مواد أخرى » تركيا ما بعد أوغلو.. من سيتحدى هيمنة أردوغان؟

لم يدم بقاء رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو، فى منصبه أكثر من عام ونصف، وذلك بعد أن تم إزاحته عن السلطة ودفعه إلى اتخاذ قرار يقضى بالتخلى عن رئاسة حزب العدالة والتنمية، والدعوة لمؤتمر عام استثنائي في الثاني والعشرين من شهر مايو الجاري لاختيار من سيخلفه في رئاسة الحزب الحاكم، وبالتالي رئاسة الوزراء.

قرار الاستقالة من حيث توقيته ونمط إخراجه جاء أقرب إلى إقرار الرجل بالإقالة بعد أن اُستخدم من قبل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لإبعاد الرئيس السابق، عبد الله جول، عن رئاسة الحزب، عبر 'انقلاب قصر' محكم تفاصيله، فيما جاء ترحيل أوغلو عن المنصب ذاته عبر 'انقلاب قصر' آخر، ارتبط بذات المحركات التي تتعلق بسياسات الرئيس التركي وسعيه لأن يكون المشهد التركي دائما مشهد الرجل الواحد، الذي يسيطر على مؤسسات الدولة وهيئاتها المستقلة، ويسعى إلى أن يحول النظام البرلماني إلى رئاسي، ليس إلا لإضفاء الصبغة الدستورية على سلطاته الفعلية. 

تغيب أوغلو عن المشهد التركي، يحمل دلالة رمزية على انتهاء مرحلة التأصيل الفلسفي النظري للتجربة التركية، التي قد تفقد أدوار 'الموازن الموضوعي' التي أداها اعتدال ووسطية داوود أوغلو في مواجهة مركزية وتشدد أردوغان، بما يعنيه ذلك من احتمالات تصاعد التحديات التي يمكن أن تواجهها تركيا على أكثر من صعيد ومستوى خلال المرحلة المقبلة.

فالصراع الخفي بين 'الفيلسوف' و'السلطان'، خلال الأشهر الخالية، تعددت ملفاته وقضاياه، ولم يكن يعبر عن صراع بين أشخاص بقدر تجسيده للصراع بين الأفكار والرؤى التي تتعلق بمستقبل الحياة السياسية والحزبية في تركيا.

اتجاهات السياسات المحلية:

قد يشكل قرار إبعاد داوود أوغلو عن منصب رئاسة الوزراء في تركيا نقطة مفصلية في مسار تطورات الأوضاع السياسية على الساحة المحلية، وذلك ارتباطا بعدد من المحركات التي قد تمثل في مجملها ملامح الحياة السياسية التركية خلال المرحلة المقبلة.

1) التعايش مع الرئيس: على الرغم من أن النظام السياسي التركي نظام برلماني، غير أن التحدى الرئيسي، الذي سيواجه رئيس الحكومة القادم، سيتمثل في القدرة على التعايش مع صلاحيات واسعة للرئيس وسلطات هامشية لرئيس الوزراء، بمعنى معايشة النظام الرئاسي حتى قبل إقراره دستوريا. ومع أن داوود أوغلو قد حاول التكيف مع هذا الوضع السياسي 'المعكوس'، غير أنه فشل في النهاية، ذلك أنه حينما حاول ممارسة صلاحياته وإبداء معارضة نسبية لسياسات الرئيس، تم إقصاؤه من المشهد السياسي برمته.

ويستند الرئيس التركي إلى كون صلاحياته وإن كانت رمزية، غير أنها 'مٌعطلة' لضرورة تصديقه على القوانين ودورية ترؤسه لاجتماع الحكومة شهريا، وللمراكز والهيئات المستقلة، هذا بالإضافة إلى أن رئيس الجمهورية الحالي لا يتمتع بشعبية كبيرة وحسب، ولكنه أيضا يمثل أول رئيس منتخب في تاريخ تركيا، وهو ما يعد كافيا من وجهة نظره لفرض شخصيته المهمينة على السلطة في تركيا وتهميش من حوله أيا كان موقعهم السياسي.

2) 'الشخصية الباهتة': يخلو المشهد السياسي التركي تدريجيا من الشخصيات التي اتسمت بدرجة عالية من الحضور، وفق مقياس 'القوة' والكاريزما والقبول الشعبي، وساهمت في إظهار الحزب الحاكم بحسبانه مؤسسة منتجة للقيادات، ذلك أن تهميش أدوار قيادات تاريخية، مثل عبد الله جول، وبولنت أرنيج، نائب رئيس الوزراء السابق، وعلى باباكان، مهندس نهضة تركيا الاقتصادية، وأخيرا داوود أوغلو، سيعني أن الحزب تحول فعليا الى 'حزب الحاكم الواحد'، خصوصا أن الشخصيات المرشحة لخلافة أوغلو – وفق العديد من التقديرات - 'شخصيات باهتة' ولا تمثل أكثر من ظل للسلطان أردوغان.

قد يدفع ذلك بأن يكون البرنامج الفعلى لرئيس الوزراء القادم محض تنفيذ سياسات الرئيس التركي، عبر تسريع وتيرة التحرك على الانتقال إلى النظام الرئاسي. وقد تظل تجربة داوود أوغلو درسا لقيادات الحزب بمختلف مستوياته، فالرجل بمجرد وصوله إلى المنصب ولضمان 'ضبط' سياساته، تم وضع اللجنة المركزية للحزب خارج إطار سيطرته، وذلك من خلال أدوار مركزية لعب فيها بن على يلدريم، وزير النقل والمواصلات رأس الحربة، وذلك خلال المؤتمر الاستثنائي الخامس للحزب، ثم تكلل ذلك في 29 أبريل الماضي بسحب سلطة تعيين أعضاء قيادات الحزب الفرعية في المحافظات والبلديات لصالح اللجنة المركزية، بعدما ظلت لمدة أربعة عشر عاما في يد رئيس الحزب، بما جعل رئيس الوزراء يحكم على 'الورق فقط' سواء داخل الحكومة أو الحزب.

3) تعزيز الاستقطاب: قامت فكرة أردوغان على تعزيز صلاحياته وسلطاته، من خلال تعزيز الاستقطاب السياسي داخل حزب العدالة، عبر ما يمكن تسميته 'الأقطاب المتقابلة' على النحو الذي لا يجعل حزب العدالة يعتمد على فكرة الشخصية المهيمنة. فما دون أردوغان، ثمة شخصيات مركزية تتنافس إن لم تكن تتصارع على التقرب من الرئيس والصعود السياسي بالتبعية، وقد تم تفعيل ذلك في معادلة 'أوغلو مقابل جول'، ثم 'يلدريم في مواجهة أوغلو'، على أن يكون إعلان 'الشخصية التفضلية' التي يتم تصعيدها في الغالب بواسطة أردوغان، لضمان الولاء والتبعية، فيما الشخصية التي يتم تهميشها يوكل إلى الإعلاميين والصحفيين المقربين من الرئيس 'إسقاطها سياسيا'، عبر أطر وسياقات عديدة، منها الكشف عن محركات الإخفاق وارتداداته، وهو ما حدث في حالة أوغلو، عبر تأكيد العديد من الصحفيين، المحسوبين على الرئيس، عدم رضا أردوغان عن محاولة تمتع أوغلو باستقلالية نسبية، سواء في اختيار أعضاء الحكومة أو مرشحى الحزب، خصوصا بعدما ساهمت قائمة أوغلو في الفوز بانتخابات نوفمبر الماضي في مواجهة قائمة أردوغان التي أخفقت في انتخابات يونيو الخالي.

بيد أن الإشكالية الرئيسية في هذا الإطار ستتعلق بأن هناك تيارين رئيسين داخل العدالة مهمشان، ولكنهما يتمتعان بقوة وحضور وشعبية وقدرة على التنظير السياسي لأي تحركات مستقبلية ضد الرئيس، سواء كانت من داخل الحزب أو من خارجه عبر التحرك لتأسيس حزب جديد مع أي اهتزاز طارئ في الوضع السياسي، أو الأمني، أو الاقتصادي، وقد يكون ذلك وفق توافقات محلية لا تُغيب إسهامات الخارج وحضوره في دولة مركزية بإقليم الشرق الأوسط، خصوصا بعدما باتت 'معادلة الحكم الأردوغانية' واضحة مفاعليها وميكانيزماتها للفاعلين الرئيسين في الداخل والخارج على حد سواء.

4) الاستغلال العكسي: ارتبطت محركات إقصاء داوود أوغلو من المشهد السياسي بالرغبة في إزالة أي معوقات تحول دون قدرة حزب العدالة والتنمية على إجراء انتخابات مبكرة ما بين شهري أكتوبر ونوفمبر القادمين، وذلك استغلالا لعاملين مركزيين: أولهما، يتمثل فيما يعاني منه حزب الحركة القومية من صراعات داخلية قد تؤثر في قدرته على اجتياز عتبة البرلمان، حال ما أجريت الانتخابات في الوقت الراهن. وثانيهما، يتعلق بتمرير قانون قد يفضى إلى رفع الحصانة ومحاكمة العشرات من نواب حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، بما قد يعني - أيضا - عدم قدرته على دخول البرلمان كحزب مرة أخرى، وهو الأمر الذى قد يفضى – أيضا - إلى سيطرة حزب العدالة والتنمية على أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان، بما يؤهله إلى تغيير الدستور بأريحية نسبية.
 
بيد أن ذلك قد يطرح إشكاليات عديدة ترتبط بقدرة معارضي حزب العدالة والتنمية على 'الاستغلال العكسي' لسياسات الحزب، التي قد تدفع إلى تسريع المواجهات مع التيارات القومية المتطرفة من ناحية، والقوى القومية الكردية بشقيها السياسي والعسكري من ناحية أخرى. كما قد يرتبط ذلك بالتصعيد أيضا حيال التيارات اليسارية والعلمانية، خصوصا بعد تصريحات رئيس البرلمان، إسماعيل كهرمان، بشأن ضرورة إقرار دستور إسلامي في تركيا، لا يمت للعلمانية بصلة، والعلمانية مادة محصنة (فوق دستورية) بقوة الدستور ووضعية وحماية الجيش في تركيا، وهو الأمر الذي ينذر بأن خطط العدالة والتنمية قد تدفع بتحولات دراماتيكية في 'صيف ساخن' قد يكون الحزب ذاته هكذا أول ضحاياه وليس أول الناجين منه أو المستفيدين من توظيفه.

تحولات السياسة الخارجية:

أدى كل من داوود أوغلو وعبد الله جول سابقا أدوارا بارزة في تهدئة حدة الاندفاعة الأردوغانية على الساحة الخارجية خلال السنوات الخالية من حكم حزب العدالة والتنمية، غير أن غياب الشخصين معا لأول مرة، منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وسيطرة أردوغان على مقاليد الحكم بما يشمله ذلك من القدرة المنفردة على توجيه دفة السياسة الخارجية، قد يحمل نذر التصعيد حيال العديد من الملفات والقضايا العالقة.
 
وقد تشهد مسارات العلاقات مع دول مصر وروسيا وسوريا مزيدا من التأزم في ظل المواقف الحدية التي يتبناها أردوغان، كما قد لا تستطيع تركيا الاستمرار على نهج 'المسارات المتوازية' الذي اتبعه داوود أوغلو حيال بعض الدول التي ترتبط بصراعات وتوترات فيما بينها (نموذج دول الخليج وإيران). وقد تكون المشكلة الرئيسية أن القيادات السياسية الرئيسية حول الرئيس التركي محض 'صدى صوت' لآرائه واتجاهاته حيال العديد من القضايا والملفات الإقليمية، حيث سيغلُب الجميع معادلة 'لا صوت يعلو على صوت أردوغان'، الذي أضحى محاطا بمجموعة من المستشارين والسياسيين الطامعين في الصعود السياسي السريع، عبر التماهى مع مواقف الرئيس وتوجهاته السياسية.
 
قد يفضى ذلك - على جانب آخر - إلى تصعيد التوتر على بعض الجبهات الجديدة مثل دول الاتحاد الأوروبي، ذلك أنه لم تمر سوى ساعات محدودة على إعلان داوود أوغلو انسحابه من المشهد السياسي، إلا واتجه أردوغان للتصعيد مع الدول الأوروبية، من خلال سحب تعهدات تركيا الكفيلة بمنح مواطنيها تأشيرة 'شينغن'، والتي ترتبط بمعايير سياسية – فنية خمسة لازمة لاجتياز الأتراك لعتبات نحو 26 دولة أوروبية من دون تأشيرة مسبقة، حيث أعلن أردوغان أن تركيا لن تستجيب للمطالب الأوروبية الخاصة بتعديل قوانين مكافحة الإرهاب، مهددا أوروبا على نحو مبطن 'سنسير في طرقنا وأنتم سيروا في طريقكم'.

وعلى جانب مواز، قد تشهد علاقات تركيا بالولايات المتحدة الأمريكية بعض من مظاهر التوتر، بسبب شعور أردوغان بأن أسباب التحسن النسبي في علاقات الجانبين، خلال الشهور الأخيرة، تعود إلى أدوار اضطلع بها داوود أوغلو، وأفضت إلى اتصالات والتوافق حول موعد لجلسة مباحثات بين أوغلو والرئيس الأمريكي، باراك أوباما، وهو الذي اعتبره أردوغان ومريدوه داخل الحزب محاولة للالتفاف حول زعامة تركيا، وأن ذلك يمثل جزءا من مخطط غربي يستهدف إسقاط الرئيس التركي، وتصعيد الأدوار السياسية لرئيس الوزراء.

من جملة ما سبق، قد تشهد تركيا تحديات مركبة لن تقتصر على روابط تركيا الخارجية بسبب تداعيات التوترات السياسية التي باتت تسم علاقات تركيا بالعديد من دول الجوار الجغرافي، وإنما أيضا على الصعيد المحلي، وذلك بسبب الارتدادات المباشرة للأوضاع السياسية على الأداء الاقتصادي والأمني، والذي بات يرتبط ارتباطا وثيقا بتحركات تركيا الخارجية.
 
فقد يؤدى التصعيد التركي المحتمل حيال التحركات الكردية في سوريا، إلى تسريع المواجهة مع حزب العمال الكردستاني، بما يقضي بمزيد من الاستنزاف للقدرات التركية، فخلال تولي الحكومة رقم 64 برئاسة داوود أوغلو، في 28 أغسطس عام 2014، شهدت تركيا أعنف هجمات إرهابية قتل فيها نحو 283 عسكريا، و174 شرطيا، و9 حراس قرى و466 من قوات الأمن، ومنذ السابع من يونيو 2015 تعرضت أنقرة، واسطنبول، وسورتش، وبورصا، لهجمات راح ضحيتها المئات من الضحايا، بما يعني أن التطورات المحلية والإقليمية متداخلة على نحو مركب، وأن تصعيد التوتر على الساحة الداخلية قد يرتبط على نحو مباشر بنمط تعاطي القيادات التركية مع قضايا الساحة الإقليمية العالقة.

لذلك فإن التصعيد السياسي لأي من 'الباءات الثلاثة' بن على يلدرم، وزير المواصلات، أو بكير بوزداغ، وزير العدل، أو بيرات البيراك، وزير الطاقة وصهر أردغان أو حتى نعمان كورتلموش، نائب رئيس الوزراء والمتحدث الرسمي باسم الحكومة، قد لا يعني إنهاء العمل بالنظام السياسي 'الهجين' والانتقال بسلاسة إلى النظام الرئاسي. فحيثيات هذا الانتقال ومحركاته وعوامل إتمامه قد تفضي إلى مشكلات سياسية واقتصادية وأمنية يصعب تمريرها لمحض تبرير أهمية إضفاء صبغة مؤسسية على سلطات أردوغان الفعلية، والتي تبدو في واقعها 'صلاحيات فوق دستورية'.

محمد عبد القادر خليل

المصدر: المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية.

موقع الخدمات البحثية