أوراق إستراتيجية » تطور الحرب غير النظامية

متمردون ومقاتلون من الامبراطورية الأكادية وصولا إلى أفغانستان
Foreign Affairs/ Listen ـ 16- 4- 2013

يتعامل النقاد والصحافة في كثير من الأحيان  مع مسألة الإرهاب وتكتيكات حرب العصابات وكأنها شيء جديد، خروجا عن نطاق طرق الحرب القديمة. لكن لا شيء أبعد عن الحقيقة من هذا. فعلى امتداد  تقدم وكدح جنسنا البشري الطويل والدامي، كانت الحرب تنفذ، وبشكل رئيس، بواسطة عصابات من المتطوعين الضعيفي التنظيم، غير المنضبطين، والمسلحين تسليحاً خفيفاً الذين كانوا يرفضون خوض معارك مفتوحة وذلك لصالح غزوات وكمائن خفية عابرة: استراتيجيات المحاربين القبليين والمقاتلين العصريين والإرهابيين. في الواقع، إن الحرب التقليدية اختراع  ابتُدع مؤخراً نسبياً. فقد كانت ممكنة لأول مرة ما بعد 10000 عام ما قبل المسيح بسبب تطور المجتمعات الزراعية، التي أنتجت ما يكفي من فائض الثروة  والسكان سمح لها بإنشاء تحصينات مصممة خصيصاً لها وصناعة الأسلحة (والمحترفين لتشغيلها). وقد نشأت أول الجيوش الحقيقية ـ بقيادة هرمية صارمة تتألف من جنود مدربين، منضبطين مع وجود تهديدات بالعقاب ـ بعد عام 3100 قبل الميلاد في مصر وبلاد ما بين النهرين. لكن عملية تشكيل الدولة، ومعها تشكيل الجيش، استغرقتا وقتا أطول بكثير في معظم أنحاء العالم. ففي بعض الأماكن، لم تبرز الدول إلا في القرن الماضي فحسب، ولا تزال قدرتها على تنفيذ مثل هذه الوظائف الأساسية والحفاظ على الجيش ضعيفة في أحسن الأحوال. ومع الأخذ بالاعتبار منذ متى والبشر يجوبون الأرض، فإن حقبة ما نعتقده الآن صراعاً تقليدياً  لا يمثل سوى غمضة عين فحسب.

مع ذلك، ومنذ أيام الإغريق والرومان، على أقل تقدير، كان المراقبون يقللون من شأن الحرب غير النظامية. فقد كان لدى الجنود  والعلماء الغربيين والعلماء ميل لاعتبارها حرباً جبانة، وحتى همجية. وليس من الصعب أن نفقه السبب: فرجال العصابات، بحسب تعبير المؤرخ البريطاني جون كيغان، " قساة إزاء الضعيف وجبناء في مواجهة الشجعان "ـ بالضبط على عكس ما يتم تلقينه للجنود المحترفين بخصوص الكيفية التي ينبغي أن يكونوا عليها. وزعم كثير من الباحثين حتى بأن غزوات حرب العصابات ليست حرباً حقيقية.

يبدو هذا الرأي محط سخرية قليلاً عندما ينظر المرء إلى حقيقة هي أن الحرب غير النظامية كانت، وعلى مر التاريخ، أكثر فتكاً على الدوام من ابنة عمها الحرب التقليدية ـ ليس في مجموع أعداد القتلى، بما أن المجتمعات القبلية صغيرة بالمقارنة مع الحضارات في المناطق الحضرية، وإنما في النسبة المئوية للقتلى. إذ يفقد المجتمع القبلي العادي ما معدله 0.5 في المئة من سكانه في القتال كل عام. أما في الولايات المتحدة، فمن شأن هذه النسبة أن تترجم إلى 1.5 مليون حالة وفاة، أو 500 هجوم كهجوم 11 سبتمبر في السنة.  إن  الأدلة التاريخية القديمة تؤكد على أن هذه الخسائر ليست شيئاً شاذاً حديثاً.

تضيع أصول حرب العصابات في مستنقعات ما قبل التاريخ، لكن أنواع الأعداء الذين واجههم رجال العصابات تغيرت على مر القرون. قبل العام 3000 قبل الميلاد تقريباً، خاض رجال عصابات القبائل حصراً الحرب ضد رجال عصابات قبليين آخرين. وعلى الرغم من أن هذا النوع من القتال استمر بعد العام 3000 قبل الميلاد، فقد كان يُستكمل ويحل محله تأليب القبائل والمتمردين على الحرب في بعض الأحيان  ضد دول شُكلت حديثا. وكانت هذه الصراعات تعتبر، بمعنى من المعاني، أول حركات التمرد ومكافحة التمرد في العالم. فكل إمبراطورية عظمى من امبراطوريات العصور القديمة، بدءاً من أول إمبراطورية سجلها التاريخ، الإمبراطورية الأكادية، في بلاد ما بين النهرين القديمة، تمت شيطنتها من قبل رجال عصابات رُحَّل ( بدو رحل) ، على الرغم من أن مصطلح "حرب العصابات" لم يكن قد صيغ إلا بعد آلاف السنين . ( إن  مصطلح "حرب العصابات"، يعني حرفياً "حرباً صغيرة"، ويعود بتاريخه إلى المقاومة الإسبانية ضد نابليون، 1808-1814.)

في العصر الحديث،  تزاوجت تكتيكات حرب العصابات القديمة نفسها مع الاجندات الإيديولوجية، وهو الأمر الذي كان غائباً تماماً في أوساط المحاربين القبليين القدماء غير المسيسين (والأميين). بطبيعة الحال، لقد تبدلت الطبيعة الدقيقة للأجندات الأيديولوجية التي كانت تخاض الحروب من أجلها على مر السنين، من الليبرالية والقومية (مقاتلو حرب العصابات أصحاب الصرخات الاحتجاجية العاطفية من أواخر القرن الثامن عشر وصولاً إلى أواخر القرن التاسع عشر)، مروراً بالاشتراكية والقومية (التي ألهمت رجال العصابات ما بين أواخر القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين)، وصولاً إلى التطرف الجهادي اليوم. في هذه الأثناء، ظلت  حرب العصابات والحرب الإرهابية مهلكتين وموجودتين في كل مكان كما كانتا دائماً.

