مواد أخرى » السياسات المائية لحوض النيل.. هيكل سلطة مضطرب، وخلاف إقليمي

نزار مانيك ـ لوموند دبلوماتيك
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
ذات مرة، دعا الإمبراطور الأثيوبي هيلاسي لاسي، الدكتور إبراهيم كامل إلى أديس أبابا، واستضافه في فندق 'غيون' الذي يتقاسم سوراً نباتياً مع القصر الإمبراطوري. وقد تبادلا أطراف الحديث فيما كان الإمبراطور يقوم بتمرين مشيه الصباحي في الحديقة مع فهوده، كما يقول كامل الذي يبلغ من العمر حالياً 76 عاماً، وهو المهندس ورجل الأعمال الذي كان بين العامين 1990 و1995 عضوا في البرلمان المصري وفي اللجنة الاقتصادية البرلمانية. وكانت مثل محادثة الحديقة تلك لتركز الآن على سد النهضة الأثيوبية العظيم، الذي سيقام على النيل الأزرق بكلفة تصل إلى حوالي 4.8 مليار دولار. وترى أثيوبيا في بنائه تجسيداً وتعبيراً للسيادة القومية. لكن كامل يقول إن مصر'لا تستطيع تحمل أن تقوم بإدارة النيل بلدان تحبنا في أحد الأيام، ثم تصاب في اليوم التالي بنوبة سيادة'.
في الأثناء، يوافق أحمد أبو زيد، مستشار الشؤون الإفريقية لدى وزارة الخارجية المصرية، على أن الوضع خطير، لأنه لم يتم التوصل إلى اتفاق على إجراء دراسات فنية عن السد الأثيوبي المذكور بين البلدان الثلاثة التي يمر النهر في أراضيها. ومع ذلك، يستمر العمل في بناء السد في أعالي النهر على بعد 20 كيلومتراً من الحدود الأثيوبية السودانية. وهو لا يستبعد تبني أي استراتيجية 'سياسية أو قانونية أو فنية' فيما يتصل بمصالح مصر في نهر النيل. ووفق كامل، فإن مصر تعمل فقط ما كان هيلاسي لاسي قد فعله في العام 1925، عندما اشتكى لدى عصبة الأمم المتحدة من اتفاقيات بين بريطانيا وإيطاليا حول بحيرة تانا في أعالي الأراضي الأثيوبية. ويقول كامل: 'لقد عدنا إلى العام 1891' في إشارة إلى البروتوكول الأنغلو إيطالي الذي تم إبرامه بين بريطانيا (ممثلة لمصر والسودان) وبين إيطاليا (ممثلة أريتريا). ومن المتوقع أن يدلي المشير عبد الفتاح السيسي ببيان عن السد في حملته لخوض الانتخابات الرئاسية المصرية.
يقول كامل المنخرط في قضايا حوض النيل منذ العام 1962، إن الرئيس السابق حسني مبارك كان يريد القيام بشيء إزاء هذا الموضوع (حتى محاولة اغتياله في أديس ابابا في العام 1995)، 'لكنه قرر عندئذ إدارة ظهره لأفريقيا... إننا نعرف كيف هي الأمور منذ زمن الفراعنة. وإذا ترتب علينا الذهاب إلى الحرب فسوف نذهب إلى الحرب -نقطة. إن من السهل قصف السدود وتدميرها بالصواريخ. ولكن، من يريد ذلك؟' ثم يستذكر كامل محادثات كانت قد أجريت حول قضايا النيل مع رؤساء دول، بمن فيهم الرئيس الأوغندي يوري مسيفيني، والزعيم الليبي (الراحل) معمر القذافي، ورئيس الكونغو كينشاسا جوزيف كابيلا.
قبل حقبة مبارك، كان الرئيس أنور السادات قد هدد بأن مصر قد تذهب إلى الحرب مع أي دولة تخفض حصتها من مياه النيل. ومع ذلك، ظل السادات منهمكاً حتى اغتياله في العام 1981 في التعامل مع تطورات الشرق الأوسط: أزمة السويس في العام 1956، وحرب أكتوبر في العام 1973، واتفاقيات كامب ديفيد في العام 1978.
المحادثات تصل إلى التوقف
وصلت الاجتماعات الثلاثية بين أثيوبيا ومصر والسودان بخصوص سد أثيوبيا الكبير خلال السنة الماضية إلى جمود حاد. وقررت مصر مقاطعة العملية. وفي نيسان (ابريل) الماضي، تسرب تقرير سري لخبراء دوليين (كانت الاجتماعات قد استندت إليه) وتم بثه على الإنترنت، وهو يؤكد في جزء منه على الأسباب التي حدت بالقاهرة إلى المعارضة.
يقول كامل إنه يجب أن يكون هناك ترابط بين الدول الإفريقية (رواندا وبوروندي وتنزانيا وكينيا وأوغندا والسودانين وأثيوبيا ومصر). لكن ثمة العديد من القوى التي لها مصلحة في التعاون حوض النيل: برنامج الإنماء التابع للأمم المتحدة، ووزارة الخارجية الأميركية، والمفوضية الأوروبية وبلدان أوروبية (بريطانيا وإيطاليا والنرويج والسويد وسويسرا). ومن خلال مبادرة حوض النيل، ومنذ العام 1999، عمل المانحون الغربيون من أجل تطوير تعاون عابر للحدود بين الدول العشر التي تتقاسم مياه النيل ووضع الأسس لإنشاء لجنة دائمة لحوض النهر.
للنزاع المتعلق بسد أثيوبيا العظيم أبعاد دولية. فقد أعرب كل من سفير إيطاليا لدى مصر موريزيو ماساري، ووزير أمن الدولة في جنوب إفريقيا سيابونغا سويل، ووزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، عن اهتمام بالتوسط بين مصر وأثيوبيا. ولم تأت عروضهم من الفراغ. فقد كسبت شركة 'ساليني كوستراتيوري' التي تتخذ من ميلان مقراً لها عقداً لبناء السد في العام 2010. ولشركة الكهرباء العامة في جنوب إفريقيا 'ايسكوم' مصالح في سد 'إنغا 3' ذي القدرة التي تبلغ 4300 ميغا واط في كونغو-كينشاسا، والذي سيزود طاقة مائية لمجمع الكهرباء الجنوب إفريقي (مجمع الطاقة الدولي الرسمي الأول في إفريقيا). كما تطور تركيا علاقات اقتصادية مع إفريقيا وتريد تقاسم خبرتها في بناء سد اتاتورك في الأناضول في مستجمعات نهر الفرات (الذي تتقاسمه مع سورية والعراق). بدلاً من ذلك، سعت مصر إلى وساطة خليجية تحت قيادة العربية السعودية –في علامة على اليأس. وكان وزير الري المصري محمد عبد المطلب، فظاً بشكل استثنائي حيال تركيا (التي ساءت علاقتها مع نظام مصر المدعوم عسكرياً بسبب دعم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لحكومة الرئيس المعزول محمد مرسي). وقال عبد المطلب في شباط (فبراير) الماضي: 'عندما بنت تركيا سد أتاتورك، فإنها جعلت السوريين والعراقيين عطشى وتجاهلت الاتفاقيات الدولية'. وأضاف: 'إن مصر ليست العراق أو سورية، وأثيوبيا ليست تركيا'.
من أجل وضع حد للنزاع، يقترح كامل التحكيم أو الحرب: أو بديلاً كان قد اقترحه عالم المياه البريطاني الراحل هارولد ادوين هيرست، والذي يقضي بأن يدار حوض نهر النيل كحوض واحد بتخزين طويل ومتوسط الأجل في البحيرات السطحية الإفريقية والأثيوبية، تحت السيادة الجماعية لكل دول الحوض (عبر استخدام مستودعات وخزانات الوادي للمياه السنوية أو الفائضة، لأنه لا توجد طريقة لتخصيص سيادة لكل دولة على حدة).
بعد ثورة مصر في العام 2011، قدم كامل اقتراحاً آخر للحكومة، وقد ظل الاقتراح 'مهملاً لديها منذئذ': يجب على كل أعضاء حوض النيل تشكيل كونسورتيوم شركة (ووضع 20 بليون دولار تحت تصرفه، مع توزيع نسب حسب مشاركة كل دولة في المياه وإدارة الحوض بشكل جماعي 'من أجل جني المال للجميع'. ويقترح كامل أنه في السنوات التي يتوفر فيها 'فائض وفير من المياه التي تصب في السد العالي في مصر، فإنه يمكن بيع تلك المياه نقداً لأي بلد عضو يريدها'. ومن الممكن ضخها في أنابيب عبر البحر الأحمر للعربية السعودية، أو بيعها لليبيا، وهو ما يدر عملة أجنبية لبلدان الحوض. 'فإذا جاءت المياه من أثيوبيا، فإن ذلك يعني أن أثيوبيا ستحصل على حصة أكبر من العملة الأجنبية وإعطاء الناس حافزاً لإنفاق المال وتحسين النظام'.
يشكل السد الأثيوبي مأزقاً قانونياً أوسع بالنسبة لمصر. وتعد اتفاقية إطار العمل التعاوني لحوض النيل التي وقعت عليها أصلاً أثيوبيا ورواندا وتنزانيا وكينيا وبوروندي ورفضتها مصر والسودان، بمثابة إطار عمل جديد حول موارد المياه، والذي سيدخل حيز التنفيذ في وقت لاحق من هذا العام. وستحرم الاتفاقية مصر من الاعتراض على أي مشروع تطوير للمياه على نهر النيل. وتقول آنا اليسا كاسكاو، المتخصصة في سياسة مياه الحوض، إن الاتفاقية ستطعن في الترتيبات التي تمت في الحقبة الاستعمارية والمستندة إلى 'استخدام غير متساوٍ' للموارد العابرة للحدود (كما في اتفاقية العام 1959 الخاصة بمياه النيل بين مصر والسودان). وكانت اتفاقية إطار العمل التعاوني لحوض النيل قد جاءت من وحي معاهدة الأمم المتحدة للعام 1997 الخاصة بقانون الاستخدامات غير الملاحية لموارد المياه الدولية، والتي لم يصادق عليها بعد عدد كاف من البلدان لتكسب صفة الإلزام، لكنها أصبحت تشكل مسبقاً إطار العمل المرشد لاتفاقيات الحوض العابرة للحدود. ومن الممكن أن تكون أثيوبيا واحدة من البلدان التالية التي تصادق عليها.
في الأثناء، تبدي مصر قلقاً أكثر من الاتفاقية التي تمثل ما تصفه كاسكاو بأنه 'تحول حقبي' في جيوسياسات الحوض أكثر من كونها متعلقاً بسد النهضة الأثيوبي العظيم. وتقول إنها تعني أن على دول النيل العمل وفق قاعدة 'الاستخدام المتساوي' بحيث لا تتمتع مصر والسودان فقط بالحق في تخصيص المياه لهما. ويعمل ذلك على تغيير الديناميات في العلاقات بين أثيوبيا ومصر، وعلاقات مصر مع كتلة دول أعلى النهر. وكانت مصر قد وقعت في الشهر الماضي على صفقة تعاون عسكري مع جنوب السودان بقيادة سيلفا كير، لكن النفوذ المصري هناك لا يفعل سوى النزر اليسير لتعليق هذا التحول الحقبي. يعي دبلوماسيو مصر أهمية قرار جنوب السودان الانضمام إلى اتفاقية إطار العمل التعاوني لحوض النيل، وهم يريدون منه الامتناع عن المصادقة عليها، فيما يقول جنوب السودان إن العملية غير قابلة للنقض. وما يزال البلد يشهد اضطرابات منذ كانون الأول (ديسمبر) وهو يتفهم مزايا التقارب مع مصر. وكما يلاحظ الدبلوماسي الأثيوبي بيركوك ميكونين، فإن كلاً من السودانين يعتمدان على نهر النيل في المياه، لكنه عندما أصبح جنوب السودان مستقلاً في العام 2011، لم تكن هناك أي اتفاقية على حقوق ما بعد الاستقلال في مياه النيل. وكان بطرس بطرس غالي، وزير الدولة المصري السابق، قد تنبأ قبل 30 عاماً بالأوضاع الناشئة حين قال: 'إن الحرب التالية في منطقتنا ستكون حول مياه النيل، وليس بسبب السياسة'.
(*) نشرت هذه القراءة تحت عنوان: Water politics along the Nile

موقع الخدمات البحثية