قراءات سياسية » ثماني محطات تاريخية على طريق انفجار المجتمعات العربية

 

8steps_300

 

جورج قرم
كنت قد أنهيتُ في حزيران 1982 تأليف الطبعة الأولى من كتابي 'انفجار المشرق العربي' وأنا أقيم في منطقة رأس بيروت، وكانت البناية التي أسكن فيها قرب الأونيسكو تهتز تحت وابل القنابل الإسرائيلية الفتّاكة المنهمرة على هذا الجزء من عاصمتنا بيروت. شعرتُ حينذاك أن الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية، عاصمة الأدب والثقافة لكل العرب، تعني بداية تفكّك المجتمعات العربية وأنظمتها السياسية التي بقيت تتفرج على المأساة، لكنها ربما كانت تعطي انتباهاً أقوى بكثير الى مباراة كأس العالم لكرة القدم آنذاك حين فاز الفريق الجزائري على الفريق الألماني، مما ولّد نشوة كبيرة، الى درجة أن الأعيرة النارية انطلقت بغزارة فرحاً، حتى في الحي البيروتي الذي كنت أسكن فيه. عند سماع الطلقات اعتقدتُ في حينه بكل سذاجة أن التنظيمات المسلحة اللبنانية والفلسطينية قد تمكّنت من صدّ هجوم الجيش الإسرائيلي على الجزء الغربي من بيروت.

منذ ذلك الحين، ومن خلال الطبعات المتتالية لمؤلفي 'انفجار المشرق العربي'، تحولتُ الى مؤرخ لدينامية الانحطاط والفشل والانفجار للمجتمعات العربية، سواء داخل كل مجتمع أو في ما بين الأنظمة العربية، بحيث أصبح الشرخ في ما بينها يزيد سنة بعد سنة عبر اشتداد سياسة محاور عربية متخاصمة مدمرة لاستقلال العرب وازدهارهم، وهي حالت دون دخول المجتمعات العربية في التحولات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية العملاقة التي كانت تجتاح العالم. كان ألمي النفساني لا حدود له، عندما شاهدتُ تفكك لبنان التدريجي في بداية السبعينات، واندراج معظم زعماء الطوائف في صفوف القوى الإقليمية والدولية الكبرى التي أصبحت تمزق المنطقة سعياً الى تحقيق مصالح متناقضة، البعض منها مادي، كالهيمنة على الموارد النفطية والغازية العملاقة التي أصبح يتمتع بها العديد من الدول العربية، والبعض الآخر له جذور في تاريخ أوروبا الصاخب الداخلي وميولها الاستعمارية المتجسدة بشكل خاص في السيطرة على حوض البحر الأبيض المتوسط، تالياً الاستماتة في الدفاع عن الكيان الصهيوني الغاصب وتأمين شروط استمراره في المستقبل، على خلاف الكيانات الصليبية الهشة التي كانت اندثرت، وذلك عبر تمزيق المنطقة العربية الى كيانات هزيلة مقابل كيان عملاق من الناحية العسكرية والمعنوية لغزاة فلسطين. وها نحن اليوم في خضم التفكك والانفجار وحالات الحروب الأهلية واستمرار الدول الغربية في التدخل العسكري والإعلامي المكثف.
كيف وصلنا الى مثل هذه الحال من الفشل الذريع في بناء التعاضد والتلاحم في ما بين العرب لصدّ الأطماع الخارجية، ناهيك بالفشل في بناء الدول القطرية وتأمين تماسكها الداخلي وكذلك توطين العلم والتكنولوجيات فيها لتصبح مجتمعات منتجة تؤمّن فرص العمل اللائقة والعدالة الاجتماعية، في خضم حركة العولمة الاقتصادية القاضية على ما تبقى من بنى اجتماعية تقليدية. نحن اليوم، بسبب هذا الفشل الذريع، أمام مشهد مروع في العديد من المجتمعات العربية. لذا لا بد لنا قبل السعي الى استشراف طرق الوصول الى مستقبل أفضل على أنقاض الأنظمة والبنى الاجتماعية التي تحتضر اليوم، الى تمحيص أهم الأسباب التي أدت الى ما نحن فيه اليوم. ويبدو لي أن هناك ثمانية عوامل أعتبرها محطات أساسية في مسيرة الانحطاط والانفجار والتفكك.

المحطة الأولى
المحطة الأولى لها جذور في خلاف داخل النخبة العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر حول الموقف من السلطنة العثمانية. فقد انقسم الرأي بين مَن كان يدعو الى الإصلاح الديني والتعاضد مع السلطنة العثمانية على أساس الرابطة الدينية لصد أطماع الدول الأوروبية المستعمرة التي كانت تتهيأ للانقضاض على السلطنة وتقاسم ما كان قد تبقى لها في بداية القرن العشرين من أراض وولايات من جهة، ومَن كان يرى من جهة أخرى أن سبب انحطاط العرب والمسلمين هي السلطنة العثمانية نفسها، لذا لا بد من الانفصال عنها في أقرب فرصة لإعادة تأسيس مجد العرب والتعاون مع الدول الأوروبية الرائدة للتقدم الحضاري والاقتصادي العام، على الرغم مما تقوم به تجاه السلطنة العثمانية أو من بسط سيطرتها على الدول العربية في شمال إفريقيا وفي مصر. استمر هذا الانقسام بعد زوال السلطنة العثمانية والقضاء على نظام الخلافة بين مَن كان يرفع راية الإسلام كمخزون أساسي للهوية العربية وضرورة إعادة إقامة خلافة إسلامية بأيدي العرب، تالياً الابتعاد عن التفاعل الحضاري مع أوروبا للانكفاء على الهوية الإسلامية وقيمها من جهة، وبين العروبيين الحداثويين والمنفتحين على التفاعل مع مصادر العلم والتقنيات والرقيّ الاجتماعي والسياسي، والتوّاقين الى بناء دولة الوحدة العربية القوية التي تبعد شرّ الأطماع الاستعمارية عنها من جهة أخرى، وكان العديد منهم يرون في مصر الدولة القطب، نظراً إلى أهميتها الديموغرافية وتاريخها العريق ونضالها ضد القوى الاستعمارية.

المحطة الثانية
اشتدّ هذا الخلاف بشكل تصاعدي على اثر محطة تاريخية ثانية، حيث اهتزت كل التوازنات الثقافية والحضارية والاقتصادية في ما بين المجتمعات العربية، وهي المرحلة التي بدأت فيها أسعار النفط بالارتفاع الحاد في العام 1973 مما أدى الى تركّز ثروات هائلة في الممالك والإمارات المصدّرة للنفط وخصوصاً في الجزيرة العربية القليلة السكان، التي لم يكن لديها مراكز مدينية مهمة. كانت هذه الدول بدأت تراكم الثروات منذ الستينات من القرن الماضي وتستخدم فوائضها المالية لتوسيع نفوذها في المنطقة العربية ولدى الدول الإسلامية الأخرى. وكانت معظم تلك الأنظمة تعادي القومية العربية بشكلها الحداثوي، التي كانت تركز على رابط اللغة والثقافة بين العرب، بينما كانت هذه الأنظمة تتمسك فعلياً بالرابطة الدينية مع كل المجتمعات الإسلامية غير العربية، أي إنشاء أممية إسلامية تقف سداً منيعاً أمام طموحات القوميين العرب وأدبياتهم بأشكالها المختلفة. وقد تجسد هذا الاتجاه في تأسيس منظمة التعاون الإسلامي والبنك الإسلامي في بداية السبعينات بقيادة المملكة العربية السعودية، وهي منظمة أصبحت تنافس في النفوذ كلاً من الجامعة العربية وحركة عدم الانحياز اللتين لم يكن خطابهما متمحوراً حول الدين بل حول قضايا الاستقلال عن القوى الكبرى وتصفية جيوب الاستعمار الغربي والنضال من أجل التنمية والعدالة الاقتصادية الدولية.

