أخبار خاصة » الدين والعلم ما بين التلازم والتنافر: الإسلام نموذجاً

اعداد الباحث : يحيى دايخ
المقدمة :
لقد اتى الدين الاسلامي مكملا للرسالات السماوية  التي بدورها عملت على تربية الانسان في ابعاده الثلاثة ( الروحية " أخلاقيا و تعبديا " / الجسدية " ماديا " / الفكرية " اعتقاديا " ) ، لذلك حث الاسلام على بناء هذه المفاهيم الثلاثة في الانسان بهدف ايجاد مجتماعات منتجة متكاملة صالحة.
 يقول الله تعالى على لسان أحد الأنبياء العظام عليهم السلام: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).سورة هود أية 28
إصلاح المجتمع كلمة تختصر رسالة الأنبياء عليهم السلام التي أرسلهم الله سبحانه وتعالى بها، فتحملوا ما تحملوه من عذاب وجهاد ومواجهة طواغيت وإرشاد للعباد، ليصلوا إلى المجتمع الصالح.
" دروس من فكر الشهيد محمد باقر الصدر "ق" ، مقدمة كتاب عناصر المجتمع ( شبكة المعارف الاسلامية  ).
كما قال الله تعالى " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " سورة الزمر اية 9
لذلك اعطى الاسلام الاولوية في بناء الانسان عبر تنمية هذه المفاهيم الثلاثة فيه وحثه على طلب العلم فقال رسول الله "ص" : اطلبوا العلم من المهد الى اللحد " فلم يحدد القرأن الكريم والرسول الاكرم "ص" نوع معين من العلم بل جعل الباب مفتوحا على مصارعه للغرف والنيل من شتى العلوم الطبيعية ، الانسانية ،  والدينية ، كما حث المؤمنين على تطوير انفسهم بما يناسب الازمنة التي يعيشون فيها كما ورد في تفسير الاية الكريمة والحديث النبوي السابيقين ، ففي الاية الكريمة يبين ان الاعلم درجته اعلى ومكانته اعظم عند الله وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، اما في الحديث النبوي فهو يأمر الناس بطلب العلم من الطفولة الى الممات ،لان العلم لا يتوقف ولاينتهي وهو بتجدد مستمر .
ولابد من ايضاح موجز لماذا اهتم الاسلام بهذه الابعاد الثلاثة للانسان :

1.التربية الروحية من خلال الدعوة الى عبادة الاله الواحد القادر المجسد للخير الاكمل ، ودعى الى التمتع بالاخلاق الكريمة الحسنة الدالة على جوهر الدين وصفات القدير، والتمسك بهاتين الصفتين المتلازمتين ، ولعل من ابرز نتائجهما  :
ـ التصالح مع الذات ومع الغير .
ـ التبادل والمعاملة الحسنة بين افراد المجتمع مع بعض ومن ثم المجتمعات مع بعضها .
ـ التمسك بالقوة الخفية القادرة على فعل المستحيل ( الامل المتجدد والمستمر وطرد اليأس ) .
ـ الثقة بالدعم الخفى عند التمسك بتعاليم الدين مما يعطي حافزا للاستمرار مهما كانت الصعاب ( عدم القنوت واليأس ).
وغيرها من النتائج الكثير التي توجد الدافع والحافز لبناء المجتمعات الاجتماعية الثقافية المتجانسة والمتكاملة .  
2.التربية الجسدية " البدنية " تتجسد من خلال الدعوة على الاهتمام ببناء الجسد القوي والاهتمام بصحة الغذاء من خلال الاحاديث الشريقة :
ـ قال رسول الله "ص" : ان لربك عليك حقا ، وان لجسدك عليك حقا ، وان لاهلك عليك حقا . "بحار الانوار 70/128 ".
ـ "علموا ابنائكم السباحة والرماية " نهج الفصاحة ص413 ط1955 .
ـ " المؤمن القوي خير وأحب من المؤمن الضعيف " الاسلام والطب ص 263 .
وغيرها الكثير من الاحاديث في هذا المضمار ، فمن خلال التربية البدنية يستطيع الانسان ان يكون فاعلا في مجتمعه وذلك من خلال الامور التالية :
ـ القدرة على التفكير السليم واتخاذ القرارات " عندما يكون غذاءه متزن واعضاء جسده تعمل بانتظام ( العقل السليم قي الجسم السليم ).
ـ كسب الرزق .
ـ الدفاع عن مجتمعه وارضه وعرضه .
ـ المساعدة الفزيائية لمجتمعه .
3.التربية الفكرية ( وهذه حبكة بحثنا ) لقد اهتم الاسلام بالفكر والتطور الفكري والعلمي ومواكبة العلوم بشتى انواعها و ابوابها من الميكرو الى الماكرو ( من اصغر تفصيل الى اكبر تفصيل )، فاهتم بأدق التفاصيل المجتمعية والاجتماعية في المجالات التطورية / البنيوية /والوظائفية على المستوايات الاجتماعية / الاقتصادية / الثقافية / السياسية / العسكرية والامنية .
وللاحاطة بجميع جوانب مسألة البحث ،يجب الاطلاع على وجهة نظر العلم في عنوان البحث ، والتعرف على التفسيرات العلمية لمسألة البحث .

ـ لمحة تاريخبة :
أفضل ما قدم ما من بحوث علمية من خلال الملاحظة بجميع تقنياتها وادواتها ووسائلها من المسح والبحث والتقصى والتحليل لهذه المسألة التي أطلق عليها ظاهرة الدين الاجتماعية، ومن بعد لتصبح ميدان من ميادين علم الاجتماع والانتروبولوجيا ، حيث أن الكثير من العلماء والفلاسفة القدامى تطرقوا الى موضوع الدين والعلم وهل هما متعارضان ام متألفان ، فقد كانت العلاقة بين الدين والعلوم الطبيعية موضوعاً للدراسة منذ العصور اليونانية القديمة ، حيث اهتم بها وفسرها الفلاسفة واللاهوتيون والعلماء الى العصر الحالي.
وتبين بالدراسات والتحليل أن وجهات النظر تختلف وفقاً للمناطق الجغرافية، والثقافات والحقبات التاريخية، فالبعض يصف العلاقة باعتبارها نوعا من الصراع، والبعض الآخر يصفها بالانسجام، والبعض الآخر يري القليل من التفاعل فقط بين الدين والعلم.
كلاً من العلوم الطبيعية والأديان هي مساعي اجتماعية وثقافية معقدة ،التي تختلف عبر الثقافات وتتغير مع مرور الوقت. وقد تحققت معظم الابتكارات العلمية والتقنية قبل الثورة العلمية (عصر التنوير) من قبل المجتمعات التي تنظمها التقاليد الدينية.
ان الأحداث في أوروبا المرتبطة بالثورة العلمية وعصر التنوير، قادت علماء وباحثي علم الاجتماع وفيما بعد علماء الانتروبولوجيا لفرض نظرية بأن الدين والعلوم الطبيعية في صراع منهجي، واقعياً وثقافيا وسياسيا على مر التاريخ .
ـ أهمية البحث :
قامت الكنيسة في العصور الوسطى بدور كبير في تشكيل فكر وسلوك المجتمع الأوروبي، وتكريس مفاهيم المبادئ المسيحية، وكان من أبرز تلك المبادئ ثنائية “المقدس والمدنس” التي دعت إليها الكنيسة ووجهت لها الشعوب الأوروبية.
المقدس في نظر الكنيسة هي الروح داخل الجسد وكل ما يتعلق بالآخرة من عبادة وأماكن عبادة وعبّاد من كهنة وقديسين.
والمدنس عند الكنيسة هي الدنيا وما حوت من شهوات وأموال وأعمال وقصور وأجساد، فكل ما على الدنيا مدنس يتطلب الابتعاد والتنزه عنه، بينما الروح والآخرة مقدستان يتطلب التوجه إليهما بالكلية، ولا يتحقق هذا إلا بقتل الشهوات ونبذ الدنيا للانتقال من المدنس إلى المقدس .
وعليه، فقد ازدهرت الكنائس والصوامع بالرهبان الزاهدين الذين هجروا الحياة الدنيا وأقبلوا على العزلة وممارسة تعذيب الجسد بتجويعه وحمله للأثقال على سبيل خلاص الروح من دناءة الجسد حتى انهم شنوا الحروب على العلوم الطبيعية والنظريات العلمية، مما جعل أوروبا تعيش مرحلة عصيبة ثارت لأجلها الشعوب على الكنيسة وهمشتها واتجهت لمبادئ مغايرة ومناهضة للدين، كالإلحاد والشيوعية والعلمانية . ( المقدس والمدنس ، فهد الاحمري / المقدمة )
من هنا تبرز أهمية البحث في هذا المفهوم وان كان العلم يعتبر مدنسا ومن امور الدنيا ويتعارض مع المقدس الذي هو من امور السماء .
قد تناول الكثير مع علماء وباحثي علم الاجتماع في اوروبا من أمثال أميل دوركهايم ، مارسيل موس، ماكس فيبر، وكارل ماركس وغيرهم من علماء الاجتماع ،علاقة الدين والعلم فيما اطلقوا عليه اسم المقدس والمدنس أوعلاقة الدين بالمجتمع .
كما في اوروبا بعض المسلمين لم يكونوا بعيدين عن مبدأ المقدس والمدنس عند المسيحية ، وُجد هذا حتى في عهد النبي الكريم (ص)، كما في حديث الثلاثة ، أحدهم كان يصلي الليل فلا ينام، والثاني يصوم الدهر فلا يفطر، والثالث يعتزل النساء فلا يتزوج أبدا.
 من هؤلاء من اعتزل الزواج فلم يتزوج طيلة عمره، زهدا أو تفرغا للتبتل والعبادة أو لطلب العلم الديني، ومنهم من آثر الوحدة واعتزال الناس جزئيا أو كليا.
وفيهم من ترك المباحات فلا يزيد على خبز الشعير ولا يذوق الفاكهة، ومنهم من يقلل الطعام حتى ييبس بدنه ويعذب نفسه بلبس الصوف ويمنعها الماء البارد.
وفيهم من انقطع في مسجد أو رباط ( الحدود للدفاع عن المسلمين ) أو جبل، وترك التداوي لخروجه عن التوكل على الله بحسب زعمهم.
غير أن هذه البذرة ( المقدس والمدنس )، ظلت موجودة عند بعض المسلمين بممارسات متباينة تشتد وتخف بحسب النفحات الروحانية والرموز المعاصرة . ( المقدس والمدنس ، فهد الاحمري / المقدمة )
من هذا المفهوم الذي ساد عند المسلمين والمسحيين احببت ان اقف على حقيقة ورؤية واضحة لعلاقة العلم بالدين ، واذا كان العلم الطبيعي مدنس يجب الابتعاد عنه دينيا ، بمعنى أن الدين والعلم متألفان أم متعارضان .
ـ من هذه النظرة الدقيقة للتربية الفكرية المسيحية و الاسلامية العلمية تطرح اشكالية نفسها بشكل سؤال:
1.العلم والدِّين: متخالفان أم متآلفان؟
ـ للاجابة على هذه الاشكالية لابد من وضع فرضيات :
1.هل هناك نظرة فكرية علمية واحدة حول العلم والدين عند الطوائف الاسلامية ؟
2.هل يعيش المسلمون الجهل والتخلُّف ولماذا ؟
3.هل هناك علم ديني وعلم غير ديني وعلى أيّ علم يحثّ الإسلامُ ؟
4.هل نظرة الاسلام لتعلم المرأة كما للرجل ؟

ـ المنهج العلمي المعتمد في هذا البحث :
أ‌.التاريخي حيث قمت بالتتبع والتقصي عبر التوثيقات المقروئة والمرئية والمسموعة والمستندات مما كتب في موضوع البحث او تركه السابقون لتبين لي المعرفة وتساعدني في الفهم والتحليل والاجابة على تساؤلات الحاضر .  
ب‌.الوصفي : ليتيح لي التصور الدقيق للعلاقة بين المجتمع والاتجاهات بحيث يعطي البحث صورة واقعية بين الظاهرة في البحث والاتجاهات .

ـ المنهجية المعتمدة :
بناء لاعتمادي على المنهجين التاريخي والوصفي لابد لي من الاعتماد في بحثي على عدة تقنيات وهي :
أ‌.تقنية التقصي والبحث في التوثيقات من خلال جمع المعلومات من مصادر مختلفة ( كتب ، دراسات سابقة تناولت هذا الموضوع ، مقالات ، المواقع الالكترونية ) .
ب‌.تقنية الملاحظة غير المباشرة : هي تمت عبر الوسائل الالكترونية المسموعة والمرئية ووسائل التواصل الاجتماعي والمراقبة الدقيقة لتلك الظاهرة المعينة في ظل ظروف وعوامل معينة   بغرض الحصول على معلومات دقيقة نسبيا لتشخيص هذا السلوك أو هذه الظاهرة ، وتعتمد الملاحظة على خبرة وقابلية الباحث في الصبر لفترات طويلة لتسجيل المعلومات .
ت‌.تقنية المقابلة : هي محادثة أو حوار موجه او غير موجه بين الباحث من جهة وشخص أو أشخاص آخرين من جهة أخرى بهدف تحصيل و جمع المعلومات اللازمة واستغلالها في بحث العلمي او الاستعانة بها على للوصول الى استنتاجات علمية تفيد البحث ، وتتم عبر طرح مجموعة من الأسئلة من الباحث التي يتطلب الإجابة عليها من الأشخاص المعنيين بالبحث .
وقد استخدمتها للتعرف على رأي اهل الخبرة في موضوع بحثي لاصل الى نتيجة علمية مقاربة للحقيقة بنسبة عالية .

ـ مفاهيم ومصطلحات :
ـ المفاهيم الدينية :
قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ سورة الزمر، الآية: 9.
 نتحدّث عن فريضة من الفرائض الإسلاميّة لا تقلّ شأناً عن بقيّة الفرائض، ألا وهي "فريضة العلم"، وأمّا تعبيرنا عن العلم بالفريضة فناشىء من وصف الأحاديث الشريفة لطلب العلم بأنّه فريضة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ" وسائل الشيعة، ج 27، ص 26، باب من أبواب صفات القاضي، ج 16.
 وفي كتاب بحار الأنوار إضافةُ كلمة "ومسلمةٍ" بحار الأنوار، ج 2، ص 32، باب 9، من كتاب العلم، ج 20.
 وهذا الحديث ممّا اتّفق عليه الفريقان، السنّة والشيعة.
oمعنى الفريضة
والفريضة تعني الواجب  (راجع لسان العرب، ج 11، ص 159 ) ، وبهذا يكون المراد من الحديث الشريف أنّ طلب العلم واحد من الفرائض والواجبات الإسلاميّة، وعليه يكون للإسلام فضلُ السبق في مضمار حثّ‏ِ الناس على طلب العلم، فبعد أن كان التعلُّم حقّاً وامتيازاً تتمتّع به فئات خاصّة وطبقات معيّنة في مجتمعِ ما قبل الإسلام، جاء الإسلام ليعتبر طلب العلم واجباً وفريضةً على كلّ فردٍ من أفراد المجتمع الإسلامي، دون أي فرقٍ بين المرأة والرجل، أو بين طبقةٍ أو جماعةٍ وأخرى.
إذاً تحصيل العلم والمعرفة فرض واجب على جميع المسلمين، كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها من الفرائض الإسلاميّة.
ـ المفاهيم العلمية :
وسأعرض بعض التعريفات لهذا المفهوم ( المقدس والمدنس ).
ـ تدين أهميَّة التَّمييز بين المقدَّس والمدنَّس في علم الاجتماع بشكل مباشر إلى دوركهايم في كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية (1915)، الذي نشر أولاً عام (1912) في فرنسا بعنوان Les Formes elementaires de la vie religieuse. كان لهذا التَّمييز تأثير عظيم ومباشر في علم الاجتماع الديني ، الذي نُشر في ذروة مسيرته العلمية المتميِزة، نظر دوركهايم إلى الدين بوصفه حاملاً للمقدَّس بينما نظر إلى المقدَّس كحافظٍ للنَّظام الاجتماعي وللتوازن. وبما أنَّ هذا الكتاب هو تحفة أعمال دوركهايم، فقد أصبح "المقدَّس" في ذروة البنية الاجتماعية.
يكمن التمييز بين المقدَّس والمدنَّس في قلب تعريف دوركهايم للدين في كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية ، فالدين هو نظام موحَّد من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء مقدسة، أي أشياءً يجري عزلها وتحاط بشتى أنواع التحريم، وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين بها في جماعة أخلاقية واحدة تُدعى الكنيسة. (الاشكال الاولية للحياة دوركهايم 1915: 47)
وهكذا فإن المقدَّس يتضمن أشياءً يجري عزلها وتحاط بشتى أنواع التحريم، وكل شيء ما عدا ذلك فهو مدنَّس. ونتيجة لذلك، فإنه من السهل دائمًا تعريف "المدنَّس" بوصفه: أيُّ شيء ليس مقدسًا ضمن المجتمع (أو النظام الاجتماعي/المؤسسة).
 للتوصل إلى هذه النتيجة حول المقدَّس ودوره في تأسيس "مجتمع أخلاقي واحد"، قام دوركهايم بقراءة مجموعة أعمال أنثربولوجية، وخاصةً عن سكان أستراليا الأصليين وبتحديدٍ أكبر عن دور الطواطم بين العشائر والقبائل التي كانت تُعتبر شعوبًا "بدائية".) الطوطمية هي نسق ديني تعتبر فيه بعض الأشياء خاصة الحيوانات والنباتات مقدسة، وترمز للعشيرة. واعتبر دوركايم أن الطوطمية هى الشكل الأكثر بدائية وبساطة للدين ويوازيها شكل بدائي من التنظيم الاجتماعي ذلكم هو العشيرة . ) من هنا جاءت أهمية كلمة الأولية في عنوان كتابه.
لقد كان لهذا الفهم لموضوع القداسة تأثير مضاعف على دراسة كل من المجتمع والدين، فمن الناحية الأولى، فإنه جعل من الدين مؤسَّسة اجتماعية أساسية ، فإذا لم يكن هناك دين، فليس هناك مجتمع. ومن الناحية الأخرى، حيث يمكن القول أيضًا بما أن الدين كان جيدًا (وظيفيًا)، فإنه لم يكن حقيقيًا بالتالي. وبمعنى آخر، لأنه اختصر الغاية النهائية للدين (الإلهي، مهما كان اسمه أو شكله) إلى بناء اجتماعي.
ـ يذهب مارسيل ماوس إلى القول بأن كل سؤال عن المقدس يتحول إلى سؤال عما يعارضه ويخالفه، وكل تعريف للمقدس يحيل إلى تعريف ما يعارضه، بل يصبح تعريفا لهذا الحد الذي نصطلح عليه بالمدنس.
ـ شن كارل ماركس شانه شأن فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر، في فرنسا على وجه الخصوص، حربًا لا هوادة فيها ضد الدين (المسيحي على وجه الخصوص)، إذ رأوا فيه عقبة تحول دون التقدم الإنساني نحو آفاق الحرية والعقل. ويمكن تلخيص هذا النقد التنويري للدين في جانبين مختلفين :
oالجانب الأول هو النقد الفكري أو المعرفي الذي تم توجيهه إلى الدين نفسه .
oوالجانب الثاني هو النقد الأخلاقي والسياسي الموجه للكنيسة الكاثوليكية.
وجعله مثله مثل السحر، قد نشأ بسبب الجهل، فإنه بدوره، كما أكد ماركس، يغذي الجهل ويعمل على تكريسه. فالدين ينطوي على أساطير وخرافات غيبية كثيرة لا يمكن للعقل قبولها، وهو يطالب المؤمنين به بالتسليم الذي لا يرقى إليه شك بعقائد لا يوجد دليل على صحتها، وهو ما يؤدي إلى الشلل الفكري وغياب الحس النقدي لدى الإنسان. ( الماركسية والدين / الناشر مجلة شرارة )
ـ قام ماكس فيبر بمجموعة من الدراسات يمكن أن تدخل تحت علم الاجتماع الديني، لعل من أهمها تلك الدراسة التي حاول فيها أن يناهض الفكر الماركسي في أساسه وجوهره، والتي سبقت الإشارة إليه رادا على كارل ماركس في " الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية".
ثم قام فيبر بعد ذلك بدراسة مقارنة تناولت الأديان الكبرى والعلاقة بين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، من جهة والاتجاهات الدينية من جهة أخرى. وعن الدور الذي يلعبه من خلال دراسات فيبر، إذ في ضوء هذا الاعتقاد حدد فيبر التساؤل التالي لكي يجيب عنه في دراسته: إلى أي مدى تؤثر التصورات الدينية عن العالم والوجود في السلوك الاقتصادي لكافة المجتمعات؟ يؤكد فيبرعلى قضيتين هما:
1.أن سلوك الأفراد في مختلف المجتمعات يفهم في إطار تصورهم العام للوجود ، وتعتبر المعتقدات الدينية وتفسيرها إحدى هذه التصورات للعالم، والتي تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات بما في ذلك السلوك الاقتصادي.
2. إن التصورات الدينية هي بالفعل إحدى محددات السلوك الاقتصادي ومن ثم فهي تعد من أسباب تغير هذا السلوك.
ففيبر إذن، لم يعالج الجوانب المختلفة للدين بوصفه ظاهرة اجتماعية، بل اكتفى بالدراسة الأخلاقية الاقتصادية للدين، ويقصد منها ما يؤكد عليه الدين من قيم اقتصادية (" الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية"(the Protestante Ethic and the spirit capitalism)،) .
ـ في موسوعة لالاند الفلسفية، يعتبر مقدس كل ما يتعين عليه أن يكون موضوع احترام ديني من قبل جماعة من المؤمنين.
فالكائنات أو الأشياء المقدسة هي تلك التي تدافع عن المحرمات وتحميها، بينما تكون الكائنات أو الأشياء المدنسة هي الخاضعة لتلك المحرمات والتي لا يجوز لها الاتصال بالأولى إلا بموجب عبادات وشعائر محددة.
ـ وفي القاموس الانتروبولوجي، المقدس هو صفة يطلقها المجتمع على أشياء وأماكن وأعمال يعتبرها واجبة الاحترام، فيقيم لها طقوسا دينية لاعتقاده باتصالها بعبادة الإله، أو الآلهة، أو المعبودات والقوى فوق الطبيعية، أو لأنها ترمز إلى القيم الأساسية للمجتمع، ولهذا فهي مصونة من العبث أو التخريب.
ـ بتعريف أخر للمقدس يمكن القول، إنّ علماء الاجتماع قد بدؤوا في الواقع البحث عن المقدس في كل التجمعات والبنى التي قد لا يربطها المرء عادةً مع الدين والتي تتراوح بشكل واسع، على سبيل المثال، من العَلَمْ والإكسسوارات الوطنية المرتبطة به مثلا ، في الولايات المتحدة مضرب بب روث  Babe Ruth المقدّس في لعبة البيسبول ، مروراً بقبري لينين وستالين في عند الشيوعيين ، وصولاً إلى أندية كرة القدم في انكلترا وفي لبنان مثل نادي النجمة  ....ألخ .
إذن لا بد من أن يكون هناك بعض من الأشياء المعزولة وموضوع مُحرّم، أو سيرورة قابلة للموضعة، حتى يخلقا ويحافظا معاً على بنية ووظيفة أيّة مجموعة اجتماعيّة.


ـ العلوم الطبيعية مقدسة أم مدنسة ؟
من خلال البحث النظري المتقدم استنتج ما يلي :
ـ  في راي الاسلام والغالبية العظمة لعلماء الدين الاسلامي ان العلم النافع ومنها العلوم الطبيعية هي مقدسة بمفهوم "المقدس والمدنس" .
ـ عند ابن خلدون فقد ذكر في مقدمته في الجانب الديني ما يلي :
 بعض شروط الخليفة : كالعلم، والعدالة، والكفاية، والسلامة العقلية والجسدية، أما شرط النسب القرشي فمختلف فيه (المقدمة، تحقيق: عبدالله محمد الدرويش، دار يعرب، 2004م، الجزء 1، ص201 وما بعدها.)
فاعتبر أن العلم من المقدسات التي يجب على الخليفة المسلمين أن يلم بها ( مما يعني ان العلم والدين متألفان ومتلازمان عند ابن خلدون ) .
ـ عند عالم الاجتماع اميل دوكهايم الذي من ابرز من تكلم عن الدين في مفهوم المقدس والمدنس فانه قال في كتابة الاشكال الاولية :
وهكذا فإن المقدَّس يتضمن أشياءً يجري عزلها وتحاط بشتى أنواع التحريم، وكل شيء ما عدا ذلك فهو مدنَّس. ونتيجة لذلك، فإنه من السهل دائمًا تعريف "المدنَّس" بوصفه: أيُّ شيء ليس مقدسًا ضمن المجتمع (أو النظام الاجتماعي/المؤسسة) بمعني ان العلم يصبح مدنسا ولكن لاينفي المقدس عند دوركهايم وبالتالي “فكرة علمنة الكنيسة” كما وردت في الصياغة الدوركهايمية الأصليّة لتعريف الدّين .
ـ والحال كذلك عند العالم مارسيل موس حيث يذهب الى القول إلى بأن كل سؤال عن المقدس يتحول إلى سؤال عما يعارضه ويخالفه، وكل تعريف للمقدس يحيل إلى تعريف ما يعارضه، بل يصبح تعريفا لهذا الحد الذي نصطلح عليه بالمدنس (حيث وضع الدين وضده العلم وربطهما ببعض حيث ان المقدس لا يلغي المدنس وبالعكس فكليهما مرتبطين ببعض ومتلازمين) .
ـ صيغ مصطلح العلمانية بعيداً جداً عن دوركهايم من قبل ماكس فيبر ، الذي استخدمه كطريقة لتصوير السيرورة أو النسق التي صار العالم من خلالها “مسلوبا من الآلهة”. للعديد من الاعتبارات، رأى فيبر أن دوركهايم هو جزء من تلك السيرورة، بما أن هذا الأخير نفسه كان متأثرا بتقليد فرنسي ناشئ يتطلّع باتجاه “دين الإنسانيّة” بمعنى عند فيبر المجال الديني لا ينحصر في حيز محدود ، بل يشمل جميع المجالات ويقتحمها إلى العمق شاءت أم أبت..
 ففيبر إذن، لم يعالج الجوانب المختلفة للدين بوصفه ظاهرة اجتماعية، بل اكتفى بالدراسة الأخلاقية الاقتصادية للدين، ويقصد منها ما يؤكد عليه الدين من قيم اقتصادية.
ـ إنَّ الدينَ من وِجهة نظر ماركس تعبر عن الواقع الماديّ، والاقتصاديّ، وبالتَّالي فإنَّ مشكلات الدين في نهاية المطاف، هي نفسها مشكلات المجتمع. وليس الدين هو المرضُ ذاته، ولكنَّه مجرَّد عَرَض من أعراضه. يستخدمه المستبدُّون من أجلِ حَمْلِ الناس على الإحساس بشعور أفضل حيالَ الأسى الذي يعاينونَه، بسبب كونهم فقراء ومُسْتَغَلِّين. هذا أصلُ كلامه عن الدين عندما أخبر أنَّه أفيون للشعوب .
إن الماركسي، كما قال لينين، “يجب أن يكون ماديًا، أي عدوًا للدين. ولكنه يجب أن يكون ماديًا جدليًا، أي أن يحارب ضد الدين لا في المجرد، ولا بواسطة الدعاية المجردة المحض نظرية، وإنما بشكل ملموس وعلى أساس الصراع الطبقي الدائر بالفعل، وهو صراع يعلم الجماهير أفضل من أي شيء آخر”.اذا فكارل ماركس بنى رؤيته على تعارض الدين مع تطور المجتمعات والشعوب و العلم . ( الماركسية والدين / الناشر مجلة شرارة )

ـ الفصل الاول
اولا : المسلمون والعلم
ينقسم المجتمع الإسلاميّ، من حيث نظرته إلى العلاقة بين الدِّين والعلم، إلى فئتين :
ـ الفئة الأولى: وهي تسعى لإظهار أنّ الدين والعلم متخالفان ولا يمكن أن يلتقيا أبداً، وهذه الفئة تنقسم بدورها إلى طائفتين :
أ- وهي طائفة الجهلاء المتظاهرين بالتديّن، وهؤلاء يعيشون ويرتزقون بسبب الجهل المتفشّي في الناس، ومن هنا كان العلم عدوّهم اللدود، فراحوا يشوّهون صورته أمام الناس، لكي يبتعدوا عنه، كانت دعواهم أنّ العلم يتنافى مع الدِّين ومنهم المغالين في الدين ، التكفريين ، المشعوذين ، والعمائم من اصحاب المصالح والاهداف والغايات الشخصية .
ب- وهي طائفة المثقّفين المتعلِّمين، الّذين ضربوا بالمبادئ الإنسانيّة والأخلاقيّة عرض الحائط ، لكي يبرّروا أعمالهم المنكرة، قالوا لا يمكن أن يأتَلِفَ الدينُ والعلم، فإمّا أن تكون متديّناً، وإمّا أن تكون متعلِّماً ومثقَّفاً ، ومنهم الملحدين وبعض العلمانيين .
ـ الفئة الثانية: وهي الّتي لم يخالجها قطُّ إحساس بأيِّ تناقضٍ أو تنافٍ بين الدِّين والعلم، فسَعَت إلى إزالة الظلام والغبار الّذي أثارته الفئة الأولى بطوائفها حول العلم والدِّين المقدّسين، وكان لها حظّ من كلّ من العلم والدِّين، كشاهدٍ على إمكانيّة الجمع بينهما في الواقع.
 الإسلام يوصي بالعلم
فالإسلام قد أولى مسألة تحصيل العلم أهمّيّةً قصوى، حتّى أنّه اعتبره فرضاً واجباً على كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ، وقد تعرّضت جملة من الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة لبيان فضل العلم والعلماء وما لهم من الأجر الكبير عند الله عزَّ وجلَّ، وكلّ ذلك ترغيباً في العلم ودعوةً إلى تحصيله، وأنا هنا سأكتفي بذكر شي‏ء يسير من أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الحثّ على طلب العلم:
أ‌."طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ" (بحار الأنوار، ج 2، ص 32، باب 9 من كتاب العلم، ح 20 ) ، وفي هذا الحديث تأكيد على أنّ طلب العلم أمر لا يتمايز فيه أحد عن أحدٍ، فهو واجب على الرجل والمرأة، الصغير والكبير، الشابّ والشيخ، الحاكم والمحكوم، ولا يختصّ بطبقةٍ أو جنسٍ.
ب‌."اطلبوا العلم ولو في الصين" (كشف الخفاء للعجلوني، ج 2، ص 44)، فليس لطلب العلم مكان معيّن، وكلّ مكانٍ مهما كان بعيداً يوجد فيه علم نافع ومفيد هو من الأمكنة الّتي يجب على المسلم أن يسعى للوصول إليها، لتحصيل ذلك العلم والإفادة منه، وهذا ما يجعل طلب العلم فريضةً متميّزةً عن كثيرٍ من الفرائض الإسلاميّة الّتي حُدِّد لها وقت معيّن، كالصلاة والصوم مثلاً، أو مكان معيّن، كالحجّ.
ت‌."الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها أينما يجدها" (من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 380) ، والحكمة هي الموضوع المحكَم المتقَن المنطقيّ السليم، وهي كلّ قانونٍ أو قاعدةٍ تتّفق مع الحقيقة، وليست صنيعة الوهم والتخيّلات، فالمؤمن يبحث عن الحقيقة في كلّ اتجاه، ولا يتحفّظ أن يطلبها ولو كانت عند ملحد أو كافراو علماني ، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، فَخُذِ الْحِكْمَةَ وَلَوْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ" (نهج البلاغة، ج 4، قسم الحِكَم: الحكمة 80 )، فالشرط الوحيد إسلاميّاً في أخذ العلم هو أن يكون ذلك العلم صحيحاً، ويتّفق مع الحقيقة والواقع.

ـ الفصل الثاني
ثانيا : أوامر الإسلام بطلب العلم
ممّا يثير الاستغراب والحيرة حقّاً أن ترى المسلمين، الّذين كان أوّل ما أُنزل على نبيّهم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (سورة العلق، الآيات: 1ـ 5 ) ، غارقين في الجهل والتخلُّف، ولا نريد هنا القول إنّ المسلمين على مدى العصور لم ينفّذوا أمر الله لهم بطلب العلم، فإنّ الإسلام قد خلق نهضةً علميّةً وثقافيّةً عظيمةً قلّ نظيرها في العالم، وظلّت قروناً طويلةً تحمل لواء الثقافة والتمدّن والإنسانيّة، وقد كانت هذه النهضة مدينةً للأمر الّذي أصدره الإسلام بخصوص طلب العلم، ولكنّ المسلمين في القرون الأخيرة قد أهملوا وهجروا هذه الأوامر والتعاليم، فلماذا كان ذلك؟
أسباب بُعْد المسلمين عن طلب العلم
1- سياسة التمييز
إنّ أحد الأسباب الرئيسة لعزوف فئةٍ من المسلمين عن الاهتمام بطلب العلم هو: ما جرى في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فبعد أن كان المسلمون سواسيةً كأسنان المشط أخذ البعض ممّن تسلّم مقاليد السلطة وأمور الخلافة في التمييز بين المسلمين باعتبار نسبهم تارةً، وباعتبار أسبقيّتهم في الإسلام أخرى، أو مشاركتهم في بعض الحروب، كبدر مثلاً ثالثةً ، فظهر مجتمع متعدّد الطبقات، لا يتّفق مع الإسلام مطلقاً، وانقسم المجتمع الإسلاميّ إلى طبقةٍ فقيرةٍ محرومةٍ تكدّ وتشقى للحصول على لقمة العيش، وطبقةٍ غنيّةٍ مسرفةٍ مبذّرةٍ مغرورةٍ لا تدري ما تصنع بما كانت تختزنه من الأموال، هذه الحالة جعلت شريحةً كبيرةً من الناس تنصرف تلقائيّاً عن السعي لتحصيل العلم، إذ صار هناك ما هو أولى من ذلك، وهو تأمين لقمة العيش، وانصرف كثير من الأغنياء عن ذلك أيضاً، لأنّهم قد أغرقوا أنفسهم في الملذّات والملاهي، الّتي حجبت عنهم كلّ فائدةٍ لطلب العلم في حياتهم.
2- احترام لغير أهله
يعزو بعضٌ عدم اهتمام المسلمين في القرون الأخيرة بطلب العلم إلى أنّهم قد صرفوا اهتمامهم عن العلم إلى العلماء أنفسهم، فبدلاً من أن يتّجهوا إلى إزالة الأمّيّة عن أنفسهم وأولادهم، ممتثلين أوامر الله عزَّ وجلَّ في الحثّ على طلب العلم، أخذوا يبالغون في احترام العلماء وتقديسهم، إلى درجةٍ صاروا يرَوْن فيها أنّ الأجر كلّ الأجر، والفضل كلّ الفضل، في الخضوع للعالِم، فأعطَوْا ما أعطاه الله للعلم وطلبه إلى العلماء والمحقّقين.
وهذا القول صحيح إلى حدٍّ ما، فإنّ بعض الكتابات الساذجة السطحيّة، وبعض ما يقال على المنابر، يتوافق مع هذا المنطق، والناس وللأسف الشديد يتّبعون هؤلاء دون أن يُعيروا أيّ اهتمامٍ للعلماء والمحقّقين الّذين يوضّحون لهم الحقيقة.
3- الفهم الخاطئ ( وهذا من اهم الاسباب )
هناك أمر آخر، كان له التأثير الكبير في انصراف الناس عن طلب العلم، ألا وهو ما يثيره بعض علماء الإسلام، ذوي الجمود الفكريّ، من أنّ ما أراده النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في قوله "طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ" هو العلم الدينيّ الّذي يملكونه، وهذا ما جعل الناس ينصرفون عن طلب بقيّة العلوم النافعة والمفيدة.

ـ الفصل الثالث
ثالثا : هل هناك علوم دينيّة وأخرى غير دينيّة؟
لقد جرى الاصطلاح على القول بأنّ هناك علوماً دينيّةً، وأخرى غير دينيّة. ويقصد بالعلوم الدينيّة تلك العلوم الّتي تتحدّث في مسائل الدِّين الاعتقاديّة أو الأخلاقيّة أو العمليّة، أو تلك العلوم الّتي تعتبر مقدّمةً لتعلُّم المعارف الدينيّة وأحكامها، مثل الأدب العربي أو المنطق ( سبب تسمية هذه العلوم بالدينيّة أو الإسلاميّة لا لأنّها خاصّة بالمسلمين. فإنّ الأدب العربي أو المنطق أو البلاغة غير مختصّة بالمسلمين، وإنّما هذه العلوم تداولت على أيدي علماء الإسلام وراجت كثيراً وازدهرت لما لها من الأثر الكبير في فهم القرآن والحديث، وبهذا السبب أخذت الطابع الإسلامي)  في حين يُنظَر إلى بقيّة العلوم النافعة والمفيدة على أنّها غريبة تماماً عن الدين، ولهذا فقد ذهب جماعة إلى أنّ مراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من "طلب العلم فريضة" هو طلب العلم الدينيّ دون غيره.
الفهم الصحيح
ولكنّ الصحيح أنّ هذا اشتباه محض، فإنّ الإسلام قد أمر بطلب كلّ علم نافعٍ ومفيدٍ، والدليل على ذلك عدّة أمورٍ:
1- لو كان الإسلام قد أوصى بطلب العلم الدينيّ فقط فهذا معناه أنّه قد أوصى بنفسه، وبالتالي يكون توجُّه الإسلام نحو العلم وطلبه صِفْراً، لأنّ كلّ مذهبٍ من المذاهب، مهما يكن عداؤه للعلم والمعرفة، لا يمكن له أن يقف معارِضاً الاطّلاع على ذاته، بل سيقول حتماً: ((تعرّفوا عليّ‏َ، ولا تتعرّفوا على غيري )).
وبعبارةٍ أخرى، لو كان المقصود من العلم الّذي يأمر الإسلام بطلبه هو العلم الدينيّ فقط لكانت نظرة الإسلام إلى العلم سلبيّةً، وهذا ما ثبت خلافه فيما تقدّم من البحث.
2- إنّ القرآن الكريم قد طرح عدداً من المواضيع وطلب من الناس التأمّل فيها، وما هذه المواضيع سوى موضوعات تلك العلوم الّتي نطلق عليها اليوم أسماء العلوم الطبيعيّة والرياضيّة والحياتيّة والتاريخيّة وغيرها، فقد قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (سورة البقرة، الآية:164) ، وغيرها آيات كثيرة ( سورة الجاثية، الآيات: 3ـ 5، سورة فاطر، الآيتان: 27ـ 28، وغيرها آياتٌ كثيرة ). تدعو الناس إلى التأمّل في مخلوقات الله، والاطّلاع على أسرار الكائنات وأحوالها، وهذا خير دليلٍ على أنّ الإسلام لم يحصر العلم المطلوب تحصيله بالعلم الدينيّ.
3- السواد الاكبرمن مذاهب المسلمين وبالاخص الشيعة والموالين لأهل البيت عليهم السلام يعتقدون أنّ سيرة الأئمّة وأقوالهم سُنّة، ومن المعلوم أنّ المسلمين في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني الهجريّ قد تعرّفوا على علوم الدنيا عن طريق ترجمتها عن اليونانيّة والهنديّة والفارسيّة، فقد ترجموا الكتب المتعدّدة في الفلك والمنطق والفلسفة والطبّ والحيوان والأدب والتاريخ، ولم يصدر من الأئمّة عليهم السلام، الّذين لم يتوانوا قطّ في توجيه الانتقاد إلى الخلفاء أنفسهم إذا ما صدر منهم ما هو خلاف تعاليم الإسلام، أيُّ ردعٍ عن ذلك، ممّا يدلّ على أنّ ترجمة وتلقّي هذه العلوم هو من الأمور المَرْضِيَّة عندهم عليهم السلام، وقد برز من علماء الموالين لاهل البيت عليهم السلام من امثال الرازي / ابن سينا / جابر ابن حييان وغيرهم مما اشتعروا بعلم الفلك والطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات ، الأمر الّذي يعني أنّ الإسلام يوافق إذا لم نقل يشجِّع على التعرّف على هذه العلوم ودراستها، لفائدتها وتأثيرها العظيم في حياة المسلمين.
4- فيما تقدّم من البحث حديثين، واحد للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وآخر للإمام عليّ عليه السلام، وكلّ من هذين الحديثين يدلّ، ولو احتمالاً، على أنّ المقصود من العلم بنظر الإسلام ما هو أعمّ من العلم الدينيّ.
فقد ورد عنه عليه السلام "اطلبوا العلم ولو في الصين"، وقد ذُكرت الصين هنا، إمّا لأنّها أبعد مكانٍ معروفٍ في العالم يومئذٍ، أو لأنّها كانت مركزاً من مراكز العلم والصناعة في العالم، ولم تكن الصين لا قديماً ولا حديثاً مركزاً من مراكز العلوم الدينيّة.
وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الحكمة ضالّة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحقّ بها وأهلها" (أمالي الطوسي، 625 )، وهذا لا معنى له لو كان المراد بالحكمة العلم الدينيّ فقط، إذ أيُّ علمٍ دينيّ سيأخذه المؤمن من المشرك؟! فالمراد إذاً ما هو أعمّ من العلم الدينيّ.
5- ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم جملة من الأحاديث تحدّد المراد من العلم، ولكن ليس بالنصّ على علم معين او محدد.
بل ذكر بعنوان العلم النافع ، فكلّ علمٍ يتضمّن فائدةً وأثراً يقبل بهما الإسلام ويعتبرهما مفيدين ونافعين، هو مقبول في الإسلام، وطلبُه فريضة.
6- ذهب الفقهاء إلى أنّ العلم واجب تهيُّئيّ مقدِّميّ، بمعنى أنّ وجوبه ناشىء من كونه يهيى الإنسان ويعدّه لإنجاز الوظائف الملقاة على عاتقه، وبما أنّ وظائف الإنسان المسلم لا تقتصر على الصلاة والصوم والحجّ وما شاكل ذلك، بل هناك أعمال هي بحكم الفرائض من حيث الوجوب، كالطبابة مثلاً، فإنّها واجب كفائيّ، وهكذا كلّ ما يحتاجه المجتمع الإسلاميّ من الأعمال الّتي لا تستقيم الحياة إلّا بها، كالزراعة والصناعة والتجارة، هي واجبات كفائيّة بمعنى انه يكفى ان يزاولها من الناس ما يسد بها حاجة المجتمع اليها ، اي ليست واجب عيني اي يجب على كل افراد المجتمع مزاولة نفس المهنة ، إذ بكلّ هذه الأمور يتخلّص المجتمع الإسلامي من الخضوع للملل الاستكبارية والمهيمنة ويتكامل بين افراده باكتفائه الذاتي ، ويعيش الاستقلال والحرّيّة والعزّة في اقتصاده وسياسته وأمنه وكلّ شؤون حياته، وهذا ما يريده الإسلام للمجتمع الإسلاميّ، وبما أنّ هذه الأعمال تبنى على علومٍ وفنونٍ لا يمكن تحصيلها إلاّ بالتعلّم والدراسة كان تعلّم هذه العلوم واجباً تبعاً لوجوب تلك الأعمال .
تبيَّن أنّ العلم المطلوب تحصيله في الإسلام أعمّ من العلم الدينيّ، بل يمكنني القول بمل‏ء الأفواه أنّ العلم الدينيّ لا ينحصر في علم العقائد والفقه والأخلاق ونحوها، بل العلم الدينيّ هو كلّ علمٍ ينفع الناس، ويرقى بالمجتمع إلى درجة الاكتفاء الذاتي في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والأمن، فلا يحتاج المسلمون إلى استجداء تلك المهارات من هنا وهناك، ولا يضطرّون لتقديم كرامتهم وعزّتهم وحرّيّتهم ثمناً لما تقدّمه لهم الملل الاخرى من الخبرات في المجالات العلميّة المختلفة.

ـ الفصل الرابع
أخيرا : هل نظرة الاسلام لتعلم المرأة كما هي للرجل :
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض الناس يقفون في وجه تعلّم المرأة، معلّلين موقفهم هذا بأنّ أجواء المدارس لا تخلو من الفساد والانحراف، فكيف نأمن على بناتنا فيها؟! ( الفكر الوهابي وباقي الافكار المشابهة )
والجواب: لا شكّ في أنّ الإسلام لم يميّز بين الرجل والمرأة من حيث وجوب طلب العلم، فكما أنّ طلب العلم واجب على الرجل هو كذلك على المرأة، وما ورد من التعبير بأنّ "طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ" ما هو إلاّ تغليب لعنصر الذكورة، كما هو معروف في اللغة، وإلاّ فإنّ هناك الكثير من الأحكام الشرعيّة قد جاء في أدلّتها التعبير بالرجل أو المسلم فهل يحتمل اختصاصها بالرجل دون المرأة؟! ولا شكّ أيضاً في أنّ بعض الأعمال الحياتيّة لا يمكن أن تقوم بها على وجهها الصحيح إلّا النساء، بل جعل الإسلام بعض الأعمال من مختصّات النساء، ولم يسمح للرجال بممارستها إلاّ في حالات الضرورة القصوى، كالتوليد ونحوه، وهذا يعني أنّ الإسلام قد أجاز للمرأة، بل أوجب عليها، تعلّم المبادئ الأساسيّة والعلوم الضروريّة للقيام بهذه الأعمال، وهذا لا يكون إلّا بدخول النساء إلى ساحات العلم والمعرفة.
نعم يجب علينا نحن المسلمون عامّةً أن نوفّر المدرسة والجامعة الملائمة أخلاقيّاً وتربويّاً لدراسة بناتنا فيها، فبدلاً من أن نعترض على تعلّم المرأة هروباً من أداء الواجب علينا، لا بدّ لنا أن نبذل كلّ جهدٍ في سبيل تأمين المكان المناسب لدراسة الفتاة بعيداً عن كلّ خطرٍ أخلاقيّ‏ٍ وتربويّ‏ٍ، وعلى الفتيات في هذا المجال أن يلتحقن بالفروع الدراسيّة المناسبة لشأنهنّ واستعدادهنّ، والمتوافقة مع حاجات المجتمع لهنّ.

ـ من الشخصيات التي اخترتها كعينة في موضوع  بحثي حيث ثبت لديها تألف الدين مع العلم واستطاعت أن تجمع التدين مع العلم ليتكاملا منهجيا وسلوكيا وأداءا :

اولا – سماحة الشيخ الدكتور الشيخ أكرم بركات
الشيخ أكرم بركات (1968)، عالم دين شيعي، ناشط في مجال التبليغ والإرشاد وله العديد من المؤلفات والكتب والمحاضرات المنشورة .
تلقّى علومه الأكاديمية في بيروت، وقبل إكمال دراسته الجامعية توجّه نحو دراسة العلوم الدينية، فأخذ قسما منها في لبنان قبل التوجه إلى حوزة قم حيث حضر على عدد من أساتذتها في دروس السطوح العليا وبحوث الخارج.
بعد فترة من عودته إلى لبنان عاد ليتابع دراسته الجامعية إلى جانب عمله الديني والتبليغي والإرشادي، فانتسب إلى الجامعة الإسلامية في لبنان وأنهى دراسته فيها بنيله درجة الدكتوراة عن دراسته حول (الكفر والتكفير : ضوابط الإسلام وتطبيقات المسلمين).
تولّى العديد من المهام الثقافية والتبليغية والإرشادية في لبنان منها:
•المشرف العام على مجمع القائم في الحي الأبيض في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث يضم مكتبة عامة وقاعة للمناسبات ومسجدا وحسينية. وظل إمام لجماعة المسجد فيه لفترة طويلة.
•ترأس جمعية مراكز الإمام الخميني (قدس سره) الثقافية في لبنان، وتولّى إدارتها المركزيّة.
•من مؤسسي جمعية المعارف الإسلامية، إضافة إلى كونه رئيسا لها.
•يدرّس في جامعة المصطفى (صلى الله عليه وآله) العالمية في لبنان منذ عام 1998م، ويتولّى إدارة لجنة الأصول والفقه فيها.
•يدرّس في الجامعة اللبنانية مادة الفلسفة.
•يدرّس في الجامعة اللبنانية في كليتي الحقوق والدراسات الإسلامية.

ثانيا – سماحة الشيخ الدكتور صادق النابلسي  
من مواليد عام 1975، والدُه سماحة آية الله العلامة الشيخ عفيف النابلسي.
قلّده العمامة سماحة السيد حسن نصرالله عام 2003.
 أتم دراسته في بيروت، وتخرّج في الجامعة اللبنانية فرع العلوم السياسية، وأنهى دراسات الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية في الجامعة الإسلامية ببيروت.
 نشر الكثير من البحوث والمقالات في المجلات والصحف اللبنانية والعربية، كما شارك في مؤتمرات عدَّة داخل لبنان وخارجه.
 أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية الدولية.

