضة' أو بأيّ حزبٍ يريد تلوين نفسه وفق الإيديولوجيا أو المرجعيّة التي يراها، شرط أن لا يقود الآخرين إلى جنّته بالسلاسل والسيوف والمتفجّرات.
ولكن كيف يمكن الاقتناع بهذا الخطاب في ضوء ما صرّح به السيّد راشد الغنّوشي عشيّة ظهور النتائج، في فيديو موثّق صوتًا وصورة، مهنّئًا أنصاره بالنصر المبين، قارئًا آيات من سورة الفتح، مؤكّدًا بالحرف الواحد: 'أنّه ذكر هذه الآيات لأنّها نزلت بعد صلح الحديبية الذي لم يقبل به بعض الثوريّين والمتحمّسين من الصحابة، مثل عمر بن الخطاب. وقالوا إنّها اتّفاقية تعطي حقوقًا للآخرين أكثر ممّا تعطينا. ولكن لم تمرّ إلاّ مدة قليلة حتى أدرك الجميع بأنّ ما قبله النبيّ لم يكن سوى تأخير لدخول مكّة إلى السنة القادمة. وأنّ ذلك كان فتحًا مُبينا. وأنّ تلك الاتّفاقيّة نشرت الإسلام وقادت بعد ذلك إلى فتح مكّة'؟!!
وماذا لو أنّ حزب 'نداء تونس' لم يكن في مستوى تطلّعات المصوّتين له؟ ماذا لو دبّت الخلافات في صفوفه مع السبسي أو بعده؟ ماذا لو عاد المشهد إلى مربّع انتخابات 23 تشرين الأول 2011 حين تفرّقت أصوات قرابة أربعة ملايين ناخب على أحزاب متشرذمة فاستطاعت 'النهضة' الحكم بمليون وأربعمئة ألف من الناخبين؟ تلك هي محنة الديموقراطيّة حين يُبنى الاصطفاف على أساس كاريزما الأشخاص، أو على أساس الضديّة، فإذا هي لعبةٌ مرهونة بحضور شخصٍ بعينه، أو عشيرة بعينها، وإذا الكتلة الانتخابيّة إلكترونات هاربة من أيّ جاذبيّة، تفرّقها الأهواء في كلّ اتّجاه، وإذا الأحزاب طوائف، وقبائل، وعصابات، لا برنامج لمعظم زعاماتها (المزعومة) غير استقراء الرياح للدوران معها حيث تدور والتربيت على الناخب في اتّجاه الشعرة (dans le sens dascii117 poil) ولا ندري هل هي شعرة معاوية أم شعرة ماكيافيل؟

5/ الاحتفاظ بالحقّ في الخروج على القواعد
لن تطمئنّ العائلة الديموقراطيّة إلاّ حين تتحوّل الديموقراطيّة الحداثيّة المتنوّرة إلى ذهنيّة من نوع جديد، ذهنيّة مدنيّة، تواجه النواة الصلبة لدُعاة النكوص إلى ماضي الاستبداد والفساد، بنواة أكثر صلابة، تدافع عن المجتمع المدنيّ المواطنيّ المتفتّح، متجسّدًا في ثقافة وطنيّة ومؤسّسات مستقلّة وأحزاب تملك منخرطين أوفياء، قارّين، لا رحّلاً. في انتظار ذلك، ليس على الشعب إلاّ أن يحتفظ بحقّه في الخروج على قواعد اللعبة كلّما اكتشف حدود التعامل معها. تلك هي قاعدة القواعد التي سار على هديها التونسيّون في هذه الانتخابات، وليس من شكّ في أنّهم معتمدون عليها في محطّاتهم المقبلة.
في هذا السياق أضع امتناع قرابة الأربعة ملايين من الكتلة الانتخابيّة التونسيّة (نحو ثلثي الناخبين) عن المشاركة في التصويت. وهم من الكادحين الشباب في الأغلب وأصحاب الشهائد المعطّلين عن العمل وأبناء الجهات المحرومة المهمّشة، أبناء تونس الحافية العارية المجوّعة الباسلة المنسيّة.
قال البطل الروسيّ كاسباروف في لعبة الشطرنج في أحد تصريحاته: 'إنّ النقلات التي فكّرتُ فيها ولم أنجزها جزءٌ لا يتجزّأ من النقلات التي أنجزتُها على الرقعة'. قياسًا على ذلك وجّه الشعب رسالةً مهمّة من خلال ما قام به ومن خلال ما لم يقم به أيضًا. لقد لعب بيدين: يد في الرقعة ويد خارجها. يد وضعت الورقة في الصندوق ويد أحجمت عن اللعبة ككلّ.
ليست هذه النسبة بالأمر الهيّن. لعلّ في هذا الامتناع ما يشير إلى مسألتين: المسألة الأولى تتعلّق بضعف التمثيل الحزبيّ. وكأنّي بهؤلاء الملايين الذين امتنعوا عن التصويت صرخةٌ مدوّية، تقول للجميع إنّ قسمًا كبيرًا من الشعب لم يجد بعد الحزب أو الأحزاب التي تمثّله، وإنّه يرفض لعبة سياسيّة يرى قواعدها مفصّلة على غير قياسه. المسألة الثانية تتعلّق بفشل النخبة في التجدّد. إذ ليس من الطبيعيّ بعد خمسين سنة ممّا يُسمّى بدُوَل الاستقلال، أن تدور المعركة من جديد بين بورقيبة (في شخص السبسي) وحسن البنّا (في شخص الغنّوشي). وليس من الطبيعيّ أن تتمخّض ثورة، وثورة شبابٍ تحديدًا، عن مستقبلٍ لا يُعثَرُ له على طريق إلاّ بالعودة إلى الماضي.
تفرض هنا استعارة الشطرنج نفسَها، لما بينها وبين السياسة من وجوه الشبه ونقاط الاختلاف. تتعلّق همّةُ اللاعب أمام الرقعة بالمُتَخيَّل الممكن أكثر ممّا تعلّق بالواقع الراهن. الحاضر منطقة عبور لبلوغ الغاية المرجأة المرميّة أبدًا في غياهب الغيب: الانتصار على الخصم. إطاحة الملك المنافس. كش مات. هذا الحاضر المُغيّب جزءٌ من لعبة الشطرنج لكنّه أصبح جزءًا من عالم السياسة أيضًا. وتلك هي المصيبة. محترفو السياسة العرب على امتداد الخمسين عامًا الماضية ظلّوا يلعبون الشطرنج من دون أن يبرعوا فيه، ولكن من دون أن يبدو عليهم أيضًا أيّ انتباه إلى أنّ القطع على الرقعة من لحم ودم. اصبروا حتى يأتي الفرج! اليوم أمن وغدًا حريّة! لا تُطالبوا بالديموقراطيّة حتى نحرّر فلسطين! والحاضر؟ لا شأن لكم به. إنّه زمنٌ مُلْغًى منسيٌّ من المعادلة مُغيّبٌ عن المشهد!! زمنٌ مستتر تقديره الماضي أو المستقبل! الماضي المفقود أو المستقبل المنشود!
يتحقّق في الشطرنج ما يتحقّق في الحرب من كرٍّ وفرٍّ وخداع. الهدف هو إطاحة الملك مهما نتج من ذلك من أضرار جانبيّة. كش مات هي العبارة التي يحلم بإطلاقها كلّ لاعب. ومن أجلها يضحّي بالقطع الأخرى، وفي مقدّمها البيادق. هدف يجعل اللعبة أقرب إلى عمليّات القتل والاغتيال منها إلى الحرب بمفهومها العامّ. نحن هنا أمام ما يُطلق عليه العسكريّون وأهل السياسة عمليّة 'الهدف الواحد'. يكفي أن يسقط الملك كي تنتهي المعركة مهما بقي من جنودٍ.
المشكلة أنّ الملك المُطاح غالبًا ما يكون هو الشعب. وأنّ الرغبة في إطاحة الملك تختلف عن الرغبة في قتل الأب بالمفهوم الفرويدي. أي أنّها لا تتمّ من طريق الاختلاف عن الأب بل من طريق التشبّه به حدّ الرغبة في الحلول محلّه. في الشطرنج عليك أن تتقن قواعد اللعبة أكثر من منافسك، وأن تفكّر مثله كي تتوقّع ضرباته حتى أنكّ لا تعرف في النهاية مَن منكما دخل عقل الآخر أكثر، هو أم أنت. هذه الحقيقة الشطرنجيّة تمثّل كارثة على صعيد السياسة إذا هي حضرت في خطاب المرحلة الجديدة. ذاك ما اكتشفه الشعبُ التونسيّ على حسابه. إذ ما معنى رحيل بورقيبة أو بن علي إذا حلّ محلّهما لاعبون استبطنوا الأب الذي ناضلوا ضدّه، إلى حدّ أنّ كلاّ منهم أصبح في مجاله بورقيبة آخر أو بن علي بملامح مختلفة.
لذلك يستبطن التونسيّون الآن وعيًا متزايدًا بضرورة تغيير قواعد اللعبة، ورفضها أصلاً ودكّ قواعدها وقلب الطاولة على الجميع إذا هي استعصت على التغيير. تلك هي رسالة ارتفاع نسبة امتناعهم عن التصويت. على السياسيّين الجدد أن يلتقطوا الرسالة وأن يشرعوا في التصرّف وفق ذلك وأن يحذروا كلّ الحذر من الاكتفاء بإعادة نصب الطاولة ولملمة القطع المتناثرة لمواصلة اللعبة حسب القواعد القديمة، مع فارق وحيد: أنّهم احتلّوا مقاعد اللاعبين السابقين.
ليس خيارًا حقيقيًّا ذلك الذي يجبر المواطن على المفاضلة بين تطبيقٍ تيولوجيّ لليوتوبيا الدنيويّة وتطبيق دنيويّ لليوتوبيا التيولوجيّة. كأنّ الوجود لحظة سقوط عابرة من شجرتين: شجرة الخطيئة الأولى وشجرة المعاد الأخيرة. وكأنّ الحاضر لحظة تكتسب قيمتها من كونها ضروريّة للعبور من شجرة إلى أخرى ولا قيمة لها في حدّ ذاتها. وهو ما يتناقض جوهريًّا مع شروط وجود الإنسان كمواطن. بين المرحلتين وجوه اختلاف لا تمنع الاشتراك في الجوهر: إنتاج رعايا هم في أفضل الأحوال متساكنون لا مواطنون. وقتل الحاضر باسم المجهول السابق المتمثّل في الماضي الفردي أو الجماعيّ، وقتل الحاضر باسم المجهول اللاحق المتمثّل في الغيب أو المستقبل.
المواطن الصالح في هذا المناخ هو الغائب المُغيّب! الذي يعيش أبدًا بين فردوس مفقود وفردوس منشود. الأوّل يتمثّل في الماضي المجيد ولا بدّ له من زعيم مُلهم، والثاني يتمثّل في المستقبل الورديّ ولا بدّ له من مهديٍّ منتظر. إذا استأنس هذا المتساكن بما يحبّ من ماضيه خوّفوه بغيلان العتمة، وإذا انفتح على ما يريد من مستقبله أرهبوه بفوضى المجهول! كأنّ عليه أن يعيش حاضره على سبيل المجاز. فإذا هو شبيه بحمار بوريدان الذي ظلّ عاجزًا عن المفاضلة بين دلو الماء وحزمة البرسيم حتى هلك عطشًا وجوعًا.
السياسة فنّ إدارة الحاضر. والحاضر ليس لحظةً مقطوعة من شجرة، وكأنّ غدًا ليس بذرة الأمس وثمرة اليوم. بل هو مقطع زمنيّ يتكّون ممّا هو ماضٍ حيّ ومستقبل منظور. أي أنّه يتطلّب رؤية استراتيجيّة ولا علاقة له بالسياسة التي لا هدف لها سوى الهيمنة والانتفاع والبقاء لأطول زمنٍ ممكن، ولو لساعة أخرى، تحت شعار أنا ومن بعدي الطوفان. لعلّ الشعب التونسيّ لم يدر انتخاباته الأخيرة كما أدارها، تصويتًا وامتناعًا عن التصويت، إلاّ لأنّه محتاج إلى خطاب يؤكّد له من طريق الممارسة أنّ ساسته الجدد لا ينطلقون من الدائرة المعرفيّة القديمة التي قامت الثورة من أجل نسفها. لا يعيدون فتح الفجوة التي كانت قائمة بين الشعب والسياسة. بل يفهمون حقًّا أنّه السيّدُ الحقيقيّ، وأنّهم موظّفون لديه لجعلِ حاضره صالحًا للسكنى على رقعة اسمها الوطن.
المصدر: صحيفة النهار

موقع الخدمات البحثية