مواد أخرى » سياسة الادارة الاميركية في العراق

(*) جوزف ساسون ـ أستاذ زائر، جامعة جورج تاون، مؤلف كتاب حزب البعث لصدام حسين: من داخل نظام استبدادي (2012)؛ باحث سابق في السياسة العامة ، مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين)
أيلول 2013
Viewpoints رقم 38 ـ Middle East Program


تراجعت أولوية العراق في الإدارة الأمريكية نظراً إلى الأحداث الصاخبة في المنطقة، ولكن هذا ليس مبررا على المدى الطويل. فأمن العراق يتدهور مع تزايد حدة العنف، وقد تم قتل الآلاف من المدنيين أو جرحوا منذ بداية هذا العام. إن نوري المالكي يقود البلاد الى نمط جديد من الحكم الاستبدادي.

تراجع العراق إلى أسفل سلم الاهتمامات الرئيسة بالنسبة للإدارة الأميركية خلال الأشهر القليلة الماضية. فالحرب الأهلية في سوريا، والانقلاب العسكري في مصر، والجهود المبذولة لاستئناف المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية دفعت كلها بالعراق ليكون في أسفل قائمة أولويات الرئيس باراك أوباما . وهذا خطأ لأن العراق يمكن أن يكون عاملاً مهماً في هذه القضايا الثلاثة الملتهبة كلها التي تواجه الإدارة، خصوصاً القضيتين الأولتين. فضلاً عن ذلك، وبينما تنتظرالإدارة استقرار الرئيس الإيراني الجديد، حسن روحاني، قبل قياس نواياه تماماً، يمكن للعراق أن يكون محوريا في بناء جسر لتحسين علاقات الغرب مع إيران على الرغم من أن لدى رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، علاقات متينة مع إيران، وهناك نفوذ إيراني قوي على الصعيدين السياسي والاقتصادي في العراق، وسيكون من الخطأ أن نفكر في العراق على أنه مجرد بيدق بيد إيران.

بينما تجري جميع هذه الأحداث المأساوية في المنطقة ، يستمر الوضع الأمني في العراق في التدهور . فمنذ بداية عام 2013 ، قتل حوالي  4000 شخص وجرح  أكثر من 10000، معظمهم من المدنيين ، في حوادث العنف عبر العراق . وهذا هو أعلى مستوى من العنف منذ عام 2008 ، ما أثار المخاوف من تجدد الصراع الطائفي بين السنة والشيعة. أما الاجهزة الامنية العراقية والحكومية فقد فشلت في وقف إراقة الدماء، الأمر الذي أصبح يذكرنا أكثر بالحرب الأهلية التي اندلعت بين عامي 2005 و 2007 . وفي الوقت نفسه، فإن صادرات العراق من النفط يصيبها الركود في مقابل توقعات متفائلة بالوصول إلى نحو 3.5 مليون برميل يوميا ، مع انتاج العراق من النفط الخام بمعدل 2.9 مليون برميل يومياً ، على غرار العام الماضي . وبينما يجثم العراق على أكثر من 140 مليار برميل من احتياطيات النفط المؤكدة ، فإن ثروة البلاد لا يتم توزيعها بشكل صحيح ولا تزال البنية التحتية في حالة بائسة . فالفساد منتشر في جميع قطاعات الاقتصاد العراقي ، وقد فشلت كل المحاولات للحد من انتشاره لأن هناك تساهلاً إزاء قسم كبير من هذا الفساد على أعلى المستويات. فالعراق لم يتطور أبدا في الدينامو الاقتصادي الذي كانت الولايات المتحدة تأمل به في أعقاب الغزو عام 2003. في هذه الأثناء ، يواصل الأكراد تطوير حقولهم النفطية ، مستفيدين من الفوضى السائدة في المنطقة وعدم وجود أي مفاوضات بناءة مع بغداد . وبتعزيز علاقاتهم مع الأتراك ودعم اخوتهم الكرد في سوريا ( وفتح حدودهم أمام الآلاف من اللاجئين الأكراد ) هم يعطون كردستان يداً قوية في اللعبة السياسية والاقتصادية الإقليمية.

هناك أكثر من مجرد إشارات تدل على أن رئيس الوزراء نوري المالكي ينقل العراق إلى نظام جديد من الحكم الاستبدادي . ففي أواخر شهر أغسطس/ آب، مهدت أعلى محكمة في العراق الطريق أمام المالكي لترشيح نفسه لفترة رئاسية ثالثة في انتخابات العام المقبل من خلال الإعلان عن أن قانوناً كان صدر سابقاً في البرلمان لمنع استمرار هيمنة المالكي هو قانون غير دستوري. وطوال فترة ولايته التي امتدت سبع سنوات كرئيس للوزراء ، " نفذ المالكي استراتيجية فرِّق تسد التي قام بواسطتها بإخصاء أي قيادة سنية ذات مصداقية". إن الأدلة تتزايد على أن المالكي مستمر في " محاولاته لتركيز السلطة في يديه وأيدي حلفائه ". إن مزيج الصراع الطائفي المتدهور حيث المئات من المدنيين الأبرياء هم الهدف من الهجمات الإرهابية اليومية ـ ومعظمها يتم تنفيذها بكفاءة من قبل تنظيم القاعدة الذي استعاد نشاطه ـ إلى جانب نمط جديد من الاستبداد والفساد السائد ، كلها أمور لا تبشر بالخير بالنسبة للبلد أو للسياسة الأمريكية في المنطقة .

ليس هناك شك في أن الحرب الأهلية في سوريا قد أثرت سلباً على العلاقات الطائفية في العراق  إذ تشير جميع التقارير إلى أن تنظيم القاعدة يتعزز ويقوى  وينجح في تجنيد الجهاديين من كلا البلدين ، وهو ما انعكس زيادة خطيرة في التفجيرات الانتحارية ضد الأهداف المدنية الشيعية وأدى بالفعل إلى إعادة تسليح الميليشيات الشيعية رداً على ذلك. هناك تقارير عن الشيعة العراقيين بأنهم يتطوعون للقتال لصالح نظام بشار الأسد داخل سوريا وبأن السنة العراقيين يسافرون إلى سوريا للقتال لصالح المعارضة . وقد فشلت الإدارة الأمريكية بممارسة ضغوط كافية على العراق لمنع نقل الأسلحة و الرجال ( ومعظمهم من إيران) إلى سوريا . وقد رفضت الحكومة العراقية، مراراً وتكراراً ، طلب الولايات المتحدة وضع حد لرحلات الشحن الإيرانية إلى سوريا والتي تحمل أطنانا من الأسلحة ، وتصر على القول بأن هذه الطائرات تحمل مساعدات إنسانية فقط . وما يثير الاهتمام والفضول ، هو أنه بعد عقود من الجفاء الشديد بين فصيليْ حزب البعث في العراق وسوريا ، تطور مثلث جديد مؤلف من ايران ، سوريا و العراق ما فاقم الانقسامات المذهبية  القديمة في العراق.

حاول وزير الخارجية جون كيري إقناع القيادة العراقية خلال زيارته لبغداد في مارس/ آذار عام 2013 لوقف السماح بتحويل الأسلحة والمقاتلين من إيران الى سوريا عبر العراق . إن دعم العراق لسوريا مهم سياسياً ،عسكرياً، مالياً ، واقتصاديا على وجه الخصوص نظراً للعقوبات الشديدة المفروضة على نظام الأسد . وتجدر الإشارة إلى أن زيارة كيري جاءت بعد أربع سنوات لم يزر فيها وزير الخارجية الأميركية العراق ، وهي حقيقة تشير في حد ذاتها إلى مدى تحويل الإدارة الأميركية بؤرة تركيزها عن العراق بمجرد أن غادرت القوات الاميركية العراق في نهاية عام 2011 . في الواقع، لقد تركزت معظم الزيارات التي يقوم بها الدبلوماسيون والساسة الأميركيون منذ نهاية عام 2011 حول الوضع في سوريا ، ويفترض التأكيد مجددا على التزام الولايات المتحدة بأمن العراق.

إن ترك العراق يتابع مساره الحالي واندفاعه في حرب أهلية أخرى سيكون أمراً كارثياً: سوف يستمر الصراع الطائفي والمذهبي بالتدهور، ما يضمن أن تكون للمتطرفين اليد العليا ويؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي الذي يفرض على العديد من الموهوبين الشباب مغادرة البلاد للحصول على المزيد من الفرص ، الأمن ، والبنية التحتية الأفضل في مكان آخر. إن هجرة الأدمغة هذه التي بدأت في عام 2003 واكتسبت زخماً خلال الحرب الأهلية 2005-2007 حرمت البلاد من العديد من المهنيين و أدت إلى إفقار أجهزتها المدنية. ومن المرجح أن تستمر هذه الهجرة ، نظراً لانعدام الأمن وانتشار الفساد إلى جانب وجود اللامبالاة العامة من جانب الولايات المتحدة.

على الرغم من أننا قد لا نشهد حربا أهلية على مقياس عام 2005 ، فإن بإمكان الوضع الأمني المتدهور،  بالتأكيد، أن يحرم البلاد من أي استثمارات جدية. وهذه الزيادة في العنف الطائفي تمهد الطريق، بالتأكيد، لمزيد من التسلط وضمان استمرار المالكي وزمرته الداخلية مسيطرين على البلاد . وقد دعا البعض المالكي للرحيل، ولكن هذا ليس حلاً واقعياً في هذه المرحلة: فالمالكي راسخ جداً وينبغي للجهد المبذول  التركيز على وضع حد لهذه المذابح المدنية من خلال إشراك جميع الأطراف.

هناك خيوط تربط جميع هذه القضايا في المنطقة . فالعراق الضعيف، الذي يفتقر إلى الأمن والازدهار لن يؤدي إلا إلى تفاقم هذه الأزمات . ونظراً إلى الأحداث الأخيرة في مصر، تعتبر الولايات المتحدة بحاجة كأكثر ما يكون إلى حليف مستقر وموثوق به، ديمقراطي ، ومزدهر. ينبغي للولايات المتحدة أن تتحاور مع الدول المجاورة للعراق في محاولة جادة للحد من العنف على الأقل. إن علاقات العراق مع غيره من دول الخليج العربي دونها معوقات بسبب الموقف السياسي الذي يستبعد أي تعاون اقتصادي جدي. ومن المفهوم سبب تراجع العراق في سلم أولويات الإدارة الأميركية في ضوء الأحداث المضطربة في بقية دول المنطقة ، ولكن هذا ليس مبرراً على المدى الطويل . لا يمكن لعلاقات الولايات المتحدة مع العراق أن تستند، وببساطة، الى مبيعات الأسلحة و"المشاورات" من وقت لآخر من دون صنع أي تأثير جدي . لا يزال بإمكان الولايات المتحدة ، ويجب عليها، فرض المزيد من الضغوط على المالكي من أجل لعب دور بناء في المنطقة ومنع العراق من الانزلاق إلى نوع جديد من النظام الاستبدادي .

(*) ترجمة إيمان سويد ـ خاص مجموعة الخدمات البحثية.

موقع الخدمات البحثية