أوراق إستراتيجية » جهاد مؤقت: المعارضة الأصولية السورية

International Crises Groascii117p ـ  تقرير الشرق الأوسط رقم 131 ـ 12 تشرين أول 2012
موجز تنفيذي

أصبح وجود فرع سلفي بين المتمردين أمراً لا ليمكن دحضه، بعد إلقاء النظام الضوء عليه وإبرازه بشكل مبكر ومبالغ به، وبعد اعتراف المعارضة متأخرة وبتردد بذلك. هذا الأمر مقلق، لكنه لا يشكل سوى جزءاً من الصورة المعقدة. بداية، ليس كل السلفيين سواء؛ فالمفهوم يغطي سلسلة كاملة بدءاً من التيار السائد وصولاً إلى التطرف. ثانياً، إن سوريا في يومنا هذا تقدم أرضاً مضيافة للسلفيين ـ العنف والمذهبية؛ التحرر من وهم الغرب، قادة علمانيون وشخصيات إسلامية براغماتية؛ إضافة إلى القدرة على الوصول إلى تمويل دول عربية خليجية و المعرفة العسكرية الجهادية ـ لكنها تقدم أيضاً ظروفاً معاكسة، بما فيه تقليد إسلامي معتدل، تركيبة طائفية تعددية، وخوف منتشر وواسع النطاق من نوع من أنواع الحرب الأهلية المذهبية التي ابتلعت بلدين جارين. ثالثاً، تسبب فشل الاندفاع المسلح هذا الصيف برد فعل عكسي ضد مجموعات سلفية استحوذت على العناوين الرئيسة خلال القتال.
2 . مدخل إلى مصطلح الدوغمائية السلسة 

&bascii117ll; سوريا والسلفية
رغم أن لديها جذوراً في حركة الإصلاح الحداثية الإسلامية للقرن التاسع عشر ـ إحدى التوجهات الإيديولوجية المعاصرة العديدة، كالقومية العربية، التي كانت تناضل لأجل شكل من أشكال الإحياء العربي ـ كان مصطلح ' السلفية' متبنى منذ ذلك الحين من قبل مسلمين سنة محافظين يسعون إلى تطبيق التفسير الحرفي للكتاب المقدس بناء على المثال الذي وضعه النبي وأصحابه. وقبيل اندلاع الثورات العربية عام 2011، كان المحللون قد ميَّزوا عموماً بين السلفيين التقليديين، الذين يعتبرون نشاط الدعوة الاجتماعية أولوية تأتي قبل النشاط السياسي، وبين الجهاديين السلفيين، وهم فرع صغير من السلفيين الذين يعتنقون ' ايديولوجية إسلامية هجينة مبدأها العقائدي الأول هو تقديم مسوغ لوجود المتشددين وتبرير وسلوكهم'.
كان السلفيون التقليديون ميالين لأن يكونوا داعمين للحكام العرب المستبدين ( تحديداً العائلة الحاكمة السعودية وحلفائها)، وصرف النظر عن الديمقراطية بصفتها خرقاً وانتهاكاًُ بشرياً لحرمة وسلطة الله ورفض أية محاولة لإزالة المؤسسة الحاكمة ـ سواء بالعنف أو بغيره- بصفته انتهاكاً للشريعة الإسلامية. وفي حين يشارك السلفيون الجهاديون السلفيين التقليديين احترام التفسير الحرفي للكتاب المقدس الإسلامي ورفض الديمقراطية، فإنهم هم يجمعون بين هذه المحافظة وبين الالتزام الذي لا لبس فيه بالعنف الجهادي ضد أعداء مزعومين للإسلام، سواء كان الأعداء دولاً أجنبية ( إسرائيل، الولايات المتحدة أو روسيا، على سبيل المثال)، أو هيكليات سلطات محلية ( معظم الأنظمة العربية، بسبب معارضتها للحكم الإسلامي أو دعمها ' لحرب الغرب المفترضة على الإسلام') أو ممثلين لديانات أخرى، ملحدين، ' مرتدين' ( ما يعني مسلمين من مدارس فكر منحرفة).
في كل الأحوال، وفي السياق الذي أحدثته الثورات العربية، أضحت بعض السمات التي أخذت تحدد السلفيين التقليديين غير واضحة. فبعد سنوات من وجودهم على الهامش السياسي، وضع عدد من أتباع السلفية في اليمن، تونس، ليبيا، ومصر معارضتهم للسياسات الديمقراطية جانباً، ليؤسسوا أحزاباً تتنافس في الميادين السياسية المفتوحة حديثاً؛ ففي مصر، فاز السلفيون بحوالي 25 بالمئة من المقاعد البرلمانية. إن تراجعاً سريعاً كهذا عما كان يعتبر مرة موقفاً مبدئياً أساسياً وجوهرياً يعكس مفارقة في صميم السلفية المعاصرة: فبرغم إدعائها بأنها 'صارمة'، وتعبر بصفتها عقائدية ومتصلبة، فإنها تقدم مرونة لا بأس بها ومدهشة بالواقع، الأمر الذي يمكن أن يثبت قيمته، تحديداً، في زمن الصراعات والاضطرابات السياسية.
أما داخل سوريا، فقد حالت عوامل سياسية، اجتماعية وثقافية دون النمو المحتمل للسلفية، على  الأقل في البداية. فالقمع القديم، الذي اشتد بعد العام 2001، منع، على العموم، ترسخ السلفية ضمن المشهد السياسي المحلي، ويمكن القول بشكل أكثر فاعلية من أي مكان آخر في المنطقة. فالبلد يتمتع بتاريخ عميق وبممارسة حيوية لمدارس الفكر الإسلامي المعتدل؛ هذه المدارس ـ ورغم أنه لم يتم التطرق إليها في هذا التقرير- ممثلة بشدة داخل المعارضة. إذ لطالما اعتز المجتمع السوري وتفاخر بالتعايش السلمي عبر الطوائف. فقد شهد عن كثب عواقب النزاع الطائفي والمذهبي عندما دمرت الحرب الأهلية بلدين جارين، لبنان أولاً ومن ثم العراق. فضلاً عن ذلك، ومن بين ناشطي ومسلحي المعارضة، يشكل الإسلاميون المتشددون والعلمانيون العريقون أقليات صغيرة؛ فمعظمهم من السنة المتدينين من دون انتماءات إيديولوجية قوية.
مع ذلك، فإن المرونة التي تشكل مفارقة في هذه العقيدة الجامدة المزعومة، إلى جانب سمات وخصائص هامة أخرى، تفسر سبب اكتساب السلفية أرضية لها بسرعة في سوريا في الوقت الذي ينتشر فيه العنف، رغم أنها لم تمثل سوى مكون تافه ومتواضع نسبياً من المشهد الديني السني للبلد قبل الثورة. فالسلفية تضفي شرعية مطلقة وسريعة على أولئك الذين يتوسلونها، حيث أنها تهدف حتى الآن إلى محاكاة طرق النبي. فأتباع السلفية محددين ومعروفين بعلامات ودلالات هامة، مع ذلك هي دلالات يمكن الوصول إليها: لحى بطول محدد وخاص، شوارب محلوقة، وملابس تصل بطولها إلى ما فوق الكعب تماماً. وبرغم كون الدعاة السلفيين مثقفين وواسعي الاطلاع عادة، فإن السلفية في تجسيداتها الأكثر شعبية لا تتطلب أية خلفية ثقافية محددة أو تدريباً بحثياً؛ فالسلفيون العصاميون يعتمدون، بالأساس، على التكرار المحض للنصوص التأسيسية، وبذلك يمكنون الغرباء وما يسمى بالمقاولين الدينيين من الوصول إلى مكانة معينة بصرف النظر عن الثروة، التعليم، أو الأصل.
تتيح السلفية أيضاً درجة أكبر نسبياً من الحرية في تحديد المعايير الدينية من تلك الشائعة والمشتركة التي توفرها مؤسسات راسخة، وهي تقاليد وتفسيرات تشكل بنية وأساس مدارس الفكر الإسلامي الأخرى وتقيدها. أخيراً، إن السلفية تبني على رواية تتناسب جيداً، وبالتحديد، مع الحاجات التي تتولد من صراع العنف، سواء تحديد وتصنيف عدو المرء، حشد الدعم للجهاد، أو تبرير الشهادة. فبالنسبة للطبقة الدنيا المحافظة إلى حد كبير، والتي تعتبر هويتها الإسلامية منفصلة ومستقلة عن تلك التي للنخب المحلية من رجال الدين والتي تمثل العمود الفقري الاجتماعي- الاقتصادي للمعارضة، كانت جاذبية السلفية واضحة.
قدمت السلفية، وبشكل حاسم، أجوبة لهذه الجماهير، أجوبة لم تتمكن مذاهب أخرى من تقديمها: صيغة بسيطة ويمكن الوصول إليها من الشرعية والنظام الإيماني، كلاهما حيويان في زمن الصراع والتطرف والعنف، طريقة بسيطة ومناسبة  لتحديد العدو وتعريفه على أنه النظام الغير إسلامي والمرتد؛ والتمويل، وذلك بفضل الشبكات الممتدة عميقاً في الخليج وطوروا السلفيون  روابط اقتصادية وثيقة في عدد من المجالات السورية التي تأثرت أكثر من غيرها بالأزمة. كما استفادت السلفية من خبرة وتجربة مسلحيها التي تراكمت لديها في ساحات معارك أخرى؛ لقد تطوع السلفيون للقتال، لذا فهم قاسموا معارفهم القتالية مجموعات مسلحة محلية لا خبرة لديها. بالمقابل، لم يكن لدى القيادة الدينية السائدة الكثير لتقترحه وتقدمه، وكانت جهودها الممتدة ضعيفة؛  وبأسلوب مماثل، أصبحت كل من المعارضة في المنفى والمجتمع الدولي مصدر إحباط عميق.
بمرور الوقت، وما أن تطور الصراع إلى حرب أهلية مطولة وممتدة، بدأ كبار الشخصيات حتى في المعارضة بترديد صدى المخاوف الغربية القديمة من تنامي دور المسلحين الأكثر تطرفاً. وفي تموز 2012، حذر العميد مصطفى الشيخ، رئيس المجلس العسكري الأعلى للجيش السوري الحر، وهو يقصد القاعدة وجماعات جهادية أخرى بكلامه، بقوله: ' إنهم يصبحون أكبر شيئاً فشيئاً. وبدؤوا يمتلكون يوماً بعد يوم مواقع أكثر قوة داخل البلد. الوضع خطير جداً.'

&bascii117ll; أشكال وأنواع السلفية

في تحليل تأثير الجماعات السلفية، ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا عوامل عديدة. أولاً، يجب أن يكون المرء منتبهاً للاختلافات الموجودة ليس فقط بين الجماعات المسلحة التي تتبنيى الخطاب السلفي وبين فئات المعارضة الأخرى، وإنما بين المجموعات السلفية المختلفة  نفسها أيضاً. فمن بين الأسئلة الهامة سؤال عما إذا كان المرء يتبنى المفهوم الجهادي السلفي ( كما تؤيده القاعدة) أم أنه يهدف بدلاً من ذلك إلى استبدال نظام الأسد بصيغة ما من صيغ الحكم الإسلامي. وكما توضح، وبإسهاب، الحالة العراقية، فإن هكذا تمايزات تعتبر هامة ويمكن أن تكون أصل الانقسامات الداخلية العنيفة للمعارضة. ويمكن للطموحات العالمية للجهاديين السلفيين أن تشكل تهديداً للأهداف الأكثر محلية لمجموعات التمرد السائدة ذات التوجهات السلفية؛ خاصة، بينما تكون الأولى تسعى ربما إلى تدمير الدولة الموجودة، وتهدف الأخيرة لحكمها.
ثانياً، إن الدوافع تختلف وتتباين حتى بين المجموعات التي  تعتبر أهدافها محدودة بسوريا فقط. فبالنسبة للبعض، فإن تبني أسماء، وخطاب ورموز سلفية أمور تعكس التزاماً مخلصاً بالمثل السلفية؛ بالنسبة لآخرين، فإنها تعبِّر عن محاولة براغماتية بأساسها لتملق المانحين الخليجيين الأثرياء والمحافظين. وقد ولَّد عبد الرزاق طلاس، وهو قائد جذاب المنظر من المستوى المتوسط محبوب جداً، جدلاً عاماً في صفوف المعارضة عندما أطال شعر لحيته بأسلوب مرتبط بالسلفيين. مع ذلك، وبحسب ناشط بارز في حمص، فإن القرار كان يشير إلى مجهود لإرضاء ممولين خليجيين ولا يشير إلى تحول إيديولوجي لديه. عموماً، فإن تفضيل الممولين الخليجيين المحافظين منعكس في مواقف وحدات المتمردين؛  ففي حزيران نشرت مجموعة صغيرة من المسلحين شريط فيديو على اليوتيوب تسمي فيه رسمياً وحدتها باسم رجل دين كويتي تيمناً به بعدما قدم لها الدعم.
ثالثاً، منذ ذلك الحين عندما برزت أولى المجموعات المسلحة في صيف 2011، كان التمرد المسلح متسماً بالميوعة والتنظيم الرخو. فقد كان لا يزال على معظم الجماعات المسلحة تطوير إيديولوجية ثابتة أو بنية قيادية؛ تميل العضوية في الفصائل المختلفة إلى التقلب، مع تحول المقاتلين من مجموعة إلى أخرى بناءً على توفر التمويل والسلاح والعلاقات الشخصية، إضافة إلى وضعية قوات النظام. فضلاً عن ذلك، تتمتع المجموعات بدرجات مختلفة من القدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية، ما يؤثر أكثر على الدرجة التي تمكنهم من الوصول إلى مراقبين خارج منطقتهم المجاورة مباشرة. ففي بعض الحالات، يسيطر على حسابات الفايسبوك والاتصالات مع القنوات الإخبارية الفضائية العربية ناشطون من خارج البلاد، غالباً في منطقة الخليج. هذا الأمر، جنباً إلى جنب مع التمويل الخليجي، يعني بأن لهجة الناشطين والفصائل المسلحة تميل لأن تكون أكثر إسلامية ( أصولية) من تلك التي لجماعات المعارضة الفعلية على الأرض.
تعقد هذه العوامل، معاً، مهمة تقييم الحجم النسبي لفصائل التمرد وفعالية تجانسها وانسجامها. نتيجة لذلك، يركز هذا التقرير على الجماعات التي دعمت بالوثائق نفوذها وتأثيرها وقوة بقائها على الأرض على مدى فترة طويلة من الزمن، مؤيدة مزاعمها بدليل موثوق مسجل على شريط فيديو منشور على الانترنت.
أخيراً، كلمة حذر بما يتعلق بطبيعة الجيش السوري الحر: ففي حين يشير محللون وصحافيون غربيون وعرب أحياناً إلى الجيش السوري الحر بوصفه مؤسسة متجانسة ومنسجمة، فإنه يشبه علامة تجارية أكثر مما يشبه قوة عسكرية موحدة. إن قسماً كبيراً من فصائله ذات تنسيق رخو فيما بينها، تتقاسم مصادر التمويل أو هي منخرطة في جهود أولية لتأسيس هيكليات قيادة وتحكم إقليمية.  وبسبب ظهورها البارز على شاشات التلفزة العربية وعلى أشرطة الفيديو على اليوتيوب، ساهمت شخصيات أساسية ببروز مبادئ غامضة وغير متبلورة تقف خلف مزاعم الجيش السوري الحر  (صحيحة كانت أم لا) ـ تحديداً العقيد رياض الأسعد، القائد الاسمي للجيش السوري الحر؛ عبد الرزاق طلاس؛ ومصطفى الشيخ رئيس المجلس العسكري الأعلى: من أنه يمثل التيار الرئيس للمعارضة المسلحة؛ ومن أنه غير إيديولجي؛ ويتعامل قادته بمسؤولية مع المجتمع الدولي؛ وبأنهم يتبنون مفهوم سوريا الديمقراطية الضامنة للحقوق والحريات لكل مواطنيها. مع ذلك، لا يزال على الجيش السوري الحر إنتاج هرمية قيادية واحدة، وإنتاج أخلاقيات أو انتماء سياسي قادر على  توحيد عشرات الألوية التي تحارب تحت رايته.
رغم أن الفصائل التي تعمل تحت اسمه مختلفة عن بعضها بشكل هام وبارز، فإن أهمية وشهرة الجيش السوري الحر هي من النوع الذي إذا ما اختارت مجموعة ما عدم القتال تحت رايته فإنها تؤكد استقلاليتها بشكل فاعل. وأبرز المجموعات التي امتنعت عن تبني شعار الجيش السوري الحر هي مجموعات سلفية في استشرافها وآفاقها بصورة غير متناسبة مع آفاق الجيش الحر؛ فقد اختار عدد منها راياتها، وهي عبارة عن رايات إسلامية سوداء جنباً إلى جنب مع ألوان الثورة، أو بدلاُ عنها، بحالات نادرة. هذا التقرير يبين التمايز الموجود بين الجماعات، السلفية وخلافها، التي تعرف عن نفسها بأنها تنتمي إلى الجيش السوري الحر وتلك التي لا تعرف عن نفسها بأنها كذلك، في الوقت الذي يعترف فيه التقرير بأن الخط الفاصل بين الاثنين هو خط ملتبس وضبابي أحياناً.



1 . مقدمة

2 . مدخل إلى مصطلح الدوغمائية السلسة

3. تربة خصبة، محصول غامض

4. السلفية ضمن الجيش السوري الحر

5 . القيود المؤثرة على السلفيين

موقع الخدمات البحثية