قراءات سياسية » انتقال مركز المال العالمي.. الحتمية التاريخية ما بعد الغرب الأميركي!

عبير بسّام

عندما خطب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر خلال إعلان ترشحه للإنتخابات القادمة في 2024، قال: "لقد كنا أمّة عظيمة عندما كان العالم تحت قيادتنا، ولكننا اليوم أمة قد دخلت العد التنازلي"، كلام يجب الوقوف عنده. لقد دخلت أمريكا فعلياً مرحلة العدّ التنازلي، وهو كلام بات يردده الكثيرون، مع أنه ليس بالجديد. فخلال فترة حكم جورج بوش الإبن سادت البلاد حينها حالة من الركود الإقتصادي، وحذر وقتها الخبراء أنه من الصعب تجاوز هذه المرحلة خلال سنين عديدة قادمة. حذر الخبراء يومها ليس فقط من التضخم الإقتصادي، بل من انهيار قيمة الدولار الشرائية. هذه التحذيرات المتلاحقة، خلال مدة تجاوزت العشر سنوات الأخيرة، تنبئ بخطر عظيم وهو انهيار سعر الدولار وانهيار أسعار العملات المالية المرتبطة به، وبالتالي انهيار المنظومة العالمية المالية كما يعرفها العالم منذ سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم.

هناك سؤال افتراضي يطرح نفسه بقوة في حال حدوث هذا الإنهيار، واذا كانت أهم بورصة عالمية تقع اليوم في نيويورك، في الولايات المتحدة، وترتبط بها البورصات العالمية في لندن وطوكيو ودبي، فأين سيصبح مركز المال العالمي؟

هناك دلائل وإشارات تتعلق بهذا الأمر، وترتبط بعاملين أساسيين يشهدان تغييرات كبرى في العالم، وهما عامل المعتقدات العقائدية التي تسود العالم الغربي اليوم، والعامل الآخر يتعلق بالانهيار المالي الحاصل عالمياً. العامل الأول تحدثنا عنه مسبقاً وهو يتعلق بشكل مباشر بالعقيدة التي يؤمن بها أتباع العهد القديم، أي المسيحيين واليهود الصهاينة، وهي العقيدة المتعلقة بإعادة بناء معبد سليمان، في نفس المكان الذي يرتفع فيه المسجد الأقصى في جبل الهيكل. لكن يجب الإنتباه إلى أن الدفع باتجاه هذا البناء لا يأتي عن عقيدة سماوية، لأنه في الديانتين المسيحية واليهودية لا يمكن فرض هذا البناء أو انهائه عن طريق الدفع عنفياً باتجاه تحقيق ذلك. وإنما يتأتى عن عقيدة صهيونية سواء كانت صهيونية مسيحية أم صهيونية يهودية.

وفي الحقيقة أن أعضاء هذه العقيدة اليوم، هم ممن يعملون ضمن الجمعيات السرية التي تخرّج كبار القادة في العالم وتضع الخطط المستقبلية لحكم العالم في اجتماع بيلديربيرغ في حزيران/ يونيو من كل عام. ومن أهم قيادي هذه المجموعات هم عائلتي روكفلر وروتشيلد أسياد عالم المال، ومنهم كبار أصحاب المؤسسات الإعلامية في أمريكا والعالم، من أمثال عائلة مردوخ أصحاب الفوكس نيوز وغيرها. مجموعات تقود نمط التفكير المجتمعي في الصحافة والسينما والمسرح، القادرين على تنميط الناس فكرياً وعقائدياً.

ومن خلال الربط بين عامل الإنهيار المالي وبين عامل المعتقد الديني، هناك فكر جديد يتم التأسيس له عبر "فَرمَتَت" العالم من جديد، وهذا أكثر من إعادة برمجته. فمن خلال الإنهيار المالي الكبير يتسبب أصحاب البنوك الكبرى في العالم بالمساهمة بنشر نوع من الرعب والفوضى بين عامّة الناس، الذين يستيقظون في كل صباح ويتناولون فطورهم وقهوتهم ثم يبدأ كل منهم بالتوجه إلى عمله وإيصال أبنائه وبناته إلى المدرسة وهو يفكر بشراء بيت جديد أو قضاء العطلة في مكان ما أو أو أو. هؤلاء الناس في لحظة الإنهيار يصبحون مستقبلين جيدين لكل ما يمكن أن يعرض عليهم دون نقاش، ولذلك عندما ينهار رمز المركز المالي الأهم في العالم، مثل برجي "ناسداك" "Nasdaq" للتجارة العالمية، وهو مركز نظام تبادل إلكتروني يمثل الجمعية الوطنية لتجار الأوراق المالية الآليين، فإن الناس ستتدافع ليس فقط من أجل الدفاع عن أمن أمريكا، وحماية الحريات والديمقراطية، ولكن من أجل الحفاظ على نمط حياتها، ومن أجل ذلك فهي تدفع بأبنائها للقتال والموت في أفغانستان والعراق واليوم في سوريا وغداً في إيران وروسيا وحتى الصين، إن استطاعت الولايات المتحدة إقناع شعبها بذلك.

بعد انهيار البرجين ابتدأت الخطوات الفعلية نحو التغيير العالمي الجديد. بدأ التغيير بخطوات إعادة نشر القواعد الأمريكية حول العالم وبخاصة في الدول العربية وفي منطقة الخليج. وأصبح للأميركيين بعد احتلال العراق قواعد هامة في الأردن والعراق. وبعد العام 2011 اتخذ منهج الصراع في المنطقة منحى آخر، واحتلت الولايات المتحدة مناطق في شرق وشمال سوريا وأقامت مجموعة من القواعد. بقي منها بعد العام 2018 قواعد استراتيجية: الأولى في التنف عند مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، والثانية في داخل واحد من أهم حقول النفط "العمر"، والثالثة في منطقة الهول في محافظة الحسكة. وانتشر الموساد في القواعد أميركية على طول المنطقة الواقعة شرق نهر الفرات، حيث تتوزع التنظيمات الكردية المتعاملة مع الإحتلال الأميركي في سوريا. كما يحضر الموساد وله قواعد في أربيل في منطقة "كردستان" العراق. جميع هذه القواعد انتشرت لهدف واحد فقط هو: حماية أمن "اسرائيل".

حماية أمن "اسرائيل"، لا يتعلق فقط بكونها "شرطي المنطقة" كما يعتقد البعض. وإنما له علاقة كبيرة بالنظام العالمي الجديد الذي تحدث عنه جورج بوش الأب ومن ثم الإبن، واليوم يتحدث عنه جو بايدن، الرئيس الأميركي الحالي، وبالتحديد في خطابه بعد انطلاق الحرب في أوكرانيا. والدليل أنه إذا ما اتبعنا التصريحات منذ بداية القرن الحادي والعشرين وحتى اليوم فسيتضح لنا أنه مع مدى التخوفات التي أطلقها خبراء اقتصاديون حول الانهيار المالي في أميركا، وانهيار قيمة الدولار بالذات، ومع ذلك ليس هناك من تحركات حقيقية لإصلاح الإقتصاد سوى طبع المزيد من العملة وضخها في الأسواق. أي أن هناك دفع حقيقي نحو تغيير جذري يبدأ بانهيار في أميركا وينتهي بصعود آخر في مكان آخر، وهذا من الحتميات التاريخية، التي يعتقد بها أصحاب النظام العالمي الجديد.

في نهاية الشهر الماضي كتب أندرو مكارثي في ناشونال ريفيو، متخوفاً من توقيع الإتفاق النووي مع إيران خاصة وأنه يمكن لإيران ووكلائها الجهاديين أن تقرر الضربة الأولى. اعتراض مكارثي جاء ليوضح أن هناك مشاكل أكبر يجب حلها قبل حل مشكلة الاتفاق التي تسبب بها باراك أوباما.

ورأى في سلسلة قرارات بايدن سياسة غير كفوءة وأن البلد في مأزق وأن سياسة الإنفاق المتزايد ليست في مصلحة الوطن المهددة مصالحه في جميع أنحاء العالم. ويعتبر أن أمريكا كانت في إجازة من التاريخ لمدة ثلاثين عاماً زادت فيها ديون أمريكا لتصبح أكثر من 100% من الناتج المحلي. ولكن أهم ما جاء في كلامه: "لقد تم استغلالنا. لقد دفعنا الضرائب اللازمة "لليفياثان" المتضخم ليوفر لنا الأمن، بالإضافة إلى الخدمات ووسائل الراحة الأخرى التي لا تعد ولا تحصى التي نطلبها منه". والليفياثان هو مخلوق أسطوري يشار إليه في الكتاب المقدس، وخاصة في العهد القديم، أي التوراة. وهو مخلوق بحري من "صنع الله"، يمثل الفوضى والشر قبل خلق العالم ومتأصل في الثقافة العبرية، وهو أحد أهم الشخصيات، أو المخلوقات، الرئيسية للعبادة في العقيدة الشيطانية، ويعتبر أحد أمراء الجحيم الأربعة. وقد يكون قصد مكارثي بـ"الليفياثان"، كتاب توماس هوبز  المنشور في العام 1651، والذي يهدف إلى تبرير الحكومات المطلقة من أجل تبرير سلطة الدولة. لكن مكارثي لا يستخدم هذا التعبير بشكل اعتباطي.

صحيح أن الدين ارتفع في عهد الرئيس ترامب، ولكن بدأ تحسن الإقتصاد الأميركي في بداية 2020. لم يكن سبب ذلك إلّا السياسات الإقتصادية التقشفية التي قام بها ترامب، ومنها سياسته بوقف دفع الأموال للجيش الأميركي في أوروبا والخليج العربي وإلزام المصاريف بمن يحميهم، وقد ساعد ترامب شركات السلاح والنفط على التوسع والعمل، في المناطق التي يحتلها الجيش الأميركي في العراق وسوريا، ووقف المساعدات الطائلة للمهاجرين غير الشرعيين من أمريكا الجنوبية إلى الولايات المتحدة. ولا ننسى أن عهد ترامب مر بأسوأ مرحلة على الولايات المتحدة مع انتشار الوباء فيها وتعطل التجارة العالمية، وبخاصة تجارة النفط أهم مصادر الدخل الأميركي. هذا الكلام، هو من أجل توضيح أن دونالد ترامب هو آخر الرؤساء الذين ستشهدهم أمريكا ممن يعتقدون بعظمتها، لأنه آخر أبناء ذلك الجيل من المهاجرين البيض الأنغلوساكسون الإنجيليين السذج الذين كانوا يعتقدون بأن أمريكا هي أرض الميعاد، والذي بات ملفتاً صراخه خلال حملاته الإنتخابية بأن: "أنقذوا أمريكا". ولهذا السبب تحديداً جاء إعلان ترامب الأميركي ترشيحه دون مستشاريه الصهاينة:  ابنته إيفانكا وزوجها.

هذا الكلام، لا ينطبق على جو بايدن أو على من جاء قبله. اذ يبدو أن ترامب كما الرئيس الأميركي جون كنيدي، لم يكونا قادرين على الإنسجام ضمن النظام الأميركي العميق، والعمل بحسب خططه. نظام قام بتصفية كنيدي جسدياً قبل وصوله لفترة رئاسية ثانية، وقد كشفت تقارير عدة أن كنيدي كان ينوي كشف حقيقة العلاقة ما بين الدولار والنفط، وبأن الدولار لا يعبر عن قيمة مالية حقيقية. والنظام العميق في الولايات المتحدة لم يكن ينوي حينها كشف هذه الأسرار المتعلقة بالدولار. وأما تصفية ترامب السياسية فقد كانت ملزمة للدولة العميقة، لأن الوقت قد حان من أجل وضع جميع الأوراق على الطاولة والتعامل ضمن سياسة واضحة تتعلق بسياسات أصحاب البنك الدولي والبنك الفيدرالي الأميركي وأهم من هذا وذاك هو سياسات مجموعة بلديربيرغ والمجموعات السرية الأخرى التي تحكم العالم والولايات المتحدة وتقوم بانتاج نخب منتقاة تتناسب وسياسة النظام العالمي  الجديد، فيما ترامب يريد أمريكا دولة عظيمة.

في 15 من هذا الشهر، كان هناك اعلان ألماني واضح حول تراجع الصناعات في ألمانيا واغلاق بعضها بشكل نهائي. تقويض اقتصاديات الدول يتم بشكل ممنهج خلال هذه المرحلة التاريخية.

