قراءات سياسية » أين لبنان من مسألة الحياد ؟

إعداد: نسيب شمس
يعاني لبنان منذ الاستقلال سلسلة أزمات متلاحقة، وكان انفجار العام 1975 الأكثر زلزلة وقسوة وأشدها مأساة وهولاً.

هذه الأزمات التي عاشها ويعيشها هذا البلد الصغير باتت تهدد وجود الدولة، وغني عن القول، إن لبنان في هذه الأيام بات قاب قوسين من الانهيار الكبير والمُدوي للدولة ومؤسساتها.

عدا عن أزمات لبنان الداخلية، يحيط به الكثير من الأزمات الخارجية، وهو الان بخطر، سابقاً طرحت المشاريع وقدمت الحلول. ومن بين هذه الحلول التي طرحت لمعضلات لبنان، طرح فكرة حياد لبنان أو تحييده، أي اخضاعه لنظام حيادي شبيه بالنظم الحيادية التي تبنتها بعض الدول في العالم، وذلك قبل انبلاج فجر المقاومة وانتصارها التاريخي سواء عام 2000 أو عام 2006. طرح الحياد على وقع شعار "قوة لبنان في ضعفه".

الحياد الذي تغيرت النظر إليه مع قيام عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة. مفهوم الحياد لم يتبلور، قانوناً وممارسة، إلا من زمن قريب. لذلك سنحاول مراجعة المفهوم في محاولة لفهمه، ومن ثم سنحاول الإضاءة على الطروحات اللبنانية حول الحياد.

مفهوم الحياد

بداية، لا بد من تدقيق الكلمات والمفاهيم حول معنى لفظة الحياد، كونه هناك أنواع متعددة من الحياد.

جاء في لسان العرب لابن منظور: حايده محايدة: جانبه. وحاد عن الشيء: مال عنه وعدل. فيما جاء في محيط المحيط لبطرس البستاني: حيّد الشيء: وضعه جانباً. وحايده محايدة وحياداً: جانبه، والعامة تقول تحايده.

فيما تعني الحيادية أو مذهب الحياد (Neutralism) في الأصل (كما برزت في إنكلترا في بداية القرن السابع) عدم الالتزام وعدم الاكتراث تجاه الدين. وتطور المعنى ودخل في متناول الشأن السياسي، وفي المعجم الفرنسي Larousse ورد أن الحياد "عقيدة تقوم على رفض الانضمام إلى حلف عسكري في زمن السلم على أقل تقدير". أو أنها عقيدة "تقول برفض الانضمام إلى أحد الكتل السياسية أو الأيديولوجية في العالم". وفي المعجم Le Robert؛ فالحيادية هي أيضاً "عقيدة أو نظام سياسي يميل إلى عدم ربط أمة ما بأحلاف مع مجموعة من القوى الأخرى".

من الصعب وضع تعريف معين للحياد، فهو نظرية لا تحدها قيود معينة، فالحياد يتغير ويتلون بتغير الأفكار والزمان، وتراه مرة يهتم بالناحية العسكرية، وأخرى بالناحية الاقتصادية. عليه فإن الحياد كنظام قانوني هو مجموعة القواعد القانونية الدولية التي تنظم العلاقات الدولية بين الدول المتحاربة والدولة غير المشتركة في الحرب، ويخول للدول ذات السيادة الحق في البقاء بعيداً عن معترك الحروب. وهذا ما يطلق عليه حق الحياد. وقد عرفه البعض بأنه يعني الإحجام عن أي اشتراك في الحرب ومن تحمل وتنظيم بعض الأعمال من جانبها ومن قبل رعاياها ومن قبل الدول المتحاربة، ومن واجب كل الدول المتحاربة احترام سلامة أراضي الدول المحايدة وحقوقها، وقد قال عنه البعض أنه:

- تصرفاً حراً تتخذه الدولة بإرادتها في نطاق اختصاصاتها المفردة.

- نظاماً قانونياً يرتب مجموعة من الحقوق والالتزامات.

إذا، فإن الحيادية هي مذهب فكري يمثل "الاتجاهات الفكرية للأفراد والجماعات التي تنحاز إلى أي جانب كعدم الانحياز إلى حزب سياسي معيّن، ويشير أيضاً الى السياسة الخارجية للدول التي تقضي بعدم الانحياز في الصراع بين الدول الأخرى. ويختلف سلوك الدول التي تنتهج هذه السياسة مع العزلة النسبية الى الاستقلال في العمل وتجنب الأحلاف.

الحياد بصورة عامة يعني عدم التحيز لأجل غير محدود، وهو الرغبة في التجرد والاستنكاف عن مناصرة جانب دون آخر . ومن الناحية السياسية يعتبر الحياد إمكانية من إمكانيات الخيار التي يحق للدول اللجوء إليها في حال قيام نزاع مسلح لا يعنيها أو لا يتعلق بها بصورة مباشرة .

ويشير الدكتور محمد المجذوب الى وجود فرق شاسع بين الحياد والتحييد في القانون الدولي العام. فالحياد يطبق على دولة مستقلة بكاملها، في حين أن التحييد لا يُطبّق إلاّ على جزء من إقليم دولة معينة. والحياد لا يعني حرمان الدولة من حق التسلّح، في حين أن التحييد يُحتّم تجريد الجزء المحيّد من السلاح.

وللتحييد أغراض متعددة، أهمها: إبعاد الخصومات العسكرية عن منطقة متنازع عليها، أو حماية بلد من خطر الاعتداء المفاجئ عليه، أو توفير ضمانات أمنية لدولة مجاورة...
وقد ينشأ التحييد باتفاق جماعي، وقد يُفرض على دولة دون أن تكون طرفاً في المعاهدة، وكثيراً ما يكون التحييد نتيجة لتطبيق بعض الأنظمة الدولية على القنوات والمضايق والأنهار المهمة .

أنواع الحياد

الحياد، في القانون الدولي العام؛ نوعان: موقّت ودائم، والحياة الموقت موقف تلتزمه الدولة تجاه حرب معينة لا تودّ المشاركة فيها، وهو ينتهي بانتهاء الحرب.

أما الحياد الدائم فوضع قانوني تتعهد فيه الدولة التي تتبنّاه بعدم اللجوء مطلقاً الى القوة إلا دفاعاً عن نفسها. ومقابل ذلك تتعهد الدول المجاورة (وتكون القوية عادةً) باحترام هذا الحياد وضمانه ضد كل دولة تسعى الى انتهاك حرمته. والدول الحيادية أو المحايدة، في حالتي الحياد الموقت والدائم، تتمتع بنفس الحقوق وتخضع لنفس الواجبات.
وتتلخص واجبات الدول المحايدة بالنقاط الآتية:

‌أ- العمل على حماية حيادها ولو عن طريق السلاح.
‌ب- مقاومة جميع الضغوط الأجنبية التي تحاول المساس بحيادها.
‌ج- مطالبة الدول الأخرى، خاصة المتعهدة منها، حمل الآخرين على فرض الحياد.
‌د- عدم القيام بأي إجراء أو عمل، أثناء ممارستها لعلاقاتها الدولية، قد يؤدي إلى إحراج موقفها أو تعريض حيادها للخطر.

أما واجبات الدول الأخرى؛ فتتلخص بالنقطتين التاليتين:
أ – احترام وفرض احترام سلامة الدولة المحايدة وأمنها.
ب- مساعدة الدولة المحايدة على الحد من صلاحياتها، وفقاً لنظام الحياد، وذلك لتأمين احترام هذا النظام وتحقيق أهدافه.

ومن أنواع الحياد، ما يُعرف بالحياد الإيجابي وهو نهج سياسي يقتضي من الدولة التي تسير عليه أن تتفاعل سياسياً مع الاحداث العالمية وأن تشارك في حل مشكلات المجتمع الدولي على أساس من عدم الانحياز، وحسبما تمليه مبادئ العدالة الدولية بهدف الوصول الى تحقيق الأمن والسلام الدائمين. وقد نشأ هذا المفهوم بتأثير من الجو العام الذي كان يسود العلاقات الدولية بسبب الحرب الباردة وقد تجسد بشكل عملي في مؤتمر باندونغ. وفي العالم العربي كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر أول من استعمل المصطلح سنة 1956 في يوغوسلافيا.

كما وردت عبارة "الحياد الإيجابي " في بيان القمة العربية الرباعية في القاهرة المنعقدة بتاريخ 27 شباط 1957، بحضور كل من الرئيسان المصري والسوري جمال عبد الناصر وشكري القوتلي والملكين سعود بن عبد العزيز آل سعود وحسين بن طلال، على الشكل التالي في البيان: "(...) أن الدول العربية المجتمعة، وقد ازدادت قوة بوعي شعوبها، وازدادت ايماناً بسلامة أهدافها ورسوخ فكرتها لتؤكد ما سبق أن أعلنته من عزمها على تجنيب الامة العربية مضار الحرب الباردة والبعد بها عن منازعتها والتزام سياسة الحياد الإيجابي، محافظة بذلك على مصالحها القومية.

ثم انتشر بعد استخدام مصطلح الحياد الإيجابي على مدى واسع وفي كثير كم دول العالم الثالث التي تنادي بعدم الانحياز.

الحياد تاريخياً

الحياد كمصطلح ظهر لأول مرة في القرن الرابع عشر و كان الفقيه غروشيوس في القرن السادس عشر قد أشار إلا إمكان دولة التزام الحياد في حال نزاع مسلح قائم و ذلك عند تعرضه لمفهوم و قواعد الحرب العادلة و إن الحياد المؤقت كان قد ظهر تاريخياً قيل الحياد الدائم وكان اتفاق اوترخت 1713 الموقع بين فرنسا و بريطانيا أول اتفاق يتناول شأن الحياد زمن المنازعات المسلحة البحرية بينما بعد تصريح فيينا 1915 و المتعلق بحياد سويسرا الدائم و الذي أكدت عليه فيما بعد اتفاقية فرنسا لعام 1919 أول حالات الحياد الدائم , و بعد إعلان باريس حول الحرب البحرية لعام 1856 نقطة انطلاق تقنين الحياد , و كان تدعيم التجارة الدولية و حماية تطورها قد جدد باتفاقية فاتيل لعام 1758 إلى التأكيد على الالتزام القانوني الذي يقع على عاتق الدول المتحاربة في احترام حياد الدول التي تعلن عن رغبتها في عدم دخول الحرب إلا أن الحياد وكما ذكرنا سابقاً لم يبرز بشكل قانوني إلا في القرن التاسع عشر مع اتفاقية لاهاي عام 1899 حول قانون الحرب و من ثم مع اتفاقية لاهاي لعام 1907 , و خاصة الاتفاقيات الثالثة و الثالثة عشر منها , و اللتان وضعتا قواعد و أسس محددة لمفهوم الحياد , و كان ميثاق بريان كيلوغ لعام 1918 حول مشروعية الحرب قد أكد مبدأ الحياد كمركز قانوني لابد من المحتفظة عليه .
وتبلور مفهوم الحياد، في القرن الماضي حيث نصت عليه بعض المعاهدات و الاتفاقات الدولية كمؤتمر باريس لعام 1956 ، و لكن قواعد الحياد لم تدون إلا في مؤتمر لاهاي الثاني ، حيث تمكن هذا المؤتمر من تحديد حقوق المحايدين و واجباتهم في الحرب البرية و البحرية، و في عام 1914 اندلعت الحرب العالمي الأولى و دخلتها معظم دول أوروبا الوسطى و بقيت دول في أوربا فضلت أن تلتزم الحياد و خيل إليها أن حيادها سوف يحميها من ويلات الحرب و اعتداءات المتحاربين و لكن الأحداث برهنت أن الدول المتحاربة لا تقيم وزناً لحياد الدول.

ولم يغب عن اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 والمتعلقة بحماية ضحايا النزاعات المسلحة من أشخاص وأعيان والتي تشكل ركيزة القانون الدولي الإنساني أن تشير إلى مبدأ الحياد سواء في الاتفاقية الثالثة والمتعلقة بحماية أسرى الحرب أو الاتفاقية الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين إذ أفردت للدول المحايدة قوة حيادية غير محاربة، ولرعاياها معاملة خاصة.

ولقد رأت الدول المستقلة حديثاً بعد الحرب العالمية الثانية في الحياد عاملاً يساعدها، وبعيد بدء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي رأت أن توازن القوى بين المعسكرين خطوة نحو التفاهم بينهما، ويمكان أن يتم على حساب الدول الأخرى.

