مواد أخرى » حياة أو موت: سنة العراق والدولة

International Crisis Group ـ تقرير الشرق الأوسط رقم 144
بغداد / بروكسل، 14 أغسطس/ آب 2013


ملخص تنفيذي

إن السؤال  حول مشاركة العرب السنة في النظام السياسي في العراق الذي عصف بالعملية الانتقالية منذ نشأتها سؤال حاد ومتفجر كما كان دائماً. قاطع معظم أفراد هذا المجتمع، المهمش بسرعة بقسمة عرقية ومذهبية حصرته بوضع الأقليات في نظام يهيمن عليه الشيعة والأكراد،  التوزيع الجديد ثم حاربوه . وبتحولهم تدريجياً من التمرد إلى المشاركة السياسية مؤقتاً، لم ينتج رهانهم إلا التمثيل الاسمي فقط، في حين عزز مشاعر الظلم والتمييز. أما اليوم، ومع مشاعر الإحباط التي تغلي، والاستقطاب السني- الشيعي في المنطقة وتفجيرات السيارات الملغومة التي هي في ارتفاع في جميع أنحاء البلاد منذ بداية شهر رمضان في شهر يوليو/ تموز، فإن تاجج الحرب الأهلية المذهبية من جديد يعتبر خطراً حقيقياً. ولتجنب ذلك، يجب على الحكومة التفاوض من أجل وقف إطلاق النار محلياً مع المسؤولين السنة، وإيجاد سبل لدمج أكثر عدلاً للعرب السنة في الحياة السياسية  والتعاون مع الجهات المحلية لبناء نظام أمني فعال على طول الحدود السورية.
إن أصل الأزمة عميق. فطوال فترة ولايته الممتدة سبع سنوات، نفذ رئيس الوزراء نوري المالكي استراتيجية فرق ـ تسد والتي أخصَت أي قيادة ذات مصداقية من العرب السنة. كما اتخذت السلطات خطوات عززت التصورات بشأن وجود أجندة طائفية. فالمسؤولون البارزون ـ السنة في الغالب ـ قد تمت تنحيتهم جانباً عملاً بقانون المساءلة والعدالة على أساس الانتماء المزعوم على مستوى رفيع لحزب البعث السابق. وانتشرت القوى الأمنية الفيدرالية بشكل غير متناسب في الأحياء السنية في بغداد فضلاً عن محافظات سنية (الأنبار وكركوك صلاح الدين ونينوى، وديالى). أما العراقية، الحركة السياسية التي يرتبط بها معظم العرب السنة بدون تردد، فقد انهارت بسبب الخصومات الداخلية حتى عندما لجأ المالكي إلى الوسائل القانونية والتي خارج نطاق القضاء، على حد سواء،  لتوطيد سلطته.
لقد أثبت العام الماضي بأنه حمل في طياته، على وجه الخصوص، أضراراً بالغة. وحيث أن الأحداث في سوريا غذت آمالهم بعودة سياسية، فقد أطلق العرب السنة حركة احتجاج سلمية غير مسبوقة في أواخر عام 2012 رداً على اعتقال حراس رافع العيساوي، وهو عضو بارز في كتلة العراقية. كما لم يقدم العام أجوبة على الشكاوى المتراكمة. بل أدت  المظاهرات وأعمال القمع  إلى تفاقم شعور الإقصاء والاضطهاد بين السنة أكثر.
اختارت الحكومة في البداية، رداً تقنياً باهتاً، بتشكيلها لجان من جانب واحد لمعالجة مطالب المحتجين، والابتعاد عن المفاوضات المباشرة و تشديد الإجراءات الأمنية في المناطق السكانية السنية. وقد فاقمت التنازلات الفاترة المتأخرة من حال انعدام الثقة ومن تمكين الفصائل الأكثر راديكالية. بعد أربعة أشهرعلى الجمود، تصاعدت الأزمة. وفي 23 أبريل/ نيسان ، داهمت قوات الحكومة مخيم احتجاج في مدينة الحويجة في محافظة كركوك، مما أسفر عن مقتل أكثر من 50  وجرح 110 أشخاص.  وقد أثار هذا العمل موجة من أعمال العنف تجاوزت كل ما شهدته البلاد خلال خمس سنوات. الأدهى من ذلك، هو أن الهجمات ضد قوات الأمن أدت إلى إحياء مخاوف المدنيين من عودة الحرب الأهلية الشاملة. أما دولة العراق الإسلامية، التعبير المحلي عن تنظيم القاعدة، فتستعيد نشاطها وقوتها. وقد ردت الميليشيات الشيعية على السنة. أما نية الحكومة على ما يبدو لمعالجة قضية تعتبر سياسية في المقام الأول - تمثيل العرب السنة في بغداد - من خلال تشديد الاجراءات الامنية فتنطوي على جميع الفرص الممكنة لجعل الوضع يتفاقم أكثر .
إن الحركة الشعبية، المقلل من شأنها والمشيطنة والخاضعة على نحو متزايد لحملة الحكومة المركزية، تتحول ببطء إلى الكفاح المسلح. وبهذا الخصوص، تحول غياب القيادة الموحدة للسنة - التي ساهمت بها سياسات بغداد و التي قد ينظر إليها المالكي كرصيد ثمين - ليصبح مسؤولية جدية وخطيرة. وفي مواجهة حاسمة تكتسب نغمة مذهبية متزايدة، يتطلع أنصار الحركة غرباً باتجاه سوريا كساحة تكون في مكافحة الحكومة العراقية وحلفائها الشيعة في مصلحتهم وينظرون شرقا نحو إيران كمصدر لكل ما لديهم من علل ومصائب.
تحت ضغط مكثف من القوات الحكومية وتضاؤل الإيمان بالتوصل إلى حل سياسي، خلص العديد من العرب السنة إلى أن خيارهم الوحيد الواقعي هو الصراع العنيف المؤطر بشكل متزايد بالمذهبية . في المقابل، فإن الحكومة ترفض، وبسهولة، كل المعارضة بصفتها تمرد مذهبي يبرر وجود تدابير أمنية صارمة أكثر من أي وقت مضى. وفي حالة عدم وجود تحول جذري في النهج، فإن النظام السياسي الهش في العراق ينطوي على خطر الانهيار، وذلك ضحية لمزيج من الخلل والتصدعات القديمة القابلة للاشتعال وتزايد التوترات الإقليمية.
توصيات
لتهدئة العنف على المدى القصير
إلى حكومة العراق ومجالس محافظات الانبار، نينوى ، صلاح الدين وديالى:
1. ينطوي التفاوض لوقف إطلاق النار المحلي على ضبط النفس من جانب قوات الحكومة والتعاون من قبل السلطات المحلية.
2. السعي إلى إنشاء قيادة مشتركة وبنى تنسيق تضم الجيش الاتحادي والقوات المحلية (الشرطة ووحدات الصحوة )، وذلك بهدف تحديد أولويات النضال ضد دولة القاعدة في العراق الإسلامية، وضمان عدم عبور مقاتلين عراقيين، سواء كانوا من السنة أو الشيعة، إلى سوريا.
3. التحقيق بشكل مشترك في عمليات القتل في الفلوجة والموصل والحويجة.
لمعالجة القضايا على المدى الأطول  المساهمة في عدم استقرار البلاد
إلى حكومة العراق:
4. خفض التوترات الطائفية من خلال جملة أمور منها:
أ) التخفيف، من جانب واحد أو في سياق وقف إطلاق النار قابل للتفاوض محلياً، من التدابير الأمنية  مثل عمليات الانتشار لفريق SWAT وعمليات التدقيق الأمنية التدخلية ؛ وكذلك القيود المفروضة على التنقل والوصول إلى المواقع الدينية أينما كان ذلك ممكناً؛
ب) توفير مكاسب وفرص متساوية للعشائر الشمالية والجنوبية؛
ج) إطلاق حوار وطني للاتفاق على إصلاح قانون العدالة والمساءلة وإنشاء آلية الرقابة والاستئناف للجنة المساءلة والعدالة، على حد سواء، في حين يتم تحديد مهلة زمنية للأنشطة؛
د) توضيح دور ومسؤوليات وزارات الدفاع ، الداخلية والعدل في الإجراءات المتعلقة بالقبض على الأفراد واحتجازهم ومحاكمتهم بموجب قانون مكافحة الإرهاب؛
ه) الامتناع عن التصريحات الطائفية والمذهبية التحريضية عند تنفيذ إشارات ترمي إلى تحقيق المصالحة الوطنية (على سبيل المثال، وضع الأضرحة في سامراء تحت إدارة مشتركة للأوقاف السنية والشيعية).
5. السعى إلى عزل العراق عن الصراع السوري عن طريق جملة أمور منها:
أ) الامتناع عن إصدار أي تصريح يوحي بالدعم العراقي لطرف ما من أطراف في النزاع؛
ب) منع المقاتلين، سواء كانوا من السنة أو الشيعة، من العبور إلى سوريا، ولا سيما من خلال التعاون مع الجهات الفاعلة المحلية في الأنبار ونينوى ( مسؤولي العشائر والمحافظات) ومع قوات الأمن المعينين محليا (على سبيل المثال، الشرطة والصحوة)، وكذلك حكومة إقليم كردستان.
إلى القادة المحليين والوطنيين السنة:
6. الامتناع عن التحريض على الكفاح المسلح أو الدعوة إلى إنشاء منطقة فيدرالية سنية.

إلى قادة الصحوة :
7. إعادة تأسيس كتيبة صحوة واحدة بظل قيادة موحدة تكون في وضع يمكنها من تقديم مجموعة واضحة من المطالب للحكومة.
8. التعاون مع قوات الحكومة الاتحادية في  مسألة ضمان أمن المحافظات ضد دولة العراق الإسلامية وحراسة الحدود السورية.

 إلى الوقف السني، الجمعيات الدينية ورجال الدين البارزين:
9. التفاوض مع الحكومة المركزية على مطالب محددة (وجود القوى الأمنية؛ رواتب رجال الدين؛ تمويل المدارس الدينية)، إدانة العنف علناً والامتناع عن دعوات لتشكيل إقليم سني.

بغداد / بروكسل، 14 أغسطس/ آب 2013

النص الكامل:
1. مقدمة
موجة جديدة من العنف تجتاح العراق. فقد شهد شهر مايو/ أيار  2013 أعلى عدد من الهجمات العنيفة ذات الصلة بالسياسة في السنوات الخمس الماضية. واشتد العنف بداية شهر رمضان في 10 يوليو/ تموز؛ وفي 29 يوليو/ تموز، أدت سلسلة من التفجيرات لسيارات مفخخة  إلى مقتل ما لا يقل عن 50 شخصا في أنحاء البلاد (34  في بغداد وحدها) وأصيب أكثر من 100 بجروح؛ وفي 10 أغسطس/ آب ، وبينما كان يجري الاحتفال بنهاية الشهر الكريم ، قتلت موجة أخرى من التفجيرات أكثر من 60 شخصاً في جميع أنحاء البلاد، خاصة في الأحياء الشيعية. ويعبِّر المواطنون والسياسيون، على حد سواء، عن مخاوفهم من العودة الى الصراع المذهبي. وتعطي دولة العراق الإسلامية، وهي انبثاق محلي عن تنظيم القاعدة، دلائل مثيرة للقلق عن تجدد نشاطها. كما أن جماعات سنية مسلحة تعيد تنظيم نفسها ببطء. والقوات الحكومية المسلحة محاصرين، تدريجياً، ضمن حلقة مفرغة من القمع والانتقام. كما يتم اعادة تعبئة الميليشيات الشيعية أيضاً. فللعنف أهداف وأصول مختلفة، لكنه في القاع  يعكس الغربة المتزايدة للعرب السنة المحاصرين في سياق استقطابي مذهبي إقليمي مكثف في المنطقة.

منذ أواخر عام 2012، قام العرب السنة في العراق باحتجاجات سلمية للتعبير عن مجموعة من الشكاوى، أبرزها شعورهم بالتهميش بظل حكومة شيعية يقودها رئيس الوزراء نوري المالكي. وتتحدى هذه الحركة الشعبية كل من التوازن الطائفي الهش للقوى وأسلوب القيادة المثير للجدل الذي شكل السياسة في فترة ما بعد الحرب الأهلية. وقد وصل الجمود الذي دام أربعة أشهر خلال والذي تجنبت الحكومة فيه القيام بأي مفاوضات جادة إلى ذروته في الحملة الدموية ضد المحتجين. هذا الأمر بدوره أثار رد فعل عنيف، وحوَّل الأزمة الداخلية إلى نزاع مسلح. وفي مساء 2 ديسمبر/ كانون أول 2012، اقتحمت قوات الأمن مقر إقامة رافع وزير المالية في العراق العيساوي، (سني) ، واعتقلت العديد من حراس الأمن والموظفين بتهمة المشاركة في هجمات إرهابية. وسرعان ما اندلعت الاحتجاجات في الفلوجة، مسقط رأس العيساوي ، في محافظة الأنبار.