إن نجاح مختلف الغزاة في مهاجمة الدول واحتلالها بدءاً من روما القديمة وصولاً إلى الصين في العصور الوسطى أدى إلى ظهور ما يسميه أحد المؤرخين "مفارقة الرحَّل" . "في تاريخ الحروب، كان الحال عادة  هو ارتباط التفوق العسكري بالدول الأكثر ثراء وتلك التي تمتلك الإدارات الأكثر تطورا "، هذا ما قاله المؤرخ هاغ كينيدي في كتابه: " المغول، الهون، والفايكنج". مع ذلك، وبالعودة إلى الوراء إلى أيام بلاد ما بين النهرين، نرى بأن البدو الرحل غالباً ما تمكنوا من اسقاط امبراطوريات أغنى وأكثر تقدماً بكثير. ويفسر كينيدي هذا التناقض الظاهري بالاستشهاد بكل المزايا العسكرية التي يتمتع بها البدو الرحَّل: أنهم كانوا أكثر قدرة على الحركة، وكان كل شخص ذكر بالغ محارباً، وكان قادتهم  مختارين بعناية، لأجل براعتهم في صناعة الحرب في المقام الأول. بالمقابل، وعلى حد تعبيره، لقد عينت المجتمعات المستقرة قادة بناءً على اعتبارات سياسية وأعدت جنوداً مزارعين ذوي مهارات عسكرية ضئيلة.

يبدو بأن المزايا العسكرية للرحل لا تزال قائمة بين المقاتلين من رجال العصابات في العالم الحديث، فحتى في القرنين الماضيين، حيث أصبحت الدول فيهما أقوى مما كانت عليه في الفترة القديمة أو فترة القرون الوسطى، غالباً ما تمكن رجال العصابات من اخضاعها واهانتها. فكروا في قبائل أفغانستان، التي تسببت بالاحباط للمملكة المتحدة ،الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة. إن "مفارقة الرحَّل" هي حقا مفارقة حرب العصابات، وهي تطرح تساؤلاً: لماذا يبدو بأن الضعفاء  غالباً ما يهزمون الأقوياء. إن الجواب يكمن، إلى حد كبير، في استخدام تكتيكات الكر والفر، والاستفادة من الحراك والمفاجأة التي تجعل من الصعب على الدولة الأقوى وضع كامل ثقلها لتتحمله.

وغالبا ما يطرح مقاتلو حرب العصابات مفارقة أخرى: لقد كان الغزاة الأكثر نجاحاً حتى عرضة لتبديل التكتيكات التقليدية بمجرد تحقيق نجاح عسكري عظيم. فقد تحول المغول في نهاية المطاف إلى جيش نظامي تحت إمرة جنكيز خان، وخضع العرب لعملية تحول مماثلة. لقد قاتلوا وفق الطريقة البدوية التقليدية عند نشر الإسلام في جميع أنحاء الشرق الأوسط في القرن الذي تلا وفاة محمد، عام 632. لكن فتوحاتهم أدت إلى انشاء الخلافتين الأموية والعباسية، وهما من أعظم دول العالم في العصور الوسطى، والتي كانت القوات التقليدية فيهما تقوم بمهمة الدفاع عنهما . نشأت الإمبراطورية التركية، أيضاً، من ثقافة الإغارة على السهوب لكنها بنت جيشاً تقليدياً هائلاً، مع استكماله بالجنود العبيد الغاية في الانضباط، أي الإنكشارية. وغزا الجيش العثماني الجديد القسطنطينية بعد حصاره الشهير عام 1453، وخلال أقل من القرن، تقدم إلى أبواب فيينا.

لماذا البدو الرحل بارعون جداً في اللجوء إلى تكتيكات حرب العصابات إزاء الحرب التقليدية؟ لسبب واحد،  هو أن أهدافهم أصبحت أكبر، الأمر الذي يتطلب تحولاً في التكتيكات. فالرماة عن ظهر الخيول لم يكونوا لينالوا من القسطنطينية، فهذا الانجاز يتطلب آليات عسكرية مناسبة، بما في ذلك بطارية من 69 مدفعا، اثنتان منها بطول 27 قدم وتسديد كرات حجرية تزن أكثر من نصف طن. ولا كان المقاتلون القبليون السريعو الحركة سيكونوا ذوي فائدة كبيرة في  إدارة وحفظ  النظام في الدول التي احتلوها  حديثاً والدفاع عنها. فتلك المهام، أيضاً، تتطلب جيشاً مهنياً قائماً وثابتاً. وهناك عامل آخر أملاه التحول من البدو الرحل إلى جنود نظاميين : لقد كان نمط القتال الممارس من جانب الرماة الممتطين للخيول من الصعوبة  والالحاح بمكان بحيث تطلب تدريباً مستمرا من الطفولة على القوس والنشاب للحفاظ على الكفاءة. وما أن أصبح  البدو الرحل يعيشون بين أناس أكثر استقراراً، حتى  "فقدوا، وبسهولة، مواهبهم الفردية المتفوقة ووحدتهم المتماسكة "، بحسب ما كتب المؤرخان مسعود أويار و إدوارد إريكسون في كتاب" تاريخ العثمانيين العسكري". وكانت هذه مقايضة معظمهم كان سعيداً باجرائها. فالحياة المستقرة أسهل بكثير ـ وأكثر أمناً.

إن إنجازات البدو الرحل، ورغم كونها عظيمة، فقد كانت عابرة في معظمها: باستثناء العرب، الأتراك، المغول، والمانشو، الذين امتزجوا واختلطوا في المجتمعات المستقرة، لم يتمكن البدو الرحل من بناء مؤسسات دائمة. فقد انهارت الإمبراطوريات البدوية عموماً بعد مرور جيل واحد أو جيلين. فالبدو السابقون الذين استقروا وجدوا أنفسهم، ويا للسخرية الى حد ما، يعانون من موجات جديدة من البدو والمقاتلين الآخرين.  كان هذا مصير المانشو الذين قاتلوا، بوصفهم حكام الصين، الـ  Dzungar (أو المغول الغربيين) في القرن الثامن عشر، وحاولوا محاربة المتمردين التايبينغ في أعنف حرب في القرن التاسع عشر. بدورهم، حاول التايبينغ (Taipings) ، تطوير جيوش أكثر قوة خاصة بهم، ليطمسوا بذلك الخط المميز بين الصراع النظامي وغير النظامي. ومنذ ذلك الحين، أظهرت العديد من الحروب الأهلية، بما في ذلك تلك التي خاضتها الولايات المتحدة بين عامي 1861 و 1865 ، نوعيْ القتال على حد سواء.

أصبح الخط الفاصل بين الحرب النظامية وغير النظامية أكثر وضوحا مع انتشار الجيوش الوطنية بعد حرب "الثلاثين عاما ". ووصلت تلك العملية، التي سارت جنباً إلى جنب مع نمو الدول القومية، الى ذروتها في النصف الثاني من القرن السابع عشر. وشهدت الفترة انتشاراً للثكنات لإيواء الجنود، والمدربين العسكريين لتدريبهم، والضباط الاختصايين لقيادتهم، إضافة إلى خدمات لوجستية لتوريد التجهيزات لهم، المصانع لالباسهم وتجهيزهم، والمستشفيات ودور المسنين للاعتناء بهم.

وبحلول القرن الثامن عشر، بلغت الحرب الغربية ذروتها المجردة التي نادراً ما شوهد مثلها من قبل أو منذ ذلك الحين، مع قتال الجيوش الملكية بأساليب مماثلة تقريباً، والامتثال لقواعد  سلوك مماثلة تقريباً. لم يكن هناك من تغيير أكثر أهمية من اعتماد الزي الموحد، الذي يعني أن الفرق بين الجنود والمدنيين يمكن لمحه في لحظة. فالمقاتلون الذين كانوا يصرون على القيام بالحرب من دون زي رسمي أصبح تمييزهم أكثر سهولة. وكانوا عرضة للمحاكمة كقطاع طرق بدلا من معاملتهم كجنود لهم الحق في الحماية من قوانين الحرب الناشئة.

لكن  الجنود غير النظاميين سرعان ما عادوا إلى البروز، فخلال حرب الخلافة النمساوية (1740-1748)، استفحل النزاع الدائر بين النمسا ، بريطانيا العظمى، هانوفر، هيس، وهولندا ضد بافاريا، فرنسا، بروسيا، ساكسونيا، وأسبانيا. وخسرت النمسا معاركها في وقت مبكر من الحرب، ما سمح للقوات الأجنبية باحتلال جزء كبير من أراضيها. لكن النمسا تمكنت من العودة من جديد وذلك بفضل ما يسمى بالرجال الغلاظ الذين حشدتهم من أطراف إمبراطوريتها: فرقة فرسان من هنغاريا، pandours (قوة في القرن 18 من الجنود الكرواتيين في خدمة النمساوية، سيئ السمعة بسبب وحشيتهم) من كرواتيا، وغيرهم من المسيحيين من البلقان الذين كانوا يحاربون الأتراك لعدة قرون.

ندد فريدريك الكبير وغيره من الجنرالات في البداية بالغزاة بصفتهم "متوحشين". لكن حالما رأوا فعالية الجنود غير النظاميين ، قاموا باستنساخ المثال النمساوي. وبحلول فترة السبعينات من القرن السابع عشر، شكلت القوات الخفيفة (المحاربون الذين يفتقرون للاسلحة الثقيلة والدروع الذين لم يقفوا في خط المعركة الرئيس) 20 في المئة من معظم الجيوش الأوروبية. وفي أمريكا الشمالية، ازداد اعتماد الجيش البريطاني على مجموعة متنوعة من قوات المشاة الخفيفة. أما سلائف القوات الخاصة لعالمنا اليوم - قوات مدربة على تكتيكات حرب العصابات ومع ذلك هم أكثر انضباطا من المقاتلين المشردين- من المغاوير والحراس فقد تمت ترقيتهم إلى مستوى " حراسة الأحراش"، أو القتال غير النظامي، ضد القوات الاستعمارية الفرنسية و حلفائهم الأصليين.

إن إحدى الأساطير التي يُعتز بها في التاريخ الأميركي هي أن اليانكيز المقدامين نالوا الاستقلال عن بريطانيا العظمى عن طريق اصطيادهم الجنود البريطانيين بشكل كثيف جداً بحيث أربكهم الأمر وجعلهم يحيدون وينحرفون عن طقوس استعراضهم العسكري في الحرب . هذا  الأمرهو من قبيل المبالغة. فمع اندلاع الثورة، في عام 1775، كان البريطانيون ضليعين في الحرب غير النظامية وكانوا يواجهونها في أوروبا ومنطقة البحر الكاريبي، وأميركا الشمالية. لقد كان الجنود البريطانيون يعرفون بالتأكيد ما يكفي لاختراق الصفوف والسعىي للحصول على الغطاء في المعركة عندما يكون ذلك ممكناً، بدلا من" البقاء خاملين عرضة لنيران العدو"، على حد تعبير أحد المؤرخين.  وكان لدى الجيش البريطاني مشكلة مختلفة: كان قد نسي معظم  الدروس المستفادة من الحرب غير النظامية التي تعلمها قبل ، كما هو الحال إلى حد كبير مع الجيش الأميركي ما قبل العراق. لقد استخدم المتمردون الأميركيون شكلاً أكثر تطوراً من الحرب غير النظامية من المنعزلين الفرنسيين والمحاربين الأمريكيين الذين كان الجنود البريطانيون قد اعتادوا على قتالهم. لقد سمح انتشار محو الأمية وطباعة الكتب للمتمردين الأميركيين باجتذاب الدعم الشعبي، وبالتالي إعلاء دور الدعاية والحرب النفسية. ومن المناسب القول أن مصطلح "الرأي العام" قد ظهر لأول مرة في إحدى المطبوعات في عام 1776، لأن المتمردين الأميركيين نالوا الاستقلال وذلك يعود الى حد كبير إلى اجتذابهم  الجمهور الناخب البريطاني  مع وثائق مثل كتيب توماس باين "  الشعور المشترك وإعلان الاستقلال". في الواقع، إن نتائج الثورة  كانت قد تحققت فعلاً في 1782، عندما صوت مجلس العموم البريطاني بفارق ضئيل على وقف العمليات الهجومية. كان بإمكان البريطانيين الاستمرار في القتال بعد ذلك التاريخ، بل كان بإمكانهم إثارة جديدة جيوش جديدة حتى بعد الهزيمة في يورك تاون عام 1781. لكن ليس بعد أن كانوا قد فقدوا دعم البرلمان.

وكان معظم الثوار الذين اتبعوهم أكثر تطرفاً في أساليبهم ومعتقداتهم من المتمردين الأميركيين، لكن قام العديد منهم، وسواء من اليمين أو اليسار، باستنساخ تلاعب الأميركيين الماهر بالرأي العام. فقد تمتع اليونانيون في عشرينات القرن الثامن عشر، والكوبيون في التسعينات من القرن نفسه، والجزائريون في خمسينات القرن الماضي، جميعا، بنجاح ملحوظ في تعبئة الرأي الأجنبي للمساعدة على نيل استقلالهم. ففي اليونان وكوبا، انتصر المناهضون للإمبريالية من خلال تسليط الضوء على معاناة المستعمرات لحث القوى الغربية على ما يسمى اليوم بالتدخلات الإنسانية.

سجل المتمردون الليبرالية انتصاراتهم الأكثر إثارة للإعجاب في "العالم الجديد". وباستثناءات قليلة، كانت القوى الاستعمارية الأوروبية في الأميركيتين قد هزمت بحلول عام 1825. وكانت الثورات الأوروبية في الداخل الأوروبي، كثورة "الجارتيين" في المملكة المتحدة وتلك التي للـ " ديسمبريين " في روسيا (الديسمبري أحد المشتركين في الثورة الفاشلة ) أقل نجاحا. مع ذلك، ومع مطلع القرن العشرين، كانت معظم البلدان الأوروبية وأميركا الشمالية تتحرك في اتجاه أكثر ليبرالية – حتى تلك ذات الملكيات المطلقة، مثل ألمانيا، النمسا، وروسيا، التي بقيت كذلك مع بذل جهود أكبر لتهدئة وتوجيه المشاعر الشعبية.

وفي الوقت نفسه، كانت الدول الغربية توسع حكمها عبر قسم كبير من بقية العالم بطريقة غير ليبرالية ، وبلا جدال. ولا بد أن عملية الاستعمار والمقاومة كانت تفعل الكثير لجهة تشكيل العالم الحديث وستؤدي إلى إحداث عقيدة مكافحة التمرد الأكثر تأثيرا من كل الأزمان:  نظرية "بقعة الزيت"، التي صاغها المارشال الفرنسي هوبير ليوطي،  الذي كان قد استبق في توقعاته في الهند الصينية ( fin-de-siècle Indochin ) ، مدغشقر والمغرب  عقيدة " الإرتكاز السكاني " التي نفذتها القوات الامريكية في أفغانستان والعراق في القرن الحادي والعشرين. فهي تنطوي على توسيع بطيء المراكز الجيش والمستوطنات، كانتشار بقعة الزيت، إلى حين سحق مقاومة السكان الأصليين، في الوقت الذي تحاول فيه هذه القوات أيضا معالجة المخاوف السياسية والاقتصادية لهؤلاء السكان.

لقد قاومت شعوب آسيا وأفريقيا مسبقاً المستعمرين قدر الإمكان. وكانوا، في بعض الأحيان، قادرين على إجبار هؤلاء على القيام بتراجع جدي؛ وأشهر الأمثلة على ذلك كان التراجع البريطاني عام 1842 من كابول. لكن هذه كانت انتكاسات مؤقتة فقط في التغريب الذي لا مناص منه للعالم. وبحلول عام 1914، كان الأوروبيون ونسلهم يسيطرون على  84 في المئة من مساحة اليابسة في العالم، بزيادة تقدر بـ 35 في المئة عن عام 1800.

أما عن كون الأوروبيين لم يحققوا نجاحاً أكبر في الحفاظ على استقلالهم فإن ذلك يعود، وبقدر كبير، إلى مزايا أوروبا المتنامية في تقنية وتكنولوجيا الجيش. لكنه يعود أيضاً إلى حقيقة هي أن معظم الناس من غير الأوروبيين لم يتبنوا استراتيجيات تحقق أفضل استخدام لمواردهم المحدودة. فبدلاً من محاولة الدخول في حرب العصابات ـ التي، حتى لو كانت فاشلة، فإنها قد تكون تجنبت وأبعدت خطر الهزيمة ،في نهاية المطاف، لسنوات، إن لم يكن لعقود، وكبدت الغزاة أثماناً باهظة ـ حارب معظم من هم من غير الأوروبيون، على وجه التحديد، كما أراد الأوروبيون لهم، هذا بالأسلوب التقليدي للكلام.

يعتقد الغربيون أن معظم المناطق التي  غزوها كانت "بدائية" و "متخلفة"، ولكنها بمعنى من المعاني، كانت متقدمة جداً لمصلحتهم. فإبان الفترة التي دخل فيها الأوروبيون إلى آسيا وأفريقيا، كان قسم كبير من تلك القارات  قد سقط تحت سيطرة أنظمة محلية ذات جيوش نظامية، مثل امبراطورية "الزولو" في جنوب أفريقيا وإمبراطورية "مرثا" في الهند.  وتطلع الحكام الأوروبيون لتلك الجيوش القائمة، وهذا طبيعي، للحماية، متجنبين بذلك عادة، هذا النوع من التكتيكات القبلية (شكل بدائي من حرب العصابات) التي مارسها أجدادهم. في معظم الحالات، كانت القرارات تعطي نتائج عكسية بسرعة. فعندما حاول الحكام الأصليون تصحيح مسارهم فعلاً، فإن دافعهم لذلك كان، عادة، جعل جيوشهم أكثر تقليدية حتى من خلال توظيف المستشارين الأوروبيين وشراء الأسلحة الأوروبية. في كل الأحوال، نادراً ما كانت نسخهم تعتبر جيدة كالنسخ الأصلية، وانكشف تخلفهم بقسوة في المعارك.

لماذا لجأ عدد قليل جداً من الأنظمة الأصلية إلى تكتيكات حرب العصابات؟ يعود الأمر ، في جزء منه، إلى أن الناس من غير الغربيين لم يكن لديهم فكرة كبيرة عن القوة القتالية للجيوش الغربية إلا بعد فوات الأوان. فقد كان يتصور عدد كبير جداً من بناة الإمبراطوريات المحلية في العالم النامي أن التكتيكات التي استخدموها لقهر القبائل المحلية لا بد وأن تنجح هي الأخرة  ضد الغزاة البيض أيضاً. فضلاً عن ذلك، وحتى ولو كان أولئك الحكام يريدون إشعال تمرد، فإنهم كانوا يفتقرون للوقود الأيديولوجي عموماً، إلا في الجزائر والشيشان وداغستان، وعدد قليل من المناطق الأخرى حيث شن المتمردون المسلمون حروباً مطولة من المقاومة ضد المستعمرين الأوروبيين . وفي كثير من الأحيان، غالباً ما عبَّر الخاضعون لهذه الأنظمة عن استيائهم من الحكام المحليين بقدر ما عبَّروا عن استيائهم من الغزاة الأوروبيين، إن لم يكن أكثر حتى. ولم كن الشعور القومي والوطني، وهو اختراع حديث نسبيا، قد انتشر بعد في تلك الأراضي.

وقد ساعد الجنود الأوروبيين في "الحروب الصغيرة"  حقيقة هي أن معظم القتال كان يقع على أطراف الإمبراطوريات في آسيا وأفريقيا ضد أعداء اعتبروا "غير حضاريين"، وبالتالي، وفي إطار المدونة الأوروبية لقواعد السلوك، فإن بالإمكان محاربتهم بشراسة لا يحدها قيد. وفي أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، كتب الضابط البريطاني والروائي جون ماسترز يقول بأنه كان من شأن المحاربين البشتون عادة، على الحدود الشمالية الغربية للهند (باكستان اليوم)، " إخصاء وقطع رؤوس" الأسرى، في حين أن البريطانيين" لم يكونوا يعتقلون الا القليل من الناس، وبأنه، قليلاً جداً ما كان " العامل السياسي" هو السبب بذلك بالواقع، هذا إذا كان هناك بالأصل من عامل سياسي ـ كانوا، وببساطة، يقتلون الذين يتم أسرهم. مع ذلك، كان نجاح  الجيوش الامبريالية بحد ذاته يعني بأن المعارك في المستقبل ستجري داخل حدود الإمبراطورية، وبأنه "سينظر إليها كاضطرابات أهلية وليس حرباً"، كما أكد المؤرخ توماس موكتايتس في كتابه  "مكافحة التمرد البريطاني". بناء على ذلك، ستجد القوات الامبراطورية في المستقبل أفعالها مقيدة بالقانون والرأي العام بطرق لم تكن معهودة في القرن التاسع عشر.

كان التعامل مع الاضطرابات المدنية في القرن العشرين أصعب لأسباب أخرى كذلك الأمر. فمن خلال إنشاء المدارس والصحف التي نشرت الأفكار الغربية مثل الأفكار القومية والماركسية، حث الإداريون الغربيون ، في نهاية المطاف، على وجود مقاومة واسعة النطاق لحكمهم. وعن طريق تصنيع وتوزيع أسلحة لا تعد ولا تحصى، بدءاً من الـ TNT وصولاً إلى AK-47، في كل أنحاء العالم، ضمن الأوروبيون أن يكون خصومهم في القرن العشرين أفضل تسليحاً بكثير عما كان عليه الذين سبقوهم.

كي نفهم سبب  اجتياح  الاستعمار العالم في أواخر الأربعينات و لماذا حقق رجال العصابات والإرهابيون المناهضون للغرب نجاحاً جيداً للغاية خلال تلك الفترة، فإن من الأهمية بمكان أن نؤكد على مدى ضعف قوتين من أكبر القوى الاستعمارية كانتا موجودتين آنذاك. فحتى لو كانت فرنسا والمملكة المتحدة عازمتين على الامساك بقوة بجميع ممتلكاتهما في الخارج بعد عام 1945، فإنه كان من الصعب عليهما القيام بذلك. لقد كان كلا البلدين مفلسين أساساً، ولم يكن بإمكانها، وبشكل مريح، خوض قتال لمكافحة التمرد لفترة طويلة ـ وخاصة في مواجهة العداء الآتي من قوى عظمى صاعدة. فقد كان السوفييت، ولاحقاً الصينيون، على استعداد أساساً  لتوفير الأسلحة والتدريب والتمويل لحركات التحرر الوطنية ذات الميول الماركسية.

كانت معظم عملية إنهاء الاستعمار سلمية نسبياً. فحيث واجه البريطانيون معارضة ذات تصميم فعلاً، كما كان الحال في الهند وفلسطين، لم يستلزم الأمر الكثير لإقناعهم بالرحيل. إذ لم تقاتل لندن ، عموماً ، إلا للابقاء على عدد قليل من القواعد، مثل قبرص وعدن، التي تعتبرها استراتيجية أو ذات أهمية أو، كما هو الحال في ماليزيا وكينيا، لمنع الشيوعيين أو غيرهم من المتطرفين من الاستيلاء عليها. وعندما اختار البريطانيون القتال، فعلوا ذلك بمهارة ونجاح؛ فسجلهم في مكافحة التمرد أفضل من سجل الفرنسيين خلال نفس الفترة، ولا تزال بعض من حملاتهم الحربية، لا سيما في ماليزيا، تدرس من قبل الاستراتيجيين العسكريين.
لم تنخفض نسبة حدوث حرب العصابات والإرهاب مع زوال الإمبراطوريات الأوروبية. على العكس من ذلك، لقد كانت السنوات الواقعة ما بين عامي 1959 و1979 ـ بدءاً من استيلاء فيدل كاسترو على الحكم في كوبا  وصولاً إلى استيلاء الساندينيين على الحكم في نيكاراغوا ـ العصر الذهبي للتمرد اليساري. وظل هناك القليل من الحروب الاستعمارية وعدد أكبر من الحروب العرقية بأساسها التي تخاض (في الكونغو، تيمور الشرقية، ومنطقة بيافرا في نيجيريا)  لتحديد طبيعة الدول ما بعد الاستعمار، ولكن الدافع الأساسي كان الإيديولوجية الاشتراكية. وقد حمل الراديكاليون الذين سموا أنفسهم باسم ماو، هو ، فيدل، أو تشي التالين بنادق الكلاشينكوف لشن حرب عصابات ريفية والإرهاب الحضري. ولم يحدث من قبل أن كان لهؤلاء المحارين غير النظاميين هذا البريق والهيبة  وبهذا السمو، كالذي شهدناه في انتشار صور تشي غيفارا المشهورة للفنان ألبرتو كوردا، والتي لا تزال تزين القمصان والملصقات. اذ وجد نجاح الثوار في الخارج صداه لدى الراديكاليين الغربيين في الستينات، الذين كانوا غير مرتاحين مع مجتمعاتهم ويتصورون أن بإمكانهم، أيضاً، إسقاط المؤسسة ( الحاكمة). وقد التقط توم وولف اللحظة وفهمها وذلك في مقالته الشهيرة "شيك الراديكالي" عام 1970، التي وصف فيها  بتفصيل شديد حفلة أقامها الملحن ليونارد بيرنشتاين في شقته الأنيقة النيويوركية لمجموعة "الفهود السود"، إحدى الجماعات الإرهابية التي لا حصر لها في فترة زمنية معينة والتي تجاوزت شهرتها قدرتها على تحقيق أهدافها.

حققت بعض الحكومات نجاحا كبيراً في قمع حركات التمرد. وشهدت فترة الستينات نشر كتيبات مؤثرة مثل كتاب "حرب مكافحة التمرد: النظرية والممارسة"، لكاتبه الضابط الفرنسي ( والمحارب القديم في الجزائر) ديفيد غالولا ( Galula ) ، وكتاب "هزيمة التمرد الشيوعي"، للمسؤول البريطاني السير روبرت طومسون، وهو شخص دمث من قدامى المحاربين في ماليزيا و فيتنام. وقد وصل غالولا وطومسون، وغيرهم من الخبراء إلى توافق لافت على أن مكافحة التمرد لا يمكن خوضها كالحروب التقليدية. وكان المبدأ الأساس الذي وضع مكافحة التمرد  جانباً هو استخدام "الحد الأدنى من اطلاق النار." وفي الوقت نفسه، "يجب أن يكون الجندي مستعدا لأن يصبح داعية ( مروجاً لدعوة) ، عاملاً اجتماعياً،  مهندساً مدنياً، مدرساً،  ممرضاً، وكشافاً، بحسب ما كتب غالولا.

كان انتاج مثل هذه الدروس يتم بشق النفس. أما الأمر الأكثر صعوبة فكان جعلها مقبولة لدى الضباط  العسكريين الذين ظل المثال الأعلى لديهم الحرب الخاطفة المدرعة التي لا شيء لديها سوى الاستهانة بالمقاتلين المسلحين تسليحاً خفيفاً من هنا وهناك. وكانت الجيوش الغربية التي دخلت في العقود القليلة التي تلت لا تزال تركز على محاربة عدو  تعكسه صورة المرآة. وعندما كان على الولايات المتحدة مواجهة تهديد حرب العصابات في فيتنام، وضع وليام ويستمورلاند، قائد العمليات الأمريكية هناك، صياغة لرد تقليدي بشكل كبير استهلك الكثير  من القوة النارية ودمر حياة كلا الجانبين لكنه لم يسفر عن انتصار.

وككل شخص آخر، يخضع  رجال حرب العصابات والإرهابيين لأمزجة شعبية وبدع فكرية. فبحلول الثمانينات، وبينما كانت ذكريات الاستعمار تتلاشى، وحيث أصبحت تجاوزات الحكام ما بعد الاستعمار أكثر وضوحاً، وانتعشت الرغبة بالرأسمالية في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، أصاب الكسوف الحركات اليسارية وتلاشى سحر رجال حرب العصابات. وكان هناك قلة قليلة فقط من معظم العقائديين المتبلدي الذهن يمكنهم التصور بأن المستقبل كان يولد في المناطق الفقيرة والمضطهدة في كمبوديا أو كوبا. وكان لنهاية النظام القديم في موسكو والانفتاح التدريجي في بكين أثر مباشر بدرجة أكبر على جماعات التمرد أيضاَ، وذلك من خلال قطع مصادر الإعانات المالية القيمة، والأسلحة، والتدريب. فالجماعات الإرهابية الماركسية في فترة السبعينات، كالألوية الحمراء الإيطالية وعصابة بادر ماينهوف الألمانية ، لم تكن قادرة أبداً على توليد قواعد دعم خاصة بها وضعفت  إلى جانب داعميها الخارجيين. أما الحركات القومية، كمنظمة التحرير الفلسطينية والجيش الجمهوري الأيرلندي، فكانت أفضل حالاً، على الرغم من تعثرها أيضاً بسبب انخفاض الدعم الخارجي لها.

في كل الأحوال، ورغم أن حركات التمرد اليسارية كانت في طريقها إلى الزوال، فإن حرب العصابات والإرهاب بالكاد اختفيا عن الساحة. لقد اتخذا، وببساطة، أشكالاً مختلفة كشكل نشطاء مسلحين جدد مدفوعين بأقدم المظالم والشكاوى على الاطلاق - العرق والدين – ليشقوا طريقهم  ويتصدروا العناوين الرئيسة. إن الانتقال من الدوافع السياسية إلى الدينية كان نتاج عقود من الزمن، وحتى قرون، من التطور. ويمكن العودة، من بين أمور أخرى، إلى كتابات المحرض المصري سيد قطب في الخمسينات والستينات، وإلى أنشطة حسن البنا الذي أسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر في عام 1928، وتبشير محمد بن عبد الوهاب، الذي أنشأ في القرن الثامن عشر حركته المتزمتة التي كان من شأنها أن تصبح في إحدى الأيام الدين الرسمي في السعودية. لكن العواقب المصيرية لأفكار هؤلاء الزعماء الدينيين لم تستحوذ على اهتمام العالم إلى حين السقوط المشؤوم في عام 1979، عندما احتل محتجون السفارة الامريكية في طهران. فقد نظم عملية الاستيلاء على السفارة طلاب جامعيون راديكاليون، بمن فيهم الرئيس الإيراني المستقبلي محمود أحمدي نجاد، والذين أرادوا توجيه ضربة إلى "الشيطان الأكبر" والعلمانيين المحليين. وأعقب ذلك استيلاء المتشددين على المسجد الحرام في مكة المكرمة، أقدس مزار في الإسلام، وحرق السفارة الامريكية في اسلام اباد. بعد ذلك، وفي 24 ديسمبر 1979، دخل السوفييت إلى أفغانستان، ليوحوا بذلك بالتالي  بحشد قوة هائلة من رجال العصابات المقدسين: المجاهدين.

إنفجر التهديد الموجود لدى المتطرفين الإسلاميين، الذين كانوا يبنون أنفسهم بسرية لعقود، في مشهد دموي في 11 سبتمبر 2001، عندما شن تنظيم القاعدة أعنف هجوم إرهابي على الإطلاق. فقد حدت المنظمات الإرهابية السابقة، من منظمة التحرير الفلسطينية وصولاً إلى الجماعات الفوضوية المختلفة، من نطاق عنفها. وكما كتب المحلل بريان جنكينز في السبعينات في كتابه  "الإرهاب هو مسرح. الإرهابيون يريدون الكثير من المشاهدين، وليس الكثير من القتلى ". لقد أعادت القاعدة وأمثالها كتابة قواعد اللعبة التي تمارسها في الولايات المتحدة والعراق.

للدفاع عن نفسها، أقامت الولايات المتحدة وحلفائها مجموعة متنوعة من الدفاعات. وقد شملت في غالبيتها، تحسين الأمن، عمل الشرطة، جمع المعلومات الاستخباراتية. ولعبت القوات المسلحة دوراً هاماً، أيضاً، رغم أنه نادراً ما كان  دوراً مركزيا كما هو الحال في أفغانستان والعراق - بلدان تمت الاطاحة بحكومتيهما بواسطة غزوات أميركية. وفي الدول ذات الأداء أو شبه الأداء الحكومي الفاعل، مثل الفليبين والمملكة العربية السعودية، كان دور الولايات المتحدة محدوداً بتوفير التدريب، والأسلحة، والاستخبارات، وغيرها من المساعدات لمساعدة تلك الحكومات على محاربة المتطرفين.

أما بما يتخطى جهود الغرب ضد القاعدة، فقد سددت الاحتجاجات الشعبية في الشرق الأوسط ضربة أخرى للمنظمات الإرهابية. فقد أثبت الربيع العربي بأنه أداة تغيير أكثر فعالية بكثير من التفجيرات الانتحارية. فحتى قبل وفاة أسامة بن لادن، في عام 2011، سجل " مشروع المواقف العالمية لمؤسسة Pew انخفاضاً حاداً لدى أولئك الذين يعربون عن "الثقة" به : بين عامي 2003 و 2010، انخفض هذا الرقم من 46 في المئة إلى 18 في المئة في باكستان، من 59 في المئة إلى 25 في المئة في إندونيسيا، ومن 56 في المئة إلى 14 في المئة في الأردن.

مع ذلك، إن أقلية صغيرة تعتبر كافية للحفاظ على مجموعة إرهابية، وقد أظهر تنظيم القاعدة قدرة مثيرة للإعجاب على تجديد نفسه. إذ لا يزال المنتمون للقاعدة يعملون انطلاقاً من الشرق الأوسط وصولاً إلى جنوب شرق آسيا. وفي الوقت نفسه، تواصل جماعات إسلامية أخرى إظهار قوة كبيرة في أفغانستان وباكستان، وتسيطر حماس على قطاع غزة، ويسيطر حزب الله في لبنان، وتراهن حركة "الشباب " من أجل السلطة في الصومال، وتتقدم "بوكو حرام" في نيجيريا، كما سيطرت مجموعتان أحدث عهداً هما "أنصار الدين" و"الحركة من أجل الوحدة والجهاد" في غرب أفريقيا، على شمال مالي. وعلى الرغم من مقتل بن لادن وانتكاسات أخرى لتنظيم القاعدة المركزي، فإن الفوز في الحرب ضد الإرهاب الإسلامي الأصولي أبعد مما هو متصور.  إن هجمات 11/9 بمثابة تذكير بأن الأمن البادي  ضد جيش غير مرئي يمكن أن يتحول إلى نقطة حساسة ضعيفة مع أمر فجائي صادم وبأن الجماعات الإرهابية الدولية كالقاعدة، وعلى خلاف المتمردين في الماضي الأكثر تقييداً على الصعيد الجغرافي، يمكنها أن تضرب في أي مكان تقريباً.
إن التاريخ الطويل للصراع المنخفض الشدة لا يكشف فحسب عن مدى انتشار حرب العصابات في كل مكان وإنما أيضاً عن كيفية انتشارها التي غالبا ما تم تجاهل أهميتها، وبالتالي تمهيد الطريق لاذلال مستقبلي على أيدي جنود غير نظاميين أولي عزم. ولدى الجيش الامريكي، بشكل خاص، سجل مخيف من الفشل في التكيف مع "الحروب الصغيرة"، على الرغم من خبرة القتالية الكبيرة للهنود الحمر، المتمردين الفلبينيين، الفيتكونغ، تنظيم القاعدة، حركة طالبان، والعديد من الجنود غير النظاميين الآخرين. ولتجنب كوارث مماثلة في المستقبل، فإن جنود اليوم وصناع القرار بحاجة إلى تقييم دقيق لنقاط القوة والضعف لدى المتمردين.

من المهم ألا نقلل أو نبالغ في تقدير قوة حرب العصابات. فقبل عام 1945، وبما أن الجنود غير النظاميين كانوا يرفضون الاشتباك وجهاً لوجه في المعارك، فقد كان يتم التقليل من شأنهم بشكل روتيني. مع ذلك، وبعد عام 1945، ذهبت المشاعر الشعبية أبعد مما ينبغي في الاتجاه الآخر، ما يكرس رجال العصابات كشخصيات جبارة. إن الحقيقة تكمن في مكان ما بينهما: شحذ المتمردون همتهم منذ عام 1945، لكنهم لا زالوا يخسرون معظم الوقت. إن نجاحهم المتزايد هو نتيجة انتشار تكنولوجيا الاتصالات وزيادة تأثير الرأي العام. وقد استنزف كلا العاملين إرادة الدول على الانخراط في مكافحة التمرد التي طال أمدها، وخصوصا خارج أراضيها  الخاصة بها، وعززت قدرة المتمردين على البقاء على قيد الحياة حتى بعد اصابتهم بنكسات عسكرية.

في القتال ضد المتمردين، التكتيكات التقليدية لا تنجح. فلإلحاق الهزيمة بهؤلاء، يجب على الجنود التركيز ليس على مطاردة رجال العصابات وإنما على ضمان أمن السكان المحليين. وع ذلك، إن مكافحة التمرد الفعالة التي تركز على السكان ليست أمراً حساساً ومثيراً للمشاكل، كما هو مفترض وشائع. أنها استراتيجية تنطوي، أكثر بكثير، على الفوز بـ "القلوب والعقول" - وهي العبارة التي اخترعها السير هنري كلينتون، وهو جنرال بريطاني خدم خلال الثورة الأميركية، وروج لها السير جيرالد تمبلر، وهو جنرال خدم خلال حالة  "الطوارئ الماليزية"، في أواخر الاربعينات والخمسينات. إن الطريقة الوحيدة لكسب السيطرة هي إقامة حامية للجنود 24 ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع، وسط المدنيين؛ إن عمليات "الاجتياح" أو "التطويق والبحث " الدورية تفشل، حتى عندما يديرها رجال مكافحة التمرد قساة كالنازيين، وذلك لأن المدنيين يعرفون بأن المتمردين سيعودون في اللحظة التي يرحل فيها الجنود.

على الرغم من أن بالإمكان فرض السيطرة تحت تهديد السلاح، فإن لا يمكن الاستمرار بها والحفاظ عليها إلا إذا كان لدى قوات الأمن درجة من الشرعية الشعبية. ففي السنوات الماضية، لم يكن من الصعب على الإمبراطوريات الأجنبية اكتساب الشرعية اللازمة. لكن الآن، ومع انتشار المشاعر القومية والوطنية في كل ركن من أركان العالم، يواجه مكافحو التمرد الأجانب، كالولايات المتحدة، مهمة صعبة، في محاولة لدعم أنظمة محلية يمكن كسب تأييد شعوبها ولا تزال حتى الآن تتعاون مع الولايات المتحدة.

إن ما يزيد من صعوبة مكافحة التمرد هو عدم وجود سوى عدد قليل من الانتصارات السريعة في هذا النوع من النزاعات. فمنذ عام 1775 ، كان معدل استمرار التمرد العادي سبع سنوات (ومنذ عام 1945، يستمر لما يقرب من عشر سنوات). لقد كانت المحاولات المبذولة، سواء من قبل المتمردين أو من جانب مواجهة التمرد، لتضييق دائرة العملية تأتي بنتائج عكسية عادة. فقد حاولت الولايات المتحدة ان تفعل ذلك في السنوات الأولى من حرب فيتنام وحرب العراق، على حد سواء، باستخدام جبروتها وقوتها التقليدية لملاحقة رجال العصابات في مسعى لما كان قد انتقده بقسوة، وبحق، جون بول فان، وهو مستشار عسكري شهير في الجيش الامريكي في فيتنام، بقوله أنه "سريع، ونتائجه سطحية." ويا للسخرية، وفقط عندما تخلت الولايات المتحدة عن آمالها بشأن تحقيق نصر سريع، بدأت بالحصول على نتائج، من خلال تنفيذ مبادئ مجربة وحقيقية من مبادئ مكافحة التمرد التي تركز على السكان. ففي فيتنام، كان الأوان قد فات، ولكن في العراق، جاء التوفير الصبور للأمن في الوقت المناسب لتفادي حرب أهلية شاملة.

تظهر تجارب الولايات المتحدة في العراق في عامي 2007 و 2008، وإسرائيل في الضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية، والبريطانيين في ايرلندا الشمالية، و كولومبيا في المعركة المستمرة ضد القوات المسلحة الثورية الكولومبية ، أن من الممكن أيضاً بالنسبة للحكومات الديمقراطية محاربة المسلحين بشكل فعال إذا ما التفتت الى ما يدعوه الجيش الامريكي بـ "عمليات المعلومات" (المعروفه أيضاً باسم "البروباغندا"  و"العلاقات العامة") وتنفيذ نسخة ما من نسخ استراتيجية مركزية السكان. لكن هذه الصراعات تبين أيضاً أنه لا ينبغي للمرء أبداً الدخول في مكافحة التمرد والتعامل معها بخفة. من الأفضل تجنب مثل هذه الحروب إذا كان ذلك ممكنا. مع ذلك حتى، من المشكوك به أن تكون الولايات المتحدة قادرة على تفادي هذه الحروب  في المستقبل أكثر مما فعلت في الماضي. ونظراً لاثباتات براعة الولايات المتحدة في القتال التقليدي في العراق في عامي 1991 و 2003، فلن يكون هناك الكثير من الخصوم في المستقبل لهم من الغباء ما يكفي لوضع دبابات الجيوش في الصحراء ضد القوات الأميركية. بمعنى آخر، من غير المرجح أن يكرر خصوم المستقبل المحتملين خطأ الآسيويين والأفارقة في القرن التاسع عشر الذين قاتلوا الغزاة الأوروبيين وفق النمط الغربي المفضل. من ناحية أخرى، لقد أثبتت تكتيكات حرب العصابات فعاليتها، حتى ضد القوى العظمى.

في المستقبل، قد يصبح الجنود غير النظاميين أكثر فتكاً اذا كان لا زال بامكانهم وضع أيديهم على سلاح من أسلحة الدمار الشامل، خاصة القنبلة النووية. وإذا ما حدث ذلك،  فإن خلية إرهابية صغيرة الحجم من أصل عصبة قد تكتسب قدرة على القتل أكبر من تلك التي لجيش كامل لدولة غير نووية. وهذا تفكير واقعي. إنه يشير إلى أن بإمكان صراع منخفض الشدة في المستقبل أن يشكل للقوى القيادية في العالم  مشاكل أكبرمن تلك التي كانت عليها في الماضي - وتلك المشاكل كانت  شائكة بالأساس بما فيه الكفاية.

كتبه ماكس بوت
ماكس بوت زميل رفيع في مركز جين كيركباتريك لدراسات الأمن الوطني في مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب " "جيوش غير مرئية: الملحمة التاريخية لحرب العصابات من العصور القديمة وصولاً إلى الزمن الحاضر"(Liveright 2013)، والذي يتلائم معه هذا المقال. تابعوه على Twitter@MaxBoot

موقع الخدمات البحثية