المحطة الثالثة
أما المحطة الثالثة المهمة فتجسدت في مبادرة مصر توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل بشكل منفرد وغير متكافئ، تضمن الولايات المتحدة تنفيذه لمصلحة الكيان الصهيوني، مما أدى الى طرد مصر من الجامعة العربية وتحييدها تماماً في الصراع مع الكيان الصهيوني وجلبها الى فلك السياسة الأميركية في المنطقة. وهذا ما سهّل استفراد إسرائيل في النَيْل من استقرار لبنان والتنكيل به دون رادع، الى درجة احتلال جزء من جنوب لبنان في العام 1978، ومن ثم وصول جيشها الى بيروت في العام 1982 ومحاولة إدخال لبنان في فلكها عبر اتفاق 17 أيار من تلك السنة، الذي لم يتمّ تنفيذه لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا. انما استمرت أوضاع العنف في لبنان الى أواخر العام 1990 ولم تتوقف إلا على اثر غزو العراق للكويت ودخول سوريا في الحلف العسكري الغربي العربي ضد النظام العراقي لإجباره على الانسحاب من الكويت. والجدير بالملاحظة هنا أنه ما إن استتبت الأمور في لبنان حتى دخلت الجزائر في القلاقل الداخلية وفي نشأة حركات عنف مسلحة تدّعي الإسلام في مواجهتها للنظام في هذا البلد.

المحطة الرابعة
خلال تلك المرحلة برزت محطة رابعة كوّنت عاملاً جوهرياً جديداً، أسّس لمزيد من اتجاهات التناحر والانفجار في ما بين العرب، ألا وهو تدريب عشرات الألوف من الشبان العرب في كلٍّ من المملكة السعودية وباكستان على القتال تحت الراية الدينية وإرسالهم ابتداءً من العام 1980 الى أفغانستان لقتال الجيش السوفياتي المحتل لهذا البلد، وذلك على الرغم من انّ ليس للعرب مع هذا البلد منذ قرون أي نوع من العلاقة التجارية أو الثقافية أو الإنسانية، بل كانت تلك المبادرة مجرد خدمة لمصالح المعسكر الغربي ضد المعسكر السوفياتي، بينما كان تحرير فلسطين من أولى المهام الوطنية الجهادية العربية التي تخلفت عنها الأنظمة العربية.

المحطة الخامسة
أما المحطة الخامسة المعمّقة للشروخ التي أصبحت تنخر في الجسم العربي فنتجت من التناقضات العربية في التعامل مع الثورة الشعبية الكبيرة التي حصلت في إيران في الوقت نفسه، وقد تحوّلت هذه الثورة الى نظام ديني اسلامي بسبب استيلاء بعض المراجع الدينية في هذا البلد على سير الثورة. الجدير بالملاحظة هنا أن هذه الثورة أصبحت تأخذ طابعاً معادياً للولايات المتحدة ومؤيداً للقضية الفلسطينية، لذا انقسمت النخبة الحاكمة العربية تجاهها، إذ تحوّل جزء من النخبة المثقفة المسيّسة من مواقف قومية عربية علمانية وحداثوية الى مواقف اسلامية متحمسة في مواجهة السياسات الغربية في المنطقة. من جراء هذا التطور أصبح الوطن العربي أسير أجواء دينية ومذهبية ثقيلة الوطأة بين 'صحوة إسلامية' على النهج السعودي- الوهّابي الأممي الطابع من جهة، وثورة دينية إيرانية شيعية الطابع معادية للهيمنة الغربية على الشرق الوسط وللصهيونية من جهة أخرى. هذا بالإضافة الى توسيع حجم النفوذ الصهيوني في المنطقة سواء مباشرة أو عبر علاقتها الإستراتيجية بالسياسات الاستعمارية الغربية تجاه المنطقة العربية.
وقد أدى هذا الوضع الى هجوم العراق على إيران في العام 1980 بالوكالة عن الدول الغربية وممالك الجزيرة العربية وإماراتها مما جلب كارثة عملاقة على المستوى العربي، إذ أصبح أهم جيش عربي مشلول الفاعلية في النزاع الأساسي مع الكيان الصهيوني. وكذلك عانى ربما أهم اقتصاد عربي تنميةً وعانى الشعب العراقي بأكمله ما عاناه من جراء العقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليه وأفقرته الى أبعد الحدود بعدما قام النظام بخطيئة اجتياح الكويت سعياً وراء إعادة تكوين هيبته الإقليمية والدولية. وقد انقسم مجدداً العرب حول هذا الحدث الخطير وانقسمت الجامعة العربية وشلّت جهودها في إيجاد المخرج من هذا المأزق الجديد. وزادت المعمعة الفكرية السياسية والتناحر في ما بين أجنحة النخبة العربية كذلك، وأخذت المعارضة للنظام العراقي طابعاً طائفياً حاداً بدلاً من أن تكون معارضة على أسس علمانية وديموقراطية. وقد تعاظم في الوقت نفسه كل من النفوذ الإيراني والأميركي في المنطقة في اتجاهات متعاكسة.

المحطة السادسة
أما المحطة السادسة في تعاظم الوهن العربي العام المتميز بأوضاع فتن قاتلة داخل الوطن العربي فتجسدّت في توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، ذلك ان كل قراءة موضوعية لمواد هذا الاتفاق تظهر انه بمثابة صك تنازل فلسطيني عن أي إمكان في تحرير الأراضي المحتلة. في المرحلة نفسها تعددت حالات الفتن في الجسم العربي. فحالما انتهت الحرب التي مزّقت لبنان على مدى خمسة عشر سنة (1975-1990) بدأت الفتنة الجزائرية بين الجيش وجبهة التحرير الإسلامية التي كانت على وشك الفوز في انتخابات العام 1992، لكن النظام الجزائري أقدم على إلغاء نتائج الدورة الاولى الانتخابية. وهي فتنة دامت حتى العام 2000 وأضعفت الى حد بعيد الجزائر فتراجع دورها الطليعي في القضايا العربية والدولية لتنكفئ على نفسها وعلى تضميد جراحها.

المحطة السابعة
دخلنا في محطة أخرى مأسوية، هي السابعة في تاريخنا المعاصر، بدأت بما حصل في نيويورك وواشنطن من عمليات إرهابية نُسبت الى أسامة بن لادن وتنظيمه الذي كان قد وُلد في مرحلة تدريب الشبان العرب لإرسالهم للقتال في أفغانستان، وهي السياسة التي وصفناها سابقاً والتي ليس من المستغرب أن تكون قد أدّت الى انتشار تنظيم 'القاعدة' في دول عدة بعد تحرير أفغانستان، سواء أكانت دولاً آسيوية أم دولاً عربية. من اللافت كيف أن الإعلام الغربي والإعلام العربي على حدّ سواء أصبح بعد أيلول2001 يجعل من أسامة بن لادن شخصية أسطورية الطابع نلتقي بها على الشاشات الصغيرة بشكل شبه يومي، واذا لم يكن هو فأحد معاونيه الكبار. بهذا التطور نما الإسلام السياسي بشكل متسارع وحاد، وكانت السياسة الأميركية الحمقاء بغزو كلٍّ من أفغانستان والعراق أكبر مساعد لهذا الانتشار. وقد أصبح الجزء الأكبر من الإعلام العربي شريكاً إعلامياً رئيسياً في عملية الانتشار هذه. ناهيك بما حصل في السودان من فرض تطبيق الشريعة الإسلامية قسراً على كل أجزاء البلاد بما فيها الجنوب حيث معظم السكان من المسيحيين والوثنيين، فكان لا بدّ أن يؤدي ذلك في نهاية المطاف الى الانفصال بين الشمال والجنوب، هذا بالإضافة الى الفتن الفتّاكة في منطقة دارفور، وكذلك الحرب الأهلية الصومالية المتواصلة حيث تتداخل فيها ألوان مختلفة من الإسلام السياسي ذات الطابع العنفي المصدّر الى هذا البلد.

المحطة الثامنة
أما المحطة الثامنة والأخيرة فهي اتسمت مرةً أخرى بفتنة كبرى بين العرب في موضوع الثورات العربية وتحولها الى حروب أهلية فتّاكة متميزة بتدخلات عسكرية خارجية عديدة، عربية وغير عربية، في كل من ليبيا وسوريا، تلعب فيها الدور المحوري تنظيمات ميليشيوية ترفع راية الدين الإسلامي بشكل عشوائي. كما امتدت هذه الظاهرة الإرهابية الفتّاكة الى العراق بشكل أوسع بكثير مما كانت عليه الحال قبل ذلك. فقد أتى زمن 'داعش' وادعاؤه إقامة الخلافة الإسلامية تنفيذاً لـ'نبوءة' تتحقق تلقائياً بعدما نظّر الرئيس الأميركي جورج بوش الابن طوال ولايتيه لخطر إقامة خلافة إسلامية عدائية للغرب على يد تنظيم 'القاعدة' وأسامة بن لادن، حين قال بوجود فاشية إسلامية تهدّد السلام العالمي. بهذا الكلام أمّن للهيمنة الأميركية على منطقة الشرق الأوسط وتدّخلاتها المتعددة الأوجه، شرعية جديدة للتدخل المتواصل فيها بدعم حلفائها من الأنظمة العربية ولو كان البعض منها يشجع بشكل مباشر أو غير مباشر نموّ الإسلام السياسي.
                                                                          * * *
أمام هذا المشهد المروّع لتكاثر عوامل انفجار المشرق العربي وتفكك مجتمعاته عبر فتن فتّاكة، علينا أن نراجع تاريخنا المعاصر لتحديد المسؤوليات في ما آلت اليه الأوضاع. من السهل الصراخ المتواصل بالمؤامرة الخارجية على الأمةـ أعنينا بكلمة 'أمة'، الأمة العربية أم الأمة الإسلامية ـ إنما لم أر قوماً يصدر مثل هذه الصرخة التي تدين مؤامرة ينفذها هو بأيديه! الحقيقة أن كل هذا الكلام منذ عقود عن الدين الإسلامي، وتسييسه بما يضرّ باستقرار المجتمعات العربية وازدهارها، كان لا بد أن يؤدي في نهاية المطاف الى الفوضى التي نحن فيها والى تهديم مدنيتنا وتراثنا المعماري والحضاري بشكل منهجي. لن ندخل هنا في اقتراحات حلول لإعادة البناء المستقبلي إلا للدعوة بأن تتضافر الجهود للوصول الى تحييد الدين والمذاهب الدينية في المعترك السياسي، لأن توظيفه كما حصل في نصف القرن الأخير في منطقة الشرق الأوسط كان أكبر مساهم في التدمير الذاتي للمجتمعات العربية التي غرقت منذ ذلك الحين في فشل تنموي ذريع تجّسد في أنظمة اقتصادية ريعية الطابع مبنية على الإفساد والفساد ونهب الثروات الوطنية، وبعيدة كل البعد عن جهود تأصيل العلم والتكنولوجيا في المجتمع لتأمين فرص العمل اللائقة لملايين من الشباب العربي الذين كانوا يدخلون سوق العمل ولا يزالون من دون إيجاد مثل هذه الفرص. وقد أدّى هذا الفشل الى انحرافات مجتمعية مختلفة، منها بشكل خاص تفشي البطالة والفقر والتهميش وهجرة الأدمغة من جهة، وتراكم ثروات عربية هائلة في أياد قليلة من جهة أخرى.
ربما كانت المجادلات المتواصلة حول قضايا الهوية ودور الدين والعلاقة بين العروبة والإسلام، قد حالت بكثافتها وتكرارها دون مناقشة الفشل التنموي الذريع الذي أصبح سمة رئيسية في المجتمعات العربية، أكانت غنية بمواردها الطبيعية أم فقيرة، مع أن العجز شبه المطلق في تملك وتوطين العلم والتكنولوجيات الصناعية والخدماتية ذات القيمة المضافة العالية كان ظاهراً للعيان وراء قشرة من الحداثة المتجسدة في البنايات والفنادق الفخمة والمصارف وشركات الطيران، وخصوصاً مقابل النجاح الباهر في دول شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية وتايوان وماليزيا والصين. ولم تكن الانتفاضات العربية خلال الأشهر الأولى من العام 2011 إلاّ تعبيراً جماهيرياً واسعاً عن السخط الاجتماعي والتفاوت الفضائحي في الثروات والمداخيل بين قلّة من المحظوظين الدائرين في فلك السلطة وعامة الشعب.
بدلاً من مناقشة أسباب الفشل التنموي عادت اثر الانتفاضات العربية عام 2011 المجادلات الحادة حول الدين ودوره في المجتمع. وكما في زمن صعود القومية العربية الحداثوية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي تمّت بسرعة اعادة تنظيم تحالف القوى المتضررة من الحركة الثورية الجديدة، أي الدول الغربية الكبرى والدول العربية الداعمة لحركة الاسلام السياسي، وهي التي طالما سعت في برامجها وشعاراتها الى تقييد الحريات العامة بإسم الدين، وتالياً ساهمت في نشر جوّ من الإرهاب الفكري الذي يشلّ الطاقات الفكرية في اهم قضايا المجتمعات العربية، أو يوجهها نحو قضايا لا تمت بصلة الى التحديات التنموية الحقيقية التي تواجهها تلك المجتمعات.
لذا، لكي نبني مستقبلاً أفضل للمجتمعات العربية ونعمل على إدخالها كمجموعة بشرية متماسكة ومنتجة في النظام الدولي الاقتصادي والسياسي، بحيث يصبح العربي محترماً في هذا النظام ويُنظَر اليه بشكل إيجابي وليس بالخوف من العنف الفتّاك الإرهابي الطابع، لا بدّ لنا من أن نعمل على أصعدة مختلفة. من أولى المهام إعادة بناء نظام قيمي وإدراكي لمجريات العالم الحديث ووضع العرب فيه، ذلك أن تعدد حالات الفتن بين العرب يدلّ بما لا لبس فيه على فقدان القواسم والقيم المشتركة التي من شأنها أن يلتف حولها العرب لإعادة بناء مجتمعاتهم بعدما ظهر الفشل الذريع في صوغ نظام إدراكي وفلسفي يوضح بطريقة مقنعة الأسس المجتمعية الداخلية كما علاقة المجتمعات العربية في ما بينها ومع العالم الخارجي، بغية تأمين كرامة الإنسان العربي وحريته وقدرته على الإبداع والإنتاج. وكما تبين من سردنا للمحطات المتتالية المؤدية الى الفتنة، فإن بناء النظام القيمي والإدراكي على الهوية الدينية حصراً قد ساهم في الانهيارات التي تشهدها الحياة العربية، وكذلك في فقدان القدرة الذاتية على توطين العلم والتكنولوجيا في مجتمعاتنا.

الحاجة الملحّة
إن قضية تحييد الدين في الأمور السياسية عند العرب أصبحت حاجة ملّحة، ولا لبس فيها، لأن ما نشهده من فتنة دموية بين المذاهب الإسلامية نفسها هو الدليل الساطع على مثل هذه الضرورة. لذا لا بدّ من عدم الخلط بين العلمانية بمعنى تحييد الدين في الصراع السياسي وبين الكفر وفقدان الهوية كما يدّعي سيل من الأدبيات الإسلامية الأصولية. بالإضافة الى الفتن بين المذاهب الإسلامية، والمضايقة، بل في بعض الأحيان اضطهاد المسيحيين، فإن الخطر العام الذي يحتوي عليه الإسلام السياسي هو في ادعائه مراقبة كل أعمال المواطنين العرب وتصرفاتهم وقراءاتهم وكتاباتهم، بحيث يتمّ القضاء على الحريات العامة، تالياً يتعمّق الاتجاه الانحطاطي في تاريخنا المعاصر.
لا بدّ هنا من التذكير بصعود الأصوليات الدينية كحركة عالمية متفرعة عن حركة العولمة التي تقودها الولايات المتحدة، وهي التي تزدهر فيها ظواهر الأصولية اليهودية الصهيونية المتحالفة مع بعض الكنائس البروتستانتية التبشيرية الجديدة، التي تتمتع بإمكانات مادية كبيرة، والتي هي أكبر مساند للكيان الصهيوني. وهي كنائس تنتشر بسرعة فائقة في مناطق عديدة من العالم على حساب الكنيسة الكاثوليكية التقليدية وكذلك الكنيسة الارثوذكسية وعلى حساب ديانات أخرى آسيوية مثل البوذية أو الكنفوشيانية. فهل الإسلام السياسي الذي طالما استغلته الولايات المتحدة لمصالحها الجيوسياسية قد ازدهر لأنه اندرج في الوجه السلبي للعولمة الذي يدّعي أنه يكافحها؟ هناك سردية نمطية تبريرية واستشراقية أصبحت دارجة بأن الإسلام السياسي هو رد فعل هوياتي طبيعي من المسلمين ضحية مزدوجة لاضطهاد الاستعمار التقليدي وتلاه 'اضطهاد' الأنظمة التي خلفت الحكم الاستعماري وعملت بأنظمة سياسية حديثة لم تعط الدين والهوية الدينية وضعها المركزي في الهوية العربية، وذلك حسب سردية أخرى لا تقلّ نمطية عن السابقة وتدّعي أن الإسلام لا يفرّق بين الديني والزمني، فهو دين ودولة في الوقت نفسه على خلاف الديانة المسيحية.
لا يمكن أن ندخل هنا في التفاصيل لنبرهن أن التاريخ لا يثبت هذه السردية. ففي المسيحية كانت الكنيسة تُشرف على المجتمع وعلى الدولة بشكل متواصل ومتكامل، بينما تعددت في الحاضرة الإسلامية الكيانات السياسية وأنظمة الحكم الى أبعد الحدود. وابتداءً من أواسط القرن التاسع الميلادي تفرّق المسلمون وانتشروا في أرجاء العالم خصوصاً في آسيا، وتراجع استعمال لغة القرآن، أي اللغة العربية، لصالح اللغات الأصلية للشعوب التي دخلت الإسلام. فالإسلام دين عابر للقوميات والثقافات والاتنيات وليس ديناً قومياً. وقد برهنت المرحلة الحديثة لتاريخ العرب أن الخلط بين الدين والقومية هو من أسباب دينامية الفشل التي أصابتهم وجعلتهم تحت أنواع من الوصاية غير العربية المختلفة، إقليمياً ودولياً.
في نهاية المطاف، لا أحد من خارج المجتمعات العربية يمكن أن يعالج أوضاعنا الشاذة والمهينة. فعلينا نحن أن نبني استقلالنا الحقيقي الذي يبدأ بالاستقلال الفكري وبكسر السرديات النمطية التي أصبحت سجناً كبيراً. فقد تمّ صوغ السرديات هذه في مجرى الإشكاليات الفلسفية الغربية الكبرى ومنها الاستشراقية الطابع. ألم يحن الظرف المناسب لكي نمارس المنطق والاستقلال الفكري بعيداً من كل هذه السرديات النمطية التي أشرت اليها باقتضاب لكي نتمكن من بناء مستقبل مختلف عما سبق من مراحل دينامية الانحطاط والتفكك المجتمعي التي وصفتها هنا، آملاً الولوج الى مرحلة جديدة، من التفكير المستقل والقدرة الادراكية لمسار العالم مما يسمح بالعمل الجماعي المنتج وهو وحده من شأنه أن يؤمّن الخبز والكرامة معاً. مثل هذا التطور هو الوحيد يكفل كسر حلقة الانحطاط الدموية التي نعيش فيها منذ قرن على الأقل، أي منذ ان تمّ التدمير المنهجي لإنجازات حركة النهضة الفكرية وبداية النهضة التنموية المرافقة لها التي بدأت برفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر واستمرت في القرن العشرين حتى هيمنة عصر النفط على حياة المجتمعات العربية في الربع الأخير من القرن العشرين.
المصدر: صحيفة النهار

موقع الخدمات البحثية