والتهديدات بتراجع الانتاج الصناعي لم يأت من فراغ فلقد سبق وأنذر الصناعيون الألمان والأوروبيون وأصحاب الشركات الكبرى فيها من سوء الأوضاع مع تراجع انتاج الطاقة الكهربائية، كنتيجة طبيعية لنقص إمدادات الغاز الروسي. ومن الطبيعي أن يتسبب النقص بانتاج الكهرباء بتوقف المعامل. وقد أعلنت، بحسب بوليتيكو، شركة انتل الأميركية لصناعة الرقائق في 17 كانون الأول/ ديسمبر عن تراجعها عن بناء مصنع لأشباه الموصلات الضخمة في ألمانيا في منتصف العام 2023. فإذا ما بدأت الشركات الكبرى في أمريكا بالتراجع عن بناء أعمالها في أوروبا، فأين سيترك ذلك القارة العجوز التي تشهد انكماشاً اقتصادياً وتضخماً مالياً منذ بداية الحرب الروسية - الأميركية في أوكرانيا، وتراجعاً في قيمة اليورو؟

مع قدوم جورج بوش الأب إلى رئاسة الولايات المتحدة، بدأ السعي نحو تطبيق خطة برنارد لويس القاضية بإعادة تقسيم الشرق الأوسط من أجل خلق شرق أوسط جديد مبني على أسس عرقية وإثنية ودينية وطائفية، وخطابه الذي تحدث فيه عن النظام العالمي الجديد، وطرح فيه دوافعه حول حماية النظام العالمي الجديد لتبرير الدفع نحو حرب الخليج الأولى من أجل إخراج صدام حسين من الكويت، ثم تتابعت الخطوات مع إعلان بوش الإبن نيته احتلال العراق، حتى ما قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وابتدأت في تلك المرحلة التحذيرات من الإختصاصيين الماليين في الولايات المتحدة من خطورة الإنهيارات الإقتصادية المتتالية على الولايات المتحدة والتي ستأتي على جوهر كيان وجود الدولة.

ما معنى هذا الكلام؟ إن ما يسعى إليه زعماء الولايات المتحدة  هو بهدف تقوية إقتصاد الكيان الصهيوني عبر اتفاقيات أبراهام وبسط سلطة الكيان على كامل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، وباقي المناطق المقدسة المحددة بحسب إنجيل الملك جيمس. لأنه بحسب ما شرحنا مسبقاً في مقالات سابقة على العهد حول الأهداف الأساسية للمهاجرين إلى أرض الميعاد المؤقته في العالم الجديد من الإنجيليين الأنغلوساكسون هو التحضير لبناء كيان "اسرائيل" الآمن، وبناء معبد سليمان المزعوم مكان المسجد الأقصى. وبالتالي فإن هذه الدولة لن تكون المركز الديني الجديد للمسيحية واليهودية الصهيونية فقط، بل يجب أن تصبح هذه الدولة المركز العالمي المالي لهذه القوى، ولهذا السبب تحديداً دفعت تريليونات الدولارات من أجل إنشاء الدولة المارقة وبناءها من العدم.

ولكن، هناك مسؤولية تاريخية كبيرة على الأحرار في العالم يستجرها القبول بأن الله والمسيح عليه السلام يقبلون بقتل الأبرياء في فلسطين وهدم البيوت الآمنة واقتلاع الأشجار بهدف تهجير أصحابها إيذاناً بنزول المسيح عليه السلام! والسؤال هنا، باسم من يتحدث ذلك ويفترض رضا الله والمسيح عليه السلام بهدم بناء يعد من أهم المقدسات على الأرض، ألا وهو المسجد الأقصى؟ يمارس من يستخدم هذه التحضيرات ويرفعها إلى مستوى العمل المقدس سياسة إعلامية ممنهجة ترتكز على ترسيخ صورة مسجد الصخرة الذي بني في عهد الخليفة عمر بن الخطاب على أنه المسجد الأقصى. وهذا ما يدعو للتساؤل حول أسباب التجهيل المنظم حول مكان بناء المسجد الأقصى الحقيقي وحول الكيان الذي يحضرون من أجل قدومه، والذي يتطلب إراقة هذا الكم من الدماء البريئة. وفي هذا كلام وفرضيات يضعها أصحاب عقيدة النظام العالمي الجديد بما يفوق التصورات.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية