أوراق إستراتيجية » استثمارات المستقبل: لماذا تعثرت المنطقة العربية في بناء رأس مال فكري؟


كريم صالح(*)
الفكرة هي أساس التطور الإنساني، والعقل البشري هو أداة لا غنى عنها في ذلك التطور، فكل ما وصلت إليه البشريةُ من إنجازات وقدرات يرجعُ إلى استثمار المجتمعات والدول في التنمية الفكرية، وحماية الحقوق الفكرية لأصحابها ومؤسساتها، لضمان وجود دافعٍ للتفكير والتطوير يحقق التنمية الاقتصادية والتطور العلمي. لذا فالاستثمارُ الفكري عامل مهم لدفع عجلة الإنتاج الاقتصادي المتمثل في تكنولوجيات الإنتاج، وصقل مهارات العمالة، وتحسين جودة التعليم. وعدم الالتفات لهذا النوع من الاستثمار -خاصة في دول المنطقة العربية - هو سبب رئيسي في تردي عجلة الإنتاج المحلي، وعدم اتزان إدارة الاستثمارات، وتردي جودة التعليم، وسرقة الأفكار، وسبب رئيسي في هجرة العقول والإمكانات عن المنطقة، الأمر الذي يزيد الوضع تعقيدًا.

الأصول الفكرية وكيفية استثمارها؟
الأصول الفكرية Intellectascii117al Assets هي عبارة عن معرفة مجمعة (سواء كانت موثقة أو لم يتم توثيقها) من الأفراد سواء أكانوا منظمين أم غير منظمين في جماعات داخل المجتمع. هذه المعرفة يمكن استخدامها لإنتاج الثروة، ومضاعفة الناتج من الأصول المادية، واكتساب ميزة تنافسية، ولتعزيز قيمة أنواع أخرى من رءوس الأموال. ومن هنا،أصبح رأس المال الفكري يصنف على أنه رأس المال الحقيقي؛ لأن الاستثمارَ واستبدال الأفراد يرقى إلى الاستثمار في الآلات والمصانع، كما أن النفقات التي تتكبدها الدول في التعليم والتدريب (للحفاظ على صلاحية الأصول الفكرية) تعادل تكاليف استهلاك الأصول المادية.
ويشمل رأس المال الفكري رأس المال للعملاء، ورأس المال البشري، والملكية الفكرية، ورأس المال الهيكلي. لذا فهو أحد الأصول التجارية الحقيقية، على الرغم من أن قياسه ذاتي جدًّا؛ حيث إن الشركات تنفق الملايين سنويًّا على تدريب موظفيها في الموضوعات التجارية الخاصة، ، وبالتالي فرأس المال العامل يوفر عائدًا للشركة، وإحدى السبل التي يمكن أن تساهم في استحقاق سنوات عديدة من قيمة الأعمال التي تدر الأرباح. إذن، فالاستثمار الفكري هو عبارة عن ضخ الموارد والإمكانات لتحسين قدرات الأفراد والتكنولوجيا المرتبطة بالعمل والإنتاج. ويتمثل هذا الاستثمار في خمسة محاور رئيسية، هي:
- براءات الاختراع التي تتمثل في منح المخترع الحق في استبعاد الآخرين من صنع أو استخدام أو بيع أو عرض بيع واستيراد الاختراع لفترة محدودة من الزمن، في مقابل الكشف العلني للاختراع.
- حقوق الملكية الفكرية تُعطي حقَّ الطبع والنشر لمنفذ العمل الأصلي، وعادةً لفترة زمنية محدودة. وقد تنطبقُ حقوقُ التأليف والنشر على مجموعةٍ واسعةٍ من النماذج الفكرية، والفنية، والإبداعية، أو 'الأعمال'. كما أن حقوقَ الطبع والنشر لا تشمل الأفكار والمعلومات نفسها، فقط الشكل أو الطريقة التي يتم التعبير عنها.
- حقوق التصميم الصناعي ، حيث تحمي التصميم المرئي، أو الرسم، أو النموذج الصناعي الذي يتكون من إنشاء الشكل والتكوين، أو تكوين نمط، أو اللون، أو مزيج من النمط واللون في شكل ثلاثي الأبعاد، يحتوي على القيمة الجمالية. كأن يتم رسم نموذج صناعي لإنتاج منتج أو سلعة، أو حرف يدوية صناعية.
- العلامات التجارية: وهي علامة التعريف أو التصميم أو التعبير الذي يميز المنتجات أو الخدمات.
- الأسرار التجارية: وهي الصيغة والممارسة والعملية والتصميم والنمط، أو تجميع معلومات لا يمكن التحقق منها بشكل معروف، والتي يمكن لأصحاب الأعمال الحصول على ميزة اقتصادية على المنافسين أو العملاء عند معرفتها أو استعمالها.
وتُمثل هذه المحاور النقاط الأساسية في حماية الصناعات التي يترتب عليها النهوض الاقتصادي للدول؛ حيث تمثل براءات الاختراع، وحقوق الملكية الفكرية، وحقوق التصميم الصناعي - الحمايةَ اللازمة للمصنعين والمبدعين والمخترعين من سرقة أعمالهم، وضمان التنافسية العادلة التي توفر بيئة خصبة للعمل، وبالتالي زيادة الخبرات، وتوفر بيئة خصبة للاستثمار والتجارة العالمية.

الأبعاد الاقتصادية للاستثمار الفكري
يُشير تقرير المنظمة العالمية للملكية الفكرية WIPO لسنة 2013 إلى أن النمو الاقتصادي للدول النامية يبدأ من الاستثمار في مجالات حماية الملكية الفكرية، وأن هناك نموًّا واضحًا في استثمارات العلامات التجارية نسبة إلى الناتج الاقتصادي في الاقتصادات المنخفضة والمتوسطة الدخل.
وبالنسبة للقطاع الخاص، فإن هناك نموًّا واضحًا للعلامات التجارية؛ حيث زادت قيمة أكبر ثلاث علامات تجارية من 46 مليار دولار إلى 91 مليار دولار ما بين 2008 و2013 رغم وجود الأزمة الاقتصادية العالمية؛ حيث تُمثل هذه العلاماتُ التجارية نسبةً كبرى من القيمة السوقية العالمية. في حين أن معظم العلامات التجارية هي أعلى من الاقتصادات ذات الدخل المرتفع، والعلامات التجارية من الاقتصادات سريعة النمو ذات الدخل المتوسط تكتسب بعض الأرض. على وجه الخصوص، فإن حصة الاقتصادات ذات الدخل المتوسط في القيمة الإجمالية لأكبر 500 علامة تجارية ارتفعت من 6٪ إلى 9٪ بين عامي 2009 و2013. ويشير التقرير نفسه أيضًا إلى أنه على مدى العقود الأربعة الماضية، زاد الطلب على العلامات التجارية إلى مستويات غير مسبوقة.
فبعد بداية بطيئة في بداية القرن العشرين، تسارع نشاط العلامات التجارية بشكل ملحوظ في منتصف السبعينيات في مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأمريكي (ascii85SPTO)، بينما الاقتصادات ذات الدخل المتوسط، بدأت تشهد ارتفاعًا سريعًا في إيداعات العلامات التجارية في أواخر الثمانينيات والتسعينيات؛ حيث إن عدد إيداعات العلامات التجارية في معظم الاقتصادات يرتبط بدورة الأعمال التجارية؛ ووفقًا لذلك، كان هناك انخفاض حادٌّ في عدد الإيداعات، سواء بعد طفرة مواقع الإنترنت التجارية في أواخر التسعينيات، وبعد بداية الأزمة المالية الأخيرة.
وبالنسبة للاقتصادات عالية الدخل والبلدان متوسطة الدخل، هناك زيادة في استخدام العلامات التجارية بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي بشكل ملحوظ بين عامي 1985 و2011؛ حيث زادت كثافة الاقتصادات ذات الدخل المرتفع من استعمال العلامات التجارية بتقدم معامل %1.6، وزيادة الاقتصادات متوسطة الدخل بتقدم معامل 2.6% خلال هذه الفترة.
 
