قراءات سياسية » مصر.. خطأ الخيارات الإستراتيجية

حيان نيوف

ربما لا يحتاج المتابع لكثيرٍ من الجهد لإقناعه بخطأ الخيارات الإستراتيجية المصرية منذ إسقاط نظام الأخوان المسلمين في العام ٢٠١٣ ، في الوقت الذي كان سقوطهم في مصر علامة فارقة قلبت موازين مشروع "الربيع العربي"، بعد أن اصطدم بالصخرة السورية التي أفقدته زخمه قبل أن تجهز عليه لاحقاً.

وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه ضحايا "الربيع العربي" من مصر أن تعلن قيامتها من جديد وتكون سنداً لهم في السعي لإسقاط ذيول المشروع الخبيث ومعالجة تبعاته الكارثية، فوجئ الجميع بتوجه مصر نحو الرعاة الحقيقيين لذاك المشروع، باستثناء تركيا حيث ظلت مصر لسنوات عدة على علاقة متوترة معها.

لا شكّ أن الظروف الداخلية والمحيطة بمصر لم تكن من السهولة التي تسمح لها باتخاذ مواقف حادة تعبر عن مكانتها وموقعها وتاريخها والدور المنتظر منها، غير أن الدخول الروسي للمنطقة من البوابة السورية، والصمود الأسطوري السوري، والصعود المذهل لكل من الصين ومحور المقاومة، ذلك كله كان كفيلاً بفتح نافذة استثنائية أمام مصر للتفكير بالتحرر التدريجي من المخاطر المحدقة بها، سواء خارجيا من جهة ليبيا واثيوبيا و الكيان الصهيوني، أو داخليا من بقايا الأخوان المسلمين والضغط الإقتصادي وارهاب سيناء.

غير أن القيادة المصرية اختارت طريقاً آخر، واعتمدت استراتيجية تقوم على التقرب من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وربما كانت حسابات القيادة المصرية تقوم على قاعدة أن الدور الوظيفي لتركيا كقائدة للمشروع الأمريكي في المنطقة قد انتهى، وأن الفرصة باتت مهيأة أمام مصر لتولي هذا الدور، فتلقت مصر الدعم والتشجيع من الرعاة الغربيين وحلفائهم الإقليميين "دول الخليج والكيان الصهيوني" لتكون بديلا عن تركيا في قيادة المشروع الأمريكي الجديد في الإقليم، وهذا المشروع الجديد كان يرمي لتحقيق أهداف عدة: أولها تعميم التطبيع عبر اتفاقيات السلام الإبراهيمية التي سوّقت لها القيادة المصرية ولعبت دورا بارزا في انجازها لتشمل دولا عربية عدة هي "الإمارات والبحرين والمغرب ومؤخرا السودان"، وثانيها كان تعميم التشبيك الإقتصادي والسياسي الإقليمي ليشمل "اسرائيل" عبر منتدى غاز شرق المتوسط ومشروع الشام الجديدة ومن ثم حلف النقب، وثالثها تعميم الليبرالية عبر التحول الحاد نحو شروط البنك الدولي و صندوق النقد الدولي.  

وبما يخصّ العلاقة المصرية الخليجية، فقد قامت السياسة المصرية على اتخاذ مواقف داعمة ومؤيدة للسياسات السعودية بشكل واضح وعلني في كل من اليمن وسورية ووضد إيران، وبمقابل هذه المواقف حصلت على ودائع مالية خليجية محدودة المدة في البنوك المصرية وبعض المساعدات و القروض ..

وفي مقابل ذلك، تقاعست القيادة المصرية في القضايا الهامة والمصيرية المتعلقة بالأمن الوطني المصري والأمن القومي العربي، وحتى المتعلق منها بالعمق الأفريقي لمصر، سواء ما خصّ منها قضية سد النهضة، أو الملفين السوري واليمني، وحتى الملف الليبي ، واكتفت بدور "الوسيط الحيادي" بما يخص القضية الفلسطينية وجلّ همّها كان التدخل لوقف المواجهة كلما وصلت صواريخ المقاومة إلى داخل الكيان الصهيوني، وشيئا فشيئا اصبحت السياسات المصرية رهينة للدول الدائنة.

لاحقاً لذلك تبدلت الظروف الدولية مع وصول بايدن للبيت الابيض ، وتم إعادة صياغة الإستراتيجية الأمريكية على المستوى الدولي والاقليمي ، فكانت الحرب في أوكرانيا والمواجهة مع الصين ومحاولات احتوائها و كان السعي الامريكي  للتهدئة في الشرق الأوسط كخيار الضرورة لضمان سلاسل توريد الطاقة والتجارة  ، وبات العالم أمام انزياحات كبرى وخرائط جيوسياسية جديدة يجري رسمها من الشمال للجنوب و من الشرق للغرب ، والمشاريع الأمريكية في الإقليم باتت من مخلفات ترامب ومطلوب تبديلها أو على الأقل تجميدها.

وأمام هذا المشهد الجديد كليا وجدت القيادة المصرية نفسها في موقف صعب للغاية، فلا المشروع الإقليمي الذي سعت لقيادته بات صالحاً، ولا التوازنات الجديدة المشكّلة تمكنت من الدخول بها وتثبيت موقع مؤثر فيها، ولا مشكلاتها الوطنية والقومية تمكنت من حلها ، بل يمكن القول أن الواقع المصري بات أكثر حرجا مع ارتفاع نسبة الدين العام و قلة الموارد و زيادة المخاطر المتعلقة بأزمة سد النهضة، وحتى العلاقة المصرية/السعودية لم تعد كما كانت عليه من قبل، فالتحولات الكبرى الطارئة منذ اعلان بكين الثلاثي السعودي الايراني الصيني، وما تبعه لاحقا من مصالحة سعودية/يمنية و سعودية سورية، أسقط الحاجة للتحيز المصري للجانب السعودي و خاصة ان مصر تأخرت في فتح قنوات واقامة مصالحات مع الدول الثلاث، وبالتالي انعدمت الحاجة السعودية للموقف المصري بزوال الأسباب الخاصة بهذه الملفات، وعلى مستوى العلاقة مع روسيا بقي الموقف المصري ملتبسا حيث شاركت مصر في مناورات نسيم البحر الى جانب الناتو في البحر الأسود ، وجمدت صفقة طائرات عسكرية مع روسيا بضغط امريكي، ولم تتخذ موقفا واضحا من الأزمة الاوكرانية ..

لم تستطع القيادة المصرية التمييز بين الدور الوظيفي الممنوح لها من قبل الرعاة الغربيين والإقليميين، وبين الزعامة الجيوسياسية التي تليق بموقع ومكانة مصر، حالها بذلك يشبه حال تركيا التي مارست ادورا وظيفية ظنتها استراتيجية قبل أن تستيقظ متأخرةً قبل فوات الفرصة في ظل التسارع الكبير في التحولات العالمية.

وببساطة يمكن القول أن القيادة المصرية هي الاخرى ضيعت اللحظة التاريخية والمفصلية التي كانت كفيلة بنقل مصر من الدور الوظيفي الى المكانة الجيوسياسية وتحويلها إلى قطب إقليمي وازن ومؤثر بكل الإتجاهات.

وللإستدلال على ضعف السياسات المصرية وخطأ خياراتها يكفي أن نذكر بيانات الإدانة الشديدة اللهجة التي كانت تصدرها الخارجية المصرية بعيد كل عملية دفاع عن النفس ينفذها اليمن ضد دول العدوان ، مقابل صمت مصري مطبق على الإعتداءات الوحشية والمستمرة للكيان الصهيوني على سورية.

ولأن الزمن لا ينتظر أحدا ، ولأن الفراغ الجيوسياسي غير مسموح به وخاصة في ظل التحولات الكبرى ، فقد وجدت السعودية أن الفرصة متاحة أمامها لاختطاف الدور على حساب كل من مصر وتركيا ، كيف لا والسعودية تملك ما تملكه من ثروات هائلة و موقع جيوسياسي هام للغاية، فكان الإنقلاب السعودي على كل ما هو قديم في السياسة و الإقتصاد والفكر والدبلوماسية والبناء ، وانتهجت التطوير والتحديث والإنفتاح ، ومن ثم الإنتقال للتشبيك بكل الإتجاهات شرقا وغربا، وما ضيعته مصر لجهة العلاقة مع الشرق ومع العمق العربي وحتى الإفريقي، استطاعت السعودية انجازه بزمن قياسي، وظهر ذلك جليا في مؤتمر دافوس وفي اعلان بكين الذي شكل مفاجأة كبرى قلبت الموازين الإقليمية وحتى الدولية، وقبل ذلك خلال زيارتين لكل من الرئيس الصيني والرئيس الامريكي للسعودية.

وبناءا عليه وجدت الدول العظمى وعلى رأسها الصين و روسيا و الولايات المتحدة في القطب الإقليمي السعودي، ضرورة جيوسياسية لا بد منها لتوازن المنطقة، يقابل القطب الإقليمي الجيوسياسي الإيراني الذي فرغ من تثبيت نفسه باكرا، ذلك أن توازنات الإقليم والعالم تحتاج إلى ثنائية قطبية إقليمية لضبط إيقاعها وفق ما تقتضيه خرائط العالم الجديد.

قد تكون القيادة المصرية شعرت بالصدمة حيال هذا التحول ، وربما اعتبرته خذلاناً لها من قبل الرعاة الغربيين والإقليميين ، وهي التي نفذت ما أسند إليها وظيفياً طوال سنوات حتى لو كان على حساب مصالها الوطنية والقومية، وكانت تمني النفس بما بفوق ذلك، خاصة أنها تنازلت عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية في خطوة ظنتها كافية، واحتضنت قمة المناخ العالمية برغبة أمريكية، ووثّقت علاقاتها مع الكيان الصهيوني.

وبدأت الخلافات المصرية السعودية تطفو على السطح بفعل ذلك، ووصلت إلى وسائل الإعلام في إحدى المراحل قبل أن يتم احتواءها.

ومرة أخرى اختارت مصر خيارا استراتيجيا خاطئا، وبدلاً من التوجه نحو البوابة السورية بكل ما تمثله من وزن عربي ومقاوم و موقع جيوسياسي فريد، اختارات التوجه نحو البوابة التركية وحليفتها القطرية، في مسعى متأخر ورهان خاسر على إقامة توازن جديد يضمن لها دورا باتت تبحث عنه هنا أو هناك، وما الذي تستطيع تركيا تقديمه لمصر وهي التي أضاعت دورها قبلها، وتم تقليم مخالبها بمجرد ان فكرت بخوض تجربة التفرد بعد أن جرى توريطها بكل الإتجاهات.

لم تدرك القيادة المصرية، أنه قد تمّ احتواء العنجهية التركية إلى حد بعيد على المستوى الإقايمي والدولي، وبالحد الأدنى فإن توقيت التوجه نحو تركيا قبل الإنتخابات الغير معلومة النتائج هو توقيت فاشل، خاصة أن السعودية كانت قد تمكنت من اقتناص الفرصة وتطويع تركيا قبل ذلك عبر الودائع البنكية.

بكل تأكيد لم يرق للرعاة هذا التكتيك المصري على الرغم من قناعتهم بسذاجته، وليس هناك أكثر من أدوات التي يمتلكونها لإفشاله، وربما اختاروا الورقة السودانية بكل ما تحمله من عوامل ضغط مؤثرة وكفيلة نظرا لتشعباتها و تداخلاتها بعوامل الأمن الوطني والقومي لمصر، ديمغرافيا وجغرافيا وسياسيا ومائيا وجيوسياسيا مما لا يخفى على أحد، ففي السودان تتداخل قضايا الامن الافريقي وامن البحر الاحمر وقضية سد النهضة والتدخل الاثيوبي، والتداخل الحدودي مع ليبيا، والتغلغل الصهيوني في هذا البلد المفتت عمليا.

لا شك أن الملف السوداني كفيل بتكبيل مصر مرة اخرى وهي التي انتهجت تجاهه سياسات مترددة وغير منفصلة عن الغرب و الخليج طوال سنوات.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية