قراءات عسكرية » دماء قبل التفاوض: رؤى غربية للعملية العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة

ديفيد هيرست، تشاك فريليتش(*)
أثارت العملية العسكرية الإسرائيلية 'الجرف الصامد' ضد قطاع غزة، والتي أسفرت عن سقوط عشرات القتلى الفلسطينيين، تساؤلات عدة حول توقيت العملية، وأبعادها ومآلاتها المحتملة. في هذا السياق، يعرض موقع المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية وجهتي نظر من خبيرين غربيين في الشرق الأوسط، تكشفان عن الاتجاهات العامة في النظر إلى الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة ضد غزة. فبينما يرى البعض أن العملية العسكرية ستوجه قوة التيار الجهادي المتصاعد في الشرق الأوسط باتجاه إسرائيل، فإن آخرين يرون أن تل أبيب اعتادت أن تبدأ جولات التفاوض بعد عمليات عسكرية ضد الفلسطينيين.
gaza_300في هذا الإطار، يقول ديفيد هيرست، الكاتب الصحفي البريطاني المختص بشئون الشرق الأوسط، في مقال له نشرته صحيفة 'هافنجتون بوست' الأمريكية، إن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة أثبتت فعاليتها في إنشاء جيل فلسطيني آخر لديه العزيمة والإصرار على تدمير إسرائيل. ولفت هيرست إلى أن حل الدولتين هو الحل الذي يعتنقه الليبراليون الصهاينة؛ لأنه الحل الوحيد الذي يضمن بقاء أغلبية يهودية ضمن حدود عام 1948، ولكنه هو نفس الحل الذي تع/مل قوة إسرائيل العسكرية على دفنه في ركام ما يدمره قصفها لغزة. ورأى أن العدوان الحالي على غزة يمكن أن يُطلق عليه اسم 'عملية العصر الحجري'، والحجارة هنا ترمز إلى انتفاضة أخرى.

خلافات داخل حماس
وبحسب ديفيد هيرست، فإن قرار خالد مشعل تشكيل حكومة الوحدة كان خلافيًّا داخل حماس. فقبل الإعلان عن تشكيل الحكومة شهد اجتماع عقد في الدوحة خلافات عاصفة، خاصة من قبل أعضاء حماس في الضفة الغربية، الذين كانوا يعلمون أن استمرار عباس في التعاون الأمني مع إسرائيل سيعني استمرار إجراءات القمع والملاحقة بحقهم. وهوجم خالد مشعل داخل حماس لأنه تنازل كثيرًا لعباس.
ولا يستبعد الكاتب أن تكون عملية اختطاف وقتل المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة في الضفة الغربية قد قام بها منتسبون لحماس في الخليل بهدف توجيه ضربة للسياسة التي لم يوافقوا عليها ابتداء. ويمكن أن تكون عملية الخطف قد حصلت إضافة إلى ذلك لسبب معلن ومعروف وهو محاولة فرض إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين الذين أوقف نتنياهو عملية الإفراج عنهم حينما انهارت محادثاته مع عباس.
أما فكرة أن مشعل في الدوحة أو أحدًا من حماس في غزة هو الذي أمر بهذه العملية أو خطط لها فتتعارض مع كل منطق، برأي هيرست. 'بإمكانك أن تقول ما تشاء بحق حماس، ولكنك لا يمكن أن تنكر أن الجماعة منطقية. فالذين خططوا لعملية الاختطاف إنما أرادوا تدمير حكومة الوحدة، ولعل فصيلا فلسطينيًّا ما هو الذي قام بهذا العمل، وقد تكون إسرائيل هي من قام به، ولكن يستحيل أن يكون وراءها لا خالد مشعل ولا حماس في غزة، وهم الذين بذلوا قصارى ما في وسعهم لضمان نجاح صفقة المصالحة، ولم يتراجعوا عنها حتى يومنا هذا'.

هدم المنجزات الإسرائيلية
ورأى ديفيد هيرست أن رد الفعل الفلسطيني على العدوان العسكري الإسرائيلي يهدم منجزات إسرائيلية استغرقت سنوات، وكلفت الملايين من الدولارات، مضيفًا أن رد الفعل يُعيد توحيد الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي إسرائيل وفي غزة التي ما فتئ الإسرائيليون يحاولون تجزئتها واحتواءها في كانتونات.
وأوضح هيرست: 'ترتكب إسرائيل خطأ أكبر إقليميًّا، فإسرائيل لم تعد محاطة من قبل دول تشكل بالنسبة لها مناطق عازلة، سواء كانت صديقة أو معادية، تضمن لها أمن حدودها. فسوريا لم تعد تقوم بهذه المهمة، ولا حتى مصر السيسي قادرة على القيام بها بسبب ما تواجهه من تمرد جهادي واسع النطاق في سيناء. لقد جلبت الثورة المضادة والحروب الأهلية التي نجمت عن الربيع العربي الفوضى إلى المنطقة، وفي مثل هذه الفوضى تنتعش بعض الجماعات مثل الدولة الإسلامية. وهؤلاء لا يحترمون الحدود الدولية كما بدأت تكتشف كل من الأردن والمملكة العربية السعودية وليبيا ومصر'.
وأضاف هيرست: 'من خلال التسبب في جلب القضية الفلسطينية تارة أخرى إلى الواجهة في مسرح الأحداث داخل الشرق الأوسط، فإن إسرائيل تجذب باتجاهها أسوأ أنواع الاهتمام من أكثر العناصر تطرفًا في منظومة الإسلام الراديكالي، وخاصة إذا ما نجحت في سحق حماس'.

'كابوس' حماس
من جانبه ، انتقد تشاك فريليتش، نائب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق ومؤلف كتاب 'معضلات صهيون: كيف تضع إسرائيل سياسة الأمن القومي'، في مقال له نشرته مجلة 'ناشيونال إنترست' الأمريكية في موقعها على الإنترنت حركة 'حماس'، وأنحى عليها باللائمة فيما وصفه بالإرهاب داخل إسرائيل، مطالبًا تل أبيب بالرد عليها. واعتبر أن 'حل الدولتين' هو الأمل في الاستقرار، ولكنه يُلقي باللائمة على الشرط الفلسطيني بالعودة غير المحدودة للاجئين.
ووصف تشك فريليتش حالة الفزع التي يعيشها الناس في تل أبيب والقدس تحت نيران صواريخ حماس، بالقول إن الأهالي في إسرائيل يترددون في الذهاب إلى العمل، أو إرسال أطفالهم إلى المخيمات الصيفية، أو الذهاب إلى الشاطئ.
وقال فريليتش، أستاذ العلوم السياسية بجامِعَتَيْ هارفارد وتل أبيب، إنه لا يمكن لبلد أن يسمح لمواطنيه بالتعرض لهجوم متكرر من قِبَل من سماهم بـ'الإرهابيين'، مشبِّهًا الأمر كما لو أن مدينة خواريز المكسيكية أو تورنتو الكندية تطلقان صواريخهما باستمرار على الولايات المتحدة. لا أحد سيوافق على ذلك، وسيتولد ضغط شعبي عارم يدفع حكومة الولايات المتحدة للرد بقوة مدمرة.
وأضاف الكاتب أن البعض قد يحتج على الفور بالاحتلال والمستوطنات ومواقف حكومة نتنياهو المتشددة، وكلها أسباب صحيحة جزئيًّا، ولكنه يعتبرها مسائل منفصلة، مشيرًا إلى أنه لا يمكن الدفاع عن الإرهاب والاستهداف العشوائي للمدنيين مهما كانت الأسباب، وهو ما تقوم به حماس التي تنكر حق إسرائيل في الوجود، وتدعو إلى تدميرها باستهداف المدنيين الإسرائيليين لتجعل من الصعب على إسرائيل أن ترد بشكل فعال، حيث تسوّق حماس قضيتها وتدعي انتصارها عند سقوط بعض المدنيين الفلسطينيين قتلى من جرّاء الرد الإسرائيلي، على الرغم من التدابير الشديدة التي تتخذها إسرائيل لتجنب هذا.
وزعم تشك فريليتش أن حكومة نتنياهو سعت لتجنب التصعيد، وخاصةً الحاجة إلى عملية برية كبيرة، ولكن تحت ضغط كل من الصواريخ الحمساوية ومطالب الجمهور بتحقيق استجابة فعالة، ثبت أن هذا مجرد أمل كاذب.
خيارات محدودة لإسرائيل وأكد تشك فريليتش أن خيارات إسرائيل محدودة ولا تنطوي على أي خيارات دبلوماسية على المدى القصير، نظرًا إلى فشل المفاوضات الأخيرة، نافيًا قدرةَ إسرائيل على التسامح مع الوضح الحالي، وربما تتسبب عملية عسكرية كبيرة في شعورها براحة مؤقتة قبل الإقدام على الجولة المقبلة من التفاوض.
وتساءل الكاتب عما إذا كانت إسرائيل ستشن عملية برية كبرى لإسقاط حماس، فمن سيحل محلها بمجرد انسحابها؟ مشيرًا إلى أن الجهات الفاعلة الوحيدة في غزة اليوم أكثر تطرفًا. وقال فريليتش يمكن لإسرائيل، بطبيعة الحال، إعادة احتلال غزة، لكن لا أحد يريد حتى التفكير في هذا الخيار، على الرغم من أن إعادة احتلال مؤقتة أمر منطقي إذا كانت إسرائيل ستسلمها للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. ولكن نظرًا لأن الأخيرة لا تملك القدرة على فرض حكمها، فلن تتعاون حتى لو كان هذا في الواقع هو الوسيلة الوحيدة لإعادة توحيد الفلسطينيين، وإسرائيل غير مستعدة لدفع الثمن من دمائها.
وألمح أنه في حال عدم قيام إسرائيل برد عسكري فعال تمامًا، يكون الأمل معقودًا على إدارة الصراع، وليس القرار، ولا تكون أهداف إسرائيل في العملية الحالية أكثر من استعادة الهدوء النسبي الذي ساد منذ الجولة الماضية. ومثل الجولات السابقة، من المحتمل أن تنتهي هذه الجولة بنهاية مؤقتة بعد وساطة من طرف ثالث، ربما مصر.

