مواد أخرى » أزمة أوكرانيا لن تنقذ الناتو... لماذا؟

راجان مينون ـ The National Interest ـ 1 نيسان، 2014
حكومة الناتو على صفيح ساخن. فالأزمة في أوكرانيا، التي بلغت ذروتها مع استفتاء مزيف، وهي ورقة توت لإضفاء الشرعية على الضم الروسي لشبه جزيرة القرم، قد اعطت التحالف الأطلسي، الذي يسير استراتيجياً على غير هدى منذ نهاية الحرب الباردة، سببا جديداً ومقنعاً لوجوده. وتزعم الشخصيات المهمة في مقر حلف شمال الاطلسي في بروكسل أن تحرك روسيا في أوكرانيا هو شهادة على التهديدات وعدم الاستقرار التي لا تزال تجعل من التحالف أمراً ذا صلة على الرغم من زوال الجيش الأحمر، وبأن أزمة القرم سوف تعزز وحدة وتصميم الناتو.
إن مثل هذا الهتاف متوقع ـ البيروقراطيات التي تواجه مشاكل ذات صلة بالتقلص معتادة على التراجع في مجال العلاقات العامة (PR) ـ لكن الواقع هو هذا: إن ما هو مرجح أن يواجهه حلف الناتو في السنوات المقبلة هو كياسة وتماسك أقل استراتيجية حتى، إضافة إلى انقسامات أعمق حول الوسائل والغايات، وانخفاض مستوى الأمن بالنسبة لأعضائه في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولا سيما تلك البلدان الأقرب لروسيا.

أولاً، بعض السياق.
عندما كان الاتحاد السوفياتي حياً وبحالة جيدة، كان يمكن للمرء أن يؤلف، وبسهولة، شعاراً بحجم ملصق ممتص للصدمات يغلف غرض حلف الناتو. وربما يُقرأ على هذا النحو: الناتو موجود لردع، وإذا لزم الأمر، لاحباط هجوم من قبل حلف وارسو على أوروبا. فهل كان الحلف قد أنشئ لضمان الهيمنة السوفييتية على الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية؟ أو هل كانت موسكو تتسلى بآمال استخدامه لقهر أو وضع نهاية لأوروبا الغربية؟ هذه الأسئلة ستظل مثيرة للجدل؛ لكن ما يهم هو أن هناك الملايين من الأوروبيين الغربيين الذين لا يريدون المعرفة وبالتالي من الذين يعتقدون أن حلف شمال الاطلسي كان ضرورياً، ولديه مهمة هم يفهمونها، وبأنه ذو صلة بحياتهم. وعندما كان يطلب منهم تفسير سبب وجود الحلف، كان يمكن لمسؤولي حلف شمال الاطلسي استحضار كلمات أمينه العام الأول، لورد إيسمي، الذي قال ساخراً ان الحلف هو لـ 'إبقاء الروس خارجاً، وابقاء الأميركيين في الداخل، والألمان في الأسفل '، وهي نكتة قدمت ميزة وفائدة إضافية تتمثل في ربط حلف شمال الأطلسي بالاستقرار الأوروبي عموماً، وليس فقط بالتهديد السوفياتي.
ما أن انهار الاتحاد السوفياتي، حتى لم يعد من السهل تقديم صياغات بليغة عن الغرض من وجود حلف الناتو. وكانت احدى الطرق التي سعى من خلالها التحالف لكسب قوة وهمَّة جديدة هي من خلال توسيع عضويته شرقاً. لكن هذا الأمر أنتج مشكلتين.

أولاً ، جعل روسيا مستاءة ومتشككة. ولم يكن هذا الشعور، وبأي حال من الأحوال، شعوراً استحضره بوتين، رغم أنه عززه بالتأكيد. وكان من الواضح أنه حتى خلال السنوات الذهبية عندما أظهر بيل كلينتون وبوريس يلتسين صداقتهما الحميمة الغريبة بأن هذا الأخير، على الرغم من الاعتداء على البرلمان بالدبابات في عام 1993، وتنظيم انتخابات مزورة بعد ثلاث سنوات، وترؤسه التجريد والبيع الاضطراري للأصول الاقتصادية المملوكة للدولة، قد اعتبر ديمقراطياً ويقارن بإبراهام لنكولن، أثناء الحرب الروسية الوحشية في الشيشان، وليس أقل. ولكن حتى في الأيام العنيفة والشديدة، عندما ارتفعت الآمال الغربية بروسيا ديمقراطية، لم يتمكن معظم الروس، بغض النظر عن توجههم السياسي، من أن يفهموا سبب زحف تحالف يرمز إلى الحرب الباردة نحو حدودهم، وكل ذلك يحدث بينما كان الغرب يشيد بالديمقراطية الروسية، يثرثر حول جلب روسيا إلى الغرب، ومعلناً أن عصر التنافس الأيديولوجي والعسكري قد انتهى. ولم يعر معظم الأميركيين أذناً صاغية الى هذه الحيرة وهذا الاستياء، الأمر الذي أثاره بوتين في استنباطه شعار الاعتزاز والفخر بالقومية الروسية. وتحول توسع الناتو ليصبح أمراً سلبياً تماماً بما يتعلق بعلاقة الغرب مع موسكو، على الرغم من أن من المثير للسخرية الادعاء أن بوتين قد ضم القرم للانتقام منه.
ان المشكلة الثانية التي انتجها توسع الناتو هي أنها جعلت تحقيق الاجماع الاستراتيجي داخل التحالف امراً أكثر صعوبة، لأسباب ليس أقلها تسمية دونالد رامسفيلد الشهيرة لأوروبا بـ 'العجوز' و'الجديدة' التي تملك، بالضرورة، وجهات نظر مختلفة عما هي التهديدات، وخاصة فيما يتعلق بروسيا. فإلى حد ما، كان التنافر مسألة حسابية. وقد زاد أعضاء التحالف، الذي كان في ذروة الحرب الباردة عبارة عن ستة عشر عضواً- كان اثني عشر عضواً في عام 1949، وهو العام الذي تم إنشاؤه فيه- في خلال ست مراحل، وبحلول عام 2009 أصبح النادي يتألف من تسعة وعشرين عضواً. إذ من الأصعب بكثير التوصل إلى اتفاق عندما يتضاعف تقريباً حجم تجمع ما: أي شخص سبق وأن ترأس لجنة كبيرة يمكن أن يشهد على قانون الأرقام الحديدي هذا. ولم يكن هذا الأمر في أي مرحلة من المراحل أكثر وضوحاً مما كان عليه عندما انقسم التحالف خلال حرب العراق، مع تحمس قسم كبير من أوروبا الجديدة وحرصها على إرضاء أميركا وأوروبا العجوز، لكن ليس كثيراً جداً.

كانت حرب العراق أيضاً مثال (وإن لم يكن الأول) عن طريقة أخرى كان حلف شمال الاطلسي ( الناتو) يعد فيها نفسه للقرن الجديد، غير السوفيتي: لقد تبنى 'عمليات خارج المنطقة'، أي وببساطة شديدة، المهمات الاستطلاعية خارج أوروبا. كان هذا أكثر من مجرد تأقلم؛ كان تحولاً بقدر ما كان لدى التحالف لجيل متقيد بهدف محوره أوروبا اجمع بين الزيادة السريعة في الأعداد مع التحرك نحو مهمة جديدة ، ماذا يحدث للتحالف؟ الإجابة: الارتباك والتفكك. وسواء أخذ المرء في الاعتبار البوسنة، كوسوفو، أفغانستان، العراق أو ليبيا، يجد أن مشاركة الناتو في هذه الصراعات 'خارج المنطقة' قد زادت من مشاكله. ولطالما كانت مناقشة الحملات خارج أوروبا مثيرة للجدل دائماً داخل التحالف؛ فأوروبا، ولأسباب مفهومة، كانت تريد التركيز القاري. لكن عندما بدأ التحالف فعلاً بالتورط في نزاعات خارج أوروبا، زاد الخلاف.
أدى صراع العراق والصراعات الأخرى التي سردتُها إلى نزاعات حول ' تقاسم الأعباء ' ( وبشكل أساس، إصرار أميركا على أن تقوم أوروبا بالانفاق أكثر على موازنة الدفاع لزيادة الإنصاف والعدالة داخل حلف الناتو ). وقد برهنت هذه الصراعات أيضاً عن المدى الذي كان معظم الناتو غير الأميركي قادراً على الحد من الإنفاق على الدفاع وتجنب زيادة الحجم والقوة العسكرية بفضل الغطاء الأمني الذي لطالما وفره العم سام . ومن نافل القول انه كانت هناك اختلافات داخل حلف شمال الأطلسي فيما يتعلق بالنسبة المئوية من الناتج المحلي الإجمالي التي يستأثر بها الإنفاق الدفاعي. مع ذلك، كان حمل عبء الدفاع للحلفاء الأوروبيين أخف بكثير من عبء أميركا. وحتما، عندما وصل الأمر إلى النقل الجوي، استعراض القوة ، وأشكال مختلفة من القوة النارية، القت الصراعات خارج نطاق أوروبا الضوء على الدرجة التي كان فيها التحالف، على الصعيد العسكري، عبارة عن عملية أميركية الى حد كبير، مع مساعدات بارعة من بعض الأعضاء، مثل فرنسا وبريطانيا. أما أثناء الحرب الباردة فلم يكن هذا الخلل لديهم كثيراُ، لكن مع ظهور عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي، بدأ التساهل في واشنطن بالنفاد.

كان هناك مصدر آخر للاحتكاك هو الاستعداد الأوروبي والأميركي المتناقض للقيام بمهمات قتالية في نزاعات غير أوروبية شائكة. تكشف هذا الأمربوضوح أكثر في الحرب في أفغانستان. فالحمل الثقيل في مكافحة التمرد ـ في مقابل المشاركة في فرق إعادة إعمار المحافظات التي أنشئت لتأمين المناطق وذلك للتمكين من التنمية الاقتصادية ـ قد تم  القيام به من خلال القوات الأميركية وتلك المنتشرة من قبل بعض الحلفاء الآخرين، وبعضهم لم يكونوا في حلف شمال الاطلسي. وكشف العراق عن نفس النمط. إن السير عالمياً لم يكن تماما ذلك المنشط الذي كان واضعو المخطط يأملونه بالنسبة لحلف شمال الأطلسي ( الناتو).

يواجه الآن حلف شمال الاطلسي أزمة في أوكرانيا. وما يجعل هذا التحدي مختلفاً بالنسبة للتحالف هو أنه 'في نفس المنطقة' اذا صح التعبير. فضلاً عن  ذلك، لم يكن العديد من الأعضاء، وفي المقام الأول بولندا ودول البلطيق الثلاث، قد ثارت مخاوفها بسبب استيلاء روسيا الوقح على شبه جزيرة القرم. إذن هل أن لعبة القوة لبوتين ومسرحية القوة غير المتوقعة التي تنقذ الوضع الميؤوس منه بحسب الظاهر (Deascii117s ex machina ) هي التي ستحدد في النهاية غرض الناتو في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وحمل جميع الحلفاء البالغ عددهم ثمانية وعشرين على السحب – وبقوة- في نفس الاتجاه؟ بالنسبة إلى المسؤولين في بروكسل والعواصم الأوروبية الأخرى، وخاصة اندرس فوغ راسموسن الأمين العام لحلف الناتو، فإن الجواب واضح لا لبس فيه: تحرك روسيا في أوكرانيا يرقى إلى دش واقعي بارد بالنسبة للتحالف، ونفس التقييم واضح في حزام العاصمة والكثير من الصحف الأميركية والأوروبية.

التقليد السائد يكاد يكون خاطئاً بالتأكيد؛ فالجدال بين روسيا والغرب بشأن أوكرانيا سوف يفاقم عناد حلف الناتو، ولا يخففه ـ  وذلك لعدة أسباب.
أولاً، إن التوسع في مقابل سهولة مقايضة الإجماع الذي ذكرت لا يزال قائماً. فما أن ينجلي غبار ضم شبه جزيرة القرم، حتى تظهر الخلافات داخل حلف شمال الاطلسي بشأن أفضل السبل لإدارة مشكلة روسيا، وحتى حول مدى ذلك. وهنا النمط الذي سوف يكون عليه ذلك: كلما اقترب الحلف أكثر من الحدود الروسية، كلما سعى، غالباً وبإصرار، الى اصدار التطمينات الكلامية والبراهين العملية عن التزام حلف شمال الاطلسي بأمن روسيا؛ وكلما ابتعد أكثر عن روسيا ، كلما كان أكثر ميلاً إلى الفرض لأنه لن يرغب في إثارة ردود فعل روسية مضادة ولا تجربة حساسية الاقتراب العميقة من المكان الناتجة عن ذلك.
ثانياً، بدلاً من تنشيط حلف شمال الاطلسي لاستئناف التوسع، من المرجح أن تجعل مناورة بوتين في القرم أقوى دول حلف شمال الاطلسي ـ تلك التي ستتولى تحمل المخاطر الكبرى في حالة حدوث حرب ـ متحفظة إزاء توسيع نطاق الحماية لغير الأعضاء على عتبة روسيا. ذلك لأن تلك التي تخشى موسكو هي الأكثر ضعفاً، وبالتالي فإنها غير قادرة على ردع روسيا حتى بجعل استخدام القوة العسكرية أكثر كلفة بالنسبة للكرملين. فضلاً عن ذلك، فإن لهذه الدول تاريخ من الصراع مع روسيا، مما يزيد من احتمالات سعيها ربما الى استرداد التعهد بالحماية. وبقدر ما تشعر مولدوفا، جورجيا، وأوكرانيا بالاستهداف والضعف في الوقت الحاضر، فإن أزمة القرم تجعل من غير المحتمل دعوة هذه الدول للدخول في حلف شمال الأطلسي، وليس أكثر. من الممكن تصور اعطائها 'عضوية خطط العمل'، رغم أنه من غير المحتمل أن يتم ذلك في أي وقت قريب، وربما تكون مسألة استرضاء ترقى، لو حدثت، إلى عملية سيطرة غامضة.

كم  تتصور كان عدد أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي القديم الذين تنفسوا الصعداء في عام 2008 لجهة أن جورجيا لم تكن جزءاً من التحالف، ولا يمكن استدعاء المادة الخامسة من معاهدة شمال المحيط الأطلسي لطلب الحماية ضد روسيا؟ أعتقد أن هذا العديد قد تنفس الصعداء وبأن عدداً مساوياً لهم كان مرتاحاَ لكون أوكرانيا لم تكن حليفاً في الناتو وهم يشاهدون روسيا تستولي على شبه جزيرة القرم في الآونة الأخيرة. ولم يكن الرئيس أوباما وحده يشدد على أن الحرب مع روسيا حول اوكرانيا ليست فكرة نافعة؛ وكذلك فعل منتقدوه المتشددون، مثل السيناتور جون ماكين، ناهيك عن القادة الأوروبيين.
ثالثاً، وبما يتعلق بكل الحديث لأكثر من عقد حتى الآن حول حل نزاع تقاسم الأعباء في حلف الناتو، لم ينجز إلا القليل مما له قيمة على هذا الصعيد. فالتفاوت بين مساهمة أميركا في الدفاع المشترك والنسبة المكرسة من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري والقوة العسكرية والدفاعية وبين النسبة المخصصة للقوة العسكرية والدفاعية من الناتج المحلي الإجمالي لشركاء التحالف يبقى تفاوتاً صارخاً، ولم يتم تخفيضه حتى الآن. ومن الصحيح الآن القول بأن وزارة الدفاع الاميركية سوف تقزم ، بالضرورة، أي عضو فردي في حلف شمال الاطلسي، وحتى تقزيم التحالف ككل، نظراً إلى أن أمريكا هي القوة العظمى ذات الالتزامات العسكرية في جميع أنحاء العالم. لكن هذا المقياس ليس ذي الصلة. فما يهم هو اتخاذ خطوات بخصوص حصة الناتج المحلي الإجمالي المخصصة للدفاع والخطوات التي اتخذتها دول حلف شمال الاطلسي (أو لا) لزيادة القدرات العسكرية ذات الصلة بالدفاع عن أنفسهم وتلك التي لزملائهم الحلفاء.
 بالتالي ينظر للأمر على أنه لا يزال هناك الكثير من الركوب المجاني داخل حلف الناتو. هذا الأمر يؤدي الى الاعتقاد بأنه بعد ثلاثة وعشرين عاماً على انتهاء الحرب الباردة، وما يقرب من سبعين عاما من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي تعافت فيها أوروبا من آثار الحرب المدمرة وبرزت كمركز للقوة الاقتصادية العالمية، لا يستطيع الناتو من غير أميركا أن يفعل ما هو أكثر لصالح الدفاع عن نفسه. ففي عام 2010، شكل الاتحاد الأوروبي 26 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، والولايات المتحدة 23 في المئة. ومهما كانت أسباب الخلل في تقاسم الأعباء، فإن عدم قدرة أوروبا على تحملها ليست احدى الأسباب.
مع ذلك، يستمر التفاوت في تقاسم الأعباء، كما يشهد التباين في الحصة النسبية من الناتج المحلي الإجمالي التي يخصصها أعضاء التحالف للدفاع. فقد كان متوسط النسبة لحلف شمال الأطلسي الأوروبي في عام 2013 1.6 في المئة ؛ أما بالنسبة للولايات المتحدة فقد كانت 4.3 في المئة. أكثر من ذلك، كان هناك انخفاض  شبه مطرد في المساهمة الأوروبية النسبية في الناتو كما يتضح من البيانات حول المعدلات المتتابعة على مدى أربع سنوات بين عامي 1990 و 2009. وكان أعلى معدل ما بين عامي 1990-1994  2.7 في المئة، لكن معدل النسبة المئوية السنوية انخفض من 1.7 في عام 2010 إلى 1.6 و منذ ذلك الحين وهو ثابت. أما بالنسبة للولايات المتحدة، في المقابل، فقد كان متوسط النسبة المئوية بين عامي 2010 و 2013 هو 4.6 بالمئة.  ولم تخصص سوى ثلاث دول- فرنسا، اليونان، وبريطانيا- 2  في المئة أو أكثر، ولم تتجاوز أي من هذه الدول نسبة 2.4 في المئة ، وكانت 19 دولة تقف عند نسبة 1.5 في المئة أو أقل. ما هو واضح من هذه الأرقام فهو أن من الصعب الادعاء أن حلفاء أميركا الأوروبيين يتحملون العبء المناسب للدفاع عن أنفسهم. إن مقارنات نسبة الدفاع من الناتج المحلي الإجمالي لها حدود، لكن الصورة لا تتغير إذا ما ركز المرء على الجبهة التشغيلية ودرس، على سبيل المثال، تنسيق الجهود الأوروبية لتحسين الكفاءة في مجال المشتريات، زيادة قدرات القوة النارية واستعراض القوة العسكرية، أو وضع شعبة معقولة لتقسيم المسؤوليات.
إن آفاق التغيير ضئيلة.ونقول ببساطة، ان الدعم السياسي داخل أوروبا لتكثيف الإنفاق الدفاعي ضعيف في أحسن الأحوال؛ وبينما يستمر السكان في التقدم بالسن فإن مطالبات كبار السن بدولة الرعاية الاجتماعية سوف تزداد، ما يحد من وجود المزيد من الحماس بأنه سيكون هناك الآن تعزيز للقوة العسكرية. صحيح أن أوروبا تحاول تقليم النفقات على الخدمات العامة، لكن تقاليد الدولة بشأن توفير الخدمات الاجتماعية والمكاسب المختلفة وقوة النقابات كانت وستبقى أكثر مرونة بكثير في أوروبا منها في أميركا.
خفت الكلام حول مسألة تقاسم العبء أثناء الحرب الباردة ويرجع ذلك، جزئياً، إلى أن أوروبا التي مزقتها الحرب كانت تتعافى خلال العقود الأولى في حين كانت أميركا مزدهرة. لكن في السنوات الأخيرة، خصوصاُ منذ 'الكساد العظيم'، تظهر استطلاعات الرأي أن الامريكيين في حالة من القلق حول فرص حصولهم على العمل، عدم المساواة في الدخل، الحراك الاجتماعي، نوعية المدارس التي تسعى إلى تثقيف أطفالهم، البنية التحتية القديمة، ويريدون الحد من الانفاق الدفاعي او حتى الاقتطاع منه. وبالتالي فان احتمال اقتناعهم بأن حلفائهم الأغنياء لا يمكنهم فعل المزيد لحماية أنفسهم بعد اليوم هو أقل بكثير. نتوقع اشتداد حدة النقاش حول تقاسم اعباء حلف الناتو.
السبب الأخير لماذا أوكرانيا لن تكون الرصاصة في ذراع التحالف بحسب ما يتوقع العديد من المعلقين هو أن القوى الكبرى في أوروبا سوف تأتي في نهاية المطاف وتصنع السلام مع روسيا، ليس فقط لأنها لا تريد وخز الدب في عينه ولكن أيضا لأن هذه القوى تراهن رهاناً كبيراً، وبالمعنى الحرفي للكلمة، على ممارسة الأعمال التجارية مع روسيا.
بلغت قيمة التجارة بين روسيا والاتحاد الأوروبي 337 مليار يورو في عام 2012، أي بزيادة أكثر من ثلاثة أضعاف عن الرقم في عام 2002، وهي اليوم ما يقرب من عشرة أضعاف قيمة الدولار في التجارة بين الولايات المتحدة وروسيا. هناك الكثير من الوظائف على المحك بالنسبة للأوروبيين، والكثير من المال أيضا. إن الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الاول لروسيا، وروسيا هي ثالث أكبر شريك للاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من الوضع المعقد للقرم، فإن الأعمال التجارية بين روسيا وأوروبا مستمرة. وبحسب ما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً، فإن شركة توتال، عملاق الطاقة الفرنسية، تمضي قدماً في التعاون مع شركة لوك أويل الروسية للاستفادة من طبقات الصخر الزيتي، وفي الأسبوع الماضي فقط طلبت روسيا من شركة ايرباص 13 طائرة. ما هو صحيح أن فرنسا تتولى الأمور بالنسبة للبلدان الأوروبية الرئيسة الأخرى. قد تصبح هذه الدول حذرة بشأن الاستثمار في روسيا وستسعى بلا شك للحد من اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي، التي تقترب من نسبة 30 في المئة في المتوسط بالنسبة للاتحاد الأوروبي لكنها أعلى بكثير بالنسبة لدول البلطيق الثلاثة، سلوفاكيا، بلغاريا، اليونان جمهورية التشيك، والمجر، حيث يتراوح الاعتماد على الغاز الروسي ما بين 75-100 في المئة. إن الاتحاد الأوروبي يسعى بالتأكيد إلى تنويع واردات الطاقة واستخدام أكثر للغاز الطبيعي المسال، لكن الاعتماد على الطاقة من روسيا لا يزال كبيراً، و سوف تستمر شركات الطاقة الأوروبية بتوقيع الصفقات مع شركتيْ غازبروم  وروسنفت بمليارات الدولارات.
إن المؤشر الأكثر دلالة على قوة دافع الربح، ما بعد شبه جزيرة القرم، قد يكون مواصلة المبيعات العسكرية الفرنسية والألمانية إلى روسيا. فبالنسبة لفرنسا، وأكثر من ذلك بالنسبة لصناعاتها الدفاعية الضعيفة، فإن الإيرادات من المبيعات لروسيا لها أهمية خاصة، مثال على ذلك صفقة بلغت قيمتها 1.7  مليار $ في عام 2011 لبيع أربع سفن برمائية هجومية من نوع ميسترال. وقد لمح الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزير الخارجية لوران فابيوس إلى أن أي تحركات روسية إضافية في أوكرانيا قد تضع المعاملات العسكرية في خطر- وبامكانها ذلك فعلا- لكن أيضا من الجدير بالذكر أنه تم توقيع اتفاقية ميسترال بعد ثلاث سنوات فقط من ذهاب روسيا إلى الحرب ضد جورجيا. ويكاد يكون من المؤكد أن يؤدي إلغاء العقود الحالية إلى إثارة رد فعل روسي. وقد حذر نائب رئيس الوزراء وصناعة الدفاع سيزار ديمتري روغوزين من أن روسيا سوف تطالب بالفعل باعادة أموالها إذا ما أخفقت فرنسا بتسليم سفن من نوع ميسترال في الموعد المحدد.
وقد كشفت أزمة أوكرانيا أن الغرب، وأوروبا على وجه الخصوص، غير راغب في إلحاق ضرر اقتصادي حاد بروسيا من خلال تدابير مثل القيود المفروضة على التجارة والأعمال المصرفية وحظر الاستثمارات في قطاع الطاقة. حتى أن وزير بولندا خارجية بولندا، راديك سيكورسكي، الذي، على غرار العديد من مواطنيه يعتبر روسيا تهديدا خطيراً، أشار إلى حقائق الجغرافيا وعندما سئل لماذا أوروبا ليست مستعدة لفرض عقوبات صارمة على روسيا، كان أكثر تحفظاً بكثير حول استخدام الضغوط الاقتصادية ضد موسكو من الولايات المتحدة الأميركية.
أما بوتين من جانبه، فسوف يقصر فوزه على شبه جزيرة القرم، غياب الاشتباكات بين الروس والأوكرانيين في دونباس، والتحرك لتحقيق الاستقرار، ومن ثم تحسين العلاقات مع الغرب- ولا يعني أن ذلك سوف يكون من السهل تحقيقه أو سوف يتم بسرعة. انه يفهم جيداً أن استمرار المواجهة مع الغرب أو جهود ضم أجزاء من شرق أوكرانيا قد يثير عقوبات صارمة تتجاوز الصفع الحالي على اليد: حظر السفر وتجميد أصول أباطرة ومسؤولين روس مستهدفين. ويدرك أيضاً، كما الروس الآخرين، أن حرق الجسور مع الغرب سيترك روسيا معزلة في مواجهة الصين الصاعدة على حدودها الجنوبية.
للمفارقة، فإن بين مزايا بوتين هو قوة الغرب في الأرقام. فحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي يحويان اكثر من 24 دولة، وقد أثبتت موسكو مهارتها في نشر التجاذبات الثنائية المتنوعة لإفشال سياسة غربية متماسكة، متواصلة تجاه روسيا. إن التموجات الناتجة عن الاعتداء الروسي على أوكرانيا سوف تستغرق وقتا طويلاً لتسويتها، لكن هذه التسوية ستتم ، بسبب جهود موسكو، واشنطن وأوروبا. نحن لا نتجه نحو حرب باردة في النهاية، أو حتى نحو فترة انقطاع طويلة الأمد بين روسيا والغرب. إن الفكرة بأن الخوف من روسيا المستعيدة لعافيتها في أعقاب أزمة القرم ستخلق اجماعاً استراتيجياً أقوى وأكثر صلابة داخل الناتو، ناهيك عن تزويده بمهمة متماسكة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، هو مجرد تمني. ينبغي على حلف شمال الاطلسي وضع تصور لمستقبله. ولا ينبغي أن نفترض أن ما قامت به روسيا في أوكرانيا سوف يجعل هذه المهمة أسهل.
(*) ترجمة إيمان سويد ـ خاص موقع مجموعة الخدمات البحثية

موقع الخدمات البحثية