عبير بسّام
يثلج القلب مشهد المظاهرات الكبرى في الولايات المتحدة وهي تسير منادية "فلسطين حرة.. حرة"، و"فلسطين حرة.. من النهر إلى البحر"، كلام يمنح الأمل بأن قوى التغيير قادمة في الولايات المتحدة والعالم الغربي، والتي ستضع حداً للمأساة الفلسطينية وقد تكون على قاب قوسين أو أدنى. ولكن فعلياً، إن القوة الفلسطينية المقاومة هي التي تكتب اليوم حقيقة فلسطين من النهر إلى البحر على مدى السنوات الخمسة عشر الماضية، والتي افتتحت مرحلة جديدة في هزيمة الإحتلال المرة في العام 2005، عندما أجبر آرئيل شارون على سحب جيش الإحتلال من غزة. إن عملية التحرير في فلسطين، كانت ومازالت عملية تراكمية ويجب البناء عليها في كل يوم. وعمليات المقاومة الفلسطينية "النظيفة"، التي تستهدف كل يوم المقاتل والقاتل الصهيوني، فيما الأخير يستهدف المدنيين، هي التي أخرجت المظاهرات الكبرى في العالم بأجمعه وفي أمريكا بالذات.
لم يخرج المستعمرون الأوروبيون من البلاد التي احتلوها بمظاهرات أهاليهم وتحت وطأة مطالبات أهاليهم في بلادهم، لقد خرجوا في كل مكان تحت وطأة ضربات المقاومات وتكبيد المحتل الخسائر في أرواح جنوده وتحويل الإحتلال إلى عبء اقتصادي كبير. فالصهاينة لم يخرجوا من لبنان لأن المظاهرات عمت شوارع تل أبيب، وإنما تحت وطأة ضربات المقاومة المتصاعدة. والأميركيون والأتراك لن يخرجوا من سوريا والعراق بسبب مظاهرات الأميركيين والأتراك في الشوارع، ولن يخرج الصهاينة من فلسطين عبر تغيير القرار الأميركي والغربي بوقف الدعم المطلق لدولة الكيان الصهيوني بسبب المظاهرات في الشوارع، ولكن بسبب تراكم العمليات والضربات الموجعة للأميركيين في المال والأرواح حتى يبدؤوا بالصراخ، وهذا ما علمنا إيّاه التاريخ.
وما علمنا إيّاه التاريخ أيضا أن الصبر والنفس الطويل والمثابرة في تأجيج المقاومة وتطويرها هو الذي سيخرج فلسطين ومنطقتنا العربية من بين براثن الشر الذي استحكم بها لسنوات. واليوم استحكمت السيطرة الأميركية والصهيونية على حكومات وممالك عربية حتى الشلل التام، وأعماها البذخ والمصالح التي تعيشها حتى باتت دمى ترمى وتحتضن بحسب تفانيها في العمل لصالح الصهيونية العالمية. ونحن في بلاد الشام والعراق ندفع ثمن هذا البذخ والطمع والتكاذب والخيانة التي يمارسها الحكام العرب الصهاينة. ومع ذلك، كلما اشتدت المقاومة "النظيفة" في فلسطين وفي سوريا والعراق ولبنان، وكلما امتد طوفان الدعم العربي، كما يحدث اليوم ومنذ الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر في اليمن، كلما كانت اليد العليا يكتبها الميدان، كلما طالت صفوف المظاهرات في العالم الغربي والولايات المتحدة.
ولكن ما الذي يحدث؟ لماذا ما تزال هذه الطوابير الطويلة والتي سطرها الآلاف ثم عشرات الآلاف لتصل منذ أيام في تكساس ولندن إلى مئات الآلاف، غير قادرة على تغيير السياسة الأميركية في فلسطين، وغير قادرة على إيقاف المجازر ضد الفلسطينيين ووقف انتهاكات القانون الدولي عبر استهداف المدنيين والمستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء المحلية والدولية وتفريغ المستشفيات وسرقة أعضاء الفلسطينيين؟ والجواب بالتأكيد هو في القراءة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية والغرب، والتي لا تختلف تركيبة الصهيوني عنهما.
بداية علينا توضيح أن من يقود المتظاهرون اليوم في أميركا وبريطانيا اليوم، في أغلبيتهم الفلسطينيون والعرب الأميركيون، وبالتأكيد هناك أعداد متزايدة من الفئات الأخرى، من الأفارقة الأميركيين والأميركيين الأصليين، وقد ذَكرت هاتين الفئتين الأميركيين بعمق بشاعة تاريخ المستعمر الأبيض الإستيطاني المليء بالمجازر والعبودية. وابتدأت بعد ذلك تزداد أعداد المتظاهرين من أصول أوروبية أو العرق الأبيض. ثم إن المشاركين من المتظاهرين وبحسب ما نشر في الإعلام الغربي، هم ممن يصنفونهم بجيل الألفية من مواليد الأعوام (1980- 1994)، والجيل Z [زد] من مواليد الأعوام (1995- 2009)، وهؤلاء لم يتأثروا فعلياً بالإعلام الأميركي والدعاية الأميركية الصهيونية، ويجمعون معظم أخبارهم عبر الإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي، والتي يستقونها دون توجيهات وتحليلات مسبقة، بمعنى أنهم يبحثون عن المعلومة المجردة، ولذا فقد استطاع هؤلاء التفلت من قبضة العقدة بالإحساس بالذنب تجاه مزاعم "المحارق" اليهودية. فكان ما نشر على وسائل التواصل الإجتماعي المصدر الأهم لإهتمام هذه المجموعات بما يحدث في غزة خاصة. وهنا لا يمكننا أن نهمل دور الـ BDS وغيرها من منظمات فلسطينية تنادي بمقاطعة "المنتجات الإسرائيلية" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي لعبت دوراً هاماً في توعية الأميركيين وبخاصة طلاب الجامعات، وقد تحدثنا عنها مفصلاً في مقال سابق على العهد.
لعب جيلي الألفية وجيل زد خلال المئة يوم من الحرب على غزة دوراً هاماً في التأثير على الجيل (اكس)، الذي ولد ما بين (1965- 1980)، والذي يخرج بشكل متصاعد متضامناً مع غزة، ويمكننا تبين ذلك عبر مراقبة تطور المظاهرات في الولايات الأميركية. لكن دور الجيل (اكس) ما يزال محدوداً ومنسجماً مع الجيل الذي قبله، الجيل (واي) الذي ولد في نهاية الربع الأول والربع الثاني من القرن الماضي، والذي تمت قولبته من قبل المؤسسات الإعلامية في الولايات المتحدة والغرب. هذين الجيلين ما يزالان عاجزان عن الخروج من عباءة الدعاية الصهيونية و"الهولوكست" و"أوشفيتز" و"معاداة السامية"، وتحقير العرب: راكبي الجمل. مع العلم أن أبناء الجيل (واي)، على سبيل المثال، خاض حرباً ضروساً مع الحكومة الأميركية من أجل سحب الجيش الأميركي من فيتنام وإنهاء الإحتلال في شرق آسيا، وأبناء الجيل اكس خاض الحرب مع الحكومة من أجل إخراج أولاده من العراق وأفغانستان. ولكن، الظروف هنا مختلفة.
بداية، لم يتكبد الجيش الأميركي في فلسطين المحتلة أو في سوريا أية خسائر تذكر مقارنة بتلك التي خسرها في العراق وأفغانستان وفيتنام. وثانياً، لم تتكبد الحكومة الأميركية حتى اليوم خسائر مادية تذكر كتلك التي خسرتها في الدول الثلاث السابقة او في كمبوديا أوكوريا وغيرها. وثالثاً، حتى اليوم، لم تمس بعد مصالح تلك الطبقة، التي ستتوجه للإقتراع في الإنتخابات المقبلة من أجل تغيير السياسات الأميركية المفروضة، ومزاج معظم هذه الطبقة، وهي تمثل الطبقة المتوسطة الغنية وطبقة الأكاديميين والمثقفين والأطباء وغيرهم ما يزال نفسه، ولم يتغير تجاه "حق اسرائيل في الدفاع عن النفس". وهي الطبقة التي خرجت مولولة في بداية سبعينات القرن الماضي تطالب بالإنسحاب من فيتنام عندما ابتدأ الجيش الأميركي باستدعاء أبناءهم للخدمة في فيتنام، وابتدء القسم الأكبر من أبناءهم يعود، كما غيرهم أبناء الطبقات الأخرى والفقيرة، إما في تابوت أو مع عاهة مستديمة، هذا عدا عن الأمراض النفسية التي عاد بها هؤلاء وأصبحوا مدمني كحول ومخدرات وعاطلين عن العمل.
والدليل على عدم انخراط هذه الطبقة بعد، الفيديوهات التي انتشرت حول دخول المتظاهرين من أجل غزة إلى إحدى المتاجر الكبرى الشهيرة خلال فترة التسوق لعيد الميلاد، وبدؤوا رمي المناشير التي تٌعرف بأسماء العلامات التجارية الشهيرة والفارهة الداعمة للصهاينة ومجازر الإحتلال الصهيوني في فلسطين. وطالبوا عبر المناشير التوقف عن تسوق العلامات التجارية المحددة لأنهم بذلك يساهمون في مجازر غزة. وهؤلاء المتسوقون، هم حتى الساعة لا يهتمون فعلياً بما يحدث في غزة ويعتبرون الأمر شأناً صهيونياً داخلياً، لا يريدون الإطلاع عليه، وهم متصالحون مع أنفسهم لأنهم يرفضون الوسم كأعداء للسامية، وخاصة بعد القانون الذي سن في أمريكا والذي اعتبر أن معاداة الصهيونية هو معاداة للسامية مما سيفقدهم مكاسبهم. وحقيقة لم تتأثر هذه الطبقة ولا حتى الولايات المتحدة حتى الساعة اقتصادياً بحرب غزة. وجل ما قامت به حتى اليوم هو فتح مخازن السلاح المتواجد في قواعدها في النقب، وهو سلاح قديم في جميع الأحوال. ومن خلال مراقبة الجولات التي بدأها جو بايدن دعماً لحملته الإنتخابية القادمة عبر القاء الخطب والمناظرات، فإن الأعداد التي تدخل إلى هذه القاعات لتطالب بايدن بوقف الحرب على غزة ما يزال عددها صغيراً ومحدوداً جداً مقارنة بتلك التي تجلس لتستمع إليه ولخططه القادمة. وهؤلاء أصحاب مصالح اقتصادية كبرى في أمريكا وفلسطين ويريدون الحفاظ عليها. ولكن، هذا لا يقلل من أهمية تصاعد أعداد المتظاهرين، والتي تعد بدايات هامة ومن الهام الحفاظ على استمراريتها ونمو حجمها حتى بعد توقف الحرب على غزة.
وإذا عدنا للإستشهاد بالمقاومات التي فرضت التغيير والتحرر في الدول المحتلة من قبل الأميركيين، وحتى يفرض التغيير على هذه الحكومة الأميركية وغيرها لجهة منع الصهاينة من ارتكاب المجازر في العراق وبلاد الشام، أي (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن)، فالمطلوب القيام بما تقوم به كل من اليمن والعراق بضرب القواعد والمصالح الأميركية في المنطقة، وأن تكون انتقائية اكثر، بحيث يبدأ الأميركي ومعه الصم من الأميركيين بالصراخ، كما يصرخ تماماً أطفال غزة من الوجع والجوع وألم اليتم والإصابات بالعاهات المستديمة، ولذا يجب ضرب القواعد الأميركية الكبرى كما يحدث اليوم في عين الأسد في العراق، وكما يجب أن يحدث في التنف في سوريا وفي السلطي في محافظة الزرقاء في الأردن، وفي القاعدة الأميركية في النقب، وعندها سيسمع عويل الصمَّ الذين لم يسمعوه حتى اليوم في الولايات المتحدة، من أبناء جيلين: الجيل واي والجيل الصامت، الذين يحكمون أميركا ويحددون سياساتها، التي أسست لزرع الصهيونية في بلادنا.