مواد أخرى » تأثير العقوبات الدولية على الأوضاع الداخلية في الإقليم

لم تتمكن العقوبات الدولية المفروضة على بعض الدول والقيادات السياسية والفاعلين من غير الدول ومؤسسات داخل الدول في الشرق الأوسط من التأثير الحاد على الأوضاع الداخلية، وتقليص الدعم الجماهيري، وخلخلة القواعد الشعبية للأطراف المستهدفة بالعقوبات، إذ لم تُثمر عن تغيير سياساتهم وممارساتهم تجاه قضايا الانتشار النووي، والإرهاب والعنف، وتسوية الصراعات الداخلية، بل أثبتت الخبرات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط أن العقوبات الدولية قد تُنتج تداعيات عكسية تتمثل في تعزيز شرعية نظم الحكم المحاصرة، والاستمرار في السياسات التوسعية، والتكيف مع واقع العقوبات، وتبني آليات جديدة لمواجهة تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية.

أنماط العقوبات:

     لا تعد العقوبات الدولية أحد مستجدات الواقع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، إذ اعتمدت المؤسسات الدولية والقوى الكبرى على العقوبات في مواجهة نظم الحكم التي اتبعت سياسات عدائية تتضمن تهديدات للأمن والاستقرار الإقليمي، مثل نظام صدام حسين في العراق، ونظام القذافي في ليبيا، ونظام البشير في السودان، ومؤسسات الدولة الإيرانية خاصة الشركات التابعة للحرس الثوري. وعلى الرغم من تفاوت فاعلية العقوبات سالفة الذكر، فإن المؤسسات الدولية والقوى الكبرى زادت من اعتمادها عليها خلال الآونة الأخيرة، والتي تضمنت عدة أنماط يتمثل أهمها فيما يلي:

1-    حظر التجارة: تتجه بعض المؤسسات والقوى الكبرى لفرض عقوبات على التعامل مع الشركات التابعة للدول المستهدفة بالعقوبات، ومنع الاستثمار في بعض القطاعات الحيوية، مثل القطاعات النفطية، وحظر تصدير بعض السلع الاستراتيجية إليها، وتمثل العقوبات الدولية المفروضة من جانب الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على إيران والتي بلغت ذروتها خلال الفترة بين عامي 2006 و2012 وتم رفع معظمها بعد الوصول للاتفاق النووي في يوليو 2015، نموذجًا على العقوبات الاقتصادية، حيث تم فرض عقوبات على الشركات التي تتعامل مع الجهات الحكومية الإيرانية، ومنع ضخ الاستثمارات في القطاع النفطي، ومنع تصدير بعض السلع لإيران، مثل المشتقات البترولية، وحظر تصدير المعدات ذات الاستخدام المزدوج، وهي حزمة العقوبات نفسها التي فرضتها الولايات المتحدة على نظام صدام حسين.

2-    تجميد الأرصدة: تتخذ المؤسسات الدولية والقوى الكبرى إجراءات عديدة لتجميد أرصدة بعض الشركات التابعة لبعض الدول والقيادات السياسية والعسكرية، وفي هذا السياق أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية في 13 مايو 2016 فرض عقوبات على رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح بسبب تقويض عملية التسوية السياسية، وتضمنت العقوبات تجميد كافة الممتلكات والأرصدة والأصول الموجودة ضمن الولاية القضائية للولايات المتحدة والخاضعة لسيطرة أمريكيين، وهو ما سبقه في أبريل 2016 فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات مماثلة على عقيلة صالح، ورئيس المؤتمر الوطني نوري بوسهمين، ورئيس الحكومة المنبثقة عن المؤتمر خليفة الغويل، بتهمة عرقلة تشكيل حكومة الوفاق الوطني.

وقد اتبعت الولايات المتحدة السياسة نفسها في مواجهة الشركات التابعة للحرس الثوري الإيراني المساهمة في برنامج الصواريخ الباليستية، حيث فرضت وزارة الخزانة الأمريكية في 24 مارس 2016 عقوبات مالية جديدة على الشركات الإيرانية الداعمة لبرنامج الصواريخ الباليستية وشركتين بريطانيتين على علاقة مع شركة 'ماهان الإيرانية' الجوية المدرجة على اللائحة السوداء، وفي يناير 2016 فرضت الولايات المتحدة عقوبات مالية تضمنت تجميد أرصدة 11 شركة وشخصًا مرتبطين ببرنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، وقد أكدت واشنطن أن تلك الإجراءات لا تتعارض مع الاتفاق النووي، خاصة أن العقوبات الخاصة ببرنامج الصواريخ الباليستية تم الإبقاء عليها بعد الوصول لهذا الاتفاق.

3-    ملاحقة سياسية وقانونية: تُواجه بعض دول الإقليم عقوبات سياسية وقضائية متعددة، مثل تجميد عضوية الدولة في بعض المنظمات الدولية، وحظر السفر لبعض القيادات، ومنع إصدار تأشيرات الدخول للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وقد يصل الأمر إلى الملاحقة القضائية الدولية لبعض القيادات السياسية والعسكرية، حيث واجهت مصر عقب ثورة 30 يونيو 2013 تعليق عضويتها في الاتحاد الإفريقي، وهو القرار الذي تراجع عنه الاتحاد في 18 يونيو 2014 بإنهاء تعليق عضوية مصر، كما فازت مصر بعضوية مجلس السلم والأمن الإفريقي في 28 يناير 2016، بل شغلت مقعدًا غير دائم في مجلس الأمن الدولي. أما العقوبات المفروضة على القيادات فتتصدرها مذكرة التوقيف القضائي الصادرة بحق الرئيس السوداني عمر البشير، والتي أثارت جدلا حول احتمالية احتجازه خلال مشاركته في قمة الاتحاد الإفريقي في جنوب إفريقيا في يونيو 2015، أما بعض القيادات السياسية والعسكرية الإيرانية فتواجه حظر السفر للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وهي العقوبات ذاتها المفروضة على رموز نظام الأسد في سوريا وقيادات الحوثيين وعلي عبدالله صالح ونجله في اليمن.

4-    حظر التسليح: تتضمن العقوبات العسكرية حظر تصدير الأسلحة الثقيلة والمتوسطة لبعض الدول والفاعلين المسلحين من غير الدول، مثل حظر تصدير الأسلحة الثقيلة لإيران من جانب الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وهو ما ينطبق على الجيش الليبي الذي لا يزال يواجه حظرًا على استيراد الأسلحة بموجب قرارات مجلس الأمن، وهو ما يؤثر على القدرات العسكرية للجيش الوطني الليبي في مواجهة تنظيم 'داعش'.
 
أسباب فرض العقوبات:

     تعد العقوبات ضمن آليات فرض الالتزام بقواعد القانون الدولي بهدف دفع بعض الدول لتغيير ممارساتها الدولية وسياساتها الخارجية، سواء عبر الامتثال لالتزاماتها الدولية، أو وقف العدوان، أو إنهاء الإبادة الجماعية، وعلى الرغم من أن العقوبات الدولية يفترض أن تصدر من مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عادةً ما يقومان بفرض عقوبات اقتصادية ومالية وسياسية بصورة منفردة للضغط على بعض الدول.
      ويرتبط ذلك بتوسع اختصاصات المؤسسات الدولية والقوى الكبرى واقعيًّا في فرض العقوبات الدولية في إطار مبدأ 'المسئولية الجماعية للحماية' الذي يعطي المجتمع الدولي اختصاصًا بالتدخل لحماية المدنيين من جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية بقرارات من مجلس الأمن، ويتضمن التدخل مختلف الإجراءات الإكراهية، بدايةً من الإجراءات السياسية والاقتصادية، وانتهاءً بالتدخل العسكري.
     ويتجاوز فرض العقوبات الدولية الاعتبارات القانونية في ظل التسييس المتصاعد للعقوبات الدولية وتوظيفها من جانب القوى الكبرى للتأثير على سياسات الدول الأخرى، أو التأثير في التوازنات الداخلية، وتصعيد الضغوط الداخلية على نظم الحكم في بعض الدول لإجراء تغييرات سياسية في تراتبية السلطة في بعض الدول، إلا أن الخبرات الإقليمية أكدت أن العقوبات الدولية لا تؤدى لانهيار نظم الحكم، ولا تؤثر على الاستقرار الداخلي للدول، كما أن تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية تتفاوت من دولة لأخرى وفقًا للأوضاع الاقتصادية ودرجة الارتباط بالاقتصاد العالمي.

احتواء التأثيرات:
 

     على نقيض أهداف المؤسسات الدولية والقوى الكبرى من فرض العقوبات الدولية، قد تؤدي تلك العقوبات لتداعيات عكسية تعزز بقاء نظم الحكم في السلطة، وتتمثل أهم هذه التداعيات فيما يلي:

1-    تزايد الشعبية: قد يؤدي فرض العقوبات الاقتصادية إلى تزايد شعبية بعض نظم الحكم في الدول المستهدفة، حيث تتبنى القيادات السياسية خطابات شعبوية تقوم على حشد الرأي العام ضد الدول الكبرى، وهو ما يعزز التماسك الداخلي خاصة بين القواعد المؤيدة للنخب السياسية في هذه الدول على نحو يفسر تمكن النظام الإيراني من استغلال العقوبات الاقتصادية الدولية لتدعيم القواعد الجماهيرية الداعمة للنظام. والأمر ذاته ينطبق على نظام البشير في السودان الذي تمكن من توظيف العقوبات الدولية المفروضة على السودان لمواجهة انتقادات المعارضة السياسية وتثبيت دعائم بقائه في السلطة.

2-    التماسك الداخلي: تدفع العقوبات الدولية إلى تزايد التماسك الداخلي ضمن النخب السياسية الحاكمة في الدولة، حيث إن إصدار المحكمة الجنائية الدولية قرارات توقيف بحق قيادات نظام البشير دفع هذه القيادات للتضامن الداخلي في مواجهة العقوبات الدولية، والأمر ذاته ينطبق على العقوبات التي تفرض على بعض الفاعلين المسلحين من غير الدول، مثل القوات التابعة للحوثيين ورموز نظام علي عبدالله صالح، والعقوبات المفروضة على رئيس البرلمان الليبي، حيث تؤدي هذه العقوبات لتضامن التكوينات القبلية والعشائرية والمذهبية مع القيادات المفروض عليها العقوبات، مما يعزز من قدرتها على مقاومة العقوبات.

3-    التوسع الخارجي: تلجأ بعض الدول للتوسع الخارجي بهدف تقليص تأثير العقوبات، وفي هذا الإطار يمكن اعتبار اتجاه عناصر الحرس الثوري إلى تأسيس معسكرات في كولومبيا في مايو 2016 بمثابة إحدى آليات التوسع الخارجي لإيجاد مناطق تمركز بديلة بعيدة عن العقوبات الدولية، حيث يرأس الوفد القيادي بالحرس الثوري محسن رباني الذي يشرف على تأسيس شبكة علاقات اقتصادية وسياسية تابعة للحرس الثوري من خلال ضخ استثمارات في شركات تابعة للمسلمين الشيعة في كولومبيا في مجالات تربية الماشية وتصنيع اللحوم طبقًا للشريعة الإسلامية والقطاع التجاري بهدف إخفاء عمليات غسيل الأموال وتمويل 'حزب الله' اللبناني، وتوظيف هذه الاستثمارات في التغلغل السياسي والاقتصادي في الدولة، وهو ما سبق أن قامت إيران بتنفيذه في الأرجنتين في عقد التسعينيات من القرن الماضي، والتي ثبت تورطها في تفجيرات المركز اليهودي في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس في عام 1994.

4-    التكيف الاقتصادي: عادةً ما تتمكن الدول التي تفرض عليها العقوبات من إعادة هيكلة اقتصاداتها لتقليل تأثير العقوبات، سواء من خلال البحث عن بدائل لإمدادها بالسلع المحظور توريدها إليها من خلال شبكات العلاقات البديلة، حيث تعتمد إيران والسودان على علاقاتها بالصين وروسيا وبعض الدول النامية مثل باكستان في استيراد بعض السلع التي تفرض عليها الدول الغربية حظر تصدير بدعوى إمكانية استخدامها في التصنيع العسكري، فضلا عن اعتمادهما على واردات السلاح من روسيا، وهي الآلية ذاتها التي اتبعها نظام الأسد في مواجهة العقوبات الغربية من خلال الاعتماد على الاستثمارات الإيرانية والدعم العسكري الروسي لتعزيز قدراته العسكرية في مواجهة فصائل المعارضة السورية.

5-    الشبكات البديلة: كشفت تسريبات 'وثائق بنما' حول الملاذات الضريبية الآمنة في أبريل 2016 عن تمكن نظام الأسد في سوريا من الالتفاف على العقوبات المالية الدولية من خلال ثلاث شركات وهمية في جزر سيشل قام بإنشائها رامي مخلوف الذي تربطه صلات قرابة وثيقة بالرئيس بشار الأسد، حيث قامت هذه الشركات باستيراد وقود الطائرات الحربية لصالح نظام الأسد منذ عام 2011، بالإضافة إلى استيراد مواد ذات استخدامات عسكرية لصالح قوات النظام، وتوفير ملاذ آمن لبعض استثمارات وأموال عائلة الأسد خارج نطاق العقوبات الدولية.

     وفي المجمل من غير المرجح أن يؤدي تصعيد العقوبات الدولية الاقتصادية والسياسية والعسكرية على بعض دول الإقليم والقيادات السياسية والعسكرية والفاعلين المسلحين في إطار الصراعات الدولية إلى تغيير جذري في ممارساتهم في ظل وجود آليات للتكيف ومسارات بديلة للالتفاف على العقوبات التي قد تفتقد الفاعلية، بالإضافة إلى توظيف العقوبات من جانبهم لتعزيز تماسك النخب السياسية الحاكمة وتوسيع القواعد الشعبية الداعمة لبقائهم السياسي.

 المصدر: المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية.

 

موقع الخدمات البحثية