حل الدولتين وأمل الاستقرار
ورأى فريليتش أن مبدأ 'حل الدولتين' لشعبين إسرائيلي وفلسطيني يحمل أملا للاستقرار على المدى الطويل، مشيرًا إلى أنه في ثلاث مناسبات، في كامب ديفيد في عام 2000، و'مقترحات كلينتون' في وقت لاحق من ذلك العام، وفي عام 2008؛ قدمت إسرائيل مقترحات تاريخية للسلام، وافقت فيها على الانسحاب من ما يقرب من 100% من الضفة الغربية، ونقل نحو 80 % من المستوطنين وتقسيم القدس.
وكان المجال الوحيد الذي لم تكن إسرائيل راغبة في تقديم مقترحات كبيرة فيه هو الطلب الفلسطيني بعودة اللاجئين بأعداد غير نهائية. في المفاوضات الأخيرة، وردت تقارير بأن نتنياهو أبدى استعداده للانسحاب من نحو 90% من الضفة الغربية على الرغم من أنه كان أكثر تشددًا في نقاط أخرى. ومن المؤلم أن الفلسطينيين لا يزالون يتشبثون بمنهج 'كل شيء أو لا شيء' على مدار قرن من الزمن تقريبًا، ويرفضون هذه المقترحات بعيدة المدى، ويصرون على 'حق العودة الكامل' وهو مطلب غير واقعي تمامًا، برأي الكاتب.
وهنا يبدو فريليتش مقتنعًا بأن السلام لا يلوح في المستقبل القريب، ويلمح أنه من المستحسن لإدارة أوباما، التي أهدرت كل رأسمالها الدبلوماسي وما تبقى من أي نوايا حسنة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في محاولتين فاشلتين لتعزيز المفاوضات - أن تنتظر ظهور ظروف مواتية حقًّا قبل المحاولة مرة أخرى، معتبرًا أن أي محاولة فاشلة أخرى، على الرغم من المغريات الواضحة بالمحاولة، هي آخر شيء يحتاجه الإسرائيليون والفلسطينيون.
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية

موقع الخدمات البحثية