قراءات سياسية » استراتيجية البنتاغون 2018: اعترافٌ بتراجع التفوق العسكري الأمريكي!

محمد علي جعفر(*)

كشف البنتاغون يوم الجمعة المنصرم عن "استراتيجية الدفاع الوطنية" وهي الوثيقة الخاصة باستراتيجية وزارة الدفاع الأمريكية. تُعد هذه الاستراتيجية الأولى من نوعها منذ عام 2014 وصدرت بعد عام على تولي دونالد ترامب رئاسة الجمهورية. تُحدد الوثيقة أولويات وزارة الدفاع الأمريكية وتُعتبر مُلخصاً (من 11 صفحة) لوثيقة أخرى أكثر تفصيلاً يتمُّ دراستها في الكونغرس حالياً. تُلخِّص هذه الاستراتيجية رؤية المُخطِّط الأمريكي للقضايا المتعلقة بالجغرافيا السياسية والعسكرية والتهديدات التي تواجه الولايات المتحدة دولياً وبالتالي تُحدد الأولويات التي تراها واشنطن وهو ما يتعلق مباشرة بحجم الإنفاق الدفاعي المستقبلي للبنتاغون. فما هي التوجهات الاستراتيجية الأمريكية؟ وكيف يمكن تحليل دلالاتها؟

التوجهات الاستراتيجية الأمريكية
عدة نقاط تختصر الأولويات الأمريكية يمكن سردها في التالي:
أولاً: الانتقال من أولوية محاربة الإرهاب الى أولوية التنافس الدولي بين الدول الكبرى. حيث أعلنت الاستراتيجية عن أن المنافسة بين الدول العظمى تتصدر أولويات الاستراتيجية الأمريكية وليس الإرهاب. ووصفت الواقع الحالي بالواقع الذي يفرض على واشنطن الالتفات للتعاظم الصيني الروسي الذي بات يُهدد بشكل كبير المصالح الأمريكية.
ثانياً: اعتبار روسيا مصدر تهديد صلب. ففي الوقت الذي وضعت فيه أمريكا كلًّا من موسكو وبكين في خانة التهديد الأكبر على المصالح الأمريكية، اعترفت الاستراتيجية بالخطر الروسي واصفة روسيا بأنها "أجرأ" من الصين في استخدام القوة العسكرية أي الصلبة. مُشددة على الخطر الذي تُمثِّله سياسة روسيا لردع حلف الأطلسي. وسياساتها الهادفة لتغيير البنية السياسية والإقتصادية في أوروبا والشرق الأوسط لصالحها. كما عبّرت الاستراتيجية عن القلق الأمريكي المتزايد من تحديث روسيا لترسانتها النووية واستخدامها للحرب الذكية للتأثير على العمليات الديمقراطية في كل من جورجيا والقرم وشرق أوكرانيا.
ثالثاً: اعتبار الصين مصدر تهديد صلب مُتصاعد. فبحسب الاستراتيجية الأمريكية تُعتبر الصين طرفاً صاعداً في المجالات العسكرية والاقتصادية. وعلى الرغم من توسع بكين في بحر الصين الجنوبي فهي ما تزال تُدير مصالحها بشكل ناعم لا يستفز المصالح الأمريكية كما روسيا بحسب ما تُظهره الاستراتيجية. وهو ما نعتقد أنه يتعلق بواقع الجغرافيا السياسية والعسكرية الصينية والتي تختلف عن الواقع الجيوسياسي والجيوعسكري الروسي المجاور لدول حلف الناتو.
رابعاً: التعاطي مع ايران وكوريا الشمالية باعتبارهما تهديداً للاستقرار الإقليمي بل الدولي. حيث أبرزت الوثيقة ضرورة التركيز على تطوير الدفاعات الصاروخية الأمريكية ضد التهديد الذي تمثله بيونغ يانغ من خلال اسلحتها النووية والبيولوجية والكيماوية. في حين تُشكل إيران بالنسبة لأمريكا الطرف الأخطر فيما يتعلق بالوقوف بوجه المصالح الأمريكية في المنطقة والعالم. وهو ما شرحه وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس بعد إعلان الاستراتيجية واضعاً حزب الله (الطرف المحوري الذي تدعمه إيران) ضمن دائرة الاستهداف الأمريكي.
خامساً: تطوير التحالفات لا سيما تلك الهادفة الى محاربة الإرهاب. بالإضافة الى التركيز على تطوير العلاقة مع حلف الأطلسي عبر تقاسم المسؤوليات والأعباء للحفاظ على المصالح الأمنية والعسكرية المشتركة بهدف تحديث الاستراتيجية الدفاعية ومواجهة التراجع في التفوق العسكري الأمريكي أمام روسيا أو الصين. بالإضافة الى تأمين القدرة على ردع العدو في ثلاث مناطق رئيسية في العالم، قُسمت الى: المحيطين الهندي والهادي (شرق آسيا وجنوبها) - الشرق الأوسط (غرب آسيا) - وأوروبا.
 سادساً: تعزيز التنافس الاستراتيجي من خلال تأسيس قاعدة ابتكار للأمن القومي وتطوير وبناء قوة فتاكة أكثر. وهو ما يحتاج بحسب الاستراتيجية الى تحديث "قوة الثلاثي النووي الأمريكي" أي سلاح الطيران الاستراتيجي والصواريخ البالستية العابرة للقارات والغواصات الحاملة للأسلحة النووية بالإضافة الى تطوير البنية التحتية العسكرية من خلال التركيز على برامج تطوير الدفاع الصاروخي وقدرات الردع والاستثمار في مجالات الفضاء والمجال السيبراني (المجازي) والذكاء الاصطناعي وكافة الأنظمة الحيوية التي تحتاج إليها القوات المسلحة الأمريكية.

قراءة في الاستراتيجية ودلالاتها
عدة نتائج يمكن التوصُّل اليها من خلال تحليل الاستراتيجية الجديدة لوزارة الدفاع الأمريكية، نُشير إليها من خلال النقاط الثلاث التالية:
أولاً: تمثل هذه الاستراتيجية تحوُّلاً مفصلياً في التعاطي الأمريكي تجاه مسألة التنافس الدولي، يتمثَّل باللجوء الى القوة العسكرية لإعادة الاعتبار للتفوق العسكري الأمريكي، ما يعني إعطاء الأولوية لاحتمال نشوب مواجهة عسكرية.
ثانياً: إعلان التحوُّل من أولوية قتال الجماعات الإرهابية (الجماعات الإسلامية بحسب الاستراتيجية) الى أولوية مواجهة التعاظم الروسي والصيني. وهو ما يُخالف توجهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمنادي بتحسين العلاقات مع كل من روسيا والصين.
ثالثاً: التمييز العلني بين التهديدين الصيني والروسي. الأمر الذي تفرضه المصالح الأمريكية المتعلقة بواقع الجغرافيا السياسية والعسكرية للنفوذ الروسي المباشر واختلافه عن ذلك المتعلق بالنفوذ الصيني المباشر.
إذن، تعترف الاستراتيجية الأمريكية بتراجع التفوق العسكري الأمريكي بعد تعاظم روسيا والصين على حساب النفوذ الأمريكي. وهو ما أعادته الاستراتيجية للتراجع في الفجوة التقنية لناحية القوة بين كل من روسيا والصين من جهة وامريكا من جهة أخرى. في حين لم تُخف الاستراتيجية تقلُّص قوة النظام الاقتصادي العالمي نتيجة سياسات كل من الصين وروسيا الهادفة لاستبدال النظام الحر الطاغي منذ الحرب العالمية الثانية. كما عكست الوثيقة الجديدة التوجهات الاستراتيجية للأمن القومي والتي صدرت منذ شهرين فيما يخص المخاطر الإيرانية والكورية الشمالية وملف الإرهاب.
(*) باحث في إدارة المنظومات والشؤون الاستراتيجية

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية