قراءة في كتاب » دورٌ متنامٍ: تأُثير الرأي العام في تشكيل سياسات منطقة الشرق الأوسط

ظلت دراسات الرأي العام في العالم العربي خلال عقود مضت حبيسة كتابات المفكرين، فهي لم تتجاوز مرحلة الرؤى الأكاديمية المنعزلة عن تفاعلات ومقتضيات الواقع السياسي، فالسياقات السياسية التي عايشتها الشعوب العربية كانت ترجح كفة الحاكم على المحكوم؛ فغالبية حكام الدول العربية وصلوا إلى السلطة عبر مسارات مختلفة، ليس من بينها مسار اختيار المواطنين عبر الانتخابات، كما هو متعارف عليه في الدول الديمقراطية. وهكذا بدت العلاقة مختلة، ومعها أمست تفضيلات المواطنين وتوجهاتهم غير ذات مغزى. وفي خضم هذه الوضعية باتت مؤسسات الدولة هي الأخرى تعمل في حالة أشبه بالقطيعة والتباعد عن المواطنين.
بيد أن التحولات التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الماضية، لا سيما عقب ما عُرف بثورات الربيع العربي؛ فرضت على الباحثين إعادةَ النظر في الكثير من فرضياتهم المتعلقة بدراسات الرأي العام في العالم العربي، مع ما خلفته ثورات الربيع العربي من إحياء لدور المكون الجماهيري في صياغة سياسات الدولة، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، ويعد كتاب شبلي تلحمي المعنون بـ'العالم بعيون عربية.. الرأي العام العربي وإعادة تشكيل منطقة الشرق اﻷوسط' واحدًا من الكتب الرئيسية التي تتجاوب مع هذه التغيرات.
وينطلق الكتاب ـ المكون من اثني عشر فصلا ـ من فرضية رئيسية، مفادها أن المقاربة المفتاحية لفهم الإقليم وسبر أغواره في الحاضر والمستقبل تتمثل في التعرف على القيم الراسخة والمعتقدات المهيمنة على عقول المواطنين، ويتخذ تلحمي من هذه الفرضية مدخلا لكتابه المؤسس على استطلاعات رأي امتدت لما يقرب من عشر سنوات، وشملت مواطنين في ست دول عربية (مصر، والسعودية، والأردن، ولبنان، والمغرب، والإمارات، بالإضافة إلى استطلاعات رأي مكملة في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل)، ويتناول من خلالها العديد من القضايا المتنوعة.
 
ثورات الربيع العربي
حينما اندلعت ثورات الربيع العربي في أواخر عام 2010، بدايةً بتونس، وانتقلت فيما بعد لدول أخرى؛ طُرح معها تساؤل جوهري حول إمكانية إحياء دور الشارع والمواطن العادي في توجيه سياسة الحكومات، فقد رأى تلحمي في الثورات العربية تحولا جوهريًّا ستظل تداعياته ماثلةً في الإقليم لسنوات، فالثورات كانت مرتبطةً في الأساس بفكرة الكرامة لدى المواطن العربي أكثر منها بسبب عوامل دينية أو سياسية؛ إذ إن الثورات كانت بمثابة محاولة من المواطنين لوضع حد للشعور المرير بالإهانة الذي ترسخ بمرور السنوات، وما أفرزه من إحباطات متوالية (في ظل أوضاع اقتصادية مأزومة) أفضت في النهاية إلى نقطة الانفجار.
ويفترض الكتاب أن أهم ما أنجزته الثورات العربية هو القضاء على تلك الثقة الزائدة التي طالما كانت السمةَ الرئيسية لأنظمة تسلطية في دول الربيع العربي، بحيث كانت تثق بدوام حكمها، ومن ثم استمرت في تجاهل تطلعات شعوبها بصورة أدت إلى تراجع قدرة هذه الأنظمة على التحكم بمقاليد الأمور، وسقوطها في نهاية المطاف.
