قراءات عسكرية » طريق النصر... حرب استنزاف شعبية طويلة الامد

صوفيا ــ جورج حداد           

كتبنا في مقالة سابقة ردا على فئة من "المزايدين" على المقاومة بقيادة "حزب الله"، في مسألة الرد العسكري "اللبناني" على العدوان الوحشي "الاسرائيلي" على الشعب العربي الفلسطيني في غزة خصوصا، وهم "المزايدون" ــ العملاء التاريخيون للامبريالية و"اسرائيل" والسعودية.

ولكن للاسف يوجد ايضا فئة ثانية من "المزايدين"، تنتسب الى محيط المقاومة، ومن مؤيديها وداعميها. وهم يدلون بآرائهم بصدق واخلاص، ولكن بتعالٍ، وحجتهم الرئيسية هي انه لا يجوز ترك غزة تضحي لوحدها، وان لدى حزب الله القدرة العسكرية على حسم الموقف بتدمير تل ابيب وكل المدن والمواقع الرئيسية "الاسرائيلية"، مهما كان رد "اسرائيل" واميركا ومعسكرها، ومهما كانت التضحيات!

ان الرد الاولي على جميع هؤلاء الاخوة "المتحمسين اكثر من اللزوم"، أيا كانت انتماءاتهم او وجهات نظرهم الحزبية والسياسية، انهم "قصيرو النظر" و"قصيرو النَفَس"!

ولكن هذا بالذات هو عامل إضافي يقتضي مناقشتهم بروح اخوية. وهو ما نحاوله في ما يلي:

اولا وقبل كل شيء، انه في اي انتقاد او مناقشة صادقين، لاي سلوك عسكري او سياسي او اجتماعي الخ، لحزب الله، ينبغي ان تؤخذ بالاعتبار الهوية الاساسية والرئيسية للحزب، بوصفه "حزب المقاومة" والعمود الفقري للمقاومة الوطنية ــ الاسلامية في لبنان والمنطقة العربية بأسرها. وهي الهوية التي خطها الحزب وكرسها، في الاكثر من الاربعين عاما الماضية، بدماء وتضحيات عشرات الوف الشهداء والجرحى والمناضلين على كل الجبهات العسكرية والسياسية والاعلامية والاجتماعية والصحية والتربوية الخ، بمن فيهم الشهداء من القادة انفسهم ومن ابناء القادة، كما خطها بفضل حكمة وشجاعة وثبات "القيادة الجماعية" الفذة للحزب، وعلى رأسها الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله.

لقد انبثق "حزب الله" بداية ضمن اطار "حركة المحرومين ــ امل" الشيعية التي اسسها في السبعينات من القرن الماضي القائد الكبير الامام السيد موسى الصدر، الذي تم "تغييبه" بعد سنوات قليلة من تأسيس "الحركة"، على ايدي "نظام الانظمة العربية" المهزومة والمنبطحة امام اعداء الامة العربية. ومنذ الاجتياح "الاسرائيلي" للبنان في 1982 حتى اليوم، وفي مصهر المقاومة، كرس الحزب، من جهة، مرتكزاته الدينية والعقائدية والفكرية والسياسية، التي تجمع بين:

ــ الشيعية الايمانية اللاطائفية، "المهذبة" والمحررة من الشوائب المذهبية،

ــ الوطنية اللبنانية والعروبية الصادقتين،

ــ والاسلام التوحيدي والجهادي التحريري.

ومن جهة ثانية، كرس الحزب جناحه العسكري (المقاومة الاسلامية)، كجيش مقاومة شعبية كبيرة، قادرة، ومستفيدة من الانجازات، كما ومن الاخطاء السابقة، للمقاومة الفلسطينية، ومن دروس هزائم الجيوش النظامية العربية امام "الجيش الاسرائيلي"، ومتعلمة من جميع التجارب الثورية والحروب الشعبية في العالم، وتطبق العلم العسكري بصورة خلاقة، ضمن الظروف والاوضاع الخاصة اللبنانية والعربية، وطبيعة الصراع مع العدو "الاسرائيلي"، واسياده، و"حلفائه" العرب واللبنانيين.

 وبذلك تمكن حزب الله من تحويل "المقاومة الاسلامية"، بقيادته، الى جيش شعبي كبير، قوي وقادر، انجز التحرير في سنة 2000، وحطم لاول مرة اسطورة "الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر" في سنة 2006، واصبح يعتبر قوة عسكرية ثورية اقليمية، معادية للامبريالية العالمية والصهيونية، ويشكل الان ""بعبعا" تحسب له اسرائيل واسيادها الف حساب. كما اصبح الحزب يعتبر احد اهم فصائل الحركة الثورية العالمية الجديدة، المعاية للامبريالية. وربما لم يعد بعيدا اليوم الذي يسافر فيه السيد حسن نصرالله الى موسكو، ويذهب الى الساحة الحمراء ويزور ضريح فلاديمير لينين، مفجّر الثورة الاشتراكية الروسية العظمى في 1917، التي غيرت وجهة التاريخ العالمي؛ ثم يجتمع مع الرئيس بوتين، ليرسما معا الخطوط العريضة للفجر الجديد للانسانية، وتفتح له اكبر قاعات الكرملين، ليصلي فيها، كما صلى قبلا القائد الثوري الاسلامي ــ الاممي العظيم الشهيد قاسم سليماني والرئيس الايراني الثوري السيد ابراهيم رئيسي.   

وعليه، نتقدم بنصيحة اخوية الى كل المخلصين الذين تدفعهم "الحماسة الزائدة" الى توجيه انتقادات "فوقية" لحزب الله وقيادته: إدلوا بانتقاداتكم وآرائكم واقتراحاتكم، بكل حرية وصراحة، فهذا امر صحي وطبيعي ومنطقي ومطلوب. ولكن تعلموا قليلا التواضع من "القيادة الجماعية" لحزب الله! فمن المعيب لاي كان ان "يؤستذ" على حزب الشهداء، عن قصد او بدون قصد!

ولا شك انه في هذه المعركة المصيرية، فإن "القيادة الجماعية" لحزب الله، تأخذ بالاعتبار الاوضاع والظروف التالية:

1 ــ ان "اسرائيل" هي "حجر زاوية" رئيسي في النظام الامبريالي العالمي، الذي تقوده اليوم الامبريالية الاميركية\اليهودية. وإسقاط هذا "الحجر" يعني زعزعة النظام الامبريالي العالمي برمته. وهذا ما يفسر لنا كيف تراكض زعماء العالم الغربي (وعلى رأسهم الرئيس الاميركي جو بايدن ووزير خارجيته بلينكن ووزير حربه "الاسمراني") للوقوف الى جانب "اسرائيل"، بعد تلقيها "ضربة 7 اوكتوبر\تشرين الاول"، وذلك ليس فقط لان جو بايدن بحاجة الى اصوات واموال اللوبي اليهودي الاميركي في الانتخابات الرئاسية القادمة، وليس فقط لان بلينكن هو يهودي. كما يفسر لنا الاسراع في حشد الاساطيل الاميركية والغربية في البحر الابيض المتوسط، بما فيها الغواصة النووية وحاملة الطائرات العملاقة، استعدادا للدخول الواسع في المعركة ضد شعوب منطقتنا بأسرها، وعلى رأسها محور المقاومة. وكل ذلك يعني ان شن حرب كاسحة ضد "اسرائيل" لا يمثل خاتمة للعدوان والوجود العدواني "لاسرائيل" والصراع الفلسطيني والعربي ــ "الاسرائيلي"، بل يعني فاتحة حرب شاملة ضد الامبريالية العالمية، بما في ذلك خطر نشوب حرب نووية عالمية. وهذا يعني اخيرا ان المعركة هي اكبر بكثير من "عدّاد الصواريخ" التي يملكها حزب الله ومحور المقاومة برمته، من جهة، وتملكه "اسرائيل" والدول الداعمة لها من جهة ثانية.  

2 ــ على اثر "صدمة 7 اكتوبر" صرح وزير "اسرائيلي" ينتمي الى حزب بن زفير للمعتوهين التوراتيين، بأنه ينبغي استخدام السلاح النووي ضد غزة والشعب الفلسطيني. وهذا التهديد يشمل ضمنا كل شعوب الدول المحيطة "باسرائيل" وبالاخص محور المقاومة. ولكن "اسرائيل" تعلم ان استخدام السلاح النووي الستراتيجي في محيطها القريب سيصيبها هي ايضا بالاشعة النووية. ولكن من السذاجة الاعتقاد بان "اسرائيل" لم تقم، مع اميركا والدول النووية الغربية الاخرى، بتطوير وصناعة اسلحة نووية تاكتيكية، صغيرة ومتوسطة، كقذائف نووية لمدفعية الميدان او الصواريخ ذات المدى القصير والرؤوس النووية  الصغيرة، لتدمير شوارع او احياء او مدن صغيرة او قرى. وبالتأكيد ان القيادة الحكيمة والشجاعة للمقاومة تأخذ كل ذلك بالحسبان وتعد لكل أمر عدته.  

3 ــ ان "العناصر الشيئية": المواد المعدنية والكهربائية الخ، والوقود، والمواد المتفجرة، والامكانيات المالية، الى جانب الفكر العلمي والخبرة والكفاءة، هي العناصر الكافية لصناعة الصواريخ والمطيّرات وغيرها من الاسلحة، وهذا عدا عما يمكن الحصول عليه من شركاء المصير او الحلفاء. ولكن الامر يختلف تماما فيما يتعلق بـ"القوة الحية" للمقاومة، اي "المجاهدين" الذين سيستخدمون الاسلحة التي في حوزتها.

واكبر خطأ ستراتيجي ومصيري ارتكبته في السابق انظمة الحكم العربية الوطنية، بمن فيها النظام الناصري، انها انتهجت ستراتيجية "الحرب النظامية"، التي تعتمد "التعبئة الفوقية" للقوات المسلحة والسعي للحصول على كميات كافية من الاسلحة المتطورة والمناسبة، وتحقيق "التوازن الستراتيجي"، فيما على "الشعب!" فقط التصفيق للحاكم (والذي لا يصفق يُنبذ او يذهب الى السجن). وحينما عرض النظام الناصري صواريخ "الناصر" و"الظافر" و"القاهر"، في الاستعراضات العسكرية، بعد حرب السويس في 1956، فإن الجماهير الشعبية العربية الغفيرة، من المحيط الى الخليج، صفقت طويلا بحرارة وحماسة لا سابق لهما، ثم "نامت" او "نُوّمت" قريرة العين وهي تحلم بيوم النصر القادم على يد "الزعيم ــ البطل الخارق".

ولكن ماذا كانت نتيجة كل الحروب النظامية التي خاضتها الجيوش العربية الباسلة ــ البائسة والمغلوب على امرها، والتي قدم فيها الوف الجنود والضباط العرب الابطال ارواحهم؟

 ـــ هزيمة 1967 الشنيعة والمخجلة بكل المقاييس؛ وإسقاط مصر في مستنقع "كامب دايفيد"، حيث لا تزال عالقة، بالرغم من اغتيال السادات ثم صعود "الاخوان المسلمين" الى السلطة راكبين موجة "الربيع العربي" الاميركي المشؤوم؛ واحتلال "اسرائيل" للجولان، الذي لا يزال محتلا الى اليوم، ولن يتحرر الا عن طريق المقاومة والحرب الشعبية؛ وطبعا طوال هذه المرحلة الاليمة مُلئت سجون الانظمة "الوطنية" العربية بعشرات الوف المعترضين والمعارضين، من كل الاطياف الحزبية الوطنية والدينية، وبعض تلك السجون (كما سجن تدمر وغيره) تحولت الى مسالخ بشرية بالمعنى الحرفي للكلمة؛ وأبشع ما جرى في تلك المرحلة هو كسر البوصلة نحو فلسطين، وقيام النظام البعثي العراقي بقيادة صدام حسين، بتحويل الجيش العراقي الباسل للقتال وشن الحرب الظالمة ضد الثورة الاسلامية الايرانية والشعب الايراني المظلوم، اي تماما ما كانت تريده الامبريالية العالمية والصهيونية، وهو بالضبط ما تريده اليوم، وكلنا يسمع الان النعيب المتواصل للطابور الخامس "اللبناني!" ضد "الاحتلال الفارسي للبنان!"، وحتى بعض الشيوعيين المزيفين والساقطين يتشدقون قائلين "ان حزب الله هو احتلال ايراني!"، و"دليلهم القاطع!" انه يحرم عليهم "في مناطقه" شرب الويسكي! يا لمصيبة الشعب اللبناني اذا فُقدت الويسكي! (والنصيحة لمثل هؤلاء الساقطين: ان شرب بول  الحمير هو أفيد لصحتهم العقلية!).    

وغاية القول: ان النصر لا تصنعه "الاسلحة" بايدي "الجيوش المسخرة للانظمة"؛ بل يصنعه الرجال ــ المجاهدون الثوار والاحرار. وهؤلاء لا يمكن "صناعتهم" بالادوات والوسائل الميكانيكية والشيئية، او استيرادهم، كما تصنع او تُستورد الصواريخ والمطيّرات،  بل هم يأتون "متطوعين" من البيئة الحاضنة للمقاومة، اي من الجماهير الشعبية، التي هي المكون الاساسي للبلاد او "الوطن".

والعدو، حينما يعجز عن ضرب القوات المسلحة والهياكل التنظيمية والتعبوية للمقاومة، فإنه يعمد بكل خسة وانحطاط وحيوانية الى ارتكاب ابشع الجرائم ضد الجماهير الشعبية للمقاومة، بما في ذلك الاستعداد لاستخدام الاسلحة النووية التاكتيكية، من اجل تجفيف "النبع" الشعبي الذي يأتي منه المجاهدون، ودفع تلك الجماهير المظلومة تاريخيا الى الوقوف "على الحياد" تجاه مصير قوات وتنظيمات المقاومة.

وعليه، فإن قيادة المقاومة لا يمكن ان تكون لامبالية و"حيادية" حيال ردود الفعل المعادية ضد البيئة الشعبية الحاضنة لها، والتي منها "ينبع" المجاهدون.

وهذا ما ظهر بجلاء في العملية الباهرة للمقاومة في "7 اكتوبر" في غزة، وردود الفعل "الاسرائيلية" الوحشية ضد المدنيين، نساءً ورجالا، اطفالا وشيوخا. وهو ما برز في الصمود الاسطوري لابطال قوات وتنظيمات المقاومة، والجماهير الشعبية العزلاء في غزة، وفي الانسجام والتكامل العضوي بين المقاومة وبيئتها الحاضنة، ولو لم يكن هذا الانسجام والتكامل، لسقطت المقاومة، وسقطت غزة، ودفنت القضية الفلسطينية الى اجل غير معروف.

وما لا شك فيه ان القيادة الحكيمة والشجاعة لحزب الله لن تكون لامبالية و"حيادية" حيال تفكك المجتمع اللبناني الملغوم بسموم الطائفية "المعتّقة" و"المتخمّرة" منذ ما يتجاوز الالف سنة، كما لن تكون لامبالية و"حيادية" تجاه المخاطر الداخلية والخارجية على البيئة "اللبنانية!" عموما، والبيئة المباشرة الحاضنة للمقاومة خصوصا.  

4 ــ ان الواقع الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي والامني، هو الذي يحدد وعي الانسان؛ والوعي هو الذي يحدد سلوكه، فردا وجماعات وشعوبا. والمعركة، في مسارها ومصيرها، هي في الحساب الاخير: معركة كسب الوعي.

وفي المعركة المصيرية مع "اسرائيل" ينبغي ان نتذكر، وان نأخذ بالاعتبار بقوة، أمرين:

*****

الامر الاول ــ ان إنشاء "اسرائيل" كقاعدة عسكرية امامية و"مخلب قط" متقدم للامبريالية العالمية في قلب الوطن العربي ولفصل مشرقه عن مصر والمغرب العربي، قد تم بقرار من الدول الامبريالية وصار، موضوعيا،  بالامكان تنفيذه بعد احتلال البلدان العربية في اعقاب انهيار الاستعمار التركي البغيض في اعقاب الحرب العالمية الاولى.

أما ذاتيا فإن تنفيذ هذا القرار كان يقتضي كسب الجماهير الشعبية اليهودية الى جانب الفكر الصهيوني ــ التوراتي، الداعي لانشاء "الوطن القومي اليهودي"، لان "شعب اسرائيل" العتيدة ينبغي ان يتألف حتما من "اليهود" اتنيا او "قوميا!" سواء كانوا مؤمنين او غير مؤمنين "دينيا".

ولا بد ان نذكر هنا ان "وعد بلفور" (ارثر بلفور ــ وزير الخارجية البريطاني في حينه ــ وهو يهودي الاصل حسب مصادر تاريخية) صدر في 2 تشرين الثاني 1917؛ وبعد خمسة ايام فقط ــ اي في 7 تشرين الثاني 1917 ــ قامت الثورة الاشتراكية العظمى في روسيا. ووضعت الجماهير الشعبية اليهودية في اوروبا امام حلين لما كان يسمى "المسألة اليهودية" وهما:

ــ إما "الحل القومي ــ الديني" الصهيوني ــ الاستعماري، الداعي الى اغتصاب فلسطين من اهلها الشرعيين، واقامة "الوطن القومي اليهودي"، المتماهي مع الاستعمار والامبريالية الغربية والنظام الرأسمالي العالمي؛

ــ وإما الحل الانساني ــ الاممي، الداعي الى اندماج المجموعات اليهودية في المجتمعات التي تولد فيها، على قاعدة تبني الفكر الاشتراكي العلمي، الثوري او الاصلاحي، المعادي للشوفينية والاستعمار والامبريالية والرأسمالية.  

فماذا حدث بعد تشرين الثاني 1917؟

ـــ بالاطلاع على الابحاث التاريخية لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وجميع مؤسسات الابحاث التاريخية العالمية، بما فيها مؤسسات الدول الاستعمارية الغربية ذاتها، نجد ان قلة قليلة جدا، لا يعتد بها، من العائلات اليهودية في اوروبا واميركا واسيا الخ، هاجرت الى فلسطين، في المرحلة الممتدة من 3 تشرين الثاني 1917 (اليوم الثاني لتاريخ صدور "وعد بلفور") الى 30 كانون الثاني 1933 (تاريخ تعيين هتلر "مستشارا" لجمهورية فايمار الالمانية، بعد فوز الحزب النازي بالاكثرية  في الانتخابات النيابية في 1932).

ولكن في المقابل فإن الغالبية الساحقة من اليهود (العمال والحرفيين والانتلغنتسيا المتنورة) انضموا الى الثورة الاشتراكية في روسيا والمانيا والمجر وغيرها، والى صفوف الحركات والاحزاب الشيوعية والاشتراكية ــ الدمقراطية الاوروبية المعادية او المعارضة او المخالفة للصهيونية في حينه.

وهذا ما أقض مضاجع الطغمة المالية اليهودية العالمية العليا، المتمترسة في اميركا، إذ كيف سيتم انشاء "الوطن القومي اليهودي" بدون اليهود (!!!).

واذا كان من الضروري فرض "اقامة اسرائيل" على الجماهير الفلسطينية والعربية بقوة الحديد والنار، فقد صار من الضروري فرض اقامة "الوطن القومي اليهودي" على الجماهير الشعبية اليهودية، ايضا بقوة الحديد والنار.

ولاخضاع اليهود واجبارهم على تقبل افكر الصهيوني، عمدت الطغمة المالية العليا اليهودية، التي تقود اليهودية العالمية، الى دعم وصول الحزب النازي بزعامة هتلر الى الحكم في المانيا (بواسطة الانتخابات)، ودعم سيطرة ستالين على الحكم في الاتحاد السوفياتي السابق. وأضفي على هذين الجزارين، ظاهريا، طابع "عدوين لليهود". وتحت هذا الغطاء السياسي الكاذب قام هتلر وستالين بابادة عشرات ومئات الوف اليهود الشيوعيين واللاصهيونيين، لاجبار من يتبقى حيا من اليهود على تبني الفكر الصهيوني والسفر الى فلسطين للمشاركة في اقامة "الوطن القومي اليهودي" او ما سمي "اسرائيل".

وفيما خص الحزب النازي بزعامة هتلر، فقد تم تنظيم وتنفيذ ما سمي "المحرقة" (او الهولوكوست) التي لا تزال "اسرائيل" تتاجر بها الى اليوم.

اما فيما خص ستالين، فبعد الوفاة المشبوهة لمؤسس الدولة السوفياتية لينين في 1924، تمت في 1926، بصورة مشبوهة ايضا تصفية القائد الشيوعي البارز فيليكس دزيرجينسكي مؤسس الـ"تشيكا" (هيئة الطوارئ) سلف الـ"كا غي بي" (لجنة امن الدولة)، (تقول الرواية الرسمية الستالينية ان دزيرجينسكي مات بأزمة قلبية مفاجئة، ولكن المرويات التاريحية غير الرسمية تقول انه مات مسموما). ومن ثم تمت السيطرة الستالينية على وزارة الداخلية واجهزة امن الدولة السوفياتية، التي  تم تحويلها الى دولة بوليسية ستالينية.

وفي السنوات اللاحقة، ولا سيما في موجة "التطهير" والمحاكمات الصورية الشنيعة في 1936 ــ 1937، تمت تصفية ملايين الشيوعيين الروس والسوفيات (وبالاخص  الشيوعيون اليهود) وعشرات الوف ضباط الجيش الاحمر والكثير من الجنرالات ومنهم رئيس هيئة الاركان في حينه الماريشال الشهير، "بعبع اوروبا" في حينه، ميخائيل توخاتشيفسكي (واضع أسس العلم العسكري السوفياتي، والذي لا تزال كتبه الى اليوم تدرّس في الاكاديميات العسكرية الروسية)، وذلك بتهم ملفقة وكاذبة (التجسس، الخيانة، معاداة الحزب والدولة، التخريب الصناعي، التطرف اليميني، التطرف اليساري، التروتسكية الخ). وكانت "المسرحيات القانونية" تدار بطريقة ذكية تتمحور حول خدعة "ان الرفيق ستالين لا يعلم...!"، وكان الكثير من المحكومين بالاعدام يتلقون الرصاص في صدورهم او يذهبون للعمل في "معسكرات الموت" (غولاغ) وهم يهتفون: "تحيا الشيوعية! يحيا ستالين العظيم!". وفي اغلب السنوات فإن وزراء الداخلية لدى ستالين كانوا من اليهود مثل نيكولاي يِغوف وغينريخ يَغودا وكان آخرهم لافرنتي بيريا. وتقول المرويات التاريخية غير الرسمية انه كان لدى ستالين لجنة مصغرة سرية من "المستشارين اليهود" كانت مهمتها هي "غربلة" لوائح المعتقلين وتحضير "لوائح الاعدام" و"لوائح معسكرات الغولاغ" (الاشغال الشاقة حتى الموت)، وتقديمها الى ستالين للتوقيع عليها، ومن ثم ارسالها الى "المحاكم الكراكوزية" لاخراجها "القانوني" وتنفيذها. وبين الفترة والاخرى كان يتم استبدال اعضاء تلك "اللجنة الاستشارية" السرية، باعضاء جدد يهود ايضا، واعدام السابقين، كما أعدم الوزيران يِغوف ويَغودا، لدفن اسرارهم معهم.

لقد كانت الهتلرية، من اليمين، والستالينية، من "اليسار"، هما العصاتان الغليظتان اللتان ساقت بهما القيادة اليهودية العالمية، بالقوة القهرية و"الهولوكوست" النازية ومنصات الاعدام ومعسكرات الموت الستالينية، عددا "مقبولا" من  اليهود الذين بقوا على قيد الحياة، من اوروبا وبولونيا واوكرانيا وروسيا، الى تقبل الفكرة الصهيونية والمهاجرة الى فلسطين. وكانت الطغمة المالية اليهودية العليا تمول الرحلات والتكاليف الاولية لاقامة وتسليح المهاجرين، بواسطة منظمة "الوكالة اليهودية العالمية".

ولكن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط الهتلرية، كشفت الستالينية عن وجهها الحقيقي، المعادي للفكر الاشتراكي العلمي والشيوعية، والموالي للامبريالية العالمية والصهيونية، ووقفت على المكشوف الى جانب اميركا وبريطانيا، واعلنت تأييدها لقرار الامم المتحدة الصادر في نهاية تشرين الثاني 1947، حول تقسيم فلسطين وشرعية إقامة "اسرائيل". وفي 1949، وبأوامر مباشرة من ستالين وزمرته، اصدرت قيادات الاحزاب الشيوعية الحاكمة في بلدان اوروبا الشرقية قرارات بتسفير "يهودها" الى فلسطين للمشاركة في بناء الدولة "الاسرائيلية" الجديدة، بزعم القدرة على تحويلها الى "دولة اشتراكية" تكون نموذجا جاذبا للبلدان العربية لتحويلها هي ابضا نحو الاشتراكية. وحينما اكتشف قسم كبير من اولئك الشيوعيين اليهود الاوروبيين الشرقيين حقيقة الصهيونية ودولة "اسرائيل" التي سيقوا اليها، وظهرت في صفوفهم حركة مطالبة بالعودة الى بلدانهم الاصلية، رفضت قيادات الاحزاب الشيوعية وحكوماتها في تلك البلدان اعادتهم. وهذا مما تغاضت عنه وطمسته قيادات الاحزاب الشيوعية العربية في حينه التي كانت تتجرجر خانعة في ذيل الستالينية.    

نخلص الى القول ان إنشاء اسرائيل يرتبط  عضويا، ولا يمكن بتاتا فصله عن عملية جر قطاع واسع، وربما الاوسع، من الجماهير اليهودية العادية، بالقوة، الى الفكر الصهيوني والصهيونازي.

وطبعا انه مثلما تم جر هذا القطاع من الجماهير الشعبية اليهودية، بالقوة، الى الفكر الصهيوني ــ الاستيطاني ــ الاستعماري، فإن كسر شوكة اسرائيل عسكريا وامنيا هو ممر الزامي لفك ارتباط اليهود العاديين بالفكر الصهيوني.

وهذا يعني ان المعركة الاساسية، بكل الوسائل وعلى رأسها المقاومة الشعبية المسلحة للاحتلال "الاسرائيلي"، هي معركة الوعي، او معركة "إقناع" اليهود "الاسرائيليين" بمغادرة فلسطين والعودة الى ديارهم الاصلية او الى حيث يشاؤون، بمن فيهم من يسمون "اليهود الشرقيين" او اليهود العرب: المغاربة، واليمنيون، والعراقيون، والسوريون، واللبنانيون الخ.

ولكن في هذه الحالة، يطرح السؤال: اي "نموذح وطن" يقدم  المجتمع العربي  لعامة مواطنيه اولا، ولليهود العرب، المحتمل اعادتهم او "استعادتهم" من "اسرائيل"، ثانيا؟

ــ هل النموذج الداعشي(؟) الذي هو كارثة تاريخية وحكم بالموت الزؤام على المجتمع العربي بأسره؟!

ــ ام نموذج الانظمة الاستبدادية، الملكية او الاماراتية او الدكتاتورية العسكرية ــ البوليسية ــ المخابراتية، التي "تتنمر" و"تستأسد" على شعوبنا العربية المظلومة، وتستبد بها، ولكنها تخنع كالجرو المذعور امام زمرة عصابات من قتلة الاطفال والمدنيين بشخص "الجيش الاسرائيلي"، الذي أذِل ايما إذلال على ايدي بضع مئات فقط من مقاتلي المقاومة الشعبية الابطال في حرب تموز 2006 في لبنان، وفي عملية 7 اكتوبر\تشرين الاول 2023 في غزة؟!

ــ ام النموذج "التعايشي ــ التكاذبي" الطائفي اللبناني، الذي سقط تاريخيا في لبنان ذاته، بالرغم من كل حسناته بالمقارنة مع جميع الانظمة العربية الاخرى، والنقيض تماما للنموذج الداعشي.

ان العالم الامبريالي الغربي (الاوروبي ــ الاميركي)، وبحكم طبيعته الرأسمالية والامبريالية، كان ولا يزال عاجزا عن حل "المسألة اليهودية"، قبل وخلال وجود وبعد الازالة الحتمية لدولة "اسرائيل". وقد فشل تاريخيا "الحل النازي" لـ"المسألة اليهودية"، وها هو "الحل الاسرائيلي" يفشل ايضا. وسيتوجب على المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعربية ان تأخذ على عاتقها ايجاد حل انساني عادل لـ"المسألة اليهودية" وتحرير اليهود من الفكر الاستعلائي ــ الصهيوني ــ الاستعماري، لان حركة التحرر الوطني العربية هي المعنية الاولى بحل "المسألة اليهودية" كجزء اساسي من "المسألة الشرقية" التي تكمن في صلب جميع القضايا والمعضلات التاريخية التي تواجه حركة التحرر الوطني العربية (ولبنان هو النمط الموذجي، "المريض" على شفير الموت بـ"المسألة الشرقية").  

ان معركة التحرير من الاحتلال والكيان "الاسرائيليين" هي في اساسها معركة وعي، ومعركة تحرر ذاتي للمجتمع العربي. وهي معركة اوسع واشمل واعقد واطول زمنا من المعركة العسكرية بحد ذاتها، وان كان لا يمكن تصورها، ونجاحها، بدون المعركة العسكرية والانتصار فيها.

وكل المؤشرات تفيد بأن القيادة الحكيمة لحزب الله والمقاومة الاسلامية اللبنانية والفلسطينية تدرك تماما هذه الحقائق، وتقود المعركة بحنكة ودراية وشجاعة وصبر، ضمن المعطيات والظروف والشروط التاريخية القائمة.

******

والامر الثاني ــ الذي ينبغي تذكره، واخذه بقوة بالحسبان، هو: الرأي العام العالمي عموما، والاوروبي والاميركي الشمالي والجنوبي خصوصا، نظرا للدور الاولي الذي لا تزال اوروبا واميركا تلعبه في حياة جميع الدول والبلدان، وفي تقرير مصير جميع   الشعوب.

ان وجود الانظمة الملكية الاستبدادية وما اشبهها، والانظمة الدكتاتورية العسكرية ــ الامنية ــ المخابراتية، في بلداننا العربية المقهورة والمظلومة، لا يزال امرا "عاديا" مسلما به. ولا يزال العنصر "الامني" او "الشرطي" او المخابراتي او الجاسوس والمخبر، حتى لو كان شرطيا فلسطينيا اوسلويا يعمل تحت جزمة الاحتلال الاسرائيلي ويلتزم باوامره، وحتى لو كان ــ بالمعايير الاخلاقية والاجتماعية والانسانية ــ لا اكثر من "حشرة بشرية"، فإنه لا يزال مرهوب الجانب من المواطنين الشرفاء، ويعتبر نفسه "سلطان زمانه" او "عنتر زمانه".

اما في الغالبية الساحقة من البلدان الاوروبية والاميركية الشمالية والجنوبية واوستراليا، فإن الامر هو مختلف تماما. ورجل الامن او المخابراتي او القاضي نفسه فيقومون بعملهم من ضمن صلاحياتهم القانونية، واذا تجاوز اي منهم حدود صلاحياته فإن اي مواطن يمكن ان يشتكي عليه قانونيا.

وفي السابق قال الملك الفرنسي لويس الرابع عشر: "انا الدولة، وارادتي هي القانون!". ولكن بعد اقل من 75 سنة اقتيد خلفه (لويس السادس عشر) الى مقصلة الثورة الفرنسية وقطع رأسه. ورفعت الثورة الفرنسية شعار "حرية، إخاء، مساواة" واقيمت الجمهورية.

ان "الثورة الدمقراطية البرجوازية" انتصرت في غالبية البلدان الاوروبية والاميركية، وسقطت الى الابد الملكية الاستبدادية المدعومة من طبقة الاكليروس باسم الدين. وقامت على انقاضها الانظمة الجمهورية في الاغلب والملكية الدستورية في بعض البلدان. وفي جميعها يتم انتخاب السلطات الحاكمة بالاقتراع السري للمواطنين رجالا ونساء، ويمتلك "الرئيس" او "الملك" ذاته صوتا انتخابيا واحدا على قدم المساواة مع أي مواطن عادي.

والطبقة الرأسمالية والامبريالية، بمختلف تكتلاتها واحزابها، لا تستطيع ان تحكم وتمارس سياستها الداخلية والخارجية الا من خلال صناديق الاقتراع. وهي تعمد الى تزييف الدمقراطية وتفريغها من محتواها، وتضليل الرأي العام لاجل كسب الانتخابات. ولهذا فهي تلجأ الى تطوير صناعة الكذب والديماغوجيا، ورشوة القطاعات الجماهيرية حينما تستطيع ذلك.

وفي الازمنة الراهنة تنفق الطبقة الرأسمالية والامبريالية الوف مليارات الدولارات على صناعة الكذب والتضليل، بواسطة  الإعلام المأجور، ومراكز الدراسات، والسينما والتلفزيون الخ، كما وتستخدم قادة الاحزاب والنقابات والنواب والوزراء ورؤساء الدول انفسهم لترويج الاكاذيب. فعشية وخلال الحرب العالمية الثانية اشتغلت الدوائر الامبريالية واليهودبة ــ الصهيونية على كذبة اتهام حركة التحرر الوطني العربية والفلسطينية ضد الاستعمار الغربي والصهيونية، بأنها نازية او موالية للنازية، بالاستناد الى بعض الاخطاء والتصرفات السياسية الخاطئة، كزيارة مفتي فلسطين السابق الحاج امين الحسيني لبرلين واجتماعه بهتلر ونشر صوره وهو يؤدي التحية النازية، واتصالات انور السادات (من حركة "الضباط الاحرار" المصريين التي برز منها جمال عبدالناصر حسين) بالقوات الالمانية النازية التي نزلت في افريقيا الشمالية ووصلت الى مصر واشتبكت مع الانكليز في معركة العلمين الشهيرة، والاتصالات بين حركة رشيد عالي الكيلاني في العراق بالنازيين الالمان، وبروز المذيع العربي الشهير يونس البحري في اذاعة برلين باللغة العربية وزعيقه فيها "هنا برلين حيا العرب".

وفي ايامنا من المعروف ان الامبريالية الاميركية (بالتعاون مع السعودية وزعانفها) هي التي اوجدت تنظيم "القاعدة" ثم داعش، واستخدمتهما؛ ولكنها مع ذلك تدعي اعلاميا انها تحارب "القاعدة" و"داعش"، لاجل تضليل الجماهير اليهودية والغربية عموما. وتتخذ الادارة الاميركية الان من كذبتها حول "محاربة الداعشية" ذريعةً للاحتفاظ بقواعد الاحتلال الاميركي  في سوريا والعراق، وذلك اولا لاجل مساعدة فلول الدواعش على الاستمرار، وثانيا لاجل تقسيم سوريا والعراق ومساندة حركات الانفصاليين الاكراد الموالين لاميركا واسرائيل، وتقديم كل اشكال الدعم لهم لاجل تحقيق الهدف الابعد وهو انشاء اسرائيل جديدة (كردية هذه المرة) بحجة دعم حق تقرير المصير للشعب الكردي على ارضه التاريخية(؟!)، المغتصبة سابقا من "العرب الاقدمين: الكنعانيين الغربيين والشرقيين، السريان والاشوريين"، امام صمت "العرب المستعربة: المسلمين"(!!!) الذين ــ اذا سمحوا بمرور هذا المخطط الامبريالي الاميركي\اليهودي الجديد ــ سيصح فيهم القول: "أكِلت يوم أكِل الثور الابيض!" (راجعوا التاريخ القديم الذي تراكم الغبار فوق اوراقه الصفراء، المطمورة في الاقبية المعتمة للاديرة السريانية والاشورية القديمة، والمضمخة بدماء ودموع ملايين الضحايا السريان والاشوريين، من الاطفال والشيوخ، النساء والرجال، والعذارى  المغتصبات والمسبيات!).

وهي ــ اي الادارة الاميركية ومذنباتها الاوروبية وغير الاوروبية ــ تواصل تكرار الاكذوبة الكبرى التي تتهم فيها المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعربية عموما والمقاومة الاسلامية خصوصا بانها "داعشية".  

كما تنفق الطبقة الرأسمالية والامبريالية مئات مليارات الدولارات لرشوة القطاعات الجماهيرية عن طريق تشكيل منظمات "خيرية" و"انسانية" و"تعليمية" الخ الخ، مهمتها غير المعلنة هي: التجسس، والتخريب واثارة القلاقل و"الثورات" كـ"الربيع العربي" و"ثورة 17 تشرين الثاني 2019" في لبنان، وتحويل الرأي العام نحو تأييد سياسة "الممولين". (المرحوم رفيق الحريري مهد لاكتساح لبنان سياسيا، بتقديم المنح الدراسية لالوف الطلاب اللبنانيين. ويقول المناضل البعثي اليساري القديم الاستاذ الفضل شلق ــ في مقابلة او مقالة له مع جريدة السفير ــ انه بكى تأثرا حينما كلفه المرحوم الحريري بترؤس اللجنة المولجة بتقديم تلك المنح الدراسية وميزانيتها بالملايين و"مفتوحة". يا لنبل وعروبة المملكة العربية السعودية! ويا لوطنية ومناقبية "الحريرية السياسية" التي انقضت كالكواسر على الدولة اللبنانية في بداية التسعينات من القرن الماضي، وبمشاركة "المارونية السياسية"، وباسم "التنمية" و"الاجواء المفتوحة" و"جنة الضرائب" و"الودائع العربية" و"الهندسة المالية"، اوصلتا الشعب اللبناني المظلوم الى قاع الهاوية حيث هو الان يتخبط "سعيدا" بالفقر المدقع كالطائر المذبوح!).   

ان النضال لاجل توعية وتنوير الرأي العام في البلدان الاوروبية والاميركية، وفي اسرائيل ذاتها والاوساط الشعبية اليهودية على النطاق العالمي، بهدف هزيمة واسقاط الامبريالية والصهيونية في عقر دارها، هو من اكبر مهمات المقاومة وجميع الحركات الثورية، الوطنية والتقدمية والتحررية، في جميع بلدان العالم.

******

وانه لمن السطحية المبتذلة واللامسؤولية التفكير انه يمكن الانتصار على "اسرائيل" بالضربة القاضية.

في ايار 2000 تم تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الاسرائيلي بدون قيد ولا شرط وبدون اتفاق مسبق. وذلك لاول مرة في تاريخ الصراع العربي ــ الاسرائيلي. ولاجل استعادة هيبتها المفقودة، اخذت اسرائيل تستعد لشن حرب ساحقة ضد حزب الله في لبنان. وفي تموز 2006، قامت مجموعة من مجاهدي المقاومة بعملية "الوعد الصادق"، لاسر بعض الجنود الاسرائيليين، واجبار"اسرائيل" على تحرير الاسرى االلبنانيين، بالتبادل. واتخذت "اسرائيل" من ذلك ذريعة لاجل شن عدوانها الوحشي، المحضر سلفا، ضد لبنان. ولكنها فشلت فشلا ذريعا في تحقيق اي من اهدافها، وأجبرت على تحرير الاسرى اللبنانيين. وأسقط بيد "اخوان يهوذا" من الطابور الخامس اللبناني، فعوضوا عن خيبة املهم وامل اميركا واسرائيل والسعودية، بأن شنوا حملة شعواء ضد حزب الله، بحجة أنه بفعل "استفزازه" و"مغامرته" ضد "اسرائيل" (حسب تعبير جميع ابواق السعودية، بمن فيهم دولة السنيورة) تسبب بتدمير لبنان. وفي تلك الظروف صدرت عن السيد حسن نصرالله جملة "لو كنت ادري..."، تعبيرا عن استغرابه لضخامة وفظاعة العدوان "الاسرائيلي" غير المتناسب مع محدودية عملية اسر جنديين اسرائيليين، مما تجاوز توقعات قيادة المقاومة حول رد الفعل "الاسرائيلي".

واليوم يكاد يُرى بالعين المجردة ان الاساطيل والقوات الضاربة الستراتيجية الاميركية والناتوية، التي احتشدت بسرعة في البحر الابيض المتوسط انما تستعد لشن حرب واسعة النطاق ومنفلتة من اي عقال، الى حد استخدام الاسلحة النووية، ضد لبنان وفلسطين وسوريا والعراق واليمن، وربما ايران. وقد قام مؤخرا الرئيس السيد ابراهيم رئيسي بزيارة مفاجئة الى موسكو، والاجتماع بالرئيس فلاديمير بوتين، للتأكيد على وقوف روسيا الى جانب محور المقاومة في حالة المواجهة الشاملة، مما يضع العالم على شفا حرب نووية شاملة.

وبكلمات اخرى: ان القيادات اليهودية والامبريالية العالمية هي في حالة فقدان اي اتزان امام امكانية تعرض دولة اسرائيل لخطر محوها من الخريطة السياسية، كدولة. كما ان الجبهة المعادية: "اسرائيل" وكل منظومة الدول الامبريالية، اخذت تواجه موجة تصاعد الاحتجاجات الشعبية على النطاق العالمي، ومن ثم تواجه خطر السقوط، بفعل الاستنزاف، عسكريا واقتصاديا واخلاقيا وسياسيا، بدون انفجار منازلة عسكرية شاملة بكل الاسلحة، يحتمل ان تكون نتيجها حدوث "انتحار متبادل" اقليميا وربما عالميا.

ولا  يوجد اي منطق في ان لا تأخذ القيادة الحكيمة للمقاومة هذا الاحتمال المصيري بعين الاعتبار؛ وذلك ليس لاجل التراجع امام المخاطر، ولكن لاجل مواجهتها والانتصار عليها، بالاشكال المناسبة، من ضمن الظروف والشروط الاقليمية والدولية القائمة، والتقدم خطوة خطوة نحو الاهداف الستراتيجية والمصيرية.

وقيادات المقاومة، التي تمارس حرب الاستنزاف الشعبية طويلة الامد منذ عشرات السنين،هي بحاجة الى كل الآراء والاقتراحات والانتقادات البناءة، التي تصب في اتجاه تطوير اشكال المواجهة مع جبهة الاعداء الداخليين والاقليميين والدوليين، ولكنها ليست بحاجة الى "المواعظ الفوقية" و"المزايدات الفارغة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب لبناني مستقل   

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية