مواد أخرى » هل أوباما مثل آيزنهاور؟

بقلم: مايكل دوران
مقال / تشرين أول ، 2013
Commentary Magazine


' أتذكر بعض خطب أيزنهاور'، قالت هيلاري كلينتون خلال مقابلة مشتركة مع الرئيس أوباما في يناير/ كانون الثاني. ' كما تعلم ، عليك أن تكون حذرا، عليك أن تكون رصيناً، لا يمكنك التسرع '. ويبدو على الأرجح أن ذكرياتها كانت تتلاحق ببطء بسبب مراجعة لكتاب صدر حديثا لايفان توماس، 'خدعة آيك'، الذي قال فيه بأن تجربة أيزنهاور كجندي وجنرال علمته القيود المفروضة على ممارسة السلطة. وقد رسخ هذا الكتاب وسلسلة من الدراسات الأخرى الحديثة آيك في ذهن الجمهور بوصفه التجسيد نفسه للحكمة الرئاسية.
لقد حولوه أيضاً إلى مستشار بعد وفاته لإدارة أوباما . وقبل أن يصبح وزيرا للدفاع ، اشترى تشاك هيغل ثلاث دزينات  من نسخ دراسة لـ ' ديفيد أ. نيكولز ' عن أزمة السويس ، ووزعها على الرئيس ، هيلاري كلينتون، وليون بانيتا ، سلفه في منصب وزير للدفاع (وغيرهم)  . ففي السويس ، رفض آيك دعم بريطانيا وفرنسا عندما غزتا مصر ( بالتواطؤ مع إسرائيل) ، وقضى على التدخل بنحو فعال. كان درس هيغل واضحاً : لا تدعوا الحلفاء يجروكم إلى مغامرات عسكرية طائشة .
وفي مقال مؤثر نشر في العام الماضي في مجلة TIME بعنوان ' في السياسة الخارجية ، لماذا باراك يشبه آيك '، ناقش فريد زكريا الموضوع فقال إنه عندما أظهر الرئيس قلقه من التدخل في أماكن مثل سوريا ، فإنه كان يبدي شبهاً غريباً بأيزنهاور . أما نوع الشبه الأساسي الذي يتقاسمه الاثنان فهو ' ضبط النفس الاستراتيجي  '، قال زكريا .  وفي كتابه الذي صدر مؤخراً ، ' القيادة الرئاسية وخلق الحقبة الأميركية' (مطبعة جامعة برينستون ، 200 صفحة ) ، يتناول جوزيف س. ناي من جامعة هارفارد هذا النقاش دافعاً به خطوة أخرى إلى الأمام . إذ يزعم ناي أن أيزنهاور كان في الواقع من أوائل الممارسين لما أطلق عليه أحد مساعدي أوباما ، متحدثاً عن دور الإدارة في الإطاحة بنظام القذافي معمر في ليبيا ، التسمية المعروفة ' القيادة من الخلف '.
إن فحصاً سريعاً للسياسات الفعلية لأيزنهاور المتعلقة بالشرق الأوسط تكشف، وعلى حد سواء، عن خواء هذه الأطروحة والفكرة القائلة بأن أيزنهاور اتبع ، كرئيس ، استراتيجية ضبط النفس وخاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط . مما لا شك فيه  هو أنه كثيراً ما مارس التعقل في الشؤون العسكرية . فقد أنهى الحرب في كوريا ، ولم يتدخل في عام 1956 عندما قام المجريون بثورة ضد اسيادهم السوفييت. وأبرز ذلك، امتناعه عن التدخل في فيتنام . لكن لا ينبغي الخلط  بين الحذر العسكري وبين استراتيجية عالمية . في العصر الحديث يسارع ' الضابطون للنفس' إلى الاستشهاد بتحذير أيزنهاور ، في خطابه الوداعي ، فيما يتعلق بأخطار ' المجمع الصناعي العسكري '. في كل الأحوال، هم ينسون عادة ، ذكر تبريره  لذلك :' إننا نواجه إيديولوجية معادية - عالمية في نطاقها ، إلحادية في طابعها ، لا ترحم في هدفها، وغادرة في أسلوبها. لسوء الحظ، إن  الخطر الذي يشكله يشير إلى أنه سيكون لأجل غير مسمى . بعبارة أخرى،  لقد حاكم أيزنهاور بحماسة الحرب الباردة . في الواقع ، لقد  أجرى النقاد المعاصرون تشخيصاً لإدارته وقالوا بأنها تعاني من الـ ' pactomania ، '  (كانت Pactomania فترة لإبرام المعاهدات من قبل الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. وخلال رئاسة دوايت ايزنهاور، شكلت الولايات المتحدة، من خلال جهود وزير الخارجية جون فوستر دالاس بشكل أساسي، تحالفات مع 42 دولة منفصلة إلى جانب العلاقات تعاهدية مع ما يقرب من 100 دولة، والتي وصفها المراقبون بـ 'pactomania ) ، وهي رغبة ملحة لا تقاوم لتنظيم تحالفات ضد الشيوعية . ويعتبر العديد من المؤرخين الآن اعتماده على وكالة الاستخبارات المركزية ( CIA)، التي أطاحت بالأنظمة في إيران و غواتيمالا ، بأن بالامكان وصفه بأي شيء ما عدا أنه ضبط للنفس . وهناك أيضا أمثلة علنية وصريحة أكثر عن أيزنهاور يستعرض فيها عضلاته الرئاسية .
كانت هناك سوريا ، كمثال. آنذاك، وكما هو الحال الآن ، كانت البلاد في خضم صراع قوى اقليمية. ففي صيف عام 1956،  وعندما بدأت الحكومة السورية بالانحراف نحو الاتحاد السوفيتي ، أوعز ايزنهاور إلى وكالة المخابرات المركزية للإطاحة بها. وبحلول صيف عام 1957، قام جهاز المخابرات بمحاولتيْ انقلاب، فشلا كلاهما . ولم تكد أجهزة مكافحة التجسس السوري تحبط المؤامرة الثانية حتى وضع أيزنهاور خطة أخرى : التحريض على الجهاد . وقال انه أوعز إلى وكالة المخابرات المركزية كي تموضع نفسها لاثارة اضطرابات عنيفة على طول الحدود السورية . وكان الهدف هو تقديم هذه الحوادث إلى العالم باعتبارها  تهديداً – تهديداً سورياً - للسلام و الأمن في المنطقة . وليستخدم عندها جيران سوريا الاضطرابات كذريعة لغزو دمشق واسقاط الحكومة فيها .
لقد كان أصعب جزء من الخطة إقناع الدول العربية بالغزو. فقد كتب ايزنهاور رسالة إلى الملك سعود بأمل الحصول على مساعدة المملكة العربية السعودية . ودقت الرسالة ناقوس الخطر بشأن ' الخطر الجدي الذي سوف تشكله سوريا عندما تصبح في الفلك الشيوعي السوفياتي  '.  وأكدت أيضاً على أن ' أي بلد يتعرض للهجوم من قبل سوريا، التي كانت بحد ذاتها بلداً تهيمن عليه الشيوعية الدولية،  يمكنه الاعتماد على الولايات المتحدة للحصول على الدعم . ومن ثم اختتم الرسالة بتوجيه نداء إلى الإسلام : ' بالنظر إلى موقع جلالتكم الخاص كقيِّم على الأماكن المقدسة الإسلامية ، أنا على ثقة بأنك سوف تمارس تأثيرك الكبير لوضع حد للعقيدة الشيوعية الإلحادية وألا تترسخ في موقع رئيس في العالم الإسلامي '. وقد خاب مسعى الرسالة . فـ ' سعود '، وكما كتب المؤرخ سليم يعقوب،  'كان قليل الاهتمام بجهاد أيزنهاور '.
في سياق مدحه السجل الهادئ لآيك ، يشير زكريا إلى أنه ' منذ نهاية الحرب الكورية وصولاً إلى نهاية فترة رئاسته ، لم يمت جندي أميركي واحد في حرب '. الإحصائية لافتة للنظر ، ولكنها تخلق انطباعاً مضللاً . الحقيقة، كان لدى ايزنهاور نفس النوعية  الموجودة لدى كل القادة الناجحين: كان محظوظاً . كان يمكن لعدد من سياساته، وبسهولة، أن تأتي بنتائج عكسية ، وتسفر بذلك  عن عملية إحصائية أقل إثارة للاعجاب بكثير . إن الأزمة السورية عام 1957 هي مثال على ذلك . فبينما كان آيزنهاور يحاول توليد الجهاد ، حشدت الحكومة التركية 500000 جندي على الحدود السورية . وأثارت هذه الخطوة السوفييت . وفي مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز ، اتهم نيكيتا خروتشوف ، رئيس الوزراء السوفياتي آنذاك ، الولايات المتحدة علناً بتأجيج الأزمة وأصدر تحذيرا للأتراك : ' إذا انطلقت نيران البنادق، فسوف تبدأ الصواريخ  بالطيران'، قال ذلك بصراحة وفظاظة.   وجاء وزير الخارجية جون فوستر دالاس على الفور لمساعدة الأتراك : وقال ، ' إذا كان هناك من هجوم على تركيا من قبل الاتحاد السوفياتي فإن ذلك لن يعني عملية دفاعية بحتة من قبل الولايات المتحدة ، وبقاء الاتحاد السوفيتي ملاذا متميزاً يمكن من خلاله مهاجمة تركيا'. في مثل هذه الظروف المتوترة ، كان يمكن لسوء تقدير من قبل قائد تركي ، سوري ، أو سوفياتي أن يجر الولايات المتحدة إلى صراع فظيع للغاية . ولكان التاريخ، في هذه الحالة ، قد أسفر عن إحصاءات أقل إثارة للإعجاب .
ويصدف أيضاً  أن يكون زكريا مخطئاً في الواقع. هناك عدد من الجنود ممن ماتوا على مرأى من أيزنهاور – ثلاثة جنود، على وجه الدقة. سقط أحدهم برصاص قناص العدو، والاثنان الآخران بنيران صديقة. وكلهم ماتوا في لبنان خلال تدخل عام 1958. وسواء كان الرقم صفراً أو ثلاثة، فإن السجل لافت، لكن ينبغي أن يذكرنا سقوط مشاة البحرية بحقيقة مهمة: أن أيزنهاور لم يتملص من الدخول في صراع فوضوي، عندما كان الوضع يتطلب ذلك.
في النصف الأول من عام 1958، كان كميل شمعون، رئيس الجمهورية اللبنانية، يحارب تمرداً وحث أيزنهاور بقوة على المجيء لمساعدته. كان المتمردون يتلقون دعماً من سوريا، التي كانت في هذا الوقت قد اندمجت مع مصر- جمال عبد الناصر لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة. وكان أيزنهاور يخشى الوقوع في مستنقع وقاوم الدعوات بشأن التدخل. لكنه بين عشية وضحاها، غير حساباته.
عندما ذهب أيزنهاور إلى سريره للنوم  يوم الأحد 13 يوليو/ تموز، كان العراق بلداً حليفاً - ' البلد الذي كنا نعول عليه بشدة  كحصن للاستقرار والتقدم في المنطقة  '، كما كتب في مذكراته.  وباستيقاظه يوم الاثنين ، كان الحصن قد انهار . ففي ساعات الصباح الباكر ، قام ضباط الجيش المنشق بانقلاب ناجح ، وتم تدمير النظام الملكي الهاشمي في العراق و الاستعاضة عنه بجمهورية قومية عربية خشي أيزنهاور من تماشيها وانحيازها إلى جانب الجمهورية العربية المتحدة و راعيها السوفياتي . ففي مجرد لحظة، كان حليف الحرب الباردة قد اختفى .
خوفاً من حملة ضغط من قبل عبد الناصر والاتحاد السوفياتي ضد جميع الدول ذات الميول الغربية في المنطقة ، دعا عدد من حلفاء أميركا - بما في ذلك اللبنانيون ، السعوديون ، والأردنيون- إلى تدخل الولايات المتحدة الفوري . وقال هؤلاء بأنه ينبغي للقاهرة وموسكو  أن تأخذا علماً بأن الأميركيين لن يسمحوا لأصدقائهم الباقين بالمضي بالسير بنفس طريق النظام الملكي العراقي . فإذا ما فشلت الولايات المتحدة في التدخل ، بحسب ما أبلغ العاهل السعودي أيزنهاور ، فإنها ستكون قد ' انتهت' كقوة في المنطقة . وقفز ايزنهاور إلى العمل بسرعة ملحوظة . وفي غضون ساعات قليلة ، كان قد أعطى الأمر بإرسال مشاة البحرية لتعزيز عزيمة الحلفاء و إعادة تنشيط قدرة الردع للولايات المتحدة .
على الفور تقريباً ، دعا أيزنهاور مجموعة من قادة الحزبين في الكونغرس إلى البيت الأبيض لاصدار بيان موجز . وأعرب سام رايبيرن ، رئيس مجلس النواب ،عن الهواجس بقوله: ' اذا ذهبنا وتدخلنا ولم تنجح عمليتنا ، ماذا نفعل بعد ذلك ؟' . وكان قلقاً أيضا من ' تهديد الروس بحرب شاملة'. ورد أيزنهاور بأن من المستحيل ' التنبؤ بالمسار الصحيح للأحداث. اذا تدخلنا أو لم نتدخل، فإن العواقب ستكون سيئة  ' . وعمل حساباته مع ذلك،  وقال إن الأمر حاسم لجهة اتخاذ  ' موقف قوي وليس موقفاً على نسق موقف ميونخ ، إذا أردنا تجنب انهيار بنيتنا الأمنية ككل '. وكان  رايبيرن يعتقد أيضا بأن' التدخل سيزيد من حدة الاستياء ضدنا في جميع أنحاء المنطقة  '. وشاركه أيزنهاور تخوفه هذا.
جرى التدخل في لبنان ، بحسب ما نعلم الآن ، بشكل نظيف كأي عملية من هذا القبيل في التاريخ. مع ذلك، ولحظة اتخاذ القرار ، اعتبر ايزنهاور المشروع محفوفاً بالمخاطر – خطيراً للغاية في الواقع، حيث أنه  ذكره باعطاء الامر بالذهاب في يوم الصفر ، فهذا الحدث أهم وأخطر حدث في حياته . ' على الرغم من التفاوت في حجم العمليتين، فقد كانت العواقب المحتملة في كل حالة من الحالتين  تقشعر لها الأبدان ، اذا لم تجر الامور على ما يرام '، بحسب ما كتب أيزنهاور في مذكراته .   فما  الذي جعل التدخل خطيراً  جداً على هذا النحو خصوصاً؟ ' في لبنان ، كان السؤال هو عما إذا كان من الأفضل المعاناة من شعور الاستياء العميق من جميع العالم العربي تقريباً (وبعضاً من بقية العالم الحر ) ، وبذلك المخاطرة بحرب عامة مع الاتحاد السوفياتي أو القيام بشيء أسوأ – أي عدم فعل أي شيء' .
خلال العام الماضي ، شق موكب من حلفاء أميركا في الشرق الأوسط طريقه عبر البيت الأبيض ، ودقوا ناقوس الخطر القادم من سوريا ، و حثوا أوباما على تنظيم رد دولي أكثر قوة . وخلافا لآيك ، حسب أوباما  الأمور ووجد أن عدم فعل شيء أفضل من اتخاذ إجراءات لا تكون نتائجها مضمونة . نتيجة لذلك ، وعندما قرر أوباما أخيراً أن القيام برد ما على استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية أمر ضروري ، وجد نفسه مجرداً من الحلفاء تقريباً.
وماذا عن مقارنة ناي المناسبة لسياسة أوباما الخارجية مع  تلك التي لأيزنهاور ؟ ' إن تعليقاً مغفلاً من جانب مسؤول من المستوى المتوسط في البيت الابيض وصف بها سياسة ليبيا بـ' القيادة من الخلف '، جعلها تصبح هدفاً لانتقادات سياسية '، يكتب  ناي ، ولكنه يضيف أن ' أيزنهاور كان نموذجاً كبيراً بمعرفته أن من الأفعل أحياناً البقاء بعيداً عن الانظار والقيادة من الخلف ' .
هذا الفعل هو نوع من الدجل والخداع الخطابي . إن استخدام ناي لهما يعطي الانطباع بأن شيئين مختلفين جداً هما في الواقع شيء واحد وهما الشيء نفسه. فبما يتعلق بأوباما ، فإن ' القيادة من الخلف ' هي وصف سياسة إدارته تجاه التدخل الليبي . أما فيما يتعلق بآيك ، فهو وصف لأسلوبه الإداري ، الذي أطلق عليه فريد غرينشتاين التسمية الشهيرة ' رئاسة  اليد الخفية '.
في أيام أيزنهاور، اعتبر المثقفون على الصعيد العالمي تقريباً أنه مغفل ودود ، لاعب غولف أكثر منه استراتيجي . وقبل وضع غرينشتاين الأمور في نصابها ( مع ستيفن أمبروز وغيرهما) في الثمانينات، كان جون فوستر دالاس ، بحسب ما هو مفترض وعلى نطاق واسع، هو الرجل الذي كان يدير السياسة الخارجية الأمريكية في الواقع. وباستخدام وثائق رفعت عنها السرية ، أظهر غرينشتاين و حاشيته أن أيزنهاور كان مسؤولاً حازماً، سيد التفاصيل ، يتولى بالكامل القيادة الاستراتيجية والتكتيكات . قد يكون ايزنهاور وضع دالاس في الواجهة ومركز الصدارة، لكنه كان دائما يوجهه  ' بيده الخفية '.
تقدم  يوميات جوك كولفيل ، اليد اليمنى لونستون تشرشل ، مثالاً حياً عن مهارات أيزنهاور في 'الاقناع  بالحسنى '، على حد تعبير ناي . فبعد وفاة ستالين في مارس/ آذار 1953 ، اعتبر تشرشل ذلك ، وكان آنذاك في الفترة الأخيرة له كرئيس للوزراء ، من علامات الاعتدال في موسكو . وبدأ حملة لاقناع ايزنهاور بعقد قمة مع الاتحاد السوفياتي على غرار المؤتمرات الكبرى زمن الحرب. ورفض آيك مرارا طلب تشرشل ، الأمر الذي جعل خلافاته مع أيزنهاور، في نهاية المطاف، معروفة علنا . ووصلت التوترات إلى ذروتها في برمودا في ديسمبر/ كانون أول 1953 في مؤتمر حضره قادة الولايات المتحدة وبريطانيا ، وفرنسا. فخلال إحدى الاجتماعات المفتوحة، أصدر  تشرشل على الفور نداءً بليغاً يدعو لإشراك القادة السوفيات الجدد. وكان ايزنهاور غاضباً، بحسب ما كتب كولفيل. وكان رد فعله ' بيان قصير عنيف جداً ، وبالمصطلحات الخشنة ، ' مشبها الاتحاد السوفياتي بـ ' عاهرة ' تقوم الولايات المتحدة بابعادها عن الشوارع الرئيسة . وصُدم كولفيل بالألفاظ النابية لأيزنهاور ، وأشار قائلاً، ' أنا أشك أن يكون هناك من سمع  بمثل هذه اللغة في مؤتمر دولي  '.
تأمل فيما يلي الآن: انتخبت جمهورية إيران الإسلامية مؤخراً رئيساً جديداً، هو حسن روحاني، الذي يعتبره كثير من المراقبين شخصاً معتدلاً. كان هؤلاء المراقبين يلحون على أوباما للحوار معه مباشرة، تماما كما حث تشرشل آيك. تخيل مؤتمراً بين أوباما ووفد من القادة الأوروبيين الذين قالوا وعبَّروا، ببلاغة، عن التواصل مع  روحاني. هنا تثور ثائرة أوباما. تنتفخ أوردة جبهته وتبدأ بالخفقان. وينطلق بتهجم تغلب عليه الألفاظ النابية، فيقول هادراً متوعداً ، 'إيران عاهرة ونحن ماضون بدفعها خارج أزقة الشرق الأوسط'.
إذا كان أوباما حقا مثل آيك في السياسة الخارجية، فإن هذه التجربة الفكرية لن  تكون تجربة غريبة.
إن المجموعة الشعبية في إدارة أيزنهاور ذات ' ضبط النفس الاستراتيجي ' هي في حد ذاتها نتاج تحريف التاريخ . لم تكن هذه هي وجهة النظر المعاصرة . فحتى الثمانينات، كان معظم النقاد يعتقدون عكس ذلك . لقد كانت  وجهة نظرهم مستخلصة تماماً من كتاب تاونسند هوبس ' الشيطان وجون فوستر دالاس (1973)'. وكان الهدف غير المعلن من الكتاب إزعاج الجمهوريين وتحميلهم المسؤولية عن حرب فيتنام – هذا لا يعني عملاً فذاً وبطولياً، نظراً  إلى أن الديمقراطييْن كنيدي وجونسون كانا قد أصدرا القرارات الرئيسة للتدخل . مع ذلك، فقد وجد هوبس وسيلة بارعة لالقاء المسؤولية المباشرة على عاتق أيزنهاور أو، وبتعبير أدق ، على عاتق وزير خارجيته .
وبحسب ما يفسر هوبس، كان تأثير جون فوستر دالاس هائلاً بحيث أنه امتد وتعدى الحزب الجمهوري . لقد تمكن دالاس من تشكيل روح العصر من خلال ترسيخ القدسية المسالمة في الثقافة الواسعة بخصوص 'موقف أميركا القاطع بمعاداة الشيوعية و القلق الاستراتيجي الذي لا حدود له  '. وبمجرد أن طبع هوبس، وبنجاح، الثقافة بالتعصب المناهض للشيوعية ، لم يكن أمام الديمقراطييين أي خيارما عدا اتباع منطقها المتصلب، مما أدى إلى التوسع الإمبراطوري في فيتنام . ويقول هوبس في كتابه، 'في أوائل عام 1968، عندما أدى هجوم تيت و انسحاب ليندون جونسون من القتال السياسي إلى تمزق القناع الأخير الذي يخفي سوء الفهم و الفشل الأميركي بالدفاع عن الحرية وبناء الدولة في جنوب فيتنام ، واجهتُ ، إلى جانب العديد من الناس الآخرين ، الوعي بأن حقبة في السياسة الخارجية الأميركية قد انتهت ' .
كان هذا ، وبشكل واضح، مبالغاً به بشكل هستيري ، ولكن في أيامه، حمل المثقفون هذه الحجة على محمل الجد . الأمر يستحق النظر والتأمل بالسبب . إن الصورة الكاريكاتورية ، بطبيعة الحال ، تبالغ بالنواحي المعروفة للواقع. ففي السبعينات ، كانت الحقبة المعادية للشيوعية الحقيقية جداً في عهد أيزنهاور لا تزال تشكل جزءاً من الذاكرة الحية . وقد ترددت أصداء شعارات الخمسينات ' التدمير المتبادل المؤكد '، 'نظرية الدومينو '، و' حافة الهاوية ' دلالة على الحقيقة بأن آيك ، حتى حين التوجيه الواضح للمغامرات العسكرية ، قد أخذ المعركة إلى عند العدو . بالمقابل ، إن الجماهير المعاصرة تعرف آيك فقط من كتب التاريخ مثل كتب غرينشتاين ، التي تؤكد على براغماتية ايزنهاور ، وذلك ، وعلى وجه التحديد، من أجل أن تحل محل الصورة الكاريكاتورية السائدة عن غبائه .
مع ذلك، هناك أكثر من مجرد ذرة من الصدق في عرض هوبس . لقد عمل آيك في سياق أيديولوجي محدد. إن فصل ' آيك البراغماتي ' تماماً عنه يعني رسم صورة كاريكاتيرية مشوهة ومحرفة في كل شيء بقدر  صورة 'دالاس المتعصب '.
ينظر زكريا إلى آيك وأوباما على أنهما متشابهان بشكل غريب بخصوص اظهار ' ضبط النفس الاستراتيجي ' في سياساتهما الشرق أوسطية . لقد ضبط  أوباما نفسه بشكل لا يمكن إنكاره. مع ذلك، كيف وبأي طريقة يكون عدم رغبته في استخدام القوة العسكرية ضبطاً 'استراتيجياً' للنفس ؟ ما هي الخطة الأكبر التي تخدمها؟ وجاءت أفضل إجابة عن هذين السؤالين في مارس/ آذار الماضي من توم دونيلون ، مستشار الأمن القومي السابق لديه . فبحسب ما أوضح في مقابلة له ، فقد قال بأن الولايات المتحدة  ' بالغت في استثمارها في جهودنا العسكرية في جنوب آسيا والشرق الأوسط  '.  وفي الوقت نفسه ، كان ' استثمارها ناقصاً بشكل كبير في آسيا ، وهي ' المنطقة الأكثر ديناميكية اقتصاديا في العالم' لذلك ، كان الأمر عبارة عن ' إعادة التوازن ' إزاء  آسيا.

لذا يتأمل أوباما ، الاستراتيجي العالمي ، خريطة ضخمة منشورة أمامه على الطاولة . ويقوم أوباما، مستخدماً عصا إشارة كعصا مدير مائدة القمار ، بتحريك قطع الشرق الأوسط إلى آسيا . كل هذا حسن وجيد على المستوى العالمي ، لكن ماذا عن الشرق الأوسط؟ إن المنطقة تمر الآن بمرحلة تحول مصيرية . فإلى أين الرئيس يرى الأمور متجهة ؟ ما هو الدور الأميركي في توجيهها هناك؟
في مايو/ أيار 2011، وبعد بضعة أشهر من اندلاع الربيع العربي لأول مرة ، حدد أوباما تحركاً قوياً نحو الحرية و الديمقراطية ومد يده للشراكة.  وقد قال أوباما في ذلك الحين، ' إن السؤال المطروح علينا هو ماهية الدور الذي ستلعبه  أمبركا ما أن تنجلي هذه القصة  ' . وأجاب بكل وضوح : 'يجب ألا يكون هناك شك في أن الولايات المتحدة الأميركية ترحب بالتغيير الذي يدفع بفرص تقرير المصير خطوة إلى الأمام '.  أما بعد عامين فقط ، فقد كانت نبرته أقل تفاؤلا إذ قال: ' هناك خلافات طائفية قديمة في الشرق الأوسط، ، وقد أطلقت آمال الربيع العربي  قوى التغيير ، التغيير الذي سوف يستغرق سنوات عديدة قبل ان يرسو على حل. و هذا هو السبب في كوننا لا نفكر في وضع قواتنا وادخالها في خضم حرب الآخرين ' .
حيث كان أوباما يغذي الديمقراطية قبل عامين ، يجادل الآن ويقول بفرض الحجر على العنف الطائفي . هذا التحول الصارخ يثير المزيد من التساؤلات . فهل ستحرق هذه الطائفية  نفسها ، أم أن الحريق سيتزايد؟ ما هي التركيبات الأمنية التي سوف تحتويها على النحو الأفضل؟ كيف ستساعد ' إعادة التوازن ' إلى آسيا في بنائها؟ ان المرء يشكك في عدم وجود إجابات عن أي من هذه الأسئلة ، لأن القرار بالتراجع كان منفصلاً عن رؤية أكبر للشرق الأوسط . إن ' ضبط النفس الاستراتيجي،' عندما يطبق على سياسات أوباما ، هو مرادف لـ ' الإهمال الاستراتيجي  '.
هذا لم يكن هذا صحيحا بما يتعلق بسياسات أيزنهاور. فقد تزامنت السنوات الثماني التي قضاها في منصبه أيضاً مع الموجة الثورية. لقد كان النظام الامبراطوري والاستعماري القديم يتداعى. وكان هناك نظام جديد، تهيمن عليه القومية العربية العلمانية، يأخذ مكانه. وقد رآه أيزنهاور بببساطة ووضوح ووضع استراتيجية للتعامل معه. وكان هدفه توجيه القومية في المنطقة بعيدا عن الكتلة السوفياتية باتجاه الغرب من خلال تقديم مساعدات أمنية واقتصادية. وكانت الولايات المتحدة منخرطة في عملية توازن حساسة، ودعم حلفائها الأوروبيين ضد الاتحاد السوفياتي مع تسهيل ، في نفس الوقت، صعود الدول المستقلة في الشرق الأوسط، والتي كانت معادية للدول الأوروبية.
من المستحيل أن نفهم أيا من التحركات الرئيسة لآيك من دون الإشارة إلى هذه الرؤية . خذ  على سبيل المثال ، أزمة قناة السويس ، والتي يستشهد زكريا بها كمثال ساطع على ' ضبط النفس الاستراتيجي ' والتي يتمسك بها هيجل كنموذج بالنسبة لأوباما . فعندما انقلب أيزنهاور على حلفائه ، لم يفعل ذلك انطلاقا من أي التزام شامل بـ ' ضبط النفس'. لقد كان يعتقد، وببساطة، بأن بريطانيا و فرنسا كانتا تستعديان القوميين العرب وتدمران احتمالات التكيف والتوافق الاستراتيجي بين الدول العربية والغرب . ولذلك فقد القى بالأوروبيين جانبا - ما كان في الواقع التأكيد الأكثر دراماتيكية للأولوية الأميركية على الحرب الباردة.
في خضم الأزمة ، تم الإعلان عن عقيدة أيزنهاور ، وهي التزام أميركي أحادي للدفاع عن الشرق الأوسط بأكمله. لقد قدمت عقيدته  اشعاراً رسمياً للعالم بأن الولايات المتحدة  تحل محل بريطانيا كقوة مهيمنة في المنطقة . وكانت نتيجة ' ضبط النفس الاستراتيجي ' لآيك زيادة هائلة في المسؤوليات العالمية للولايات المتحدة . أما بالنسبة لأوباما فيمثل ضبط النفس محاولة لإلقاء تلك المسؤوليات عن كاهله.
إن هذا التشبيه لآيك - أوباما يخلق وهم القواسم المشتركة والاستمرارية التاريخية حيث هي غير موجودة. إنه  تاريخ سيء ، لأنه يصور أيزنهاور كشخصية ثنائية الأبعاد ، منفصلة تماما عن مساعديه ومعتقداتهم الأساسية. في نفس الوقت ، يقدم لنا التشبيه صورة مشوهة عن أوباما . فقد أكدت عقيدة آيزنهاور على الأولوية الأميركية في الشرق الأوسط ، وكان كل رئيس منذ ذلك الحين ينظر إليها على أنها مصلحة أميركية حيوية لتشكيل النظام الدولي في المنطقة. ما يعني كل رئيس ، ما عدا الحالي.
إن النظام القديم في الشرق الأوسط ينهار . ويعمل الأعداء و المنافسون للولايات المتحدة - روسيا ، إيران ، سوريا ، حزب الله ، والقاعدة - وبدأب ، على قولبة النظام الجديد الذي يفيدهم . وقد أشعلت جهودهم ، التي غالبا ما تكون متضاربة، ناراً عظيمة . وخلافا لأسلافه ، قرر باراك أوباما بأن الطريقة الفضلى التي تخدم الولايات المتحدة هي التخلف عن الآخرين. هذا انفصال فاصل حاد مع الماضي ، خصوصا مع ايزنهاور . أما أولئك الذين يبحثون يائسين  لتلميع سمعة أوباما عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية من خلال ربط ذلك بتلك التي لرئاسة ناجحة فسوف يكون عليهم البحث في مكان آخر .
(*) ترجمة إيمان سويد ـ خاص مجموعة الخدمات البحثية.

موقع الخدمات البحثية