مواد أخرى » إصلاح المتدينين.. كيف يكافح معهد محمد السادس الإرهاب؟

للوهلة الأولى، تبدو مدينة 'العرفان' المغربية كمكان غريب تدشَّن منه حرب أفكار عالمية ضد الراديكالية الإسلامية. فالضاحية الراقية التي تسكنها الطبقة الوسطى بمدينة الرباط مكتظة بالبنايات المكتبية التي يتعذر تمييزها عن بعضها والبنايات السكنية حديثة النشأة، في بادرة تنم عن الازدهار المتنامي الذي تشهده العاصمة المغربية.

لكن خلف هذه الأبنية يوجد معلم من نوع مختلف، حيث تبرز مؤسسة أكاديمية أقيمت بتكلفة ملايين الدولارات تضم أكاديمية التكوين الديني الرائدة في المملكة، المعروفة رسميًّا باسم معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات.

ويُعتبر المعهد الذي دُشِّن في عام 2015 مدرسة 'الاحتراف' المركزية للتعليم الديني في المغرب، حيث يحتضن البرامج التدريبية الرسمية الأخرى التي كانت تنفذ فيما سبق في مؤسسات متنوعة. 

لكن المعهد أيضًا أكثر من هذا بكثير، حيث يحتل هو وما يروج له من أفكار صميم المجهود المعقود لمكافحة الإرهاب الذي تعكف على تنفيذه المملكة المغربية منذ عقد ونصف العقد من الزمن، وهو المجهود الذي وضع الدولة الواقعة في شمال إفريقيا على الخطوط الأمامية لإصلاح المتدينين حتى لا ينخرطوا في أنشطة إرهابية .

إيلان بيرمان، نائب رئيس مجلس السياسة الخارجية الأمريكية في العاصمة واشنطن يلقي الضوء في تحليل  له نشره موقع دورية 'فورين أفيرز' الأمريكية في مايو 2016 حول تجربة المغرب في مكافحة الإرهاب عبر بناء منظومة فكرية للاعتدال الديني.

السبب والنتيجة:

يقول إيلان بيرمان، الذي عاد لتوه من بعثة لتقصي الحقائق في شمال إفريقيا استضافها المركز المغربي للدراسات الاستراتيجية في العاصمة المغربية الرباط: يمكن اقتفاء جذور استراتيجية مكافحة الإرهاب المعاصرة في المغرب إلى ربيع عام 2003، ففي مايو من ذلك العام، نفذ 14 انتحاريًّا سلسلة هجمات منسقة في مختلف أرجاء مدينة الدار البيضاء أسفرت عن مقتل 45 شخصًا وإصابة عشرات الآخرين. 

كانت التفجيرات والأشخاص الذين ارتكبوها (مواطنون مغربيون من المناطق العشوائية المحرومة بالمدينة) بمثابة صيحة إنذار للمملكة؛ فقد قدمت الدليل الملموس -خلافًا للاعتقاد السائد فيما بين النخب المغربية- على أن الأمة ليست بمنأى عن الراديكالية التي ابتُلي بها سائر بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وبحسب بيرمان، فقد جاءت استجابة الحكومة المغربية سريعة وحاسمة، إذ بحلول العام التالي، كانت المملكة قد نفذت إصلاحات شاملة في قانون الأسرة المعروف باسم مدونة الأسرة المغربية، في إطار الجهود الرامية إلى إقامة مجتمع لا يُقصي أحدًا. ومن بين الإنجازات الرمزية التي حققتها الوثيقة المعدلة النهوض بشدة بوضع المرأة، التي اكتسبت منزلة تتساوى مع منزلة الرجل، وصارت تتمتع بالقدرة على طلب الطلاق. كما صارت المرأة مساوية (تقريبًا) للرجل كلاعب في الحياة الدينية في المغرب، وهو دور لا يتصوره أحد في أي بلد آخر في الشرق الأوسط. 

لفت بيرمان النظر إلى أنه بداية منذ عام 2006، دشنت وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية المغربية برنامجًا تدريبيًّا تجريبيًّا للواعظات (اللائي يُعرفن باسم المرشدات)، وهو مصمم لضمان التعددية في تفسير الأحكام الدينية. واليوم يوجد المئات من هؤلاء المرشدات يعملن في عموم أرجاء المملكة. 

وتقدم هؤلاء المرشدات -شأنهن شأن الذكور- المشورة والإرشاد فيما يخص المشكلات الزوجية، ويساعدن في تفسير النصوص الدينية من بين العديد من الوظائف الأخرى، لكن -على النقيض من أقرانهن الذكور- لا يجوز لهن إمامة المصلين في صلاة الجمعة.