ثالثا – سماحة السيد الدكتور جعفر فضل الله
السيد جعفر ابن السيد محمد حسين ابن السيد عبد الرؤوف فضل الله، عالم دين شيعي لبناني، من مواليد 24/6/1974 م.
•درس العلوم الحوزوية الدينية في المعهد الشرعي الإسلامي، منذ 1993 وحتى 2001، ثم حضر على والده دروس البحث الخارج منذ 2001 وحتى 2010 م.
•حاز عام 2015 م على شهادة الدكتوراه في علم اجتماع المعرفة والثقافة بدرجة جيد جداً من الجامعة اللبنانية في بيروت، وكانت رسالته بعنوان: "صورة الآخر المذهبي في الخطاب الفقهي للفقهاء المسلمين... ابن تيميّة والعلاّمة الحلّي نموذجاً".
•باحث إسلامي وأستاذ محاضر في الفقه وأصوله في المعهد الشرعي الإسلامي في بيروت.
•عضو هيئة أمناء مؤسسات المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله.
•له عشرات المقالات والأبحاث والمحاضرات والندوات واللقاءات في شتى العلوم والمعارف الإسلامية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى بعض الكتب المخطوطة.
•شارك في العديد من المؤتمرات والندوات الفكرية والفقهية والوحدوية في لبنان والخارج.
•يشارك في برامج عديدة عبر أثير إذاعة البشائر.
•ومن خطباء المنبر الحسيني.
•استاذ محاضر في الجامعة اللبنانية ( معهد العلوم الاجتماعية ) .
ـ المقابلة مع عالم دين
ـ نوع المقابلة : اخترت من انواع المقابلة
أ‌.الفردية بسبب الانسجام والتلاقي الفكري مع سماحة الشيخ أكرم بركات .
ب‌.المركزة لان الموضوع هو الاساس و سماحته من ذو الخبرة الكبيرة في موضوع البحث .
ـ في مخطط المقابلة :
1.عنوان البحث.
2.ارشادات المقابلة.
3.وضعت الاشكالية والفرضيات نفس اسئلة المقابلة .
ـ اسئلة المقابلة :
1.هل العلم والدِّين: متخالفان أم متآلفان؟
2.هل هناك نظرة فكرية علمية واحدة حول العلم والدين عند الطوائف الاسلامية ؟
3.هل هناك علم ديني وعلم غير ديني وعلى أيّ علم يحثّ الإسلامُ ؟
4.ماهي نظرة الاسلام لتعلم المرأة ؟
ـ المقابلة :
بعد التواصل مع سماحة الشيخ اكرم بركات ابلغني بأنه خضع لعملية جراحية في الظهر ( ديسك ) ولايستطيع عمل مقابلة ولكن يمكن الاستفادة من محاضرة له تتضمن الاجوبة على اسئلتي التي عرضتها عليه مما حول المقابلة التي كنت انوي القيام بها معه ( الفردية والمركزة ) الى هاتفية مختصرة ، وهذا نص المحاضرة :
كيف نبني مجتمعاً أرقى؟  

قــــال الله تعــــالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (سورة المجادلة، الآية 11).
رفع الله تعالى منزلة العلم، فكانت أول آية "اقْرَأْ" (سورة العلق، الآية 1)، ووصف الله تعالى نفسه بالأكرم، لأنه علَّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، وتتالت الآيات تعطي قدسيةً للحرف "ن" ، ويقسم الله فيها بالقلم وما يسطرون، وفي الآية السابقة جعل الله تعالى الرفعة والمكانة العظيمة لمن تحقق فيه عنوانان: الإيمان والعلم.
من هنا رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بداية دعوته شعار إلزامية التعلُّم، وأن العلم ليس من باب الأدب المستحب، بل هو من الفرائض، فقد اشتهر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة (الحر العاملي، الفوائد الطوسيّة، تحقيق مهدي اللازوردي ومحمد درودي، (لا، ط)، قم، المطبعة العلمية، 1403 هـ، ص 531. ) .
وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل فداء الأسرى تعليم الأميين القراءة والكتابة، وجعل مهر المرأة تعليمها آيات القرآن الكريم، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام مكانة العلم وآثاره، فتحدَّثوا عن آثار دنيوية وأخروية.
الآثار الأخروية
نكتفي منها بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار، فلينظر إلى المتعلّمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلّم يختلف ( اي يتردد ) إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة، وبنى الله بكل قدم مدينة في الجنة، ويمشي على الأرض، وهي تستغفر له، ويمسي ويصبح مغفورًا له، وشهدت الملائكة أنّهم عتقاء الله من النار" (المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج1، ص184.).
الآثار الدنيوية
يمكن مقاربتها من خلال الحديث الوارد عن الإمام علي عليه السلام: "يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق" (المصدر السابق، ص188).
وفي حديث آخر بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الضمانة لمن يفكّر في السلبية الدنيويّة للعلم، باعتبار أنّ طلب العلم يأخذ من وقت الإنسان، وبالتالي قد يؤثّر على رزقه، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من غدا في طلب العلم أظلّت عليه الملائكة، وبورك له في معيشته، ولم ينقص من رزقه" (المصدر السابق، ص 184).
إرشادات في التفاعل مع العلم
أرشد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام إلى الخطوات التي تُثبِّت العلم وتفعّله، فقد ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن حقّ العلم، فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم: "الإنصات له"، قيل له: ثم مه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الاستماع له"، قيل له: ثم مه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الحفظ له"، قيل له: ثم مه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ثم العمل به"، قيل له: ثم مه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ثم نشره" ( مه أتت هنا بمهنى "ماذا" )(المصدر السابق، ج2، 28.).
وإضافة إلى:
1- الإنصات،
2- والاستماع،
3- والحفظ،
4- والعمل،
5- والنشر،
أكّد صلى الله عليه وآله وسلم على:
6- الكتابة
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "قيّدوا العلم". قيل: وما تقييده؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم:"كتابته" (المصدر السابق، ص152).
وفي مقام تشجيع كتابة العلم ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن المؤمن إذا مات، وترك ورقة واحدة عليها علم، كانت الورقة سترًا فيما بينه وبين النار، وأعطاه الله تعالى بكل حرف مدينة أوسع من الدنيا وما فيها" (الشهيد الثاني، منية المريد، تحقيق رضا المختاري، ط1، مكتب الإعلام الإسلامي، 1409هـ، ص341).
7- المذاكرة
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه، واقتبسوه من أهله، فإنّ تعليمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح" (المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج1، ص171).
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "رحم الله عبدًا أحيى العلم"، فقيل: وما احياؤه؟ قال عليه السلام: "أن يذاكر به أهل الدين والورع" (المصدر السابق، ج1، ص206).
8- السؤال
عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنما يهلك الناس، لأنّهم لا يسألون" (المصدر السابق، ج1، 198).
وعنه عليه السلام: "العلم خزائن، والمفاتيح السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فإنّه يؤجر في العلم أربعة: السائل، والمتكلم، والمستمع، والمحبّ لهم" (المصدر السابق، ج1، ص196).
9- مجالسة العلماء
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "...من جلس عند العالم ساعة، ناداه الملك: جلست إلى عبدي، وعزتي وجلالي، لأسكننَّك الجنّة معه، ولا أبالي" (الشهيد الثاني، زين الدين، منية المريد، ص341).
العلم المطلوب
أيّ علمٍ هو صاحب هذه المكانة؟ وأي علمٍ هذا الذي اهتم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام بالإرشاد إلى الخطوات التفصيلية لأجل تثبيته وتفعيله؟
قال الإمام الخميني قدس سره: "إذا ظننّا أن العلم، مهما كان، سببٌ للسعادة، فنحن على خطأ".
انطلق الإمام قدس سره في قوله هذا من الواقع الذي أضاءت عليه نصوص الإسلام العزيز التي تحدّث عن الشروط الأساسية للعلم صاحب المنزلة، وهي:
1- أن يكون العلم نافعًا
في وصية الخضر عليه السلام للنبي موسى عليه السلام: "واعلم أن قلبك وعاء، فانظر ماذا تحشو وعاءك" (المصدر السابق، ص 140).
ومن لطيف ما ورد في هذا الأمر قصة ذاك الرجل الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، وقد أحاط به جماعة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما هذا؟" فقيل: علاّمة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "وما العلامة؟" فقالوا له:أعلم الناس بأنساب العرب، ووقائعها، وأيّام الجاهلية والأشعار العربية، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من عمله". ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سُنَّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل" (المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج1، 32.).
إنّ هذا الحديث يضيء على العلوم المطلوبة من كلّ فرد، يضاف إليها العلوم المطلوبة على نحو الكفاية، بحيث يجب على بعض أفراد المجتمع أن يخوضوا غمارها، وإلا يأثم الجميع، وهذه العلوم هي التي يحتاج إليها المجتمع حاجة ضرورية، ويرتقي من خلالها الناس، وهي تدخل في دائرة العلوم الواجبة التي يتقرّب الطالب بدراستها إلى الله تعالى، كعلم الطبّ والهندسة وما شابه. وهنا يأتي دور توجّه الطلاب وتوجيههم نحو تلك العلوم، كي تحقّق الغرض، وتبتعد عن حصول تخمة في بعض الاختصاصات، وفقرٍ في بعضها الآخر.
2- أن يكون العلم لأجل العمل
في وصية الخضر عليه السلام للنبيّ موسى عليه السلام: "يا موسى، تعلّم ما تعلم لتعمل به، ولا تعلّمه لِتحدّث به، فيكون عليه بوره، ويكون على غيره نوره" (الشهيد الثاني، زين الدين، منية المريد، ص 141).
قال الإمام الخميني قدس سره: "العلم والالتزام بمنزلة الجناحين اللذين يمكِّنان الإنسان مجتمعين من الوصول إلى مدارج الكمال".
وكلّما كانت الغاية أسمى، كلّما كانت منزلة العلم أعلى وأرقى.
من هنا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من جاءه الموت، وهو يطلب العلم، ليحيي به الإسلام، كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة" (المصدر السابق، ج1، ص184).
وإحياء الإسلام لا يكون فقط بالعلوم الدينية الاختصاصيّة، بل قد يحصل من خلال التطوير الإنتاجي للعلم الذي يجعل إسلام المجتمع غير مقيّد بقيود الظلم، ويجعل المجتمع الإسلامي في مقام جذب الآخرين إليه.
وما يحصل في إيران الإسلام هو مصداق لهذا الإحياء، وقد عبّر سماحة الإمام الخامنئي دام ظله عن هذه الحقيقة في قضية تخصيب اليورانيوم حينما قال: "بعد سنوات سوف ينضب النفط، وحينها ستكون الدول المستقلة غير التابعة منحصرة بالتي خصّبت اليورانيوم، أمَّا غيرها فإنّه سيتبع لها، لذا فإنّنا نصرّ على تخصيب اليورانيوم حتى لا تلعننا الأجيال القادمة".
3- أن ينطلق العلم من التقوى
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من تعلّم علمًا من علم الآخرة يريد به عرضاً من عرض الدينا لم يجد ريح الجنة" (المصدر السابق، ج2، ص 33).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما ازداد عبد علمًا فازداد في الدنيا رغبة إلا ازداد من الله بعدًا" (المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص38.) .

قال الشاعر:
لو كان العلم من دون التقى شرفًا     لكان أشرف خلق الله إبليس
إنّ من يحقّق شروط العلم هذه سوف يصل إلى حقيقةٍ يعيشها الإنسان، ولكن يصعب عليه أن ينقلها في قوالب البراهين والأدلّة، وهي أنَّ الله تعالى هو الذي يفتح له أبواب العلم المغلقة ليرتقي بها في مدارج الكمال.
من هنا حينما حدّثنا الله تعالى عن رفعة الإنسان في الآية الكريمة: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (سورة المجادلة، الآية 11. )، ذكر عنوانين هما الإيمان والعلم، لكنه عزّ وجل قال في العنوان الأول: "آمنوا"، لأن الإيمان هو فعل ينطلق من الإنسان، لكنه في العنوان الثاني لم يقل "علموا"، بل قال "أوتوا العلم"، لأنَّ الله تعالى هو الذي يفتح للإنسان أبواب العلوم والمعارف فيؤتيه ما لم يعلم.

1.الملاحظة :
بدأت ملاحظتي لموضوع التدين وطلب العلم عند الناس في مجتمعي منذ اربع سنوات ، حيث كنت ومازلت اتردد الى مجمع القائم الثقافي للصلاة وحضور المحاضرات الثقافية الدينية الاخلاقية التي يلقيها امام المجمع والمسؤول عنه الشيخ أكرم بركات ، حيث كان يشهد محاضراته الذكور والاناث كل في على حدى ، وكنت الاحظ الاعمار من 12 سنة الى ما فوق ال75 سنة، التي في غالبها تدعوا الى مواضبع في التربية والسلوك وطلب العلوم ومواكبة التطور العلمي من منظور الدين كالواجب الديني ، حتى لا يكون المجتمع فريسة الجهل والظلام بينما العالم يشهد تطور للعلوم والتكنولوجيا بشكل متسارع ، ومن خلال طبيعة عملي كان لي احتكاك مباشر مع كثير من الافراد في مجتمعي فلاحظت ازدياد ظاهرة تردد الناس الى المجمع ، وتطور الامر الى حد اصبح معظم الشباب والرجال من عمر ثلاثون سنة الى الخمسون ممن لم يكملوا تعليمهم الاكاديمي من التوجه الى تعليمهم ان كان في دورات محو امية، او دورات ثقافية تعادل الشهادة المتوسطة، وممن اكملوا المتوسطة التوجه الى المعاهد الفنية وبعضهم نال الشهادة الثانوية بالانتساب وأخرون ممن يحملون الشهادة الثانوية وتأخر بهم العمر دخلوا الى الجامعات ، وكنت ممن تأثر بهذه المحاضرات ومع اني احمل شهادة في الادارة والتخطيط الاداري الاستراتيجي وشهادة اخرى كمدرب اداري صادرتين عن معهد الجمعية اللبنانية للعلوم الادارية ، الا أني صممت على اكمال دراستي الجامعية في معهد العلوم الاجتماعية لما ينمي لدي القدرة على فهم المجتمع والمجتمعات الاخرى واظهار القواسم المشتركة بيننا لايجاد بيئة للحوار والتفاهم بقبول الاخر كما هو في مجتمعاتنا اللبنانية ، كما واني اعرف بعض الافراد ممن نالوا شهادة الدكتوراة من الجامعة اللبنانية بعدما كانوا قد تركوا التحصيل العلمي ثم رجعوا لمتابعة تعليمهم وهم من المتديين من أمثال الدكتور حسين ابو رضا ، الدكتور حسين رحال ، الدكتور عبد الله قصير وغيرهم كثر.
وقد زادت ملاحظتي لهذه الظاهرة عند انتسابي لمعهد العلوم الاجتماعية الفرع الاول ، حيث التقيت وتعرفت على كثير من الزملاء المتدينين الذين قرروا متابعة تعليمهم لعدة اسباب منها حث الدين على طلب العلم، من هنا بدأت أسأل نفسي :
1.هل التدين والدين يحفزا الانسان المتدين على السعي للتبحر في شتى العلوم النافعة، تزكية للنفس وقدرة اكبرعلى فهم الذات ومن ثم مجتمعه والمجتمعات الاخرى في محيطه ليصل الى التفكير بمنهج علمي في تفسير الظواهر من حوله والتي بتفسيراتها علميا لاتناقض جوهر الدين ؟
2.أم ان التدين هو الانصراف الى العبادة واعتزال الناس والمجتمع والابتعاد عن ظواهر المجتمع وهمومه ، بمعنى ان التدين يبعد الفرد عن العلوم النافعة للانسانية ويكتفي بمعرفة الاله ؟
3.وهل من يريد معرفة الرب حق المعرفة يجب ان يبتعد عن العلوم النافعة ، ام يتعلم شتى العلوم النافعة ما استطاع اليها سبيلا ؟
4.ايهما تمثل ارادة الله ؟
هنا ظلت اية من القرأن الكريم في بالي " (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).سورة هود أية 28 وكذلك قول الله تعالى " ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (سورة البقرة، الآية:164) وأيات كثيرة واحاديث كثيرة تحث على طلب العلم لمعرفة الله حق المعرفة ، وهل يعرف ( بضم الياء ) الخالق، والمخترع، والعبقري، الا مما اوجده وخلقه.
لهذين الاتجاهين في المجتمع مؤيدين ومعارضين (في الاسئلة السابقة )، لذا فرضت اشكالية العلم والدين متعارضان أم متألفان ، وبناء عليه اثبت بشكل نسبي اكبرعبر البحث العلمي النظري المتقدم ان العلم والدين متلازمان .
ولكن هذا الاثبات النسبي من خلال البحث النظري يبقى ناقص دون استكماله عبر المنهجية العلمية وادواتها من الملاحظة وقد كتبت ما لاحظته أعلاه ،وتبقى الاداة الثانية وهي المقابلة .

•استنتاجات الملاحظة :
ـ المحاضرات التربوية السلوكية والاخلاقية بلغة مبسطة تناسب كافة المستويات الادراكية والفئات العمرية ذات تأثير نفسي قوي على المتلقين .
ـ دمج هذه المحاضرات ببذور الوعي الجمعي والادراكي من باب الحرص على المجتمع والدين والدفع باتجاه طلب العلم اوجد الحافز لمتابعة التعلم .
ـ دمج اساليب الحرب الناعمة ومحاولات الاعداء تغيير ثقافة مجتمعاتنا ، اوجد الحافز على طلب العلوم مخافة على الاسرة والمجتمع .
ـ تبيان فائدة العلم في تلك المحاضرات لتحسين الوضع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي للنهوض بالاسرة والمجتمع .
ـ تبيان ارادة الرب وتنفيذ اوامره بالحث على العلم لمعرفة الخالق العظيم .
ـ تلبية حاجة المجتمع للمتعلمين في عصر التطور والعلم .
ـ وجود بعض طلاب العلم في الجامعة الذين يفصلون مابين التدين والعلم مع قولهم بأن لكل مفاهيمه ومنهجيته ووظائفه فهما ليسا متلازمين ، بحيث ان العلم سيتعارض مع تطبيق مبادئ وقواعد العلوم الطبيعية والتي تبنى على المنطق والمنهج العلمي فقط .
ـ وجود قلة من الطلاب الذين لا يؤمنون اصلا بوجود الدين ويعتبرون ان الدين ما هو الا شيئ اوجده الانسان القديم لتفسير الظواهر الخارقة للطبيعة وتبرير اي عمل يؤدي لتنفيذ المصالح الشخصية ، وان العلم هو الدين الاصح لانه بني على الملموس الذي يدركه العقل علما ان اصحاب هذا القول يقدسون اشخاص يعتبروهم ملهمين لفكرهم  وانا اعتبر هذا التقديس نوع من انواع التدين بدين .
مما تقدم اجد ان تأثير التدين مهما كان الدين واتباعه بشتى انواعه ( دين سماوي ، دين وثني ، علماني ، ام الحادي ) واضح وجلي في متابعة التحصيل العلمي والاكاديمي ،ويشكل حافز قوي لبلوغ المتدين درجة من الكمال تمكنه من ان يكون ذا شأنية عند من يعتقد به وفي مجتمعه ، حتى عند العلمانيين الذين يؤمنون بفصل الدين عن العلم ، وكذلك القلة من طلبة العلوم الذين ينفون الدين اصلا ويعتبرون ان العلم هو اصل الموجودات سابقا ولاحقا .

ـ الخاتمة  :
ـ لابد في النهاية ان تكون خاتمة هذا البحث من شقين الشق الديني ، والشق العلمي .
أولا الشق الديني :
بعض الناس يخافون من انتشار العلم بين الناس، لأنّ ذلك سيقضي على منافعهم الذاتيّة الّتي أسسّوها على استغلال جهل الناس وبساطتهم، فيقولون: لو صار المجتمع متعلّماً، مع ما يمارسه بعض الناس من الفساد، لتعمّق الفساد، فالأُمّيّ الّذي يسرق القليل اليوم لن يكتفي به غداً وقد صار متعلّماً يعرف كيف يصل إلى أهدافه بيسرٍ وسهولةٍ.
والجواب: إنّ العلم وحده لا يضمن السعادة للناس، بل لا بدّ أن يقترن بالإيمان والالتزام، وحينها يكون علماً نافعاً، كما أنّ الصورة الّتي رسموها يمكن قراءتها بشكلٍ آخر، فكما أنّ اللصّ المتعلّم يختار ما يسرق بدقّة وعناية كذلك صاحب البيت المتعلّم يعرف كيف يحمي بيته من اللصوص، وكما أنّ العلم نور بيد اللصّ يبصّره طريقه كذلك هو نور بيد صاحب البيت يعرف به مكان اللصّ ويفضحه. فالعلم نور، إذا وجد مَنْ يستخدمه في الشرّ فلن يعدم من يستخدمه في الخير. أمّا الجهل فهو وبال محض، يستغلّه الشرّير لممارسة شروره، ويقف حائلاً بين المرء ومجابهة ما يُحاك له من المكائد والمؤامرات.
فإذا أردنا أن يكون لنا دين صحيح، وخلاص من الفقر، ومجتمع راقٍ ولائق، علينا أن ننهض في حركةٍ علميّةٍ واحدةٍ تُخرجنا ممّا أصابنا من الجهل والتخلُّف، وإلاّ سنكون قد ساهمنا مريدين أو غير مريدين في تدمير الإسلام والمجتمع الإسلاميّ، وفي منح الآخرين السيطرة والسلطة على الواقع الإسلاميّ كلّه.
انعكاسات التخلّي عن مكافحة الجهل
في كلّ البلدان الّتي تعاني من الجهل والفقر والتخلُّف نجد حضوراً قويّاً لمجموعاتٍ شاذة فكريا ذات عقائد منحرفة مدعومة ماديا ولوجستيا، قد قطعت آلاف الأميال للوصول إلى تلك البقاع المحرومة من الأرض، وتحمّلت العناء والمرارة، وكلّ ذلك في سبيل نشر افكارها وعقائدها في لباس الدين والتقوى وما يزعمون انه جهاد في تلك البلاد.
فهم سوف يتمكّنون من مل‏ء قلوب وعقول المساكين والفقراء والبُسَطاء من الناس هناك بما يريدون، وهذا أمر طبيعيّ، فالإنسان رهين الإحسان، ومَنْ سيُنقذ إنساناً من الجهل والفقر والتعاسة سيمتلك قلبه وعقله وروحه وفكره حتماً، فبماذا سنعتذر إلى الله ورسوله إذا ما ارتدّ هؤلاء الفقراء عن الطريق القويم وانحرفوا نحو العقائد الهدامة، وبماذا سنجيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو سألنا هل عملتم بما قلته لكم من أحاديث في طلب العلم؟
لذلك علينا أن نستنفر كلّ طاقاتنا، ونبذل جهدنا لنشر العلم وإخراج الناس ممّا هم فيه من الفقر والجهل والشقاء، وحينها لن تجد تلك الجماعات مكاناً لها في عقولٍ صارت قادرةً على التمييز بين صديقها وعدوّها.
حين يؤمن الناس حقّاً بأنّ العلم والتعليم فريضة إلهيّة، كالصلاة والصوم ونحوهما، ويمارسون ذلك كفريضةٍ سنشهد المعجزات في حركة النهضة العلميّة.
ثانيا الشق العلمي :
من خلال تحليل نموذجي المقابلة التي أجريت مع عينات من صرحين من صروح العلم مجمع ديني، وجامعة علوم طبيعية مدنية احتوت فيها طلاب من جميع الاتجاهات الثقافية ،والمذاهب الدينية والطائفية، والسياسية ، وتعارفوا وعملوا مع بعض ضمن حلقات دراسية وابحاث استنتج ما يلي :
ان المتدين بغض النظر عن دينه وطائفته ، والعلماني المؤمن بالعلمانية ، والشيوعي المؤمن بالاشتراكية الماركسية ، كلهم لديهم ايمان بشيئ يدعى المقدس وينتهون عن شيئ يدعى المدنس ، والذي هو ضد مقدسهم.
فالشيوعي لايجد في اي دين سماوي او غيره  ما يؤثر عليه وعلى علمه ، او يتأثر به، ولكن مقدسه يؤثر عليه ويعتقد بما يقوله له .
والعلماني كذلك فالمقدس عنده العلم والمنطق فهو اذا يعتقد بدين العلم وهو بالتالي مقدسه.
ومن المبحوثين الذين قابلتهم الغالبية العظمى منهم متدينين ، وقد اجمعوا على ان دينهم يأمرهم بالتعلم وطلب العلم ، لأن الجهل مذموم بتعاليم الدين ، وأكدوا على مصطلحات لا تقبل التأويل بتلازم وتعاضد وتلاصق الدين والعلم كخطين متوازيين لايفترقان ، وان الدين والعلم متألفان لا متنافران .
هنا نقف بكل تمعن وتدبر فيما قال اميل دوكهايم :
"فالدين هو نظام موحَّد من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء مقدسة، أي أشياءً يجري عزلها وتحاط بشتى أنواع التحريم، وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين بها في جماعة أخلاقية."
دوركهايم جعل من الدين بنية اجتماعية أخلاقية وظيفية يجمع يتماسك بها المجتمع .
وهنا اسمح لنفسي بأن اقول أن الدين أكثر من وظيفة بحسب البحث السابق نظريا وتطبقيا، فهو منهاج وخريطة حياة اجتماعية ،ثقافية ،اقتصادية، سياسية ،وجد لتحقيق السعادة للبشرية ،فأوامر الدين ونواهيه ان امتثل لها الافراد حققوا سعادتهم وبالتالي سعادة مجتماعتهم من خلاله بالتطور العلمي والتكنولوجي ، والاقتصادي والثقافي والاجتماعي ، ولكن بشرط وهو السير على درب الدين الصحيح التبادل الثقافي والحوار البناء وتقبل الاخر ونصح والتأخي ، وكما قال أمير المؤمنين علي أبن ابي طالب عليه السلام : "المرء صنفان ، اما اخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق " . والابتعاد عن دروب الظلام والجهل والحقد والتكفير والكراهية التي تلبس لبوس الدين لتزرع الدمار والتخلف والجهل والتعصب.
وقد ثبت بنسبة كبيرة ان التدين واتباع دين معين ، هو فطرة موجود داخل الانسان وتبرز من خلال البحث عن الحق والحقيقة ، ولكن اتجاهات نفس الانسان تجعله يعتقد بهذا المعتقد أو ذاك ، ليجعل منه مقدسه وما يخالفه مدنسه، واذا نظرنا كذلك لكل مقدس ومدنس عند اي من الجماعات نرى بطريق أو بأخر انها توصي بتعلم علم معين بغض النظر عن ماهية العلم الذي توصي به ( علم ديني وطبيعي / علم ديني فقط / سحر / شعوذة/ علم طبيعي فقط ...ألخ ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ المصادر :
ـ القران الكريم ( موضحا عند كل موضع ) .
ـ احاديث نبوية ( موضحا عند كل موضع ) .
ـ احاديث عن الائمة عليهم السلام ( موضحا عند كل موضع ) .
ـ  دروس من فكر الشهيد محمد باقر الصدر "ق" ، مقدمة كتاب عناصر المجتمع ( شبكة المعارف الاسلامية  ).
ـ بحار الانوار 70/128 .
ـ كتاب نهج الفصاحة ص413 ط1955
ـ كتاب الاسلام والطب ص 263
ـ كتاب وسائل الشيعة، ج 27، ص 26، باب من أبواب صفات القاضي، ج 16.
ـ كتاب راجع لسان العرب، ج 11، ص 159
ـ مجلدات بحار الأنوار، ج 2، ص 32، باب 9 من كتاب العلم، ح 20  
ـ كتاب كشف الخفاء للعجلوني، ج 2، ص 44
ـ كتاب من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 380
ـ كتاب أمالي الطوسي، 625
ـ نهج البلاغة، ج 4، قسم الحِكَم: الحكمة 80 .
ـ الشهيد الثاني، منية المريد، تحقيق رضا المختاري، ط1، مكتب الإعلام الإسلامي، 1409هـ، ص341
ـ الشهيد الثاني، زين الدين، منية المريد، ص341
ـ الشهيد الثاني، زين الدين، منية المريد، ص 141
ـ  الفوائد الطوسيّة، تحقيق مهدي اللازوردي ومحمد درودي، (لا، ط)، قم، المطبعة العلمية، 1403 هـ، ص 531.
ـ https://almaaref.org/maarefdetails.php?id=12436&subcatid=2032&cid=502&supcat=47 محاضرة سماحة الشيخ أكرم بركات تاريخ الدخول 28/2/2020 .
ـ المقدس والمدنس ، فهد الاحمري / المقدمة
ـ الأشكال الأولية للحياة الدينية أميل دوركهايم  (1915)، الذي نشر أولاً عام (1912) في فرنسا بعنوان Les Formes elementaires de la vie religieuse تاريخ الدخول 25/2/2020
ـ الاشكال الاولية للحياة دوركهايم 1915: 47
ـ الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية"(the Protestante Ethic and the spirit capitalism)، ماكس فيبر تاريخ الدخول 20/2/2020
ـ الماركسية والدين / الناشر مجلة شرارة تاريخ الدخول 20/2/2020
ـ المقدمة، تحقيق: عبدالله محمد الدرويش، دار يعرب، 2004م، الجزء 1، ص201 وما بعدهاـ
ـ القران الكريم / سورة هود أية 28
ـ القران الكريم / سورة البقرة، الآية:164

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية