قراءات سياسية » هل توشك الديمقراطية الأميركية أن تنقرض؟

مرت ألفَي سنة قبل أن يُعاد ابتكار الديمقراطية في الدستور الأميركي، الذي يشكّل اليوم ممثل الديمقراطية، وتبيّن مرة أخرى أن الحكم بالموافقة الشعبية ناجح جداً، فقد تحوّلت الولايات المتحدة إلى قوة عالمية رائدة اقتصادياً، وثقافياً، وعسكرياً، وفي أوروبا، حلّت الديمقراطيات محل الممالك المستبدة وأنظمة الحكم القمعية الفاشية والشيوعية.

ستين رينج – بروفيسور فخري من جامعة أكسفورد له كتاب Nation of Devils: Democratic Leadership and the Problem of Obedience.

هل يخفي تعطل الحكومة وراءه تداعي الديمقراطية؟

استغرق تفكك الديمقراطية في أثينا القديمة 250 سنة فقط، فقد شهدت تلك المدينة ولادة نوع من الحكم جديد بالكامل سمح للشعب بأن يحكم نفسه، فتبيّن أن هذه التركيبة بالغة الفاعلية، نتيجة لذلك، ازداد الأثينيون غنى وقوة، فتصدوا للتحدي الفارسي، وأثبتوا قدراتهم كقوة رائدة في العالم القديم، وقدّموا كنوزاً في الهندسة، الفلسفة، والفن، كنوزاً لا تزال تذهلنا حتى اليوم، ولكن عندما وقعت هذه المدينة في قبضة المحاباة، والفساد، وسوء الإدارة، انطفأت أنوارها.

مرت ألفَي سنة قبل أن يُعاد ابتكار الديمقراطية في الدستور الأميركي، الذي يشكّل اليوم ممثل الديمقراطية، وتبيّن مرة أخرى أن الحكم بالموافقة الشعبية ناجح جداً، فقد تحوّلت الولايات المتحدة إلى قوة عالمية رائدة اقتصادياً، وثقافياً، وعسكرياً، وفي أوروبا، حلّت الديمقراطيات محل الممالك المستبدة وأنظمة الحكم القمعية الفاشية والشيوعية. نتيجة لذلك، جعل انتشار الديمقراطية في العقود الأخيرة أنظمة الحكم المستبدة المتبقية مجرد أقلية.

تقترب التجربة الديمقراطية الثانية من ذكراها المئتين والخمسين، صحيح أنها أصابت نجاحاً يضاهي ما حققته التجربة الأولى، لكن الدروس التي نتعلمها من أثينا تؤكد أن النجاح لا يولد دوماً النجاح، فلا تشكّل الديمقراطية نظام حكم مسلماً به، بل نظام حكم يقوم على التصميم، وقد يتفكك إن لم يُعزَّز ويدعَّم باستمرار. نتيجة لذلك، نرى في الولايات المتحدة وبريطانيا اليوم أن الديمقراطية تتفكك في وقت يجب أن تعمل فيه القيادة على تعزيزها. وإذا انطفأت أنوار الديمقراطيات النموذجية، فلا شك أن الديمقراطية لن تصمد في الدول الأخرى.

لا يكفي أن تكون الحكومات ديمقراطية، بل عليها أن تحقق التقدّم لئلا تتفكك. في بريطانيا مثلاً، تفقد الحكومة فاعليتها تدريجياً، فقد وصف الباحث الدستوري أنتوني كينغ ما نشهده اليوم كنوع من التراجع من &ldqascii117o;النظام&rdqascii117o; إلى &ldqascii117o;الفوضى&rdqascii117o; في أقل من 30 سنة. وخلال عشر سنوات من حكم حزب العمال الجديد، امتُحن طرحه وثبُتت صحته، ففي عام 1997، انتُخبت حكومة جديدة تمتعت بالتفويض والتصميم الضروريين لقلب مدّ عدم المساواة التاتشري. وهكذا حصلت على كل الصلاحيات البرلمانية التي تحلم بها أي حكومة ديمقراطية واستفادت من 10 سنوات من النمو الاقتصادي المنتظم. لكن نظام الحوكمة الضعيف هزم الحكومة القوية، فلم تستطع تحقيق أي من الأهداف التي أرادتها، تاركةً بريطانيا عرضةً لعدم مساواة أكبر مما واجهته خلال عهد النظام السابق.

برهنت الحكومة التالية، التي قامت على ائتلاف يميني وسطي، أنها غير فاعلة أيضاً، فكان يُفترض بها أن تصلح ضرر الأزمة الاقتصادية، إلا أنها وقفت مكتوفة اليدين ولم تحاول معالجة أسباب الأزمة في قطاع مالي-خدماتي احتكاري، معتمدةً نوعاً من التقشف يحمي الأغنياء على حساب الفقراء. ومرة أخرى، تجلى عجز الحكومة، لا سوء نيتها، فقد عارضت كلتا هاتين الحكومتين تكتلات القوى الاقتصادية التي باتت خارجة عن السيطرة سياسياً.

في المقابل، تبدو صحة النظام الأميركي أسوأ مما يظهر. صُممت أقسام الحكومة الثلاثة لتحقق الأهداف بالحفاظ على نوع دقيق من التوازن، لكن هذا التوازن تحوّل أخيراً إلى حالة من الجمود، ما حرم الولايات المتحدة من نوع الحوكمة الذي تحتاج إليه. نتيجة لذلك، يبدو الرابط بين عدم المساواة والعجز أكثر وضوحاً في واشنطن، فقد سُلب النظام الدستوري صلاحياته، التي يستغلها اليوم لاعبون مثل لجان العمل السياسي والمؤسسات الفكرية ووسائل الإعلام ومجموعات الدعم.

في عصر السياسات المكلفة جداً يعتمد المرشحون على الرعاة ليموّلوا حملاتهم الدائمة، ولكن عندما يُسمح للمال بالخروج من الأسواق، حيث ينتمي، إلى السياسات، حيث يجب ألا يكون له أي دور، يكتسب من يتحكمون فيه قوةَ تحديد المرشحين الفائزين (مَن يقررون تمويلهم) وما القرارات التي يمكنهم اتخاذها عندما يتسلمون مناصبهم. وهكذا يحظى الداعمون الأثرياء بنفوذ مضاعف في السياسة، أولاً كناخبين وثانياً كمتبرعين. في المقابل، يتمتع الآخرون بصوت واحد، علماً أن قوة هذا الصوت تتراجع فيما يقلل التضخم السياسي من قيمته. إذاً، من الخطأ الاعتقاد أن المرشحين يسعون وراء المال. فالمال يسعى وراء المرشحين.

في أثينا، تفككت الديمقراطية عندما ازداد الأثرياء ثراء، ورفضوا الالتزام بالقواعد، وقوضوا نظام الحكم القائم، ولا شك أن بريطانيا والولايات المتحدة بلغتا اليوم هذه المرحلة بالتحديد.

قبل نحو قرن تقريباً، حين عانت الديمقراطية الرأسمالية أزمة شبيهة بما تتخبط فيه اليوم، حذّر قاضي المحكمة العليا لويس برانديس: &ldqascii117o;قد نحظى بالديمقراطي أو بتركّز للثروات بين أيدي قلة من الناس. ولكن لا يمكننا الجمع بين الاثنين&rdqascii117o;. نجحت الديمقراطية في تخطي تلك الأزمة لسببين: أولاً، لا يؤدي عدم مساواة مماثل إلى تقويض الديمقراطية، بل ما نراه أخيراً من اجتماع بين عدم المساواة والتعدي. علاوة على ذلك، تمكنت الديمقراطية من تعلّم الدروس من تلك الأزمة، فقد حسّن &ldqascii117o;الاتفاق الجديد&rdqascii117o; (New Deal) الأوضاع الاقتصادية، خصوصاً من خلال القانون المصرفي لعام 1933، ومنح المواطنين العاديين ضمانات اجتماعية جديدة.

من الدروس التي تحملها لنا أثينا اليوم أن النجاح يولد الرضا، فيتوقف الناس، خصوصاً أصحاب الحظوة، عن الاكتراث، فتُهمَل الديمقراطية. بعد مرور ست سنوات على الأزمة الاقتصادية العالمية، تُظهر الإشارات الصادرة عن الديمقراطيات النموذجية أن أصحاب الحظوة ما عادوا يكترثون، وأن أنظمتنا صارت عاجزة عن التعلّم. بدأت الأزمة في قطاعات الخدمات المالية التي خرجت عن السيطرة في الولايات المتحدة وبريطانيا، إلا أننا تمكنا من إعادة ضبط هذه القطاعات، لكن عدم المساواة الاقتصادي أدى إلى عدم مساواة سياسي، نتيجة لذلك، حُرمت الحكومات الديمقراطية من النفوذ والقدرة. إذاً، لم يكن برانديس مخطئاً، بل تمتع بنظرة ثاقبة إلى المستقبل.
المصدر: مركز الناطور

موقع الخدمات البحثية