ويُلقي تلحمي الضوءَ على وسائل الإعلام في العالم العربي، فقد تعاظم دور الفضاء الإعلامي، وكذلك الإلكتروني خلال السنوات الماضية ليعبرا عن مأزق حقيقي للأنظمة الحاكمة، فقد كان من شأن القنوات الفضائية العابرة للقومية وشبكة الإنترنت إحداث شروخٍ في بنية الاستبداد العربية، وكسر قبضة الأنظمة الحاكمة، وسيطرتها على المعلومات. ويضيف الكاتب أن ثمة إشكالية تعاني منها العلاقة الثنائية بين الإعلام والمواطن العربي؛ وهي أن المواطن يركن إلى الاعتماد على وسائل الإعلام التي تلبي تحيزاته، وتتوافق مع رغباته، وخلفيته الفكرية، وبالتالي فمن غير المجدي توجيه الانتقادات لوسائل الإعلام العربية، فهي في المقام الأول والأخير تعكس واقعًا مجتمعيًّا، وتوجهات جمهور المتلقين للرسالة الإعلامية.
واقترنت ثورات الربيع العربي ببزوغ عددٍ من القضايا، من ضمنها صعود التيار الإسلامي كرقمٍ هامٍّ في المعادلة السياسية، وما ارتبط بهذا الأمر من تجدد سؤال الهوية التشريعية، ودور الشريعة الإسلامية في المجتمع، وهنا يذكر تلحمي أن قضية الشريعة بدت إحدى القضايا التي تشغل بال المواطن العربي لسنوات طويلة. فعلى سبيل المثال كشف استطلاع رأي أُجري على عينة من المصريين خلال عام 2012 -بحسب الكتاب- أن حوالي 66% ممن شملهم الاستطلاع أعربوا عن رغبتهم في تبني الشريعة الإسلامية كركيزة للقانون المصري، ولكن هذه النسبة شهدت تمايزًا من زاوية رؤيتها للشريعة، ففي حين فضل 83% تطبيق روح الشريعة والمبادئ التي نادت بها بما يتوافق مع مقتضيات العصر الحديث؛ نجد أن 17% فقط تريد تطبيق الشريعة بشكل نصي بما في ذلك تطبيق الحدود.
وفي سياق متصل؛ يذكر تلحمي أن ثورات الربيع العربي أسفرت عن تنامي اهتمام المواطن العربي بالشأن العام، بل والإصرار على المطالبة بحقه في المشاركة السياسية، ويتوقع أن يؤدي تعاظم المشاركة السياسية إلى تدعيم مسار التحول والممارسات الديمقراطية الصحيحة في أنحاء مختلفة من العالم العربي.
 
رؤية عربية للآخر.. الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران
عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ظهر لدى الولايات المتحدة سؤال محير عبر عنه المفكر الأمريكي 'فريد زكريا' في مقالٍ له بعنوان: 'لماذا يكرهوننا؟' ومنذ ذلك الحين تبحث الولايات المتحدة عن أسباب كراهية قطاع واسع من شعوب العالم العربي والإسلامي لها، ويبدو أن هذه المسألة احتلت أهمية واضحة في كتاب تلحمي، محاولا الاقتراب من موقف المواطن العربي ورؤيته للولايات المتحدة.
 وفي هذا الإطار كشف تلحمي عن تبني المواطن العربي رؤية مزدوجة تجاه الولايات المتحدة، فهو من ناحية لا يخفي إعجابه بالحضارة الأمريكية، والمنتج الثقافي الأمريكي، ومن ناحية أخرى يكره سياسات الولايات المتحدة التي تُلحق بالعالم العربي الكثير من الضرر، فالعالم العربي لم ينسَ الدعم الأمريكي المستمر لدولة إسرائيل، وتجاهلها التام لتطلعات الفلسطينيين، ومن ورائهم العالم العربي والإسلامي، يُضاف إلى ذلك الغزو الأمريكي للعراق، والازدواجية في الخطاب الأمريكي، ففي حين كانت تزعم واشنطن تبنيها خطابًا مثاليًّا داعمًا للديمقراطية وحقوق الإنسان؛ كانت تدعم أنظمة استبدادية بالمنطقة تحقق لها مصالحها.
ولم يكتفِ الكتاب بالرؤية العربية للولايات المتحدة، ولكنه سعى إلى توضيح الرؤية الأمريكية المقابلة للمسلمين، ومن هذا المنطلق أوضح أن الأمريكيين ينتشر بينهم شعور بعدم الارتياح للإسلام كعقيدة، ولكن هذه المواقف السلبية لا تترجم نفسها بالضرورة إلى كراهية إزاء من يعتنقون الإسلام، وهكذا تكشف البيانات (المستمدة من استطلاعات رأي أُجريت بالولايات المتحدة) أن نسبة 50% (من المواطنين الأمريكيين الذين استُطلعت آراؤهم) لديهم مواقف إيجابية تجاه المسلمين بالولايات المتحدة.
ولا تختلف الرؤية العربية كثيرًا فيما يتعلق بإسرائيل؛ حيث لا تزال قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي 'محور الألم الرئيسي' في العالم العربي، والقضية الجوهرية التي على أساسها تتشكل الرؤية العربية للعالم الخارجي، وحتى حينما حاول تلحمي قياس مدى تعاطف المواطن العربي مع الهولوكوست بدا أن المواطنين العرب داخل إسرائيل هم أكثر تعاطفًا (بمعدل أربعة أضعاف) مع ضحايا الهولوكوست من اليهود، مقارنةً بالمواطنين العرب في الدول العربية التي تضمنتها الاستطلاعات.
وهذه المعطيات جعلت المواطن العربي أكثر تفضيلا للقيادات التي تناهض إسرائيل والولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال حينما طُرح على المواطنين تساؤل حول القيادات الخارجية التي تحظى بتفضيلهم؛ كانت الإجابة بذكر قيادات تقف ضد إسرائيل، ومن هذه الأسماء: حسن نصر الله، ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، كما أوضح استطلاع للرأي أُجري في المملكة السعودية عام 2011 أن صدام حسين أكثر شخصية قيادية أجنبية تحظى بالإعجاب، وذلك يرجع في الكثير من أسبابه للتوجه الذي يربط درجة الإعجاب بالقيادة بمدى مناهضتها للولايات المتحدة.
ويُشير تلحمي إلى أن حل الدولتين كآلية لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يلقى قبولا لدى المواطنين العرب، فقد كشفت البيانات ـ وبناء على حساب المتوسط المرجح ـ أن ثلثي من تم استطلاع آرائهم بالدول العربية الستة يرحبون بحل الدولتين، بينما كانت النسبة الأقل ترغب في استمرار القتال ضد إسرائيل للأبد.
وينتقل تلحمي إلى الرؤية العربية لإيران، ويخلص إلى أنه لا يزال هناك تقدير لدى العرب بأن إيران تمثل تهديدًا حقيقيًّا (صحيح أنها تحتل مرتبة متأخرة عن التهديد الإسرائيلي والأمريكي)، ويتصل هذا التقدير في الغالب بالطموح النووي الإيراني، وما ينطوي عليه من مخاطر، ففي استطلاع للرأي الذي أُجري في مصر عام 2012 تبين أن 61% يريدون من دولتهم تطوير ترسانة نووية في حال امتلاك إيران السلاح النووي.
عرض: محمد بسيوني عبد الحليم، باحث في العلوم السياسية.
Shibley Telhami, The World Throascii117gh Arab Eyes: Arab Pascii117blic Opinion and the Reshaping of the Middle East, Basic Books, 2013
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية

موقع الخدمات البحثية