مواد أخرى » رؤية نقدية للربط بين الإرهاب وخريجي الهندسة: مصر نموذجًا

في ٥ يناير ٢٠١٠، نشرت 'الجارديان' البريطانية تقريرًا بعنوان 'غذاء العقل: لماذا ينخرط مهندسون كثيرون في الإرهاب'، أو بشكل أكثر تحديدًا: 'لماذا أتت نسبة كبيرة من الإرهابيين الإسلاميين ممن درسوا الهندسة؟'.

ذكر التقرير أسماء عديدة، منها -على سبيل المثال- عمر الفاروق (نيجيري الجنسية) الذي تخرج من كلية الهندسة بجامعة لندن، وقد حاول إسقاط طائرة أمريكية أثناء إقلاعها من ديترويت، وكذلك خالد شيخ محمد ومحمد عطا اللذان شاركا في هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ بالولايات المتحدة، وإمام سامودرا الذي دبر الهجوم على نادٍ ليلي في جزيرة بالي بإندونيسيا، وأخيرًا وليس آخرًا كفيل أحمد الذي حاول تفجير مطار جلاسجو بأسكتلندا عام ٢٠٠٧، وكانوا جميعًا ممن درسوا الهندسة.

وأشار التقرير أيضًا إلى دراسة قام بها الباحثان ديجو جامبيتا وستيفن هيرتسوج (أصدرا لاحقًا كتابًا بنفس العنوان عام ٢٠١٤)، وشملت فحص ملفات ٢٨٤ جهاديًّا من مختلف بلدان العالم الإسلامي، ووجدت أن ٦٩٪ منهم من خريجي الجامعات، وأن ٤٤٪ منهم درسوا في أحد أفرع العلوم الهندسية، بينما لم تزد نسبة من درسوا دراسات دينية إسلامية في نفس العينة عن ١٩٪، كما وجدت الدراسة أيضًا أن من يدرسون الهندسة في البلدان الإسلامية ترتفع نسبة من يُحتمل أن يتبنى منهم الأفكار التي تحض على الإرهاب والعنف، إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف خريجي التخصصات الأخرى.

في الاتجاه ذاته، نشرت صحيفة 'الشروق' التونسية بتاريخ ١٩ أكتوبر ٢٠١٤، أن أكثر من ٤٠٪ من الذين يتم اعتقالهم في تونس بسبب تبنيهم الأفكار والممارسات الإرهابية الدينية يأتون من طلبة وخريجي كليات ما تُسمّى بالقمة، وعلى رأسها كلية الهندسة، تتلوها كلية الطب. ويفسر البعض ذلك بأن نوعية الدراسة التي تفتقر إلى البعد الإنساني وتميل إلى التلقين تزيد من فرص وقوع الدارسين فيها في براثن الأفكار المتطرفة، عكس الأثر الإيجابي الذي تُحدثه الدراسات الإنسانية في تكوين الشخصية بما يجعلها أكثر إدراكًا لتنوع الأفكار وتنوع التفسيرات للظواهر الإنسانية.

بشكلٍ عام، لم تخرج محاولات تفسير ميل بعض الأفراد والجماعات للعنف والإرهاب الديني عن الأسباب التي تتعلق بالأبعاد الاقتصادية الاجتماعية للظاهرة، غير أن محاولة لفت الانتباه إلى علاقة الإرهاب بنوعية التعليم وإن كانت تُثير الاهتمام فإنها قد تتعرض بدورها لانتقادات عديدة.

نقد الارتباط:

إن فحص الحجج التي يتم إثارتها حول علاقة الإرهاب بنوعية التعليم يُمكن المجادلة مبدئيًّا بأنها مشروعة لأكثر من اعتبار، أهمها أنه يصعب الثقة في البيانات التي أتاحها الباحثون حول علاقة دراسة العلوم الطبيعية عامة والعلوم الهندسية والطبية خاصة بالتطرف والإرهاب من أكثر من زاوية:

أولا: أن البيانات بدت كما لو كانت تُركز على علاقة خطية تُناسب عملية تفسير الظواهر البسيطة، ولكنها تبقى قاصرة عن تفسير ظاهرة معقدة متعددة الأبعاد مثل العلاقة بين نوع التعليم والتوجهات السياسية أو الأيديولوجية التي تُخفي عناصر أخرى مثل: المستوى الاجتماعي، والانتماء الجغرافي (حضر، ريف)، والمستوى الثقافي، والتماسك النفسي الداخلي للفرد، ومستوى الذكاء والقدرات النقدية.

ثانيًا: هناك فئات أخرى لا نعرف من خلال هذه الدراسات موقعها النسبي في تكوين الحركات الإرهابية، مثل العسكريين السابقين، حيث يلاحظ أن نسبة هذه الفئة في تنظيم داعش -على سبيل المثال- تبدو مرتفعة، خاصةً في صفوف قيادات التنظيم، وكان لا بد من جمع بيانات أخرى تتعلق بهذه الفئة دون الاكتفاء بتعريفها الوظيفي بل بكل ما يتعلق بأفرادها أيضًا من دوائر أخرى للهوية المتعددة لهم.

كما يمكن استباق الرد بأن ظاهرة العسكريين السابقين في داعش مرتبطة بالنزاع السني الشيعي بالقول إنه لا يُوجد دليلٌ على أن هناك نسبة معتبرة من العسكريين العراقيين السابقين قد تحولوا لداعش لأسباب تتعلق بالصراع المذهبي وفقط، إذ ربما يكشف الفحص المدقق عن أن الاستعداد للتطرف الكامن لدى العسكريين السابقين الذين التحقوا بداعش كان وراء انضمامهم للتنظيم أكثر من كونه بسبب استخدامهم الخطاب المتطرف كمجرد وسيلة لحشد الأنصار في معركة صراع مذهبي.

ثالثًا: لم تُجرِ هذه الدراسات فحصًا دقيقًا لدور العوامل النفسية أو حتى الاستعداد للإصابة بالأمراض النفسية وعلاقة ذلك بالانتماء إلى الجماعات الإرهابية، فمن المعروف أن الطب النفسي يميز بين المرض النفسي كحالة تحتاج للعلاج، وما يُسمى بالشخصية المريضة التي يُمكن أن تتعايش مع المجتمع دون أن تُشكل سلوكياتها نوعًا من القطيعة مع الآخر الذي بوسعه تحملها كشخصية غريبة وليس مريضًا ينبغي علاجه (مريض البارانويا على سبيل المثال يختلف في سلوكه وتفاعله عن شخص يمتلك شخصية باراناوية)، ويرى د. أحمد عكاشة (أستاذ الأمراض النفسية في جامعة عين شمس المصرية) أن معدلات الإصابة بالأمراض النفسية في مصر مرتفعة، وتتجاوز ٢٠٪ من السكان، كما يُلاحظ ارتفاع مستوى الإصابة بهذه الأمراض بين من يميلون للتطرف الديني عامة والعنف والإرهاب خاصة.

رابعًا: ليس من المعروف الأثر النفسي الذي تتركه دراسة العلوم الطبيعية، خاصة في مجالات الهندسة والطب، على أشخاص يكتشفون من خلال المناهج التي يدرسونها أنه لا توجد أسماء قديمة أو معاصرة عربية أو إسلامية لها إسهامات في تقدم مثل هذه العلوم، على العكس من دارس العلوم الإنسانية الذي يجد في الدراسات الخاصة بالأدب والاجتماع وعلم الإنسان أسماء عربية وإسلامية قديمة وحديثة يتم ذكرها على اعتبار أن إسهاماتها لا تقل عن إسهامات نظرائها في الغرب ممن برزوا في هذه التخصصات.
 
إن فكرة الشعور بالدونية الحضارية ربما تزيد في أوساط دارسي العلوم الطبيعية في العالمين العربي والإسلامي عنها بين دارسي العلوم الإنسانية، وقد لوحظ منذ سبعينيات القرن العشرين ازدياد مساحة الخطاب الإسلامي الذي يركز على المزاعم الخاصة بأن كل العلوم يُمكن اكتشافها من القرآن والسنة، وأن العلماء العرب والمسلمين هم من استعانت أوروبا بإنجازاتهم لتبني حضاراتها الحديثة، وهي مقولات ربما تعكس قلقًا خفيًّا من الربط بين الإسلام وبين التخلف.

بمعنى أكثر وضوحًا، ربما تحتاج الدراسات الاجتماعية حول ظاهرة التطرّف الديني إلى إدخال العوامل النفسية في فهم هذه الظاهرة، ومنها ذلك الشعور بالحيرة الذي يُلازم الشخص المتدين أمام مفارقة أن يكون الإسلام هو الدين الأكثر تقدمًا (بحسب اعتقاده) وبين حقيقة تخلف المسلمين علميًّا واقتصاديًّا، وَمِمَّا لا شك فيه أن الشخص المتدين الذي يدرس الطب أو الهندسة يكون أكثر عرضة للحيرة والاضطراب مقارنةً بدارسي العلوم الإنسانية للأسباب التي ذكرناها سابقًا ولو على نحو احتمالي.

اختبار الحالة المصرية:

على مدى سنوات طويلة، ربطت العديدُ من الدراسات بين قدرة التيارات الإسلامية في مصر، وخاصة تنظيم الجماعة الإسلامية وتنظيم الإخوان المسلمين، على تجنيد العديد من طلبة الجامعات منذ سبعينيات القرن الماضي وبين تقديمهما الخدمات رخيصة الثمن لهم (طباعة الكتب والمذكرات، معارض السلع المختلفة، أماكن للسكن).

 أي أنها تنسب اختيار الانتماء لهذه الجماعات إلى الأصل الاجتماعي للمنتسبين أكثر مما تُشير إلى عناصر أخرى مثل نوع التعليم، وإن كان من المتوقع أن يكون طلبة الطب والهندسة المنحدرون من الريف هم الأكثر التصاقًا بهذه التنظيمات، لما توفره لهم من تحصين ضد ثقافة المدينة التي تُهدد ثقافتهم المحافظة. أضف لذلك، تخفيف المعاناة الناتجة عن نقص الإمكانيات المادية لدى هؤلاء الطلاب في مواجهة نفقات التعليم في تخصصات مثل دراسة الطب والهندسة، وهو ما امتد بعد ذلك إلى النقابات المهنية التي غزتها هذه التيارات منذ الثمانينيات، والتي من خلالها زادت قدرتها على تجنيد المزيد من العناصر عبر توفير الوظائف وفرص العمل.

ولكن تظل البيانات والإحصاءات عن الخلفيات التعليمية للمنخرطين في هذه التيارات قاصرة على البيانات الخاصة بتكوين القيادات فيها، والتي تُظهر غلبة الدارسين للعلوم الطبيعية من الناحية الفعلية.

 فعلى سبيل المثال، تُشير دراسة لمركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة للدكتور سعيد المصري حول علاقة التطرف بالعلوم بالتطبيقية إلى أن من بين 43 قيادة بارزة داخل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، كان هناك 30 شخصًا منهم حاصلون على شهادات جامعية في العلوم الطبيعية، أبرزها الطب والهندسة والعلوم بنسبة تصل إلى 70 في المائة. ومن بين هؤلاء حصل 21 عضوًا على درجات علمية أعلى، وهي الماجستير والدكتوراه بنسبة 49 في المائة، خمسة منهم على الأقل حصلوا على تلك الشهادات من جامعات غربية، في حين هناك 8 أشخاص فقط من قيادات الإخوان في مصر تخصصوا في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية بنسبة تقدر بنحو 19 في المائة، إلى جانب خمسة أشخاص في مجالات أخرى.

وفي كل الأحوال، ورغم أهمية هذه البيانات في بعض الجوانب، فإننا لا نمتلك إحصاءات مشابهة وموثوق بها عن قيادات جماعات العنف (مثل: الجهاد، أو الجماعة الإسلامية. أو التنظيمات الأصغر مثل: أنصار بيت المقدس، أو تلك المرتبطة بجماعة الإخوان بعد إسقاط حكمهم عام ٢٠١٣ مثل جماعة العقاب الثوري)، وبالتالي ففضلا عن أن معظم الدراسات تُركز على خصائص القيادات في هذه التنظيمات، فمن الصعب سحب النتائج المستخلصة من تكوين القيادات على مجمل الكيان التنظيمي، والادعاء بغلبة أفراد لهم خلفية تعليمية معينة ولهم علاقة بالإرهاب.

على جانب آخر، فبافتراض إمكانية الحصول على عينة إحصائية ممثِّلة علميًّا للمنخرطين في هذه التنظيمات؛ فإن الارتكان إلى مؤشر نوع التعليم لن يكون كافيًا في حد ذاته لتفسير انخراط نسبة محسوسة ممن تلقوا دراسات في العلوم الطبيعية في الأعمال الإرهابية؛ إذ ستبقى مسألة التكوين النفسي للأفراد، والظروف الاجتماعية، والقدرة على التكيف مع المتغيرات المحلية والعلمية؛ عناصر أكثر أهمية في تفسير الميل نحو العنف أو الابتعاد عنه.

سعيد عكاشة

المصدر: المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية.

موقع الخدمات البحثية