معوفات الاستثمار الفكري
تواجه حقوقُ الملكية الفكرية في العالم العربي مشكلات معقدة لم يتم تداركها إلا منذ بضع سنوات نتيجة الاستثمارات القادمة من الخارج، ووصول العلامات التجارية العالمية إلى المنطقة، والتي تنص عقودها مع الوكلاء على حماية حقوق الملكية الفكرية لتلك المنتجات والصناعات، ومحاربة عمليات التقليد.
ويتضح الأمر في صناعة البرمجيات والإنترنت في المنطقة، حيث إن عدم إدراك خطورتها والمعرفة الحقيقية بأبعادها دفع كثيرًا من مواقع الإنترنت العربية إلى فتح أبوابها لاستضافة مثلِ هذه المخالفات، والانتهاكات الصارخة والعلنية لحقوق الملكية الفكرية، لا سيما مع عدم وجود رادعٍ حقيقيٍّ لأصحاب المواقع من نشر البرمجيات المقرصنة، واقتصار دور المنظمات والجهات الحكومية على ملاحقة متاجر بيع البرمجيات المقرصنة على أرض الواقع، وتجاهل العالم الافتراضي الذي بات يشكل جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان في البلدان العربية.
وتنعكس أصداءُ الآثار المرتبطة بهذا الموضوع سلبًا على مجالات التوريد والتوزيع، وقياسًا على ذلك صناعات أخرى في المنطقة. على سبيل المثال، دولة الإمارات البالغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة أنفقت خلال العام الماضي ما يقارب 2.7 مليار دولار أمريكي على تكنولوجيا المعلومات التي تشتمل على أجهزة الكمبيوتر، وملحقاتها، والتجهيزات الشبكية، والبرمجيات، وخدمات تكنولوجيا المعلومات. وقد شكل هذا الإنفاق 1.5% من إجمالي الناتج المحلي، الأمر الذي أسهم في دعم أكثر من 4400 شركة عاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات، تضم ما يقارب من 33400 موظف متخصص في هذا القطاع، وساهم في تحقيق 670 مليون دولار كضرائب متعلقة بتكنولوجيا المعلومات.
وعلى الرغم من ذلك، يمكن أن تكون مساهمة قطاع تكنولوجيا المعلومات أكبر إذا ما تم تخفيض معدلات قرصنة برمجيات الكمبيوتر في الإمارات بنسبة 10% على مدى السنوات الأربع المقبلة، الأمر الذي من شأنه أن يوفر 710 وظائف إضافية، و238 مليون دولار في إيرادات الصناعة المحلية، و44 مليون دولار كعوائد ضرائب إضافية للحكومات الاتحادية والإقليمية والمحلية.

حلول مطروحة
تكمن المشكلة في عدم وجود الوعي الكافي بأن الاستثمار الفكري يعد ركيزةً من ركائز استقرار الصناعات بشتى أشكالها، وسببًا رئيسيًّا في النهوض بالاقتصادات، وجذب الاستثمارات الخارجية. لذا فالحل يكمن في وجود آلية لتشجيع الملكية الفكرية، وضمان حمايتها ضد الانتهاكات، وتشجيع البحث والتطوير، وخاصة في الصناعات المحورية التي تعتمد بشكل جذري على الدراسة والأبحاث، وآلية أخرى لمراقبة ومعاقبة الانتهاكات لضمان وجود مناخٍ عادلٍ من المنافسة، مع حفظ الحقوق والاستثمارات الخاصة لمن قدموا براءات اختراع وتسجيلات للعلامة التجارية عن طريق وضع قوانين وتشريعات صارمة.
الجهات الحكومية لها دور مهم أيضًا في دعم الاستثمار الفكري عن طريق التوعية البناءة، وتسهيل إجراءات التسجيل لأصحاب الأفكار والصناعات، ومنح الدعم للشركات والأفراد الذين يتقدمون بطلبات التسجيل. كما يمكن أن يلعب الإعلام دورا في توعية المستهلكين بأهمية شراء المنتجات ذات العلامة التجارية المسجلة عن طريق إطلاع كافة شرائح المجتمع بالآثار الضارة لانتهاك العلامات التجارية، والتركيز أكثر على الوعي بشأن حقوق الملكية الفكرية.
أضف إلى ذلك، أن التوعية بأهمية دعم المنتجات الوطنية المسجلة سيخلق زيادةً في الطلب العام، مما سيؤدي إلى فرص حقيقية للتنمية. كما أن الاستثمار في آليات وبرامج حماية الملكية الفكرية مهم أيضًا لضمان حماية الصناعات والمؤسسات المحلية من أي انتهاكات أو اختراقات قد تؤثر على عمليات الإنتاج، وبالتالي تؤثر سلبًا على الناتج المحلي، إضافةً إلى هجرة الكثير من الكفاءات لعدم وجود حماية فعلية لأفكارهم وأبحاثهم.
خلاصة الأمر، أن الاستثمار الفكري في المنطقة العربية يحتاج إلى تعاون عدة أطراف: الحكومة ممثلة في التشريعات، والجهات الرقابية، وأصحاب الصناعات والمجتمع نفسه؛ حيث إن ذلك النوع من الاستثمار يساهم بشكل مباشر في التنمية الاقتصادية والبحثية للدولة، لا سيما في مجال الصناعات والخدمات عن طريق عائدات الاستثمارات في التدريب والتطوير والبحث. ولكن العائد الأكبر هو خلق مناخ تنافسي عادل يوفر فرصًا متكافئة للمبدعين والمصنعين، ويضمن أرباحهم، أو على الأقل يضمن بقاء كوادر كثيرة قد تساهم في نهضة فعالة للاقتصاد في المنطقة.
(*) باحث اقتصادي
المصدر: المركز الاقليمية للدراسات الاستراتيجية

موقع الخدمات البحثية