في الوقت نفسه، دشنت المملكة -مستغلة الشرعية الدينية التي يتمتع بها عاهلها عملية إصلاح واسعة للطريقة التي يتم بها تعليم الإسلام وتفسيره ونشره بين مواطنيها من خلال تعاون مؤسسات مثل وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية والرابطة المحمدية للعلماء (مجلس أعضاؤه من علماء الدين الذين يعيّنهم العاهل المغربي). 

فلكشف زيف التفسيرات الراديكالية للقرآن الكريم من النوع الذي تروج له شبكة أسامة بن لادن (وفي الآونة الأخيرة تنظيم 'داعش' الذي خرج من رحمها)، ابتكرت الوزارة والرابطة في المغرب قصصًا مصورة وألعابًا للأطفال الصغار، ودشنتا مبادرات لتعليم الأقران بين المراهقين، وأعادتا تشكيل المناهج الأكاديمية لمؤسسات التعليم الابتدائي بالمملكة.

الاقتراب من الذروة:

وأوضح إيان بيرمان أن هذه الجهود دخلت الآن مرحلة جديدة، ومع افتتاح معهد محمد السادس العام الماضي، تسنى الجمع بين مختلف عناصر الاستراتيجية المغربية، وهي تمكين الإناث والاحتراف الديني والتعاليم الدينية السمحة.

لكن على الرغم من أن شطرًا كبيرًا من الدارسين في هذا المعهد مغربيون، فإن محور تركيزه ورسالته الأساسية يغلب عليها الطابع الدولي. واليوم يعمل المعهد على تدريب رجال دين من 6 بلدان أخرى. وهذه البلدان هي: مالي، وغينيا، وكوت ديفوار، ونيجيريا، وتشاد، وفرنسا. كما سبق ودرس بالمعهد عدد من الأئمة التونسيين، علاوة على ذلك فهذا الكادر الدولي يشهد نموًّا، فخلال زيارة ملك المغرب إلى روسيا في مارس الماضي، وقعت الدولتان اتفاقية تمهد الطريق لتدريب الأئمة الروس في المغرب في المستقبل القريب، كما أبدت السنغال اهتمامها بفعل الشيء نفسه.

وبإمكان المعهد استيعاب نحو 1000 دارس في الوقت الراهن، ويجري العمل على توسيعه حاليًّا لرفع هذا العدد إلى 1400 بحلول خريف العام الجاري 2016. وتستقبل المؤسسة 250 دارسًا جديدًا (150 رجلًا و100 امرأة) كل سنة في عملية تتسم بالتنافسية البالغة تتمخض عن رفض ما يصل إلى 90 في المائة من المتقدمين. ومن حيث المنهج الدراسي، يدرس الطلاب المغربيون في المعهد فصلًا دراسيًّا مدته سنة واحدة. 

أما المقرر الدراسي الخاص بالطلاب من الدول الإفريقية الأخرى فمدته سنتان، في حين يدرس الطلاب الفرنسيون بالمعهد لمدة ثلاث سنوات. ويقول المسئولون عن إدارة المعهد إن هذه الفترة الدراسية المطولة مقصودة بغية 'استئصال' التعاليم الدينية الخاطئة المتوطنة الآن في عموم أوروبا وإفريقيا.

وأشار بيرمان إلى أنه تتفاوت الطريقة التي يلتحق بها الطلاب بالدراسة بالمعهد من بلد إلى آخر. ففي بعض الحالات، تتم عملية الاختيار بمعرفة الوزارات المعنية في البلد الأصلي، وذلك كما في تونس. وفي حالات أخرى، تتولى المؤسسات شبه الخاصة، كهيئة كبار العلماء الوطنية، عملية الاختيار، وذلك كما في حالة نيجيريا، لكن بمجرد قبول هؤلاء الطلاب للدراسة بالمعهد، يصيرون ضيوفًا رسميين على المملكة المغربية التي تتولى حكومتها سداد تكاليف تعليمهم، بالإضافة إلى منح كل واحد منهم منحة شهرية تكميلية.

كما يتلقى الدارسون تعليمًا متنوعًا بعض الشيء، ففيما ينصب تركيز مراكز التدريب الديني في البلدان الأخرى على الدراسة القرآنية بشكل يكاد يكون حصريًّا، يتألف منهاج المعهد من 30 مادة دراسة منفصلة موزعة بالتساوي بين العلوم الدينية والعلوم الإنسانية، وبالتالي يتلقى الطلاب دروسًا في موضوعات العلوم الاجتماعية كالفلسفة وعلم النفس، بالإضافة إلى دراستهم الجغرافيا والتاريخ والشئون السياسية الخاصة بالبلد الذي ينتمون إليه. وفي الوقت نفسه، يتلقى الدارسون تدريبًا مهنيًّا في أربعة مجالات مختلفة هي: الهندسة، والزراعة، والخياطة، واستخدام الكمبيوتر.

وعلى الرغم من هذه البدايات المبشرة بالنجاح، تعترف قيادة المعهد بأن المشروع لا يزال مشروعًا تجريبيًّا، على الأقل في الوقت الراهن؛ إذ لم يتخرج من المعهد منذ افتتاح أبوابه رسميًّا العام الماضي سوى دفعة واحدة من 100 إمام، أغلبهم من دولة مالي. غير أن القائمين على المعهد يُعربون عن قناعتهم بأنه سيكون خلال 5 سنوات من الآن قادرًا على 'المساعدة بنشاط في الحرب ضد التطرف الإسلامي'، والمساهمة في تبني التفسير 'الصحيح' للإسلام في كل أنحاء العالم.

وهناك ما يُبرر الاعتقاد بأن المعهد قادر على ذلك. فسيرًا على خطى الفكر الاستراتيجي الأمريكي المعاصر بشأن أهمية الشبكات لمكافحة الشبكات الأخرى؛ تتمثل استراتيجية المعهد، بحسب بيرمان، في تكوين كادر من القادة الدينيين المتعلمين في مختلف البلدان ممن يمكنهم التفاعل بشكل آنيّ مع بعضهم بعضًا، ونشر تعاليمهم على الصعيد المحلي.

ويحظى هذا النهج باهتمام متزايد من الخارج، لكن يظل المعهد في الوقت الراهن تجربة إفريقية في المقام الأول، والدولة العربية الوحيدة التي أرسلت طلابها للدراسة في المعهد حتى الآن تونس، لكن المسئولين عن المدرسة يقولون إن الدول العربية 'تراقب عن كثب'، وهناك بلدان كالبحرين بدأت تتخذ خطوات على طريق التعاون مع المغرب في الشئون الدينية.

وأكد بيرمان أن هذا سيجتذب أيضًا اهتمامًا من نوع غير مرغوب فيه. فعلى الرغم من أن المدرسة لم تلفت حتى الآن أنظار القوى المتطرفة، سواء داخل البلد أو خارجه، يتوقع المسئولون المغربيون أن يواجه المعهد مقاومة أيديولوجية، بل وربما ما هو أكثر من ذلك، من جانب المتطرفين كلما ذاع صيته وصيت الرسالة التي يسعى إلى نشرها، ويقولون إنهم مستعدون لمواجهة هذا التحدي.

من الدفاع إلى الهجوم:

ويرى إيلان بيرمان أن هذه الرؤية تمثل تحولًا لافتًا في المنظور، حيث ظلت المملكة المغربية على مدى سنوات عديدة تعتبر نفسها بمنأى عن المشكلات السياسية الراديكالية التي يشهدها الشرق الأوسط، وهو توصيف كان يوحي بأن تجربتها فريدة من نوعها ولا يمكن ترجمتها بسهولة للعالم الخارجي. لكن يومًا بعد يوم، يبدو أن المغرب آخذ في الانتقال إلى ممارسة دور النموذج الفكري المستعد والقادر في آن واحد على اتخاذ موقف ضد السلفية والجهادية. فعلى حد تعبير مسئول ديني مغربي، فإن المملكة اليوم 'ترى نفسها قائدًا طبيعيًّا' في معركة الأفكار التي تدور رحاها في العالم الإسلامي، وذلك استنادًا إلى مصداقيتها الدينية وتعاليمها السمحة.

وينبغي أن تأتي هذه الأخبار بالبشرى للولايات المتحدة، على حد قول بيرمان، ويجدر بواشنطن، الضالعة بعمق في مكافحة التطرف الديني بمختلف صوره، أن تأخذ في عين الاعتبار ابتكارات المغرب التي تستند إلى القوة الناعمة، بل وسيكون من الأفضل، برأي إيلان بيرمان، أن تستفيد منها أمريكا في إطار الحرب العالمية ضد الراديكالية الإسلامية.

إيلان بيرمان

المصدر: المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية.

 

 

موقع الخدمات البحثية