مواد أخرى » المحاربة أم القبول: الدين والعملية السياسية في نيو ليبرالية كل من تركيا ومصر؟

سيهان توكل ـ Development and Change
نشر لصالح معهد الدراسات الاجتماعية، لاهاي


الملخص
إن التوقع البولاني ( نسبة إلى كارل بول بولاني المؤرخ الاقتصادي المجري ، الأنثروبولوجيا الاقتصادية و الاقتصاد السياسي، عالم الاجتماع والفيلسوف الاجتماعي التاريخي . وهو معروف بمعارضته للفكر الاقتصادي التقليدي و كتابه "التحول الكبير" .أصبحت نظرياته في نهاية المطاف الأساس للحركة الديمقراطية الاقتصادية ) بأن الاقتصاد السوقي المضطرب سيؤدي إلى حركات وسياسات تسعى إلى "ترسيخ" وغرس السوق في مجتمع بحاجة للتعديل عن طريق التدقيق أكثر بالسياقات التاريخية والدينية والسياسية. تدرس هذه المادة كيفية تجاوب الحركات إزاء الاقتصاد السوقي. ويواصل التحليل عمله من خلال المقارنة بين الليبراليتين الجديدتين التركية والمصرية، الحركات الدينية في العقود الماضية، المعارضة العلمانية، وأخيراً العمليات الأخيرة، التي أدت إلى اتخاذ مظاهر وصور اجتماعية مختلفة عموماً حول الليبرالية الجديدة. أما المفارقة في الحالة التركية فهي أنه مع تمكين الاسلاميين، تم اسكات المعارضة الدينية لليبرالية الجديدة وكان هناك مزيداً من التهميش للمعارضة العلمانية وتصنيفها بأنها "مناهضة للديمقراطية ". نتيجة لذلك، لم تستمرسياسات السوق الحرة فحسب، بل تعمقت وتكثفت، محولة تركيا إلى " قصة نجاح " نيوليبرالية. إن تعبئة الشباب والعمال في مصر( حتى الآن )  يجعل التقليد المباشر أمراً غير مرجح. وثمة عامل رئيس آخر يحول دون التوصل إلى حل " تركي" لأزمة مصرهي البنية المتناقضة للمجالات الدينية. فضلاً عن ذلك ، وفي حين عززت الثورة السلبية المجال المهني ووحدت الساحة الدينية في تركيا أكثر، يبدو أن لعملية الثورية في مصر تعزز تشرذم الساحة الدينية. وتشير هذه المادة إلى أن جعل الإسلام متوافقاً مع الليبرالية الجديدة سيكون أمراً أكثر صعوبة في بلد ساحته الدينية مجزأة، كمصر. وعلى الرغم من أن الليبرالية الجديدة قد فُرضت من فوق وجرت مقاومتها من تحت في كلا البلدين، فقد تم تبنيها في تركيا باسم الإسلام والديمقراطية، في حين تبقى في مصر مفروضة فرضاً ولا تزال النضالات الشعبية ضدها قائمة. ويُشار هنا إلى أن هذه العملية وهذا النهج الميداني لمشكلة بولانية يمكن أن يسلط الضوء من جديد أيضاً على النقاشات حول " الليبراليات الجديدة القائمة فعلا".

مقدمة
كيف يمكن أن نفسر الشعبية المتفاوتة لإصلاحات السوق، والتناقضات في الصراعات ضدها، في مختلف البلدان؟ تدرس هذه المادة المسارات النيوليبرالية المماثلة، مع ذلك المتمايزة، لتركيا ومصر.على الرغم من أن هذه المسارات قد شكلت التعبئة المضادة للسوق، تثبت التحليلات أدناه أن المؤشرات الاقتصادية لا تأخذ في الحسبان جميع الاختلافات فيما يتعلق بالتبني الشعبي للنيوليبرالية ( إيديولوجية قانون السوق الحرة).

يتفق إرث طويل من النقد البولاني لليبرالية الاقتصادية على أن اقتصاد السوق يولد الثروة والنمو، لكنه يشير إلى أنه لا يمكن أن يولد الوظائف والعدالة الاجتماعية ( ريتشارد واتربوري، 2007؛ Stiglitz ، 2002). لذا من غير المستغرب أن تكون الليبرالية الجديدة الأكثر شمولاً في تركيا يقابلها ارتفاع معدلات البطالة وعدم المساواة عما هو عليه الحال في مصر. في كل الأحوال، توقع أيضاً البولاني والبولانيون أن يؤدي مثل هذا التشويش الاجتماعي إلى اضطرابات اجتماعية وإلى "ترسيخ" حتمي للسوق (بلوك، 2003؛ إيفانز، 2008؛ سومرز، 2008). أما حجة بولاني الأصلية ( 2001 ] 1944[: 174-84) فقد كانت تنطوي على  فكرة هي أنه كلما كانت القوة التدميرية للسوق أكثر حدة، كلما كان التحرك المضاد ضد الاقتصاد السوقي من أسفل إلى أعلى أكثر. وقد أشارت حججاً لاحقة إلى أن هناك عوامل أخرى، مثل تقاليد التنظيم الذاتي، قد توسطت تأثير إصلاحات السوق (Burawoy 2004: 221-22). حتى الآن يبقى السؤال هو التالي: كيف ينبغي لنا أن نحلل، نسبياً، العلاقات بين اقتصاد السوق والتحركات ضد هذا الاقتصاد؟ ما هي العوامل التي جعلت التحرك من أسفل إلى أعلى أكثر احتمالا؟ إن هذا المقال يلقي الضوء على هذه الأسئلة من خلال التركيز على التفاعلات بين إصلاحات السوق، الحقول الدينية والعمليات السياسية.

على الرغم من أن هذه المادة لا تقدم تحليلا شاملاً للمجالات الدينية والسياسية، فإن هذه الدراسة تستند إلى مقاربة سوسيولوجية سياسية مقارِنة لمفهوم بورديو لهذا المجال. فالحقل هو شبكة قوى تنافسية، حيث تتمتع كل مؤسسة بالقوة على أساس اختلافاتها عن لاعبين آخرين. في هذه اللعبة من التمايز، لا يكون لدى كل لاعب من اللاعبين موارد معينة تحت تصرفه فحسب (مثل الموارد المالية، أشكال تنظيمية وقدرات متمايزة، وما إلى ذلك)، وإنما هناك أيضاً قابليات متناقضة فيما يتعلق بكيفية لعب اللعبة. ويُشار هنا إلى أن بنية المجالات الدينية تختلف عبر الحدود الوطنية (فضلا عن موازين أخرى) على أساس مدى وحدتها أو انقسامها ـ ما يعني ما إذا كان بامكان مؤسسة واحدة رئيسة أن تدعي التحدث باسم الدين في كل البلاد، على سبيل المثال، من خلال استيعاب اللاعبين الدينيين الرئيسيين في حزب جماهيري ما.

إن المجتمع التركي أكثر تفاوتاً بكثير، لكنه أقل تعبئة ضد الليبرالية الجديدة من مصر. ومن غير الواضح حتى الآن ما إذا كان سيتم ترسيخ السوق في مصر ليصبح جزءا لا يتجزأ منها، لكن هناك معارضة كبيرة لاقتصاد السوق. فلم لم تلاق الليبرالية الجديدة التركية إلا احتجاجاً محدوداً؟ لا شك في أن اعادة التكيف المعذبة مع دولة الرعاية الاجتماعية الليبرالية ( السياسات الصحية على وجه الخصوص) هي الأساس المهم للقبول، لكن برامج الفقر المقيدة لا يمكن في حد ذاتها شرح الاذعان والرضوخ بشأن العلل الأخرى لليبرالية الجديدة (مثل البطالة، تدهور التعليم، الفقر، وعدم المساواة المستمر ). يمكننا أن نفهم هذا فقط من خلال دراسة الكيفية التي كان بها الدين والسياسة قادرين على جعل السوق شعبياً في تركيا، في حين اتخذ تفاعلهما اتجاهاً مختلفاً إلى حد ما في مصر.

تستند هذه المراجعة للتحليل البولاني على اقتراح، الملمح لها فقط في هذه المقالة، يقول بأن فهماً دقيقاً ل لليبرالية الجديدة يتطلب نهجاً ذي شقين يدرس المفاصل الكلية والجزئية لأبعاد الليبرالية الجديدة. إن معظم ما كتب حول الليبرالية الجديدة كان منقسما إلى شعبتين: كان الباحثون مركزين إما على الخصخصة، رفع القيود، التخفيضات في الانفاق على الرعاية الاجتماعية والإعانات الزراعية، والانضباط المالي ( ديفيس، 2006؛ هارفي، 2005)، وإما التركيز، بدلاً من ذلك، على تطوير الفردانية والشخصانية التي تركز على المسؤولية (براون، 2005؛ فوكو، 2008 [ 1978-1979 ]؛ أونج، 2006). في كل الأحوال، قد تتفاعل عمليات متعددة الأوجه في كل بعد من الأبعاد مع بعضها البعض لتؤدي بذلك إلى مسارات مختلفة من الليبرالية الجديدة. ففي حين تركز هذه المادة، في المقام الأول، على الأبعاد الكلية لليبرالية الجديدة، فإنها تدمج المستويات المتوسطة ( الحقلين السياسي والديني)، مما يسمح لنا بربط أفضل للعمليات الكبرى والصغرى. ورغم أنه لم يتم درس الليبرالية الجديدة للتصرفات والنزعات الشخصية في العمق هنا، فإن التعريف الناجح لليبرالية الجديدة، باعتبارها عملية ملوثة ومتنازع عليها دائما ( بيك، 2010)، يشتمل على عناصر( موجهة نحو السوق ) تمتد من الخصخصة، رفع القيود، التخفيضات في الانفاق على الرعاية الاجتماعية والإعانات الزراعية ( أو إعادة الهيكلة التسليعية لها )، إلغاء النقابات، وصولاً إلى تطوير المستوى الجزئي للنزعات الموجهة نحو السوق (راجع كايل، 2002). هذا التركيز مفيد، بحسب طرحي، لأن تحولاً موجهاً نحو السوق في رغبات وترتيبات قطاعات واسعة، متعددة الطبقات من السكان أمر مفيد للمؤشرات الكلية لليبرالية الجديدة.

السياسات النيوليبرالية
تركت ثورة مصطفى كمال أتاتورك من فوق إرثاً من هيمنة جماعات المصالح الكبرى الاستبدادية في تركيا التي تحررت تدريجياً بعد عام 1950. وتم منع الصراع الطبقي ودمج القطاعات في الدولة على أساس المهنة ونظام العمل (ولكن ليس بنفس الدرجة كما هو الحال في مصر). ورغم أن التوجه العام للنظام المصري كان مماثلاً، لكنه كان أقل ديمقراطية أيضاً. كان إدماج المصالح الخاصة (أيوبي، 1994)، الأعمق بكثير مما كان عليه في تركيا، قد نظم من خلال اتحاد تديره الدولة وحصص العمال في البرلمان والهيئات المنتخبة الأخرى. كانت الرأسمالية الصناعية للاستيراد والاستبدال الموجه هي السيادة على الأرض في كلا السياقين.

في تركيا، كانت السياسات الاجتماعية تستند إلى انظمة الشركات المحافظة الموجهة للأسرة، والتي تفترض أن يكون المستفيدون الرئيسيون من الرعاية الاجتماعية هم الناس الذين لا تستطيع أسرهم الاعتناء بهم (بوجرا وكيدر 2006). وفي أسلوب نموذجي لأنظمة الشركات، كانت  المكاسب الاجتماعية (وليس فقط الصحة والمعاشات التقاعدية، وإنما حتى أيضاً مخيمات العطل والنوادي الاجتماعية ) منظمة على أساس القطاعات. وهذا كان يعني أن الموظفين الرسميين في القطاعين العام والخاص كانوا ذوي امتيازات بشكل غير متناسب بالمقارنة مع باعة وعمال غير رسميين.

في البداية، كانت "الاشتراكية العربية " تهدف إلى توسيع نطاق الخدمات الاجتماعية وحتى التوظيف بالنسبة لكل السكان و توزيعها بانصاف. لقد كانت الرؤية المصرية أكثر جرأة من جماعات المصالح الكبيرة التركية المهيمنة على الدولة. لكن مع تباطؤ التنمية، أصبح من الواضح أن المزايا الاجتماعية في طريقها للاقتصار على الموظفين الرسميين في القطاعين العام والخاص. وكما هو الحال في تركيا، كان العمال غير الرسميين الخاسرين من جماعات المصالح الكبيرة المهيمنة ( واتربوري، 1983: 223 ). وقد حاول النظام المصري التعويض عن هذا الضعف من خلال تقديم الإعانات من الضروريات الأساسية (أهمها الخبز ) التي كان من شأنها تنتشر وتمتد لتشمل كل السكان. مع ذلك، ولا سيما في عهد السادات ومبارك، أصبح دعم الخبز أقل منهجية بكثير.

إن تحريراً حاسماً للاقتصاد في سياق شركاتي شامل هو ما ميز تركيا ملحوظ بين عامي 1950 و 1980 ، ومصر ما بين حوالي العام 1971 وعام 1990. أما في تركيا، فقد وضع المجلس العسكري في سبتمبر/ أيلول عام 1980 في حيز التنفيذ الإصلاحات الليبرالية الجديدة المقترحة من قبل صانعي السياسة في وقت سابق من ذلك العام ( 24 كانون الثاني/ يناير ). وقد وسعت تركيا، في الوقت نفسه، نطاق نفوذ الإسلام الرسمي من أجل محاربة اليسار، في حين قامت بقمع تعبيرات مستقلة للإسلام وذلك منعاً لظهور معارضة دينية للاتجاه الجديد الذي كانت البلاد تتجه نحوه. بعد إغلاق الجيش لجميع الأحزاب والمنظمات المدنية الموجودة في عام 1980، قاد حزب يمين الوسط الجديد ( حزب الوطن الام أو ANAP ) عملية الليبرالية الجديدة التي كانت مدعومة من قبل رجال الأعمال العلمانيين، التجارالمتدينين وطبقة مهنية علمانية جديدة تتركز في القطاع الخاص.

كان المجتمع لا يزال منقسماً في غالبيته على أساس طبقي وعبَّرت الشكوى عن نفسها من الليبرالية الجديدة في التصويت لصالح الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SHP). في كل الأحوال، كان هذا الحزب أضعف ونسخة أقل يسارية  من حزب الشعب الجمهوري ( CHP ) في السبعينات، (وهو الحزب المؤسس للجمهورية وكانت ايديولوجيته الرئيسة القومية العلمانية، لكن كان لديه صبغات متضاربة على مدى عقود)؛  في غياب وجود اليسار الاشتراكي والشيوعي القوي (الذي أعدم قادته وأعضاؤه وسجنوا ونُفوا بشكل جماعي )، كان الحزب الديمقراطي الاجتماعي ( SHP ) حراً أيضاً من ضغط  دفع ضريبة كلامية لمثاليات متساوية. وبالتالي، وبدلا من معارضة الليبرالية الجديدة، وعد الحزب الديمقراطي الاجتماعي بالتلطيف منها، بعد مثال أحزاب الطريق الثالث في الغرب. مع ذلك، كان الأداء البلدي والحكومي لحزب الديمقراطي الاجتماعي محزناً.

لقد أساءت  أحزاب الوسط، المنقسمة وغير الكفوءة، والمراقبة من جانب صندوق النقد الدولي إدارة الإقتصاد على امتداد التسعينات (على الرغم من أنه لا زال "متحرراً " لكن بطريقة متقطعة) والذي أدى في نهاية المطاف إلى الانهيار المالي عام 2001، عندما أصبح البلد كله أكثر فقرا بين عشية وضحاها (كيدر، 2004). وبحسب ما يفترض جيمي بيك (2010)، ويا للسخرية، فإن إخفاقات اقتصاد السوق الحرة في عصرنا يتم حلها من خلال اقتصاديات السوق الحرة. وتم استدعاء كمال درويش، وهو شخصية رفيعة في البنك الدولي، على عجل. ووضع درويش مخططاً لرفع الضوابط التنظيمية العدوانية واجراءات الخصخصة التي سادت تركيا في العقد التالي. وتم تعزيز الروابط الضيقة أساساً مع مؤسسات الإجماع في واشنطن مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ( والتابعة لها) من خلال مثل هذه التحركات.

كانت مصر موطناً لخصخصة واسعة النطاق والتحرر من القيود من السبعينات وحتى التسعينات: وقد جلبت هذه الإصلاحات معها النمو المستمر والثابت في النصف الأول من الثمانينات إلى جانب انخفاض الأجور الحقيقية، وزيادة البطالة والفقر (Kienle، 1998). وأدى خفض الدعم الذي فرضه صندوق النقد الدولي ( للخبز والسكر وغيرهما) إلى أعمال شغب ووفاة 77 شخصاً في عام 1977. وأعطى صندوق النقد الدولي بسرعة قروضاً ضخمة؛ وأعيد العمل بالإعانات. بعد تلك المرحلة، تم التخلص، تدريجياً وسراً، من سياسة الدعم والاعانات. ويقول سالفوراكيس وعبدالحليم ( 2008:40) بأن " عدد الأغذية المدعومة انخفض من ثمانية عشر في عام 1980 إلى أربعة فقط في عام 1995. وكان الخبز، دقيق القمح، السكر، والزيت الصالح للأكل هو كل ما تبقى مدعوماً في ذلك العام ". وفي السبعينات والثمانينات، كانت استراتيجية النظام العامة إدراج المتطرفين الإسلاميين والدمقرطة الجزئية من أجل التعامل مع الاضطرابات المتزايدة.

بعد سياسة الباب المفتوح السادات، زادت التخفيضات في الاعتمادات الحكومية للمزارعين وتزويد الريف بالمؤن (على سبيل المثال توفير التسويق) من نسبة الفقر في الريف ( بوش، 2007: 1603-1605)، وهي تحولات مشابهة  لتلك التي خضعت لها تركيا في الثمانينات فصاعداً. ولم تكن المعارضة السياسية لهذه الإصلاحات الريفية منعدمة، ولكنها كانت ضعيفة ( المرجع نفسه: 1606 – 08). في كل الاحوال، يبدو بأن نيو ليبرالية السادات (وحتى في السنوات القليلة الأولى من حكم مبارك )، على التوالي، كان لها أثر فاتر، على الرغم من الاحتجاجات التي ولدتها. لقد كان رفع القيود، الخصخصة، وتحول التركيز من الصناعة إلى الخدمات والتمويل أموراً غير حاسمة (شختر، 2008؛ ستيوارت، 1999: 142). جاء التحول النيوليبرالي الحقيقي في بداية التسعينات بظل حكم مبارك مترافقاً مع القمع بالجملة لجميع القوى الاجتماعية التي تستطيع التعبير عن الاحتجاج. فالاضرابات والعنف التي شهدتها بداية التسعينات قمعت بسرعة. وهناك عدة طرق لقياس الفقر وكلها تشير إلى أن الربع الأخير من القرن شهد زيادة حادة في مستوى الفقر (إبراهيم 2004: 482 ). وكان نمو الناتج المحلي الإجمالي متقلباً بين عاميْ 1980 و2000. وكان القطاع الأسرع نمواً هو قطاع البناء (إبراهيم 2004: 485 ).  وفي العقد الأخير من القرن الماضي، أصبح حتى مجلس الوزراء مهيمناً عليه من قبل رجال الأعمال، ذروة الليبرالية الجديدة في أجهزة الدولة.

على الرغم من العديد من الاختلافات، يعرض البلدان أيضاً بعض أوجه الشبه في عملية الاقتصاد السوقي. وقد تباطأ التصنيع في كلا البلدين في العقود الأخيرة. وكانت محركات النمو هي السياحة، التمويل والبناء (مع بعض التصنيع التي كانت لا تزال على الهامش، مثل قطاع الغزل والنسيج، الذي يعتبر هاماً في كلا البلدين). إن غلبة وهيمنة السياحة، البناء والتمويل حال دون حصول قفزات كبيرة في مجال التصنيع أو التطور التكنولوجي رغم النمو المطرد في كلتا الحالتين (ريختر وشتاينر، 2008: 955). وهذا متناقض بشكل حاد  إزاء نيو ليبرالية الهند الموجهة للتكنولوجيا العالية، على سبيل المثال.

الجدول 1. النسبة المئوية للتغير في الناتج المحلي الإجمالي
          2000   2001   2002   2003   2004   2005   2006   2007   2008   2009  2010      ____________________________________________________________
مصر    5.4      3.5     3.2      3.2      4.1     4.5      6.8      7.1     7.2     4.7       5.1
تركيا    6.8      5.7-    6.2      5.3      9.4     8.4      6.9      4.7     0.7      4.8-     8.9
المصدر: بيانات الاستشراف الاقتصادي العالمي، صندوق النقد الدولي

الجدول 2. إجمالي البطالة (٪ من إجمالي القوى العاملة)
         1996  2000  2001  2002  2003  2004  2005  2006  2007  2008  2009  2010      ____________________________________________________________
مصر   9.0     9.0      9.4    10.2   10.4   10.7  11.2   10.6   8.9    8.7     9.4      9.2 
تركيا   6.6     6.5      8.4    10.4   10.5    10.8  10.6  10.2   10.3   11.0   14.0   11.9      
المصدر: مؤشر التطور العالمي لعام 2010، البنك الدولي

الجدول 3. أسهم النفقات حسب المقياس المئوي للسكان
          السنة       حد أدنى      حد أدنى     الثاني      الثالث     الرابع       حد أعلى        حد أعلى        
                        10%        20%       20%      20%     20%      20%             10%     ____________________________________________________________
مصر   2004-05   3.9         9.0         12.6      16.1       20.9      41.5            27.6
تركيا    2006       2.0         5.4         10.3       15.2      22.0       47.1           31.3          
____________________________________________________________    
المصدر: مؤشرات التطور العالمي لعام 2010، البنك الدولي     
                                                
عموماً، يمكن القول أن الليبرالية الجديدة التركية كانت أكثر نجاحاً بكثير وأكثر تشويشاً على الصعيد الاجتماعي من نظيرتها المصرية ( كما يمكن لأي شخص بولاني أن يتكهن). ويبين الجدول رقم 1 أن معدلات النمو التركية كانت أعلى بما لا يقاس بين عامي 2001 والأزمة العالمية سنة 2008، مما يجعل من المجتمع التركي، الأكثر ثراء أساساً، أكثر ثراء من المجتمع المصري. مع ذلك، كانت البطالة التركية  وعدم المساواة أعلى بكثير أيضاً (انظر الجدول رقم 2). ووفقاً لتقرير التنمية البشرية عام 2009 (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2009)، كانت درجة Gini (1992-2007) 43.2 بالنسبة لتركيا و32.1 بالنسبة لمصر، مما يدل على وجود اختلال في التوازن أكثر وضوحا بكثير في توزيع الثروة في تركيا. وتظهر مقارنة أيضاً بين توزيع الدخل من خلال النسب المئوية (الجدول 3) عدم المساواة الأكثر تطرفاً في تركيا.

هناك أيضا دلائل على أن الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية في تركيا، التي هي بالأساس أكثر وضوحاً من تلك التي لمصر (انظر الجدول 4)، قد ازدادت حدتها في عملية الليبرالية الجديدة. ويدل على ذلك، على سبيل المثال، الزيادة في معدلات الفقر الريفية - حتى خلال السنوات التي انخفض فيها الفقر في المناطق الحضرية في تركيا (على سبيل المثال، انظرT¨U˙IK، 2011). بالمقابل، تزايد الفقر في المناطق الريفية والحضرية المصرية بنمط أكثر توازياً مع بعضهما البعض. وإلى جانب التسليع الشامل للزراعة، كانت النتيجة هجرة ريفية واسعة في تركيا (كما يظهر في الجدول 5). وبما أن بنى الدعم الحضرية المستدامة كانت غائبة بمعظمها وبما أن العمالة الحضرية كانت في ازدياد مطرد، فإن ما يفسر هذه الهجرة كانت بمعظمها عوامل دفع وليس سحب.

الجدول 4.
السكان تحت خط الفقر الوطني
              السنة                    الريفي%                       الحضري%                     الوطني% ____________________________________________________________
مصر     1995-96                    23.3                           22.5                          22.9
تركيا      2002                        34.5                           22.5                          27.0        ____________________________________________________________
ملاحظة:
يحسب البنك الدولي خطوط الفقر الوطنية بشكل مختلف في كل بلد، ولذلك فإن المقارنة الموضوعية بين الفقر  المصري والتركي (النسبي) في المناطق الريفية غير ممكن. لا توجد أرقام للمقارنة متاحة فيما بالفقر النسبي للسنوات اللاحقة. وتشير التقارير الأخيرة إلى أن الفقر في المناطق الريفية قد ارتفع في كلا البلدين، ولا يزال الفقر المطلق أعلى بكثير في مصر بالمقارنة مع تركيا.

الجدول 5. سكان المناطق الريفية (٪ من المجموع)
                                                         1990                              2008                         ____________________________________________________________
مصر                                                    57                                  57
تركيا                                                    41                                  31                                 ____________________________________________________________
المصدر: مؤشرات التنمية العالمية 2010، البنك الدولي.

الجدول 6. الإنفاق على التعليم (٪ من إجمالي الناتج المحلي)
                                2005                   2006               2007               2008       ____________________________________________________________
مصر                          4.8                      4                     3.7                 3.8      
تركيا                          3.1                     3.0                   3.4                  3.1            ____________________________________________________________
المصدر: تصنيف الكاتب من الـ UNDP، مؤشرات التنمية البشرية الدولية، و Egitim Sen (2011).

في نفس الوقت، لم تنهار دولة الرعاية الاجتماعية التركية، وانما ارتدت وتعدلت. على عكس التخفيضات الكبيرة للدولة المصرية في  التقديمات الاجتماعية، أعادت الدولة التركية  هيكلة الرعاية الاجتماعية استجابة لاحتياجات الأكثر ضعفاً ( بدلا من العمالة المنظمة وموظفي الخدمة المدنية )، كالمعوقين مثلاً. وكما يشير الجدول رقم 6، ظل الإنفاق على التعليم في تركيا منخفضاً للغاية، على الرغم من تصاعد الاحتجاجات الطلابية في منتصف التسعينات ، والتي كانت إحدى شعاراتها الأساسية " ميزانية للتعليم، وليس الحرب "،  في اشارة الى الحرب الكردية والمطالبة  بتخفيض الإنفاق العسكري و زيادة الإنفاق على التعليم. مع ذلك، فقد أعاد حزب العدالة والتنمية (من 2002 وحتى وقتنا الحاضر)هيكلة النظام الصحي في تركيا، تفكيك الامتيازات الشركاتية و تحرير النظام، وبالتالي مهاجمة الموظفين الرسميين إنما خدمة العمال غير النظاميين والباعة المتجولين ( بوجرا وكيدر، 2006)، في سياق عام وشامل من الإنفاق الأعلى على الرعاية الصحية بالمقارنة مع مصر (انظر الجدول 7) .

الجدول 7 . الإنفاق على الصحة العامة (٪ من إجمالي الناتج المحلي)
                                       2005                          2006                           2007       ____________________________________________________________
مصر                                   2.3                          2.6                                2.4
تركيا                                   4.1                          3.5                                3.4      ____________________________________________________________
المصدر: تصنيف الكاتب من الـ UNDP، مؤشرات التنمية البشرية الدولية لعام 2011.


في كل الأحوال، إن ما تبقى بمنأى عن الحزمة الشركاتية القديمة هي الفرضية بأن شبكات الأسرة هي الراعية الأولى. في الواقع، إن ما عزز بُعد الأساس الجنساني لهذا الافتراض أكثر (تنظيم وصول المرأة إلى نظام الرعاية الاجتماعية من خلال  رجل عامل) هو فهم حزب العدالة والتنمية للرموز الإسلامية (بوجرا وياقوت-كاكار، 2010: 530-32). أما إعادة تفعيل العمل بطراز الرعاية الاجتماعية القديم  فكان الانفاق زمن الانتخابات (أي التقديم المباشر، وخاصة للفقراء، في أقرب وقت للانتخابات) وغيرها من أشكال التحويلات النقدية المباشرة التي تبدو عرْضاً لـ "رشوة" عقلية (بوجرا وكانداس، 2011: 521، 523). وبسبب هذه "الشوائب" ربما لقانون السوق (واختلاف حزب العدالة والتنمية عن المانترا الكتبي "لا تدخل الحكومة في الاقتصاد")، فضلاً عن النمو الاقتصادي، لم  يزداد الفقر المطلق بشكل ملحوظ خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية.
أما على صعيد آخر، وبالترافق مع تسليع الأراضي والعقارات، فقد تبنت حكومات حزب العدالة والتنمية برنامج السكن الجماعي. مع ذلك، وخلافاً للسياسات الصحية، لا توجد مؤشرات قوية على أن برامج الإسكان كانت ناجحة في كسب حتى القبول الجزئي للقطاعات الكادحة غير الرسمية. وفي دراستهم لمشاريع الاسكان الجماعية لحزب العدالة والتنمية ، يبين كل من بارتو، كندان، و كلوغلو (2008 ) أن " حِزم " حزب العدالة والتنمية للتحول الحضري الليبرالي الجديد هي باسم " الاندماج الاجتماعي "، مؤكدين بذلك على المشاركة والشفافية ، والدعم الحكومي في توفير الإسكان الشامل. في كل الأحوال، يقدم الكُتاب أيضاً أدلة وافرة على التأثير السالب للقوة لهذا البرنامج. فالسكان الذين لا يستطيعون تحمل قروض الرهن العقاري الشهري، والخدمات الرسمية وآليات الائتمان الرسمية للمساكن الجماعية الرسمية يتم انتزاعهم من أكواخهم الخاصة (2008 : 22 -23 ، 27-28 ). لذلك، فإن التوجه الأولي لبعض سياسات حزب العدالة والتنمية قد تفسر دعم حزب العدالة والتنمية لفقراء الحضر في وقت سابق. مع ذلك، ونظراً لمدى الوضوح الذي أصبحت عليه أبعاد نزع الملكية، فإن من الصعب الحفاظ على طرح يقول بأن الرشوة "الاقتصادية" لحزب العدالة والتنمية هي التي تبقي الطبقات الشعبية هادئة نسبياً.

خلاصة القول، إن الفقر، البطالة، والاستقطاب لا تزال أمور قائمة في تركيا، كما هو الحال في مصر. أما التمويل الأصغر، المترافق مع توقعات مبالغ فيها، فقد كان الحل المعتمد دوليا لهذا الشعور بالضيق في مصر (إيلياشار، 2002؛ روي، 2010). وقد اعتمدت كلتا الدولتين أيضاً على توسيع أعمال البر والاحسان الخيرية المدنية باعتبارها إحدى من أهم الحلول للمشاكل المرتبطة بارتداد وتعديل دولة الرعاية  الاجتماعية. وقد شهد الجدل حول الرعاية الاجتماعية في كلا البلدين خطاباً حول " تعليم الناس كيفية صيد السمك " بدلا من منحهم السمك، أي جعل الفقراء يعتمدون على أنفسهم (عطية، 2008؛ بوجرا وكيدر، 2006). وبالتالي، إن " قانون الرعاية الاجتماعية" الجديد المبني على الشراكات الخيرية  ـ الحكومة (ومعظمها غير شفاف) التي تعمل على تنظيم حشد القدرات المشاريعية للفقراء (بوجرا وكانداس، 2011: 522) ميال إلى استبدال نظام الرعاية الاجتماعية الرسمية في كلتا الحالتين.

إن نقاط التشابه والاختلاف هذه لإعادة هيكلة الرعاية الاجتماعية المصرية والتركية لا تزال لا تفسر سبب بقاء " السوق الحرة" شعبية جداً ولا منازع لها (نسبيا) في تركيا، نظراً إلى أن التغيرات في نظام الرعاية الاجتماعية التركية لم توازن الآثار العامة الأكثر استقطاباً لليبرالية الجديدة. ويمكن لبعض العلماء الادعاء، وهذا مشروع، بأن نسبة النمو العالية تقلل من احتمالات الاضطرابات الاجتماعية، ويرجع ذلك إلى الآمال بوجود تأثير الرشح نزولاً. مع ذلك، فإن التناقض بين فترة "حزب الوطن الام" (عندما شهدت تركيا اضطرابات اجتماعية كبرى) والفترة الممتدة ما بين 2000 -2010  يحذران من مثل هذا التفسير السهل.

هل بإمكان صعود البرجوازية المتدينة ( رفع آمال كل القطاعات المحرومة) أن يكون هو العامل التفسيري، كما يُزعم في كثير من الأحيان في بعض الأدبيات الاقتصادية والسياسية؟ بناء على الحجة الأكثر رسوخا نسبياً التي تقول بأن وجود مثل هذه البرجوازية قد أدى إلى "اعتدال" الإسلام في تركيا، تقدم Gumuscu ( 2010) بطرح تقول فيه بأن غياب البرجوازية الإسلامية القوية والمستقلة يفسر عدم الاعتدال في مصر. وبالتالي، يمكن القول، وعلى النقيض من مصر، أن وجود قطاع الأعمال التركية المتدين المستقل ( الذي يضغط، بحسب الزعم، من أجل الحدود لسلطة الدولة، وبالتالي الدمقرطة)، له صدى الميول المعادية للدولة والمناهض لديمقراطية المجتمع ككل، وبالتالي إضفاء الشرعية على برنامج السوق الحرة للحكومة.

على الرغم من الرؤية الصحيحة بأن هناك أوجه تشابه بين التحولات في مجال الأعمال التجارية الإسلامية والتحولات في الثقافة الإسلامية، فإن هناك مشاكل في هذا الطرح. أولاً، لا يزال ازدهار الأعمال والأمان في تركيا يعتمدان كثيرا على السياسة والدولة، وكما تظهر الأحداث الأخيرة ( التقليل من أهمية  بعض العائلات الرأسمالية الكبرى وتهميشها، وازدهارأخرى مدعومة من الدولة). ثانياً، وفي حين أن الإدعاء الشامل لـ  Gumuscu بأنه لا يوجد أي برجوازية متدينة قوية في مصر، فإن تحليلها المبني على التجارب يلمح إلى أن هناك بورجوازية، ولكن نظرا للمخاطر السياسية و نفور جماعة الإخوان المسلمين (المنظمة الإسلامية الرئيسة في مصر) من أنماط الحياة البرجوازية، فإن إشراك رجال الأعمال المتدينين في العمليات الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين اشراك محدود ( Gumuscu ، 2010 : 854 ). إن التأكيد الإخواني على "التواضع" و"الحياء" يتضارب مع التأكيد البرجوازية المتدينة على التراكم والاستهلاك. وإذا كان هذا هو الحال في الواقع ، فإن ما يجب توضيحه حقاً هو سبب تمسك المنظمة بهذا الفهم للدين إذا كان ذلك على حساب المكاسب التي يمكن أن تتحقق من التعبئة الكاملة للبرجوازية.

الحركات الدينية
يهدف التحليل الوارد أدناه إلى الإثبات بأن حزباً سياسياً موحداً ومنظماً قد سمح للإسلاميين في تركيا بتوجيه قاعدة الدعم لديهم في اتجاه موجه نحو السوق، عندما وجدت الفرصة لذلك. بالمقابل، منع الحقل الديني المصري المجزأ حتى أكثر الإسلاميين الموجهين نحو السوق من أن يكون لديهم تأثير كبير على المجتمع، والاقتصاد والسياسة.

عندما عاد الحزب الاسلامي إلى الظهور في تركيا تحت اسم "حزب الرفاه" ( RP) في الثمانينات، استنادا إلى إرث من سلسلة أحزاب اسلامية قانونية مغلقة، كان لديه برنامج مناهض لليبرالية وذي منحى للعدالة الاجتماعية. هذه التعبئة الدينية طورت أيضاً رؤية السوق المجتمعي، في موازاة تلك التي لبولاني، ولكنها  خليط غير متجانس مع السوق الحرة وعناصر التطوير الوطني. وإلى جانب دعم رجال أعمال المحافظات والحرفيين، وكما فعلت الإسلاموية في السبعينات، أكد برنامج " حزب الرفاه" تأكيداً قوياً وشديداً على اعادة توزيع العدالة الاجتماعية. فمن ناحية ، عزز الحزب مصالح توسيع طبقة رجال أعمال المحافظات أكثر التي كانت عرضة أكثر للتكيف مع الليبرالية الجديدة من البرجوازية المحمية من الدولة (على الرغم من أنه على وشك أن يصبح واضحاً في السنوات القليلة القادمة أن هذه الطبقة الجديدة المسماة "مستقلة " كانت مهتمة بحماية الدولة كمنافسها، البرجوازية الحضرية المنشأ). ومع الاحتياجات البرجوازية المحلية المتغيرة، تم اسقاط التصنيع الثقيل (الضخم، وغير المرن الذي تقوده الدولة  ) من البرنامج للتأكيد على الإنتاج المرن. وبالتالي، كان لدى الحزب بعض الميول الليبرالية الجديدة، وهذا واضح. من ناحية أخرى، وضع البرنامج الاجتماعي- الاقتصادي المقترح للحزب تصوراً لعالم يهيمن عليه أخلاقياً السوق (أربكان، 1991). هذا السوق الملزم بالأخلاق من شأنه أن يمكِّن أصحاب الأعمال الصغيرة من العمل من دون استغلال الفقراء، الذين يتم حمايتهم أيضاً من قبل الدولة. وبالتالي، فقد ادعى الحزب (صحفه، منظريه وسياسيه) أنه "مناهض للرأسمالية"، حتى أن بعض الإسلاميين يستشهدون باشتراكيين غير ماركسيين مثل روبرت أوين (أحد الملهمين الرئيسيين لبولاني). وقد وعدت كتيبات الحزب بتنظيم الاتحادات النقابية لكل عامل إضافة الى تنظيم الأجور المعيشية؛ وكانت التجمعات الحزبية مزينة بشعارات تعلن عن "نهاية الاستغلال". هذا الخطاب المتناقض، التي عبَّر عن قبول الأسواق المفتوحة مع الاشتراكية المجتمعية، أسفر عن تأييد كبير من جانب الفقراء في المناطق الحضرية.

ظهر " حزب الرفاه" كحزب قيادي من الانتخابات البلدية عام 1994 ( سينار، 2005)، الذي تبعه إعادة توزيع الموارد في المناطق الحضرية من قبل البلديات الاسلامية. وكان الزخم الأيديولوجي للحزب قد مكنه من البقاء "نظيفاً" في بيئة ما بعد عام 1980، حيث واصلت الجهات الفاعلة العلمانية تعقب الثروة الفاسدة التي أحدثتها الخصخصة غير النظامية. وبرز "حزب الرفاه" أيضاً على الساحة بوصفه حزباً قيادياَ من الانتخابات الوطنية عام 1995. وتمكن الحزب من تشكيل حكومة ائتلافية مع اليمين - الوسط. ودفع الجيش بحزب الرفاه، تدريجياً، إلى خارج الحكومة ومن ثم خارج الوجود القانوني (1997 -1998 ). وقد بلغ ذلك ذروته في تأسيس حزب الفضيلة.  وتخلص حزب الفضيلة من الخطاب المعادي للرأسمالية في برنامج حزب الرفاه. وبدلا من التفاعل إزاء المنافسة العالمية للغرب، سعى حزب الفضيلة إلى التفاوض حول شروط هذه المنافسة. وكان هذا علامة واضحة على أن الجناح الليبرالي الجديد لحزب الرفاه  قد بدأ بكسب اليد العليا في الحزب الاسلامي.

كانت الخطوات التي اتخذها الجيش ضد التعليم و الملابس الإسلامية قابلتها احتجاجات في الشوارع على نطاق واسع. في كل الاحوال، لم يتمكن الإسلاميون من الاستخدام الكامل لعمل الشوارع في التسعينات وما بعدها ـ بسبب تردد كبار قادة حزب الرفاه وحزب الفضيلة إلى حد كبير، وبسبب سلطتهم على بعض المتطرفين وشباب الحزب، و تهميشهم لراديكاليين إسلاميين وقادة شباب آخرين. و قد عزز المحاولات العديدة المخفقة لإنشاء منظمات متطرفة والاحتجاجات الفاشلة في الشوارع النزعات القائمة لاجتثاث التطرف، حيث ندم المتطرفون المصابون بخيبة أمل والمتحررون من الأوهام وبدؤا سعيهم للتغيير الإسلامي من داخل النظام. وأدى ذلك إلى استيعاب من كانوا يوماً زعماء مناهضين للعلمانية، ونشطاء، وما كان عبارة عن حركات، شبكات، وأساليب حياة في دولة ديمقراطية علمانية. أما الفرق الكبير عن مصر في هذه المرحلة فلم يكن التفاعل بين التطرف ـ القمع ـ اجتثاث التطرف ـ عودة التطرف ( والتي كان هناك منها الكثير في كلتا الحالتين )، وإنما عدم وجود أي مؤسسات دينية ـ سياسية بديلة أومنظمة للجوء إليها (كحزب محترف ما )، ويرجع ذلك إلى الحقل الديني الموحد في تركيا (أي، الاحتكار التدريجي للسلطة الدينية من قبل حزب اسلامي قانوني ). كان هناك مجتمعات صوفية متعددة في تركيا، لكنها أضفت الطابع المؤسسي على تأثيرها من خلال التعاون مع يسار الوسط، يمين الوسط و الأحزاب الإسلامية، بدلا من بناء أحزابها الخاصة المنفصلة؛ وعلى النقيض من مصر، كان هناك حزب سياسي اسلامي رئيس واحد فقط في تركيا .

إن مشاركة المتطرفين السابقين في التجارة، وبالتالي التشغيل في اقتصاد السوق جعلهم يشككون في جدوى "الاقتصاد الاسلامي" المتمايز كلياً. في كل الأحوال، لم يرقَ هذا التساؤل الفاتر إلى درجة الرفض الكامل لـ " الاقتصاد الإسلامي"، وذلك إلى أن قام حتى حزب سياسي إسلامي جديد، حزب العدالة والتنمية، بتطبيع اقتصاد السوق والدولة العلمانية في أوساط ناخبيه وجمهور مناصريه. وانضم ناشطون راديكاليون سابقون للحزب وبدؤا العمل من أجل تمكينه. وخفف التقليد السياسي الإسلامي الراسخ حتى من الراديكالية القائمة.

كيف يبرز هذا الحزب؟ لقد حاول جيل الشباب النيوليبرالي، المؤيد للديمقراطية ( نسبياً )، والموالي للولايات المتحدة في حزب الفضيلة السيطرة على بنية الحزب القائمة. وعندما خسر قادته في الاقتراع خلال مؤتمر كبير للحزب في 15 مايو/ أيار عام 2000، أسس هؤلاء تنظيماً جديداً في عام 2001 ، هو حزب العدالة والتنمية. وقد وعد قادة حزب العدالة والتنمية وسائل الإعلام العلمانية والجيش بأنهم لن يستخدموا الدين لأغراض سياسية. لقد أعادوا تأطير ندائهم بمصطلحات الوسط المحافظ، مؤكدين ولائهم للسوق الحرة  (تماشياً مع المصلحة بدعم قاعدة دعمهم البرجوازية المتزايدة )، وولاءهم للديمقراطية البرلمانية، وعملية الاتحاد الأوروبي. ودمجوا معهم سياسيين من أحزاب يمين الوسط الفاشلة الآن. قدم الجناح الليبرالي للجيش (الأقل علمانية بشكل صارم، وأكثر تأييدا للولايات المتحدة وأقل سلطوية )، وكذلك اليمينيين الوسطيين في وسائل الإعلام العلمانية، إشارات بأنهم سوف يكونوا على استعداد للعمل مع مثل هكذا حزب إسلامي إصلاحي.

يظهر الصعود التدريجي لإسلام القانون- التواضع- التدين المنحى فى مصر، مع عدم وجود فاصل واضح عن ماضيه الشركاتي، تناقضاً صارخاً مع هذا " التحول للسوق الحرة" للإسلام في تركيا. ولئن كان صحيحاَ أن الدولة والقوى الإسلامية قادرة على التأقلم مع مزيد من الهويات الإسلامية في كلا البلدين، فإن معنى هذه الهوية قد أصبح مختلفاً في السياقين. فبينما يمزج العديد من المحافظين الأتراك، وبحرية، أساليب الحياة العلمانية والإسلامية معاً، فإن هذا الخليط أكثر حذرا في مصر (على الرغم من الأدبيات الناشئة حول عروض الأزياء الإسلامية، الخ). أما اليوم، فإن التيارات الأكثر حيوية ضمن الإسلاموية المصرية تتقبل المؤسسات القائمة وتبذل قصارى جهدها لتشجيع  الدولة (" العلمانية" ) على وضع الشريعة الإسلامية موضع التنفيذ (روثرفورد، 2008)، وهو موقف إزاء النظام لم يتغير حتى بعد الأحداث الثورية عام 2011.

يجب علينا أن نتحول إلى ديناميات الحقول لنفهم لماذا لم تصبح الإسلاموية المصرية نيوليبرالية  نظيرتها التركية. فالإخوان المسلمون هم العقدة المركزية في المجتمع السياسي الإسلامي المصري، لكن الجماعة اليوم تشترك في الحقل الديني مع معارضين اقوياء آخرين ( مثل الجماعة الإسلامية، الجماعات الصوفية، ومختلف الدعاة والمنظمات المعروفة باسم السلفيين، التي ترفض كلها قيادات الإخوان الروحية والسياسية ). وقد تأسست جماعة الإخوان في عام 1928 على يد حسن البنا وتطورت، في عقودها الأولى كحركة اجتماعية سياسية تنظم نفسها بما يتعلق بالنوادي الرياضية، المدارس المسائية، توفير الرعاية الاجتماعية، والنشاط المناهض للاستعمار ( ليا ،1998؛ ميتشل ، 1969). وكان لدى القادة المؤسسين لجماعة الإخوان المسلمين تحيزاً ضد المؤسساتية: هم لم يكونوا يريدون أن يرسخوا أنفسهم باعتبارهم جمعية، نادي، أو أي شيء آخر " رسمي"، بل قدمموا أنفسهم، في المقام الأول، كـ " فكرة " (كاريه، 1983: 12). ولمزيد من التوضيح لهذا الأمر، لم يكن الإخوان أبدا ضد " التنظيم" (في الواقع، ومن السنوات الأولى وما بعد ذلك، كان لدى المنظمة هيكل تنظيمي معقد )، لكنهم ظلوا يشككون بمسألة إضفاء الطابع المؤسسي القانوني والرسمي (وبالتالي، إقامة حزب سياسي رسمي )، وذلك في تناقض حاد مع الإسلاميين الأتراك المستبعدين مؤسسياً.

نشر الإخوان في وقت مبكر الاشتراكية الإسلامية ( إسماعيل، 1998: 207 )، والتي لم تكن أبداً تشكل موقفا واضحاً في أوساط الإسلاميين الأتراك. فقد كان فهمهم للاشتراكية، في روح العصر ، مستنداً في معظمه إلى الدولة. وبعد ملاحقتهم من قبل الرئيس المصري جمال عبد الناصر في الستينات، فرَّ أعضاء الإخوان إلى الخارج وانخرطوا في النشاط الاقتصادي، على حد سواء، الأمر الذي استمر في مصر بعد سياسة الانفتاح للرئيس السادات ( سياسة "الباب المفتوح" أو سياسة تحريرالتجارة  من القيود بعد عام 1973 ). ومنذ السبعينات، استفاد أعضاء الاخوان من خلق فرص عمل في القطاع الخاص ومن طفرة التجارة الخارجية، وأصبح الكثير منهم أثرياء ( اتيس ، 2005). وتم استثما

موقع الخدمات البحثية