قراءات إعلامية » معركة ميسلون: الماضي الذي أسس لحاضر سوريا

عبير بسام
كنت صبية ما تزال تقرأ في كتب التاريخ عن الإحتلال، أوعفواً، الإنتداب، الفرنسي لسوريا ولبنان وعن دخول الجيش الفرنسي في 24 تموز/ يوليو 1920 واحتلال سوريا بعد ان خاض السوريون معه معركة غير متكافئة قادها وزير الحربية يوسف العظمة شخصياً واستشهد فيها. لم تدم المعركة إلا ساعات، ظهر فيها عدم التكافؤ بشكل جلي، ولكنها حملت معاني كبيرة في كتاب التاريخ الذي قرأت فيه في سوريا، لقد قرر الشهيد القائد يوسف العظمة الموت شهادة على أن يقال أن سوريا سلمت للفرنسي دون أية مقاومة.


عندما كان والدي يسمّع لي درس التاريخ، وهو ضابط في الجيش، قال يومها أن الغرب يكتب عن يوسف العظمة على أنه كان رجلاً مجنوناً واجه فرنسا القادمة على الدبابات وبالمدافع المتطورة، بالبنادق والحصان. لكن خروجه على فرنسا كان له تأثيره الكبير في رفع معنويات الشعب. والدي كان على حق، فعلى الرغم من جميع الأوضاع المزرية التي تعيشها منطقتنا العربية فقد ملَّ السوريون الإحتلالات. وفيما كانت سوريا الكبرى تحتفل بانتصار الثورة العربية على العثمانيين. اذ كان العظمة وزيراً للحربية في أول حكومة عربية، بعد إعلان استقلال سوريا في 8 آذار/ مارس 1920، بعد سقوط الدولة العثمانية وإعلان فيصل بن الحسين ملكاً، والفرح مايزال يملئ الأجواء، لتأتي مسرعة الجحافل الفرنسية لإحتلال البلاد. العظمة، الذي قاتل الحلفاء في الدردنيل وقاتل العثمانيين من أجل استقلال سوريا، يفهم تماماً معنى الحرب ومعنى الإستقلال.


استخفت فرنسا حينها بمعنى أن يخرج قائداً شاهراً سيفه في وجه الدبابة وما معنى ذلك عند الأجيال القادمة. لم يطل الوقت، حتى ابتدأت الثورة السورية الكبرى في نفس العام بقيادة السلطان باشا الأطرش في السويداء والتي استمرت مرت بفترة مد وجزر، ثم عادت لتنطلق في العام 1925 وتمنع تقسيم سوريا. وانطلقت الثورات في الساحل السوري وجبل الزاوية وحوران. لم نقرأ جميعنا هذا التاريخ، أو على الأقل لم نقرأه عبر مفهوم الثورة الذي أسسه يوسف العظمة في قتال فرنسا المحتلة.


كان والدي على حق، إن القائد الجريء والشجاع هو القادر على بناء حالة من العنفوان لدى الناس ترفض من خلالها الذل والهوان. ولنقرأ عبر تاريخنا الحديث، ولنبحث ما بين القادة المتخاذلين وتأثيرهم والقادة الشجعان وتأثيرهم. حتى بعد خسارة حرب النكبة في 1967، استطاع الزعيم الراحل لم شتات العرب وليس فقط الجيش المصري، مع أننا نعرف ان مؤامرة الـ 1967 شاركت السعودية في وضع أهدافها كاملة، ومع ذلك ابتدأ مرحلة جديدة من المقاومة ضد العدو الصهيوني عرفت أنذاك بحرب الإستنزاف، والتي استجرت أمريكا للحديث مع جمال عبد الناصر قائد ثورة 24 يوليو. للأسف، اغتيل الزعيم عبد الناصر قبل أن يجني ثمار المقاومة التي قادها. فشتان ما بين من صنع حرب الإستنزاف وبين من صنع كامب ديفيد. وشتان ما بين الحالتين اللتين آلت إليهما مصر.


مثال آخر على القائد الجريء والشجاع، كان القائد الراحل حافظ الأسد، الذي قاد حرب تشرين التحريرية، والذي تعلم من هزيمة النكسة، اذ كان وقتها وزيراً للدفاع، وكان ذلك الحافز الأكبر من أجل الدفع نحو استعادة الجولان والأراضي المحتلة في العام 1967. ولا ننس أن القائد الأسد وقف خلال الاعوام التي سبقت النكسة على ضفاف بحيرة طبريا وكان العلم السوري يرفرف على جزء من أراضيها، واعتبر تلك الأيام عهداً بالعودة والتحرير. وبعد أن أوقف السادات الحرب على الجبهة المصرية استمرت حرب الإستنزاف على الجبهة السورية حتى العام 1974، واستمرت 82 يوماً كبدت فيها اسرائيل خسائر كبيرة. خسائر أجبرت هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركية أنذاك، على العودة للشرق ولعب الوساطة للتوصل لإتفاق فك الإشتباك. وقع الإتفاق في حزيران 1974، وبعد عشر سنين من احتلال القنيطرة رفع العلم السوري في 24 تموز/ يوليو فوق أراضيها. تاريخ يعود ليعمد بدم من استشهدوا في معركة ميسلون. وشتان بين من أسس لمحور مقاوم وما بين من أسس لأسلو وعربة وابراهام.


لم يكن ابن حي الشاغور الدمشقي العريق أول من قاوم الإحتلال الفرنسي في سوريا بل سبقه إلى ذلك كثيرون. فمن منا يستطيع أن ينسى اسم الشيخ صالح العلي، الذي قاتل الفرنسيين في العام 1918 عندما حاولوا احتلال سوريا عبر الساحل. ولم يكن العظمة أول مقاوم عربي يقف في وجه الإستعمار، فمن منا يستطيع نسيان أسماء مثل عبد القادر الجزائري وحليمة السعدية وعمر المختار. ولكن ما يميز العظمة أنه كان مسؤولاً سياسياً وعسكرياً، فقد كان وزيراً للدفاع، وهو أول وزير في التاريخ الحديث يحارب المحتل في أرض المعركة. اذ رفض العظمة قرار حكومة الملك فيصل التي كان وزيراً للحربية فيها بعدم الإشتباك مع الجيش الفرنسي. فإن لم تكن القادة هكذا فكيف تكون؟


كتب ادوار حشوة في تعليق له على مقال كتب على مدونة https://damascusschool.wordpress.com/ عن يوسف العظمة كلاماً هاماً يخبر فيه عن لقائه بجنرال متقاعد من الجيش الفرنسي في مرسيليا وهو من أصل سوري: " في العام 1972 التقيت في مرسيليا بفرنسا بجنرال متقاعد من الجيش الفرنسي من أصل سوري ومن حي بني السباعي بحمص يدعى ( تركي زعينا )، الذي صحح أخطاء شائعة ما بين الناس وروى عما حدث يومها وذلك بحسب الارشيف الفرنسي الذي اطلع عليه. قال زعينا: " لم تكن القوات الفرنسية في ميسلون بقيادة الجنرال غورو بل بقيادة الحنرال (بواتيه). وغورو كان القائد العام للقوات الفرنسية ومقره في بيروت وكانت القوة الفرنسية المكلفة باحتلال دمشق مكونة من 12 الف جندي ومدججة بعشرات المدافع والمصفحات وبدعم من الطيران وترافقها قوافل اسعاف وتغذية كما في أي حرب نظامية. اصطدم الفرنسيون بقوا ت الجيش الفيصلي في تلال ميسلون ولم تستطع اختراق دفاعاته لساعات وتبين أن الاختراق سيكلف ضحايا فرنسية كبيرة فما كان من الجنرال غورو إلا أن أرسل مئة "فارس" [عميل مجند] استقدمهم وعبروا الى خلف خطوط الجيش الفيصلي في ميسلون حاملين الأعلام السورية ليوهموا بأنهم قادمون لنجدة الجيش [العربي]، [والذي يسمى في الأرشيف الفرنسي بالجيش الفيصلي]. وما أن أصبحوا خلفه حتى فتحوا النار على جنوده من الخلف فحصلت الفوضى المطلوبة. واعتقد الجنود "الفيصليون" أنهم حوصروا وبدأوا الهرب فاستغل الفرنسيون ذلك واخترقوا الدفاعات بسهولة فوجدوا يوسف العظمة مقتولاً من الخلف... فأمر الجنرال بواتيه بأخذ التحية لجثته ثم عبر بقواته الى دمشق. واستشهاد يوسف العظمة كان في الساعة العاشرة والنصف من صباح 24 تموز 1920".


ووصل بواتيه إلى قبر صلاح الدين، وهو من قال: "ها قد عدنا يا صلاح الدين، فانظر ما أنت فاعل". هذا ما أوضحه الجنرال زعينا، ثم قال أن أحد أجداده الجنرال بواتيه كان أسر لسنوات في الحروب الصليبية، وحين تم افتداؤه عاد الى فرنسا بعد أن تعلم في دمشق صناعة الورق وأسس في باريس أول معمل للورق وشركته ما تزال حتى الآن". وفي مدينة تروا [troyes] شرقي فرنسا.


توج يوسف العظمة بطلاً عبر تاريخ سوريا هو والـ 1800 جندي الذين كانوا معه، ومصادر أخرى تعدهم بـ    3000 متطوع. وكانت حصيلة المعركة استشهاد 400 جندي عربي مقابل 42 جندي فرنسي. وإذا ما صدقت رواية الجنرال زعينا، والتي تحتاج بصدق إلى تحقيق تاريخ، ولم تحدث الخيانة لاستطاع  يوسف العظمة يومها وقف الفرنسيين، وغير وجه التاريخ الحديث في منطقة بلاد الشام والعراق. صحيح أن حشود تجار الشام استقبلت في 1 آب في العام 1920 بحشود كبيرة الجنرال غورو، إلا أن آخر الجنود الفرنسيين خرجوا من سوريا وأقدامهم تضرب برؤوسهم في 17 نيسان 1946. هذا الكلام يؤكده الأرشيف الفرنسي، الذي سجل أن أكثر من 35 ثورة وانتفاضة كانت تحصل في كل عام في وجه الفرنسيين، حقائق قرأتها في هوامش كتاب التاريخ صبية وما زلت أعشقها، حقائق أخرجت الفرنسيين من سوريا مهزومين، حقائق أسست لثورات وانتفاضات وصمود أسس له بسالة وزير الحربية يوسف العظمة، الذي رفض أن يكون دخول الفرنسيين نزهة سهلة في بلاده.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية