مواد أخرى » فصل الشتاء قد حان

أندرو س. ويس(*) ـ DEMOCRACYJOURNAL.ORG
ترجمة إيمان سويد ـ خاص مجموعة الخدمات البحثية


لقد نجحت  "إعادة ضبط " العلاقة مع روسيا ، إلى أن خربها بوتين. فالعلاقة الآن في حالة يرثى لها. وفيما يلي كيفية انقاذهاـ إذا ما كنا نريد تكلف هذا العناء حتى.

عندما يقوم الرئيس باراك أوباما بزيارة مبتورة إلى روسيا للمشاركة في قمة مجموعة العشرين في أوائل أيلول/ سبتمبر، فسوف يكون من الصعب تفويت رؤية التناقض بين هذه الزيارة وزيارته السابقة في تموز/ يوليو 2009 . ففي المرة السابقة، ألقى أوباما خطاب حفل التخرج في كلية الاقتصاد الجديدة في موسكو، وهي كلية مرموقة خاصة للدراسات العليا والمدرسة الأم للعديد من كبار المسؤولين الروس. وأبرزت تصريحاته سياسة "إعادة ضبط" التعامل مع روسيا التي كانت لا تزال في مهدها. وكان أوباما حتى في قمة المجتمع المدني الأميركي ـ الروسي يظهر أمام المئات من النشطاء وممثلي المنظمات غير الحكومية في فندق فاخر بالقرب من الكرملين.

أما اليوم، فإن العلاقات الاميركيةـ الروسية في أزمة عميقة بسبب بساط الترحيب للكرملين المفروش لإدوارد سنودن مُسرِّب المعلومات من وكالة الأمن الوطني إضافة إلى قائمة خلافات طويلة. وقد رحل سيرجي غورييف، الرئيس السابق لكلية الاقتصاد الجديدة وأحد أبرز المفكرين في روسيا، الى باريس بسبب مخاوف من إمكانية سجنه وسط تحقيقات جنائية متنقلة حول علاقاته مع الاوليغارشي ميخائيل خودوركوفسكي والمدون والسياسي المحدث اليكسي نافالني (الذي أصبحت مقاضاته ذات الدوافع السياسية قضية عالمية شهيرة). وفي هذه الأثناء، كانت قائمة الضيوف في قمة المجتمع المدني 2009  تبدو مثل مَن  مِن المجموعات التي تتحمل اليوم العبء الأكبر لحملة الكرملين الأخيرة.

أما بخصوص القضايا الرئيسة اليوم ، كسوريا، فإن من الصعب تغطية الخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا أو إبعادها. إذ يبدو أن احتمالات التوصل إلى اتفاق  أعمق حول الاسلحة الاستراتيجية تتلاشى قبل أن يترك أوباما لمنصبه ـ  وهو سبب سفر الرئيس  إلى روسيا في الدرجة الأولى. كان بوتين والمسؤولون الروس الآخرون، رافضين مجمل خطاب أوباما في برلين في حزيران/ يونيو، الذي دعا فيه إلى إجراء مزيد من التخفيضات في الترسانات النووية الأميركية والروسية. لقد كانوا فاترين ، على حد سواء، حول الإلغاء الأخير لعملية نشر الدفاع الصاروخي الاميركي المزمع في أوروبا.

إن الإحباط الموجود في الأوساط السياسية الأميركية بشأن العلاقة في تصاعد مستمر. وهناك عدد متزايد من السياسيين من كلا الطرفين وكذلك من محرري الافتتاحيات والخبراء الذي توصلوا إلى استنتاج مماثل: من المعروف جيدا اتخاذ موقف متشدد من بوتين فيما مضى.

فما الخطب هنا؟ بالنسبة لبعض المراقبين المتمكنين، الجواب بسيط. إن عودة بوتين إلى الكرملين في أيار/ مايو 2012 قضى على المرحلة المثمرة اللافتة في العلاقات  بين البلدين. إن مواقف بوتين  المعادية للولايات المتحدة والغضب بسبب التدخل السياسي الأميركي المزعوم في الشؤون الداخلية الروسيةـ مروراً بتشريعات الكونغرس في العام الماضي لمعاقبة المسؤولين الروس المسؤولين عن مقتل محامية شابة في موسكوـ تجعل من المستحيل تقريبا على أوباما تغيير الامور . ويشير آخرون إلى استياء القيادة الروسية من الأحادية الأميركية وعادة التجاهل المتأصلة لدى واشنطن لوجهات نظر موسكو. إن تعقيد الأمور أكثر  قناعة روسية متجذرة بأن القوة الأميركية في تراجع لا عودة عنه في أعقاب أزمة عام 2008 المالية العالمية، والربيع العربي، والحروب في العراق وأفغانستان وليبيا، وسوريا.

يستحق كلا التقييمين أن يؤخذا على محمل الجد، لكنهما يثيران العديد من التساؤلات بقدر ما يجيبان عنها. على سبيل المثال، ماذا نقول عن الأهمية النسبية للعلاقة الأميركية ـ الروسية بالنسبة للقيادة الروسية لجهة أن بوتين كان على استعداد لنسف تلك العلاقة لمجرد نزوة تقريباً؟ هل بوتين على قناعة تامة بأن سياسة الولايات المتحدة الخارجية تستند في المقام الأول الى الترويج لتغيير نظام حكومات لا تريدها، بما في ذلك بلده؟ وبالمثل، هل استوعبت مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية تماما الآثار المترتبة على حرص روسيا على إثبات استقلالها على الساحة العالمية، وغالبا في منافسة مباشرة مع واشنطن؟ هذه القضايا بالضبط هي النوع الذي سيحدد استمرارية سياسة إدارة أوباما لسياسة روسيا خلال الفترة المتبقية من ولاية الرئيس الثانية.

قراءة خاطئة لروسيا

قبل معالجة هذه الأسئلة، فليكن هناك بعض التواضع . فأي تشخيص لما تعانيه العلاقة الأميركيةـ الروسية يجب أن يحسب أولا السجل الحافل المتفاوت والمؤلم للغرب في تفسير التطورات في عهد بوتين ، ناهيك عن الخوض في غماره. بعد كل شيء، لا أحد كان يتوقع من عميل استخباراتي سابق غير مميز، ومن المستوى المتوسط، أن يسيطر في نهاية المطاف تماما على السياسة والمجتمع الروسيين، ناهيك عن أن يظهر كأحد أقوى الرؤساء لأغنى الدول الأوروبية وأطولهم مدة في منصبه ، بحسب ما قيل.

بعد الانحدار الاقتصادي في التسعينات، بالكاد يوجد شخص كان قد تنبأ بأن الروس سوف يحصدون قريباً فوائد الرخاء الجديد والنزعة الاستهلاكية التي أصبحت ممكنة بفضل نمو الناتج المحلي الإجمالي الثابت والزيادات السنوية المضاعفة في الدخل الحقيقي المتاح في معظم الفترة على مدى العقد الأخير من القرن الماضي. فاليوم، ليس لدى روسيا عملياً أي ديون سيادية وهي احد أكبر احتياطيات العالم من العملات الصعبة، البالغ مجموعها أكثر من 500 مليار دولار. وأصبحت النخبة الروسية غنية على المستوي العالمي بشكل خرافي ، مع وجود عدد من أصحاب الملياررات في موسكو كما هو الحال في مدينة نيويورك. وأصبح المال، والحياة المادية، والاستهلاك هي القيم السائدة على امتداد كل طبقات المجتمع الروسي تقريباً.

وسط الصورة السلبية عموماً في وسائل الاعلام الغربية عن الحياة في روسيا ـ بوتين، سوف يفاجأ العديد من الغرباء بمدى الحرية التي يتمتع بها المواطن الروسي العادي. فاليوم، من المسلم به لدى غالبية الروس أن لديهم القدرة على السفر إلى الخارج، حق الملكية الخاصة، إنشاء الأعمال التجارية، قراءة ما يريدون على شبكة الإنترنت، وتركهم وشأنهم  من قبل الدولة ، وهذا هو الأساس. هذه تغيرات على نطاق هائل بالكاد كان بامكان الأجيال السابقة تصورها. وهي تساعد أيضاً في تفسير خزان الدعم العميق لبوتين من قبل السكان غير المسيسين عموما الذين لا مصلحة لهم في العودة إلى فترة التسعينات المليئة بالحرمان والاضطرابات.

وبالمثل، لم يتوقع المراقب الغربي حصول موجة الاحتجاجات الغاضبة في شوارع موسكو وغيرها من المدن، والتي فجرتها ادعاءات واسعة بتزوير الانتخابات في أواخر عام 2011. وأظهر سكان المدن الأثرياء في روسيا، لفترة وجيزة على الأقل، مهاراتهم في التنظيم السياسي عبر وسائل الاعلام الاجتماعية والاستهزاء بفظاظة بقيادة البلاد السياسية المعروف عنها عدم تحملها للنقد. وقد ترددت مطالب المحتجين البسيطة والقوية من أجل الكرامة، الاحترام، وبأن يكون لهم رأي في تحديد مستقبلهم في المظاهرات التي حصلت في الآونة الأخيرة  التي قام بها مواطنون محبطون من الطبقة المتوسطة في تركيا، البرازيل، وبلغاريا.

أخيرا وليس آخرا، تجدر الإشارة إلى أنه لم يتوقع أحد النجاح الأولي لسياسة الرئيس أوباما تجاه روسيا. فعند تنصيب أوباما، كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في أدنى مستوى لها في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وأشار  قلة من الخبراء في السياسة الخارجية في ذلك الوقت إلى أن أوباما سوف يستثمر جهداً كبيراً في إعادة تنشيط العلاقة، ناهيك عن انتهاز الفرصة لتحقيق تقدم عبر مجموعة واسعة من القضايا.

لماذا نجحت "إعادة ضبط" العلاقة؟

 putinobama_20062012_780
لماذا نجحت " اعادة ضبط" العلاقة؟ هناك عاملان بارزان: استعداد أوباما لتحمل المخاطر دعماً لأولويات السياسة الخارجية الأخرى لدى الادارة، وقدرة بوتين على التصرف بأسلوب عملي تجاه الولايات المتحدة عندما شعر بأن القيام بذلك أدى إلى الدفع بالمصالح الوطنية الروسية قدماً.

من وجهة نظر واشنطن، كانت روسيا ذات أهمية حاسمة بالنسبة لسياساتها حول إيران، وبالنسبة للأخطار النووية العالمية، وجهود الحرب في أفغانستان. فقد زاد أوباما من الضغط الدولي على طهران بسبب برنامجها النووي عن طريق حمل روسيا، بشق النفس، على دعم قرارين في مجلس الأمن يتعلقان بفرض عقوبات ، وإلغاء بيع منظومة Sـ300 للدفاع الجوي إلى طهران. وعندما هددت خطوط الإمداد غير الموثوقة عبر باكستان نجاح زيادة القوات في أفغانستان، أقنع فريق أوباما القيادة الروسية بإنشاء طرق بديلة هامة عبر روسيا وغيرها من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق. وبعد توقف طويل في عملية الحد من التسلح الثنائية بفضل صلابة إيديولوجية  إدارة بوش، ساعد المفاوضون الأميركيون والروس على تنشيط جهود منع الانتشار النووي العالمي واختتمت هذه الجهود بنجاح في معاهدة "ستارت" الجديدة. أما خلال أزمة ليبيا في مارس/ آذار 2011، فقد ضمنت الجهود الدبلوماسية المكثفة بقيادة سوزان رايس الحصول على امتناع روسي حاسم عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973، الذي أذن بإنشاء منطقة حظر جوي، واستخدام القوة لحماية المدنيين الليبيين.

أما بالنسبة لبوتين، فقد أتت إعادة ضبط العلاقة ثمارها . لقد ساعدت على قلب آثار الحرب القصيرة النظر والكارثية مع جورجيا. (في الذكرى السنوية الأولى لتلك الحرب، فقط نيكاراغوا أيدت اعتراف الكرملين المفتقر للخبرة باستقلال منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المنفصلتين). وفي أعقاب مرحلة صعود ميدفيديف للرئاسة في ربيع عام 2008 والتي تمت إدارتها بعناية، وجد شاغل المنصب الجديد في الكرملين أن لديه الكثير من المرونة لإقامة علاقات ودية مع أوباما وزعماء غربيين آخرين. وفي حين لم يكن هناك أي شك في أن بوتين ظل صاحب القرار في كل القضايا الرئيسة وراء الكواليس، فإن حماسة ميدفيديف لدوره في السياسة الخارجية الروسية أعطى معلمه وصديقه القديم فرصة لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى. والأهم من ذلك، كان بإمكان بوتين تحقيق هذا الهدف من دون ترك أي بصمات أو المعاناة من حرج التسلق العلني من اسفل السلم.

لقد اعتبرت إدارة أوباما ، وبحق، هذه الإنجازات بوصفها نتاجا لنهج عملي براغماتي (رغم أنه نهج معاملات بلا ريب). واهتماماً منه بضمان ما أسماه الفوز بالأهداف، قام البيت الأبيض بإزالة الروابط المصطنعة بين القضايا غير ذات الصلة. على سبيل المثال، لقد أحيت إدارة أوباما اتفاقاً حول التعاون النووي كانت إدارة بوش قد وضعته على الرف بسبب حرب جورجيا. فقد أعيد تشكيل نشر الدفاع الصاروخي في بولندا وجمهورية التشيك الذي كان في عهد بوش، والذي عمل على استعداء المؤسسة العسكرية الروسية بلا داع. وأشاد فريق الاقتصاد والإدارة بالجهود التي بذلتها وتبذلها روسيا على مدى 18 عاما للانضمام إلى منظمة التجارة العالميةـ ولكن بشروط مواتية ساحقة لصالح الشركات الأميركية. ومن دون اعترافات علنية كثيرة، أعاد فريق أوباما القاء الخطب الرنانة المعتادة حول التطورات السياسية الداخلية الروسية والتقليل من جهود تعزيز الديمقراطية المرتبطة بالإدارة السابقة. كما تجنب  هذا الفريق أيضاً خطأ المبالغة بالوعود التي كانت في عهد بوش عندما وصل الأمر إلى عضوية دول مثل أوكرانيا وجورجيا في  حلف الناتو، وهو احتمال بعيد.

لقد لعبت العلاقة الشخصية بين أوباما وميدفيديف دوراً هاماً بوضوح. فبالنسبة للرجلين بدا اعتزازهما حقيقياً بتحملهما مخاطر  استعادة العلاقات مرة أخرى بعدما وصلت إلى شفير الهاوية . مع ذلك، فقد أصر العديد من النقاد على القول بأن فريق أوباما قد وضع إيمانه الكبير في ميدفيديف وفضلوه ، بطريقة خرقاء، على بوتين. لقد  تجاهلت تلك التهمة، وبسهولة، واقع كم كان من الصعب على بوتين القيام بحوار في أعقاب انهيار العلاقات الروسية ـ الامريكية عام 2008 . ومنذ بداية تسلم أوباما لمنصبه، قيل بأنه حاول مراراً بناء قنوات مع بوتين لكن دون نجاح يذكر حتى بعد عودة بوتين إلى الكرملين في ربيع عام 2012.

لسوء حظ أوباما، أصبحت إعادة ضبط العلاقة، بحكم مستواها الرفيع، ضحية لنجاحها وهدفا مغريا لهجمات حزبية. فخلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 2012، ادعى ميت رومني بأن روسيا  هي " عدونا الجيوسياسي الأول بلا شك" . وانقض فريق أوباما بسرعة على زلة رومني وصوروه بأنه على غير صلة بالواقع. هذا الأمر جعل من المستحيل عملياً على المسؤولين الآخرين في إدارة أوباما إعادة تقويم التوقعات حول إعادة ضبط العلاقة، والإعتراف بأنه قد تم قطف الكثير من الثمار المتدلية بالفعل، أو إعداد الدوائر الرئيسة لاحتمال أن تؤدي عودة بوتين إلى الكرملين إلى انهيار الترتيبات المبرمة مع ميدفيديف.

بالطبع، لقد كانت دورتا النشوة وخيبة الأمل في العلاقات بين البيت الابيض والكرملين حقيقة من حقائق الحياة منذ عهد البيريسترويكا. على سبيل المثال، لقد انهارت الزيادة الكبيرة في التعاون بعد 11/9 وذلك بعد اندفاع ادارة بوش للحرب في العراق. ففي عهد الرئيس بوش، استبد الغضب بالروس وثاروا بسبب ميل الإدارة الأميركية الروتيني لاتخاذ إجراءات من جانب واحد والقيام بتحركات غير مبررة للتقليل من شأن ودور روسيا على الساحة العالمية. وأكد سلوك فريق بوش ، ربما ، ما كان موجوداً بالفعل في اعتبار بوتين: الإيمان بأن الأجندة الأميركية الحقيقية ليست أكثر من مؤامرة تقودها وكالة المخابرات المركزية الـ CIA لتقويض روسيا، وهو مجهود يمكن تقصيه من خلال الإصلاحات الكارثية المدعومة من الغرب في عهد يلتسين، وتوسع حلف الناتو وصولاً إلى أوروبا الوسطى ودول البلطيق، ودعم الولايات المتحدة لـ "الثورات الملونة" في أوكرانيا والقوقاز، وآسيا الوسطى في العقد الأخير من القرن الماضي. وشكلت هذه الرواية أساس المونولوج الغاضب لبوتين مدة ساعة من الزمن في أول لقاء له مع أوباما في تموز/ يوليو 2009.

هذه المشاعر السلبية تجاه إعادة ضبط العلاقة  داخل المؤسسة الرسمية الروسية بالكاد كانت مساعدة في معالجة المسائل. فقبل وقت طويل من إهانة بوتين العلنية لخليفته بالبت فجأة بالعودة إلى الرئاسة، قام ميدفيديف بضربة غير مألوفة نوعا ما وفقا للمعايير الروسية، وذلك بفضل ولعه بالقيم الأميركية مثل الشفافية والمساءلة الحكومية وكذلك استخدامه الواضح لأجهزة الـ iPhone وتويتر. وهذا الأمر سرعان ما أبعده عن بوتين ودائرته السرية المقربة التي تحمل ذكريات قديمة جدا والذين يعتقدون بأن روسيا لطالما عانت منها على يدي الولايات المتحدة. ووفقاً للرؤية الروسية المهيمنة، كانت سياسة أوباما بإعادة ضبط العلاقة مجرد مبادرة من جانب قوة عظمى هي اليوم  في انحدار . وهي لا تتطلب أي تغييرات ذات مغزى في السياسة الروسية بما أن كل شيء كان أوباما يقوم به قد بلغ تصحيحا لمسار مرحب به  بعد تجاوزات جورج دبليو بوش.

حاول المسؤولون الروس أيضاً تنظيم  الإشراف على العلاقة بين وزارتي الخارجية في البلدين. هذه الخطوة كانت موحية  في حد ذاتها ـ قضايا السياسة الخارجية ذات الأولوية العليا تدار عادة من الكرملين. ففي النظام الروسي، تعتبر وزارة الخارجية (MFA)، على عكس نظيرتها الأميركية في  Foggy Bottom، وكالة منفذه بعيدا عن مركز السلطة الفعلية وصنع القرار إلى حد كبير. وفي كلتا الحالتين، لقد كانت فعالية قناة وزارة الخارجية قصيرة. وكان وزير الخارجية سيرغي لافروف وممثل الامم المتحدة فيتالي تشوركين، وهما من كبار الديبلوماسيين في روسيا، يستمتعان باستعداء هيلاري كلينتون وسوزان رايس حول القضايا الكبيرة والصغيرة. وقد ترأس كل من كلينتون ولافروف لجنة ثنائية القومية استهلكت الوقت والاتصالات داخل الدوائر البيروقراطية للبلدين ، مع ذلك فإنها لم تسفر سوى عن بعض النتائج الملموسة. وأثبتت التجربة برمتها مجدداً أن اتجاه العلاقات الاميركية ـ الروسية في حقبة ما بعد الحرب الباردة يعتمد بشكل حصري تقريبا على التدخل المباشر من جانب رئيسي الدولتين، وليس على إضفاء الطابع المؤسسي على العلاقات بين البيروقراطيات.

التأثيرات المزعجة للربيع العربي

تسببت موجة الاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي بدأت في كانون أول/ ديسمبر 2010 بخسائر كبيرة غير متوقعة على العلاقات الأميركية ـ الروسية. ولكي نكون منصفين، لقد فقدت الحكومتان توازنهما بسبب الربيع العربي، إلا أن وجهات نظرهما حول منطقة في حالة اضطراب شكلت، أكثر فأكثر، كيفية نظر كل منهما للآخر. ففي حين ركز القادة في البلدين في البداية على قائمة مألوفة الآن من العوامل الكامنة وراء الربيع العربي (على سبيل المثال، تطلعات الكتلة السكانية الشبابية المنتفخة، رغبة المواطنين العرب بالكرامة والحقوق الفردية ، الفقر الطاحن، وصعود وسائل الاعلام الاجتماعية والقنوات التلفزيونية الفضائية العربية)، فإنه سرعان ما بدأ المسؤولون الروس بالتذمر من سذاجة إدارة أوباما المزعومة حول التهديد الذي تشكله جماعة الإخوان المسلمين وجماعات مماثلة والإحجام عن دعم حلفاء قدامى مثل حسني مبارك.

لم يستغرق الأمر بالروس  وقتا طويلا  للتفكير بالانحراف باتجاه نظريات المؤامرة وقصر النظر. ففي شهر شباط/ فبراير 2011، ألقى نائب رئيس مجلس الوزراء، آنذاك، إيغور سيتشين باللوم على " كبار مديري جوجل" بخصوص الأحداث المثيرة في ميدان التحرير، في حين قارن ميدفيديف الأحداث في الشرق الأوسط بتفكك الاتحاد السوفياتي، مدعياً أنه " في الماضي، كان مثل هذا السيناريو مخبأً لنا، أما الآن فإن تنفيذه  أكثر احتمالا. في أي حال، إن هذه المؤامرة لن تنجح ".

وتسارع التغيُّر الحاصل في التركيز مع انتشار موجة الاحتجاجات إلى دولتين هما من أقدم الدول الحليفة لموسكو في المنطقة، ليبيا وسوريا. وسرعان ما موضعت روسيا نفسها كمدافع عن الأنظمة القديمة في الشرق الأوسط. فعندما زار بوتين، رئيس الوزراء آنذاك،  بروكسل لعقد قمة بين  روسيا والاتحاد الأوروبي في أواخر شباط/ فبراير 2011، أشار ساخرا إلى أن للغرب سجلا حافلا من الدعم القصير النظر لصعود أنظمة إسلامية متطرفة ". وقال بوتين " لقد كان رأس الثورة الإيرانية يعيش في باريس". واضاف يقول " لقد كان يتمتع بدعم من الدول الغربية، لكن المجتمع الغربي كله الآن ضد البرنامج النووي الايراني تماماً".

أما الاختبار الأكثر جدية فقد جاء في آذار/ مارس 2011 عندما هدد الزعيم الليبي معمر القذافي بالمضي في محاربته المتمردين  "زنقة زنقة، دار دار"، واقتلاعهم من بنغازي كـ "الجرذان". وبعد أسابيع من تجنب التدخل العسكري، تغيرت سياسة إدارة أوباما عمليا بين عشية وضحاها حيث أنها فكرت ملياً في الانهيار المحتمل للانتفاضة. هذا الأمر خلق معضلة مؤلمة استثنائية بالنسبة لفريق الأمن القومي الروسي. لقد كان بإمكان روسيا  رفع الفيتو على قرار مدعوم من الولايات المتحدة يجيز إنشاء منطقة حظر جوي، وعلى استخدام القوة لحماية المدنيين الليبيينـ وتبدو بذلك بصورة الممكِّن للقذافي المتعطش للدماء باستخدام تكتيكاته. وإما الامتناع عن التصويت.

قادت الدبلوماسية الماهرة في نيويورك إلى تضييق الخلافات الأميركيةـ الروسية  كما أدت إلى قرار روسي حاسم الروسي بالامتناع عن التصويت. مع ذلك، لقد تم استعراض ازدواجية القيادة الروسية حول الامتناع عن التصويت ، بل وبشكل غريب بعد بضعة أيام. ففي ظهور متلفز متعدد ومنفصل له، قارن بوتين بغضب بين الحملة العسكرية بقيادة الغرب وبين دعوة القرون الوسطى لحملة صليبية، في حين شدد ميدفيديف قائلا، " إن كل ما يحدث في ليبيا هو نتيجة للسلوك غير المقبول على الاطلاق للقيادة الليبية والجرائم التي  ارتكبها هؤلاء ضد شعبهم ".  وقد عززت التعليقات المبارزة المتناقضة انطباعاً جيداً  عن وجود انقسام جدي في القيادة الروسية، مما أتاح لبوتين تفادي المسؤولية بخصوص  قرار مؤلم آخر حتى لكنه ضروري، وجعْل ميدفيديف هدفاً للاحتقار الكبير.

بما أن الحرب في ليبيا طالت، فقد تزايد تعرض بوتين وميدفيديف لانتقادات داخلية. لم كان على  روسيا التخلص من معارضتها التي طال انتظارها للتدخل الخارجي في شؤون الدول الداخلية ، تساءل النقاد. لماذا سلمت روسيا القوى الغربية والعربية شيكا على بياض لإسقاط القذافي؟ بحلول صيف عام 2011، تداعى كبار المسؤولين الروس في جلساتهم الخاصة إلى الشكوى والتذمر من أن الولايات المتحدة أخذت وقتا طويلا جداً للتخلص من القذافي. ولصد الانتقادات التي واجهوها في الداخل، أصر المسؤولون الروس على القول بأن الداعمين الغربيين للحرب قد "ضللوا" روسيا بطريقة ما حول قرار الامم المتحدة واستدرجوها. هذا الأمر، بطبيعة الحال، لا يماثل كثيراً ما حدث وراء الأبواب المغلقة في مجلس الأمن، إلا أن  الأفكار الثانية لروسيا حول سيناريو ليبيا سرعان ما كان لها آثار قوية في أماكن أخرى في المنطقة.
لقد قدمت الازمة في سوريا لروسيا فرصة مثالية لوضع هذه الأفكار موضع التنفيذ. فقد كان رد فعل موسكو المبدئي على أولى بوادر التمرد في مدينة درعا السورية والمراكز السكانية الأخرى في ربيع عام 2011 خافتاً بشكل لافت. مع ذلك، وما أن اكتسب التمرد القوة، حتى شرعت موسكو باستراتيجية على مسارات متعددة. فعند كل منعطف تقريبا، كانت روسيا تستفيد من الانجراف والتفكك اللذين أصابا السياسة الأميركية طوال الأزمة. أما في الأمم المتحدة، فقد عرقل البطء والتهرب الروسي الضغوط الدولية على الأسد، منع إنشاء أساس قانوني للتدخل العسكري الأجنبي، كما حد من الدعم الدولي لقضية المتمردين. ومن دون الاعتراف علنا، تشبثت حكومة بوتين بعناد بإيمان ( لم يكن موجوداً على نطاق واسع آنذاك) بإمكانية أن يكون الأسد قادراً على تصور طريقة للخروج من الأزمة. وبالتزامن مع دعم أقوى لسوريا من إيران (وحزب الله في نهاية المطاف)، قدمت روسيا مساعدات عسكرية ومالية، إضافة إلى مساعدات في مجال الطاقة. في كل الأحوال، وعلى المسار الدبلوماسي، كانت موسكو حريصة على أن ينظر إليها على أنها تعمل بصورة بناءة مع الولايات المتحدة والقوى الأوروبية. وفي الصياغة البارزة لـ "المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات" ( International Crisis Group) ، لم تكن هذه الجهود الدبلوماسية " أكثر من جمود يتنكر في صورة حركة". وقد استخدمها الغرب للادعاء بأنه يفعل أكثر مما عليه؛ واستغلتها روسيا للتظاهر بأنها تؤيد النظام السوري أقل مما كانت عليه في الواقع ".

كان الوقوف الى جانب نظام الأسد أمراً يستحق المجازفة في نظر الروس. إذ تتخوف موسكو من أن تعني  الاطاحة بالأسد خسارة موطئ القدم الوحيد المتبقي لها في الشرق الأوسط. كما أنها قلقة أيضاً من أن تكون إيران، بسقوط الأسد،  أكثر عرضة لضغوط من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، والمملكة العربية السعودية وحلفائها السنة. وفي أسوأ الحالاتـ أي ظهور دولة سورية فاشلة أو مشرذمة ـ فإن موجة صدمة النشاط الإرهابي والتطرف الإسلامي سوف تنتشر باتجاه منطقة شمال القوقاز المضطرب ومناطق إسلامية أخرى في قلب روسيا.

لقد كان سلوك روسيا خلال الأزمة سوريا، وإلى حد كبير، خالياً من التكلفة. فمع عدم إظهار ادارة اوباما استعداداً يذكر لإدخال نفسها بقوة في صراع جديد في الشرق الأوسط، فإنه لم يكن هناك أي فرصة للمواجهة المباشرة وجها لوجه. وتم تجاهل الشكاوى الغربية بشأن المساعدات العسكرية والمالية الروسية للأسد بشكل روتيني. أما النتائج التي توصلت إليها وكالات الاستخبارات الغربية من أن قوات الأسد قد استخدمت الأسلحة الكيميائية بكميات محدودة فقد تم التصدي لها من قبل المسؤولين الروس، حتى أنهم قاموا بحملة دعائية تشير إلى أن المتمردين هم الجناة الحقيقيون. وقد غذى المسؤولون في واشنطن، طوال هذه الفترة، الآمال العرضية بأن روسيا قد تتوسط للقيام بحوار سياسي على غرار اليمن بين الأسد والمعارضة يؤدي إلى تشكيل حكومة انتقالية وقرار الأسد بالتنحي في نهاية المطاف.

توترت العلاقات الثنائية أيضاً بين واشنطن وموسكو بشدة بسبب سلسلة من المواجهات الانفعالية في مجلس الامن الدولي. وعلى النحو الذي فصله كولوم لينش في مجلة Foreign Policy ، قيل بأن سوزان رايس كانت مترددة  جداً بإجبار روسيا والصين على الوفاء بتهديداتهما باستخدام حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن بإدانة تصرفات الاسد. فبالنسبة لموسكو وبكين، فإن أي شكل من أشكال عمل مجلس الأمن قد يفتح، نظريا، الباب لعقوبات دولية، ومن ثم لتدخل عسكري في نهاية المطاف. أما بالنسبة لرايس، فلم يكن هناك اتجاه  بالسماح للأسد بتسجيل نقاط رخيصة على حساب مجتمع دولي منقسم. مع ذلك، فقد اختارت إدارة أوباما، في نهاية المطاف، عدم إعاقة التصويت على القرارات التي دفعت بها الحكومات الأوروبية الحريصة على تصوير نفسها بأنها تحاول جاهدة وقف القتل.

أحدث حق النقض الذي  رفعته روسيا والصين ثلاث مرات  في اكتوبر/ تشرين الاول 2011، فبراير/ شباط 2012، ويوليو/ تموز 2012  تمزقاً في العملية الدبلوماسية المتعددة الأطراف والتي لا تزال قائمة حتى كتابة هذه السطور. ولكنه خلق أيضاً عذراً مفيداً لواشنطن. فمن خلال لعب لعبة الجمود في الأمم المتحدة، كان لدى إدارة أوباما وقتا مريحاً أكثر بالإدعاء بأن يديها مقيدتان وبأن الروس والصينيين قد أحبطوا محاولاتها لفرض حد  للحرب الأهلية في سوريا وإنهائها. ومن المفارقات أنه على ما يبدو هناك القليل من المسؤولين الروس المنزعجين بشدة بسبب هذا التصوير للواقع. بل لقد بدا بأنهم يستمتعون بالمواجهة الدبلوماسية حول الأزمة السورية، معتبرين الأمر دليلا على أن وجهات نظر موسكو لا يمكن تجاوزها. فبعد ما يقرب من 30 عاماً من التراجع المطرد في النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، كانت موسكو سعيدة بالعودة لتكون محور الأمور.

بوتين والسياسة

على الرغم من التراكم السريع للخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن قضايا السياسة الخارجية الرئيسة الأخرى في الشرق الأوسط، فقد كان انهيار العلاقة الثنائية في عام 2012 و 2013  أمراً لا يمكن الجزم به. بدلا من ذلك، يبدو أن بوتين قد قاد عمدا العلاقة إلى حافة الهاوية. فلماذا؟

تجدر الإشارة إلى أن مظاهرات الشوارع وفيض السخط الشعبي بعد انتخابات مجلس الدوما في ديسمبر/ كانون أول 2011 خلقت أكبر تحد لحكم بوتين منذ وصوله إلى السلطة في عام 2000. ففي حين كان تزوير الانتخابات ممارسة شائعة بظل نظام بوتين بما يسمى الديمقراطية المُدارة، فإن صور تزوير التصويت في الانتخابات صبطت، هذه المرة،  على الهواتف المحمولة لنشطاء انتشرت كالفيروس. هذا الأمر  لعب مباشرة على شعور الإذلال الذي شعر به أعضاء النخبة والأفراد الأكثر ثراء في المجتمع الروسي في أعقاب إعلان قنبلة بوتين في سبتمبر/ أيلول 2011، من  أنه عائد إلى الكرملين. (وأكد بوتين في ذلك الحين أن دور ميدفيديف كان دائما جزءاً من حيلة للالتفاف على الحد المخوَّل دستورياً المتعلق بالخدمة ولايتين متتاليتين كرئيس للبلاد).

وسط أجواء تشبه أجواء المظاهرات في الشوارع، كان هناك شعور متزايد بأن النظام في موقف دفاعي وقد فقد أعصابه. فقد قادت نشوة التحدي الناجحة لبوتين بالعديد من خصومه إلى أن يسقطوا من حسابهم قسوة آلية الكرملين السياسية التي لا ترحم. لكن عودة بوتين السياسية بدأت على الفور تقريبا، على الرغم من أنها اعتمدت على الموضوعات التي  كانت محط سخرية على نطاق واسع في ذلك الوقت. ففي تصريحات له بعد أربعة أيام فقط من انتخابات مجلس الدوما وعشية أول مظاهرة كبرى، ألقى بوتين بالمسؤولية عن الاضطرابات السياسية ، وبشكل مباشر، على قوى خارجية، بما في ذلك هيلاري كلينتون. لقد كان أول شيء فعلته وزيرة الخارجية هي القول بأن الانتخابات لم تكن نزيهة ولا عادلة، رغم أنها لم تكن قد تلقت حينها المواد من المراقبين. لقد قامت بضبط الإيقاع لبعض الجهات في بلدنا، وأعطتهم إشارة. وهم التقطوا الإشارة وبدعم من وزارة الخارجية الأمريكية بدأوا العمل النشط "، قال بوتين.

تردد صدى الصافرة عبر النظام السياسي  كله مطلقاً العنان لحملة شرسة ضد ممثلي واشنطن ـ أو أي  شخص ظهر بأنه يعتمد مالياً عليهم. ( شملت الفئة الأخيرة خصوصاً مجموعة Golos، وهي مجموعة لمراقبة الانتخابات، تم تمويلها جزئيا من قبل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، واضطرت في نهاية المطاف إلى إيقافها).  وعندما وصل مايكل ماكفول إلى موسكو، وهو شخص معين من قبل أوباما للشؤون الروسية والمهندس الرئيس لإعادة ضبط العلاقة، وذلك بعد بضعة أسابيع بصفته السفير المعين حديثاً في روسيا ، كان محط سخرية وسائل الإعلام الحكومية بصفته عميلاً أميركياً تم إرساله لإثارة ثورة في البلاد. وقد أُبقيت الاجتماعات الروتينية بين ماكفول، وهو باحث قديم في السياسة الروسية، وبين شخصيات معارضة قيد المراقبة من قبل  طواقم التلفزيون وكانت تُصور بمصطلحات وعبارات شريرة. وعندما تحول ماكفول إلى وسائل الإعلام الاجتماعية لمواجهة الحملة الدعائية والتواصل بشكل مباشر مع الجمهور الروسي، كان ينظر للموضوع على أنه تأكيد بأن ماكفول في العصبة مع المحتجين.

في هذه الأثناء، تمخض عن مؤسسة شكلية خاضعة لمجلس الدوما  قانون إثر قانون، ما أعطى السلطات حرية عمل إضافية لاستهداف النشطاء السياسيين أو تصويرهم على أنهم  يمثلون تهديدات غريبة على القيم التقليدية في البلاد. وكانت تهمة التهديد الغريب مركزية لقمع الشغب من قبل حركة ***** Riot ( وهي  حركة احتجاج روك بغاء نسوية روسية) ، بعد أدائها لعمل فني مثير في أكبر كاتدرائية أرثوذكسية في موسكو والتحركات الأخيرة ضد مجتمع المثليين. وقد بعثت محاكمة حفنة من النشطاء البارزين، بما في ذلك اليكسي نافالني، برسالة مفادها أن بإمكان السلطات ملاحقة أي شخص، حتى ولو تعلق الأمر بذرائع صغيرة. واضطرت المنظمات غير الحكومية والجماعات الناشطة التي تعتمد على التمويل من الخارج إلى أن تتسجل بصفة وكلاء أجانب أو مواجهة الغرامات أو السجن.

إنقلب بوتين أيضا على ميدفيديف وحاشيته بزعم توفير التشجيع والدعم المالي لمنظمي المظاهرات. وقد أدت الهجمات الشخصية، والتحقيقات، والتسريبات إلى تحطيم فعالية ميدفيديف كرئيس للوزراء وشلت عمل مجلس الوزراء. وعلى مسار مواز، بدأ الكرملين بدفع رفيع المستوى لـ "إعادة تأميم" النخبة عن طريق الطلب من المسؤولين والعاملين في الشركات المملوكة للدولة تصفية الاستثمارات الأجنبية ونقل أسرهم إلى روسيا. هذه التحركات عززت الشعور بأن نظام بوتن سوف يستند من الآن إلى قيم النمط السوفيتي المتعلقة بالولاء الشخصي والتماثل، مما يضع نهاية مفاجئة لفترة من الانفتاح النسبي والحراك الاجتماعي بظل ميدفيديف.

كانت استراتيجية بوتين ماكرة كما كان متوقعا. فلمدة عشر سنوات تقريبا، لعب النظام بانتظام على صورة روسيا القلعة التي تعاني من التهديدات الخارجية والطابور الخامس وذلك لتعزيز شرعيته والاستفادة من المشاعر القومية الروسية. وفي مجتمع لا مبال سياسيا، وصلت الرسالة للجميع تقريبا ومفادها أن بوتين لن يذهب إلى أي مكان. ولعب الكرملين مرة أخرى لعبته بنجاح على خوف المواطنين العاديين من أي عودة إلى فوضى وعربدة التسعينات،  في حين جعل من حجة " نحن ضدهم " حجة تستهدف الناخبين الأساسيين لبوتين (ومعظمهم من العمال ذوي الياقات الزرقاء، الناخبين في المناطق الريفية، وكبار السن  والمواطنين الأقل ثراء في المدن الصغيرة في روسيا).

تآكلت مكانة المعارضة الشعبية أكثر بسبب افتقارها إلى برنامج سياسي ملموس لاجتذاب ثلثي سكان روسيا القاطنين في المدن الصغيرة والمناطق الإقليمية التي تعتمد اعتمادا كبيرا على معونات الدولة. ولم يبرز أي زعيم معارض ذي مصداقية، وفشلت شخصيات مثل نافالني حتى بحشد نسب تأييد عالية بين عامة الناس. وبمرور الوقت، انهارت حركة الاحتجاج من  أساسها ، وينظر إليها الآن وعلى نطاق واسع، حتى من قبل المؤيدين لها ذات مرة، على أنها حركة مفلسة.

هل بإمكان أوباما تشكيل نهج ما بعد إعادة ضبط العلاقة؟

للأسف، يظهر أن الظروف مشحونة ضد رؤية أوباما الأصلية لعلاقة أكثر إنتاجية مع موسكو المتحررة من ثقل الحرب الباردة. فالاهتمام الاعلامي المحموم المحيط بسنودن وإلغاء أوباما اللاحق لاجتماع قمة موسكو مع بوتين حجب حقيقة أن الجانبين لم يحرزا أي تقدم بشأن جدول أعمال مشترك لتوجيه العلاقات الاميركية ـالروسية حتى نهاية ولاية أوباما الثانية. هذا الفراغ يرجح أن يجبر البيت الأبيض على تقبل عودة إعادة ضبط العلاقة إلى مجراها.

أما في مجتمع السياسة الخارجية في واشنطن، فيسمع المرء على نحو متزايد اقتراحات تشير إلى أن مسار العمل الأكثر حكمة سيكون فك الارتباط. ولتجنب مكافأة بوتين على سلوكه الوقح، ينبغي تخفيض التفاعلات الرفيعة المستوى. فمن خلال التركيز على قضايا السياسة الخارجية الأخرى، يمكن لأوباما أن يثبت بأن العمل كالمعتاد غير ممكن في الوقت الذي ينخرط فيه الكرملين بمسرحية مناهضة للولايات المتحدة لا مبرر لها (اقرأ: سنودن) أو يقمع بشكل بشكل منهجي خصومه السياسيين في الداخل (اقرأ: نافالني). في هذه الأثناء، قد تتم معالجة العمل على المجالات ذات الأولوية مثل الحد من التسلح، سوريا، وإيران بشكل افضل من خلال القنوات الدبلوماسية الروتينية دون وجود الكثير من التوقعات بإحراز تقدم كبير أو الضغط لتوليد نتائج على المستوى الرئاسي.

هل ستكون سياسة قائمة على فك الارتباط والحد من الأضرار  ناجحة؟ ربما يكون ذلك. إن من شأن هذه السياسة بالتأكيد أن تساعد أوباما على تجنب الظهور بمظهر مطاردة بوتين والوقوع مرة أخرى في فخ الدبلوماسية التي ابتلي بها في المرحلة الأولى من إعادة ضبط العلاقة ـ تعتقد النخبة الروسية بأن الولايات المتحدة بحاجة إلى روسيا أكثر بكثير من حاجة روسيا إلى الولايات المتحدة. ومن المؤكد تقريباً بأن أي تجدد للضغط الاميركي للتوصل الى اتفاق بشأن خفض الأسلحة النووية والدفاع الصاروخي، في هذه المرحلة سوف يرفع السعر الذي يريده الروس لانتزاع الكرة ويزيد من نقاط الضعف السياسية الداخلية للرئيس اذا ما تم التوصل الى اتفاق بالفعل.

يعتقد بعض الخبراء أن من شأن الانسحاب أن يزيد مخاوف بوتين من العزلة الدولية، وربما يشجعه على تغيير المسار. إن بوتين، كما يقولون، يكره أن يتحول إلى نسخة روسية عن سيلفيو برلسكوني في نهاية حياته المهنية. مع ذلك، من غير المحتمل أن  يكون بوتين أرقاً بسبب ما يعتقده البيت الأبيض عنه. ففي ذهن بوتين، هو شخصية تاريخية عظيمة وبأنه رفع روسيا وجعلها تقف على قدميها وأعاد تأسيس مكانتها كقوة العظمى بكل عيوبها ونقائصها دون استثناء. وهو يتوقع أن يظل موجوداً لفترة طويلة بعدما يترك أوباما ونظرائه الغربيين الآخرين الساحة.
للأسف، إن التاريخ الحديث لا يبشر بالخير بما يتعلق بسياسة فك الارتباط. فعندما اتبعت إدارة بوش نهجا مماثلا، سعت موسكو وبسعادة لدور المخرب الرفيع ، وإلى تأطير سياساتها، وإلى حد كبير ، بإطار المعارضة للإجراءات والأعمال الأميركية. إن قدرة روسيا بأن تكون قوة استرجاعية ناجحة بشأن القضايا الرئيسة الكبرى سوف تواجه دائما قيوداً وحدوداً معينة، لكن من الإنصاف التوقع على ما يبدو بأنه سيكون هناك الكثير من الفرص لتوليد التهيج أو الانزعاج. ومن غير  المرجح أن تكون محاولة عزل روسيا أو معاقبتها  اقتراحاً خالياً من التكلفة.
خذ بالاعتبار ايران. فهي تخدم حاليا أغراض إدارة أوباما للإبقاء على عمل موسكو لأطول فترة ممكنة كعضو فاعل في العملية الديبلوماسية  لما يسمى بمجموعة الـ 5+1 ، والتي تهدف إلى الحد من قدرة طهران على إنتاج أسلحة نووية، وزيادة المراقبة الدولية لأنشطتها النووية في مقابل تخفيف محتمل للعقوبات الاقتصادية. وقد اكتسب المسار الدبلوماسي، وهذا واضح، طابعا ملحا جديدا حيث أن المجتمع الدولي يزن رده على صعود الرئيس المنتخب حديثا حسن روحاني. ففي مرحلة ما سوف تفترق الولايات المتحدة عن روسيا بالتأكيد وتختلفان حول الأساليب المتعلقة بإيران، خصوصا إذا كان الوضع ينزلق نحو مواجهة عسكرية. لكن الآن، من الأفضل أن تبقي موسكو داخل الخيمة في وقت استنفاد جميع الحلول غير العسكرية لهذه المشكلة.

كما أنه ليس هناك ما يشي بأن الحكومات الغربية الأخرى سوف تحذو حذو واشنطن. فالعلاقات بين القوى الأوروبية الكبرى وموسكو لا تعوزها التعقيدات بالتأكيد. مع ذلك فإن القرب الجغرافي، خصوصا في عصر تراجع ميزانيات الدفاع وتراجع العلاقات الأمنية إزاء واشنطن، يعزز موقفاً مختلفاً جداً عن أفضل السبل للتعامل مع الجار الكبير ناحية الشرق الذي يحتمل أن يكون مدمراً. فبالنسبة لمعظم الحكومات  الأوروبية، لم تعد القوة الاقتصادية الروسية تافهة في نظرها. فالدول الأوروبية التي تطمع بإيصال صادراتها إلى السوق الروسي الكبير  أو هي أكبر مستهلك للنفط والغاز الروسي وغيرها من السلع سوف تكون معارضة لارتطام قاربها بالصخر.

يكاد يكون من المؤكد أن تكون عملية الحد من التسلح الاميركي ـ الروسي قد دخلت مرحلة التجميد العميق، مما يحطم آمال أوباما باختتام إرثه بمعاهدة هي الأكثر ثنائية. لكن الكرملين، الذي ينفق بالفعل مئات المليارات من الدولارات لإعادة تجهيز الجيش الروسي بالأسلحة الحديثة والذي من المحتمل أن يرفع من مستوى زعزعة الاستقرار بما يتعلق بسلاح ICBM (  التقنية الصاروخية والعسكرية) في البلاد، من غير المرجح أن يشكو لو أن ذلك حدث. فكل ذلك مناسب جدا له كي يبالغ باعتبارالولايات المتحدة تهديداً محتملاً. وللأسف، إن أي انهيار في المفاوضات بين قوتين من أكبر القوى العظمى النووية في العالم هو بمثابة عبء على الأجندة العالمية لمنع انتشار الأسلحة النووية على نطاق أوسع. لكن ذلك لن يعجل بحصول أزمة.

ونحن أيضا يجب أن نكون واقعيين حول قدرات الولايات المتحدة على تحدي أو دحر النفوذ الروسي في المناطق المجاورة لها مباشرة وما عداها. فقبل وقت قصير من مغادرتها منصبها، شجبت هيلاري كلينتون جهود موسكو بإعادة الحقبة السوفياتية إلى الدول التي خرجت من تحت أنقاض الاتحاد السوفياتي مجدداً، وتعهدت بـ " الخروج بتصورات فعالة لأفضل السبل من أجل إبطاء تلك الجهود أو منعها".  ومع الموعد النهائي عام 2014 لانسحاب الولايات المتحدة وقوات التحالف من أفغانستان، ها نحن الآن نواجه أول اختبار لنا في العالم الحقيقي في آسيا الوسطى. وبشكل أكثر وضوحا، إن الروس مصممون وبشكل نهائي على إغلاق  قاعدة القوات الجوية الأميركية في قرغيزستان. وحيث أن رياح الحرب إلى إنخفاض، فإن من المرجح أن تتراجع  أهمية مثل هذه المرافق. فهل أن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في آسيا الوسطى بعد عام 2014 سوف تكون مقنعة بما يكفي لتبرير استثمار  هيبتها وموارد جدية لتصبح ثقلا قوة موازنة للاعبين إقليميين مثل روسيا والصين؟ هذا الأمر يبدو مشكوكاً فيه إلى حد ما.

قد تستهلك إدارة أوباما طاقاتها بشكل أفضل من خلال التركيز على مخاوف موسكو المتنامية حول عدم الاستقرار في منطقة " أفباك" ( منطقة أفغانستان وباكستان) في المستقبل. فلأكثر من عقد من الزمان، كان الروس راكبين بالمجان، راضين بالسماح للولايات المتحدة بأخذ زمام المبادرة في أفغانستان والمناطق القبلية الباكستنية ، وفي باكستان المسلحة نووياً وغير المستقرة. لا أكثر. وتعتبر موسكو نفسها الآن دولة في الخطوط الأمامية، وقد أعلنت القيادة العسكرية الروسية مؤخرا عن تشكيل قيادة القوات الخاصة الموحدة على غرار قوات SOCOM الأميركية. إن تقاسم بعض الخبرات الواسعة لعملاء أميركيين خصوصيين ووكالات المخابرات الأميركية قد يضعف المنافسة الجيوسياسية ويفتح الباب أمام أشكال جديدة من النشاط المشترك.

إن صدمة تفجير ماراثون بوسطن والسبيل الملتوي للاخوة تسارناييف نحو التطرف الذاتي توفر مثالا حياً على الكيفية  التي يمكن فيها لصعود وهبوط التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا في مجال مكافحة الإرهاب أن يؤثر سلبا على أمن بلادنا. للأسف، لقد تم تقويض الزيادة المبدئية بالتعاون الناتج عن أحداث بوسطن بسبب العداء المتجذر وانعدام الثقة بين أجهزة المخابرات في البلدين. ونذكر هنا مثالاً واحداً فقط: عندما ظهرت تسريبات من مكتب التحقيقات الفدرالي بإلقاء اللوم على الأجهزة الأمنية الروسية لعدم توفير معلومات كافية عن الإخوة تسارناييف، رد الروس بواسطة احتجاز وطرد موظف في السفارة الأميركية في موسكو تبين أنه ضابط في وكالة المخابرات المركزية.  إذ من دون حوار مشترك على المستوى الرئاسي، فإنه من غير المرجح أن يؤتي التعاون في مجال مكافحة الإرهاب ثماره الكبيرة في التحضير لدورة الالعاب الاولمبية الشتوية لعام 2014 في روسيا وخارجها.

أخيرا،  إن واضعي السياسات الأميركية بحاجة إلى  مزيد من التفكير الخلاق حول كيفية التعامل بشكل أكثر فعالية مع القادة الروس حول الموضوعات التي تشغلهم ـ أبرزها ربما،  دور روسيا في الاقتصاد العالمي وآفاقه المستقبلية كمورد رئيس للطاقة . وكما أشار ديمتري ترينين، وهو زميل في مؤسسة كارنيغي، "العمل في روسيا هو العمل. . . . وفي تناقض صارخ مع ماضيها السوفييتي، تقف روسيا في  مرحلة ما بعد الإمبراطورية بين البلدان الأقل إيديولوجية حول العالم. فبالكاد تعتبر الأفكار هامة، في حين أن المصالح هي التي تتفوق. إذن من غير المستغرب أن تكون نظرة النخب الروسية مركزة على المصالح المالية ".

سيكون الهدف المثالي لنهج ما بعد إعادة ضبط العلاقة بعد تأثيرات هدوء قضية سنودن تنظيم العلاقة لتصبح أوثق مع التركيز التجاري الشديد من جانب القيادة الروسية ونخبة رجال الأعمال. في هذه اللحظة، إن المواضيع مثل المخاطر على التوقعات الاقتصادية العالمية أو تحول أسواق الطاقة النسبة بالكاد تقرر الحوار من حكومة إلى حكومة، على الأقل على الصعيد السياسي. بدلاً من ذلك، لدينا باستمرار جدول أعمال  مثقل بصدارته بقضايا مثل الحد من التسلح، سوريا، والمجتمع المدني، حيث تعتبرهذه الخلافات واسعة. إن المسؤولين الأميركيين الذين يصرون على أن تكون للقضايا الأمنية التقليدية مكان الصدارة في العلاقات الثنائية ربما يبالغون في تداخل النظرة الاستراتيجية في كلا البلدين على مدى العقود المقبلة. وبالمثل، فإن أي مسؤول روسي  يبدو راضياً ذاتياً عن أهمية الولايات المتحدة المحدودة بالنسبة إلى روسيا لم يلتفت بالتأكيد الى كيفية رد فعل الأسواق الروسية إزاء تغييرات وشيكة في برنامج التيسير الكمي للاحتياطي الفيدرالي، أو إلى آثار ثورة الصخر الزيتي على تجارة تصدير الغاز المربحة لروسيا.

بطبيعة الحال، لا توجد حلول سريعة لمسار الهبوط في العلاقة الأميركية ـ الروسية. ويجب علينا ألا نتوقع أن تبدو  قائمة الخلافات، الإحباط، والمهيجات  لدى الجانبين ،فجأة،  أقل إلحاحاً أو قهرية . إلا أن  جهداً واعياً من قبل إدارة أوباما لإعادة التوازن إلى العلاقة بعيداً عن قضايا إرث ما بعد الحرب الباردة، مثل السيطرة على التسلح ومطالب متصلبة حول الإدارة الجيوسياسية المعلبة قد تشكل أساساً معقولاً للخروج من المأزق الراهن وتجنب فترة طويلة من الركود والعداء.

(*) أندرو  س. ويس هو نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. خدم في مجلس الأمن القومي، في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية، وفي مكتب وزير الدفاع أثناء إدارتيْ كلينتون وجورج بوش الأب)

موقع الخدمات البحثية