وفي حال كان الحياد التقليدي يهدف إلى الامتناع عن الاشتراك في الحرب، أي أنه يتوخى السلام للدول المحايدة، فإن الحياد بمفهومه الحديث يتوخى السلام للمجموعة الدولية بأسرها، باعتبار أن السلام في العالم وحدة لا يتجزأ.

ولكن الولايات المتحدة الأميركية وقفت موقفاً معادياً، في بادئ الأمر، من الحياد باعتباره يشكل خطراً على مصالحها الامبريالية في الدول الآسيوية والافريقية والأميركية الجنوبية، وحاولت تطويقها باتباع سياسة الأحلاف العسكرية والتدخل في شؤونها، والتهديد والحصار.

أما الاتحاد السوفياتي فتبين له أن الحياد يساعد الدول المستقلة حديثاً على التخلص من سيطرة الاستعمار. فيما أخذت الدول التي نادت بسياسة الحياد تطالب بدفع عجلة التوجه الجديد لكي تتمكن من تحقيق مبادئ الحياد.

بعد أن توسعنا نسبياً في تفصيل مفهوم الحياد وأنواعه ومساره التاريخي، سنتعرض فيما يلي لفكرة الحياد في لبنان.

الحياد في لبنان

تعود فكرة الحياد اللبناني تاريخياً الى الأيام الأولى للاستقلال، فيما يقول البعض بأن الفكرة تعود الى الأيام الأولى لنشأة الدولة اللبنانية، حيث أثيرت آنذاك اثناء البحث عن تحديد معالم السياسة الخارجية، وكانت فكرة الحياد تعني، وقتذاك "عدم التمييز"، من حيث التعامل الخارجي، بين دولة وأخرى. وكان زعماء الاستقلال اللبناني يعتقدن أن هناك مبرراً لاتباع سياسة الحياد يتلخص في عدم الانغماس في المحاور والمعسكرات العربية، لأن الخلاف لم يكن عقائدياً، إنما سباقاً من الأنظمة السياسة العربية الناشئة، على الزعامة والسيطرة، لهذا كان الأفضل للبنان التزام الحياد، والقيام بدور المسالم، والاستفادة من خيرات العرب.

والملاحظ ان الدعوة الى الحياد اللبناني ارتبطت بالأوضاع والمتغيرات في العالم العربي. كان هناك العديد من المطالبات لإبعاد لبنان عن محيطه، والأمثلة كثيرة، ولكن لا بد من الإشارة إلى أهمها:

في مطلع العشرينيات من القرن العشرين ظهرت، لأول مرة، الدعوة الى حياد لبنان الذي أصبح دولة خاضعة للانتداب الفرنسي وذات حدود معترف بها دولياً. وفي مذكرة رفعها سليمان كنعان، عضو المجلس الإداري للبنان، الى الجمعية الوطنية الفرنسية، وعرض فيها وجهة نظر طائفته في الدور الذي يجب أن تقوم به فرنسا في سوريا ولبنان، نجد مطالبة شديدة "بنظام من الحياد تضمنه الدول الكبرى " وتأكيداً على أن اللبنانيين يتمنون " حفظ حيادهم السياسي والعسكري بضمان الدول الكبرى" .

في الخمسينيات من القرن المنصرم سجل المد القومي العربي تصاعداً متسارعا، فقامت ثورة الضباط الاحرار، وقامت الوحدة المصرية السورية، واستقل العديد من الدول العربية، وبدأت الثورة الجزائرية، وانعقد مؤتمر باندونغ لدول عدم الانحياز. وتعرض لبنان لضغط أميركي وتعسف داخلي أدى الى انتفاضة شعبية في العام 1958. ومع ولادة الجمهورية العربية المتحدة سارع الرئيس شارل حلو الى اقتراح حياد قانوني دائم للبنان، على الطريقة النمساوية، معترف به ومضمون دولياً .

كما أن الدكتور منوال يونس، ألقى محاضرة في الندوة اللبنانية طالب فيها بحياد إقليمي قانوني، وقد طرح نوعاً جديداً من الحياد يومذاك ، وفي مؤتمر حزب الكتائب في أواخر أيلول 1967، وعشية هزيمة حرب 1967، انبرى رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل يُلوح بفكرة الحياد، في بيانه الافتتاحي للمؤتمر العاشر للكتائب.
ونهاية العام 1967، ألقى النائب الكتائبي إدمون رزق في النادي الثقافي العربي في بيروت محاضرة بعنوان: “في سبيل حياد لبناني" وقال إن لبنان المحايد " هو الأنفع لعياله والأبّر بإخوانه، يفتح آفاق المجد لشعبه، والأمان والبحبوحة، ويخدم العرب بأن يكون ملتقى لهم موعداً، يأتونه أصفياء متصافين، يحفظونه خارج الخلافات والنزاعات، ليوم مصالحة وتفاهم، لمساعي حميدة وجلسات أنس ومودّات" .

فيما استغل الدكتور شارل مالك بعيد الاعتداء الإسرائيلي على مطار بيروت الدولة في العام 1968، بعد شهر طرح وبأسلوبه الفلسفي المبطن "فكرة الحياد اللبناني" .
ومع اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 تصاعدت الدعوات والمطالبات، ففي النصف الثاني من العام 1975، وفي ظل الاضطرابات الدموية، أصدر لجنة البحوث اللبنانية " دراسة عن الحياد، وطالبت " بتحييد لبنان، بناء على نظام خاص، شرط أن يكون طابعه ملازماً لعلاقاته مع العالم العربي، على غرار سويسرا والنمسا اللتان تؤكدان في وثائقهما الرسمية انتماءهما الى الحضارة الغربية"، نشرت الدراسة في 29 تشرين الثاني 1975، وتبنى حزب الكتائب ما جاء في الدراسة، وعمد الى نشرها، دون الإشارة الى مصدرها  
في ظلِّ الأجواء غير المستقرة "فترة الصراع على إلغاء الاتِّفاق اللبنانيِّ-الإسرائيلي"، عادت فكرة الدعوة إلى الحياد، وقد ظهر ذلك في صحيفة العمل الناطقة بلسان حزب الكتائب .

وبُعيد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 برز المحامي روجيه إده، الذي كان يعيش في الولايات المتحدة الأميركية، ونشر دراسة عرض فيها المبررات التاريخية لحياد لبنان، وأخذ بعدها يروج لفكرة الحياد في مقالات متتالية، وكان قد رأى في دراسته بأنه " لا يمكن حفظ وحدة الشعب في ظروف من الأمن الإقليمي والسيادة الوطنية إلا من خلال الحياد .
وفي نظر إده "أن الحياد يساعد الموارنة في أن يكونوا أكثر انفتاحاً على العروبة، ويخفف من فرص النجاح للميول الانعزالية، فتحييد لبنان وقبول ذلك من العرب تطمين نهائي للمسيحيين الى أن لبنان أصبح باعتراف دولي وعربي إجماعي بلداً نهائياً .

وفي ذكرى الاجتياح الإسرائيلي الأولى، أفردت مجلة النهار العربي والدولي ملفاً حول الحياد، ضم مرواحه واسعة من الشخصيات التي تحدثت عن الحياد وأهميته، فيما اجتمعت في أيلول 1983 لجنة من المثقفين اللبنانيين، وخرجت بمشروع قرار قدمه الاب يواكيم مبارك لرئيس الجمهورية أمين الجميل آنذاك، ويتضمن بنداً عن وضع قانوني دولي جديد للبنان ولم تذكر كلمة حياد صراحة، نشر مشروع القرار في صحيفة العمل الكتائبية في 4 كانون الأول 1983.

كما أفرد صحيفة العمل صفحاتها على مدة عشرة أسابيع لنشر كتاب الباحث نبيل خليفة الذي يتحدث عن الحياد، ويحمل عنوان: الخيار الرابع: لبنان بين الحياد والتحييد.
وفي حديث لصحيفة "الفيغارو " نقلته "العمل" أعلن المقدم فؤاد مالك، مدير مكتب "القوات اللبنانية" في باريس، أن الحل البناء للبنان " لن يكون ممكناً إذا لم يتمتع لبنان بحياد تضمنه الدول الكبرى".

في أثناء "فترة احتدام النزاعات العربيَّة والإقليميَّة في العام 1987 " نشطت الإدارة الأميركيّة في تسويق فكرة المؤتمر الدولي للسلام، الذي قبله معظم الأفرقاء المعنيين ورفضته إسرائيل، فيما استغلَّه بعض أطراف الأزمة اللبنانيّة لتسويق مشروعه المطالب بالاعتراف "بحياد لبنان كعامل سلام داخلي وتوازن إقليمي" .

وخفتت الدعوات بعد اتفاق الطائف لسنوات ، ولكن بعد اغتيال رفيق الحريري في شباط 2005، بدأت تبرز دعوات خافتة، ولكن سرعان ما صدر "إعلان بعبدا" في العام 2014 الذي نص بوضوح وصراحة في البند 12 منه على "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الاقليمية والدولية، وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والازمات الاقليمية حرصًا على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والاجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقة بما في ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم.

كما طالب "المجلس الوطني لثورة الأرز" في اجتماعه الذي انعقد بتاريخ 7 تشرين الثاني 2015 مكونات الدولة اعتماد سياسة الحياد عن الصراعات التي تدور في المنطقة، وذلك بسبب الوضع السياسي العام الذي بلغ حدًا لا يستهان به من الانحلال وضعف الدولة وتهديد الوحدة وصيغة العيش المشترك وما بقي من السلم الأهلي. كما طالب المجلس الصرح البطريركي الماروني، بالعمل مع القوى السياسية الحرة لدى الدول المهتمّة من أجل حلّ الأزمة في لبنان، بدءًا بانتخاب رئيس للجمهورية يلتزم سياسة الحياد تحصينًا لما تبقى من وحدة داخلية.

أطلق الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال سليمان بتاريخ 7 كانون الأول 2015 وثيقة "لقاء الجمهورية" والذي عرض فيه بنود الوثيقة وتطلعات اللقاء المستقبلية، مشيرًا إلى أن الرئيس من أي مكان يأتي، ليس له الحق إلا أن يحكم بالتوافق، ويوم يؤدي القسم، فإنّ هذا القسم سوف يحرره من التزاماته بالمحاور والالتزامات المذهبية، موضحًا أنّ "إعلان بعبدا" كان هدفه منع اللبنانيين من الاقتتال على أرض الآخرين، مؤكداً أنّ تحييد لبنان هو مطلب تاريخي، داعيًا إلى تصحيح الثغرات الدستورية ليصبح رئيس الدولة هو أقوى سلطة في الدولة. ولكن الدعوات سقطت مع مغادرة الرئيس ميشال سليمان مقعد الرئاسة.

ونجد تساؤل القوات اللبنانية وجوابها حول الحياد: "لماذا يمنع عن لبنان ما يسمح به لغيره؟ فأما ان يلتزم الجميع بهذا الصراع القومي فتتحمَل البلدان العربية جميعها وبالنسبة نفسها مسؤولية هذا الصراع، واما ان يلتزم لبنان، في الحال المعاكسة، موقف الحياد ويرفض بالتالي تحويله الى ساحة وحيدة لتصفية هذا الصراع من جهة، وتصفية الحسابات العربية والإقليمية من جهة ثانية. هذا الحياد يمنع إسرائيل من مهاجمة لبنان ويوفَر على الوطن مزيدا من الخسائر على مستويي الحجر والبشر، ويحمي الكيان" .

ويضيف "ان الحياد الإيجابي الذي يحصَن لبنان خارجيا، ينعكس في الداخل استقرارا يدعم التوازن ويحفظ العيش المشترك ويمنع التدخلات والاعتداءات، ويضع حدا لميل الأفرقاء الى الاستعانة بالخارج لتعزيز وضعهم الداخلي. فتكون المنافسة بينهم محصورة في المجال التنموي البحت، ما يجعل المواطن يستعيد الثقة بوطنه مجالا رحبا آمنا لتحقيق ذاته ومستقبل الأجيال" . وتربط القوات اللبنانية الحياد باللامركزية الموسعة، وذلك لان "معظم الدول المحايدة في العالم تعتمد اللامركزية والقيادة الجماعية" .

في الختام، لا شك أن الدعوة الى فكرة الحياد باتت وراءنا لأسباب عديدة، أبرزها أن لبنان بات يتمتع بقوة تدافع عنه وتردع المعتدي وهي قوة المقاومة، كما أن أهداف سياسات الدول الكبرى تجاه لبنان، قد سقطت إضافةً التداعيات والأحداث التي تتفاعل في المنطقة. ولعل شعار رئيس حزب الكتائب المؤسس الشيخ بيار الجميل " قوة لبنان في ضعفه" قد سقط وبات الشعار " قوة لبنان في مقاومته.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية