قراءات سياسية » عصر العنف


ميشيل روكار(*)
باريس- نادراً ما تأتي المشاكل العالمية بشكل مباشر وصريح. ولكن التحليل الدقيق لمختلف جوانبها يقودنا بشكل عام إلى بعض الفهم لأسبابها، وهو ما يبشر بالتالي بالتوصل إلى حلول معقولة. والواقع أن الحصول على الفرصة لتحليل مثل هذه المشاكل بشكل منتظم هو على وجه التحديد ما يجعل الدور الذي ألعبه بوصفي كاتب عمود مرضياً ومبهجاً للغاية. ولكن الحلول الواعدة تصبح صعبة المنال على نحو متزايد في الفترة الأخيرة.
الأمر ببساطة أن الكثير من أجزاء العالم أصبحت غارقة في الصراعات، والأمل ضعيف بالإفلات من هذه الصراعات. ففي أوكرانيا، لم تكن المصادمات العنيفة بين الانفصاليين الموالين لروسيا وقوات الشرطة سوى التطور الأحدث للوضع الأمني المتدهور في البلاد. وتظل سورية حبيسة حرب أهلية وحشية. وتؤدي التوترات بين إسرائيل وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني ـ ناهيك عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي دام عقوداً من الزمن ـ إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، حيث أصبحت عشر دول مجتمعة في المنطقة تشكل أكبر سوق للسلاح، إذ يتجاوز مجموع مشترياتها من السلاح سنوياً مشتريات الصين.
كما تنغمس بلدان أفريقية عديدة ـ مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان والصومال ـ في حروب أهلية لا نهاية لها، فيصبح مواطنو هذه البلدان بلا مياه شرب نظيفة، ناهيك عن المدارس والمستشفيات وغير ذلك من عناصر البنية الأساسية الاجتماعية. وفي نيجيريا، تُلصِق الجماعة الإسلامية المسلحة بوكو حرام ـ وهي عصابة من المجرمين في واقع الأمرـ خزيها وعارها بالنبي الذي اختطفت باسمه أكثر من 200 من تلميذات المدارس لبيعهن أو إرغامهن على ممارسة الجنس.
وفي آسيا، يتسبب الحشد العسكري في الصين ونهجها متزايد العدوانية في مواصلة مطالباتها بالسيادة على أجزاء من بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي ـ والتي تتداخل مع مطالبات مماثلة من اليابان والفلبين وكوريا الجنوبية وفيتنام ـ في تأجيج المخاوف بين جيرانها الإقليميين. ولم يكن من المفيد أن يتباطأ نمو الاقتصاد الصيني بشكل كبير مؤخراً ـ بعد أن قَدَّم دفعة قوية للاقتصادات الأصغر حجماً في المنطقة طيلة العقود الأخيرة.
ليست الصين الاقتصاد الصاعد الرئيسي الوحيد الذي يشهد نمواً متضائلاً. فالبرازيل أيضاً تعاني من تباطؤ في النمو، ناهيك عن التضخم العنيد والعجز المتزايد. ومن ناحية أخرى، تظل بلدان أخرى في أميركا اللاتينية، مثل المكسيك وكولومبيا، تحت تهديد عصابات المخدرات التي ربما تكون في بعض الأحيان أفضل تسليحاً من قوات الشرطة أو الجيش.
في الوقت ذاته، انتهت انتخابات الاتحاد الأوروبي. ولكنها كانت انتخابات من أجل لا شيء؛ فلم تسفر نتائجها إلا عن تعزيز الانقسام المتنامي بين أنصار أوروبا والأحزاب الشعبوية المتشككة في أوروبا.
وفي حين يبدو الاقتصاد العالمي وكأنه بدأ يتعافى من الأزمات الأخيرة، فإنه ما يزال محفوفاً بالمخاطر النابعة من وفرة السيولة التي بلغت 750 تريليون دولار -بارتفاع 50 تريليون دولار منذ العام 2006- والتي تجوب أسواق المضاربة في مختلف أنحاء العالم. ولا يستخدم رأس المال هذا لتمويل الاستثمارات أو تغذية النمو الاقتصادي؛ وإنما هدفه الوحيد يتلخص في جني أرباح هائلة لا يمكن التنبؤ بها لصالح قِلة منتقاة. وسوف تنفجر هذه الفقاعة، مثلها مثل كل الفقاعات، وسوف يشعل انفجارها أزمات أشد كثيراً من أزمة العام 2008.
لكن هذا من شأنه أن يوفر لمنظمي الأحداث ما يشغلهم على الأقل. فالأمم المتحدة تعكف الآن على التحضير لمؤتمر المناخ الحادي والعشرين، الذي من المقرر أن يُعقَد في باريس في العام 2015، بالرغم من عِلم زعماء العالم تمام العلم بأن هذا المؤتمر سوف ينتهي أيضاً إلى الفشل في التوصل إلى اتفاق عالمي شامل.
نظراً لحجم التحديات البيئية العالمية، فإن عجز زعمائنا عن التعاون بشكل فعّال لحل المشاكل البيئية هو أمر بالغ الخطورة. فعلى سبيل المثال، بمعدل الصيد الحالي سوف تنضب موارد الأسماك في العالم في غضون نصف القرن القادم. وبالرغم من هذا، عارضت روسيا وأوكرانيا والصين مؤخراً إنشاء مناطق بحرية محمية، والتي تشكل أهمية حاسمة لبقاء أنواع عديدة.
نحن لا نملك سوى هذا الكوكب، ويتعين علينا أن نتعلم كيف نتعايش على ظهره في سلام. وبالرغم من ذلك، فإن الغَلَبة كانت حتى الآن للفوضى والتدهور. إننا لم نعد نملك ترف الانتظار إلى أن يتفضل علينا زعماء العالم بحل مشاكلنا. يتعين على الرأي العام العالمي أن يتوحد لإرغام متخذي القرار على اتخاذ تدابير حقيقية للتغلب على العقبات التي تحول دون تحقيق السلام والوئام واستدامة الموارد.
تتمثل العقبة الأولى في افتقار القانون الدولي إلى السلطة القادرة على فرضه وإنفاذه. وبرغم أهمية احترام السيادة الفردية لكل دولة، فإن المحاسبة والمساءلة أيضاً لا تقل أهمية -وهذا يتطلب إنشاء سلطة دولية من نوع ما لمراقبة الجرائم ومعاقبة مرتكبيها.
النبأ السار هنا هو أن الرأي العام العالمي أصبح داعماً على نحو متزايد للتدخل الدولي في بعض الحالات.
لكنه ينبغي له أن يذهب إلى ما هو أبعد من هذا، فيطالب بأن تتضمن كل معاهدة بنداً للمراقبة والعقوبات؛ وأن يكون حق أي دولة في الاعتراض على التدخل محدوداً وفقاً لمقدار الوقت الذي مر والقضية المنظورة؛ وأن يتم اتخاذ القرار بشأن تدابير حماية السكان المدنيين وفقاً لتصويت الأغلبية.
تتلخص العقبة الكبرى الثانية في الزوال الفكري الذي اعترى ما يمكن أن يسمى علم الاقتصاد. ففي أيامنا هذه، تتولى صناعة الخدمات المصرفية تشكيل عملية اتخاذ القرار على مستوى العالم، وهو ما يتجسد في حقها الدائم في القيام بمضاربات غير محدودة وقدرتها على الاحتفاظ بأرباح لا مثيل لها في أي صناعة أخرى، وخاصة لصالح كبار مديريها، في حين تعرض العالم لمخاطر جسيمة داهمة.
بدلاً من السماح لقطاع نفعي منفرد بإملاء المسار الذي يسلكه الاقتصاد، يتعين على صناع السياسات أن يقرروا على وجه الدقة المستوى المطلوب من التوازن بين أنشطة المضاربة المحفوفة بالمخاطر والاستقرار المالي -وأن يضمنوا التزام القطاع المالي بهذا التوازن. ولا بد أن ينصب تركيز الحكومات دوماً على خفض معدلات البطالة ومستويات عدم الاستقرار وتقليص فجوة التفاوت بين الناس.
تتلخص العقبة الثالثة الكبرى التي تحول دون تحقيق السلام العالمي والازدهار في اختفاء الأخلاق من وظيفة الدول والأسواق. والواقع أن الحكومات والهيئات المتعددة الجنسيات مثل الأمم المتحدة فقدت مصداقيتها تدريجياً مع تدهور منظومة القيم التي تستند إليها.
بالرغم من احتفاظ الديانات الكبرى ببعض سلطتها القائمة على القيم، فإن أغلبها ظلت صامتة إلى حد كبير إزاء التصدي للتحديات السياسية والاقتصادية والبيئية والأمنية التي يواجهها العالم. فلماذا تستمر الكنائس المسيحية في التركيز على السلوكيات الشخصية للناس وليس على القواعد التي تحكم اللعبة الاجتماعية والاقتصادية؟ ولماذا لا تناقش الحاخامية الكبرى في إسرائيل قضية السلام، ناهيك عن إخراج بيان حول ما الذي ينبغي أن تكون له الأولوية في نظر الرب: قطعة من الأرض أم أرواح الملايين من البشر؟ ولماذا لا تدين السلطات المسلمة الجرائم التي يفترض أنها ترتكب باسم النبي إلا نادرا؟
لكن هذا أيضاً قد يتغير. يبدو أن البابا فرانسيس على سبيل المثال، يقود الكنيسة الكاثوليكية في اتجاه المزيد من الالتزام المجتمعي والمشاركة الاجتماعية. ومن واجب الرأي العام العالمي أن يسلك نفس المسار.
(*) الأمين العام الأول السابق للحزب الاشتراكي الفرنسي، وعضو البرلمان الأوروبي لخمسة عشر عاماً، كان رئيساً لوزراء فرنسا في الأعوام 1988 وحتى 1991.
المصدر: بروجيكت سنديكيت

موقع الخدمات البحثية