في غضون أيام، انتشر الاحتجاجات وامتدت لتصل الى الرمادي، حيث وردت تقارير عن تدفق الآلاف إلى الشوارع، وسدهم الطريق السريع الذي يربط بغداد بسوريا والاردن، ثم انتقالهم إلى المحافظات المجاورة ذات الأغلبية السنية وهي محافظة نينوى ، صلاح الدين ، كركوك وديالى، وكذلك إلى أحياء بغداد السنية. وظلت المظاهرات محصورة بمعظمها في مناطق سنية؛ أما في المحافظات الوسطى والجنوبية الشيعية ، فقد نُظمت تجمعات صغيرة دعماً لرئيس الوزراء. وما أن ازداد حجم الاحتجاجات ، حتى أرسلت الحكومة القوى الأمنية في محاولة لقطع محافظة الانبار وضمان بقاء بغداد منيعة.

ظلت الحركة سلمية لبعض الوقت. مع ذلك، وفي 25 يناير/ كانون الثاني  اندلعت اشتباكات 8 مارس/ آذار لأول مرة في الفلوجة ثم في الموصل، مما أدى إلى مقتل تسعة من المحتجين في الفلوجة، وواحد في الكوصل . تصاعدت المطالب أيضاً، بدءاً من الإفراج عن حراس العيساوي والسجينات إلى ما مجموعه ثلاثة عشر نقطة، بما في ذلك إلغاء قانون مكافحة الإرهاب (المادة الرابعة)، تمرير قانون العفو العام وإصلاح قانون المساءلة والعدالة، فضلا عن احترام تحقيق التوازن العرقي والطائفي في جميع مؤسسات الدولة. بعد سقوط القتلى  في الفلوجة والموصل، ارتفع العدد مع ذلك مرة أخرى، وهذه المرة شمل التحقيق بالموضوع، والحكم ومعاقبة الجنود المسؤولين عن هذه العمليات.  وقال أحد سكان حي الأعظمية في بغداد،  معبراً عن تصميمه الجديد،" لقد رحل المحتل الأميركي، ممكناً من سلطة جديدة، هو المالكي، الذي  قتل، وسجن شعبنا وأخذ نسائنا بعيدا عنا . نحن ذاهبون للقتال حتى النهاية. لا عودة لنا الى الوراء هذه المرة ".

بمعنى من المعاني، كانت الحركة محلية جداً، منظمة وحية، على حد سواء،  بواسطة شخصيات عشائرية ودينية محلية؛ أما حيث شارك السياسيون الوطنيون، فإنهم فعلوا ذلك فقط في المناطق المرحب بهم فيها. وساعدت مجموعة منتقاة ـ منظمات محلية وشخصيات، عشائر، رجال الدين، شخصيات سياسية وأفراد من المجتمع المدني وحتى عناصر من المقاومة المسلحة سابقاً ـ في الجهود المبذولة، مما قرب الناس من بعضهم أكثر وجعلهم يعبِّرون عن مطالبهم. وكانت التجمعات تحدث عادة أثناء أو بعد صلاة الجمعة مباشرة. وقال أحد سكان الأنبار الذين شاركوا في الاحتجاجات:

لا أحد يتحكم في المظاهرات ولكن كل مكون من مكوناتها الفردية جعلها تحدث. فأفراد العشائر جلبوا أبنائهم، الذين ينصبون الخيام ويوزعون المواد الغذائية التي كان يتم التبرع بها من قبل العشائر نفسها. ويوفر رجال الدين غطاء الشرعية الدينية للاحتجاجات بينما يساعد القادة السياسيون المنظمة.

أما على المستوى المحلي حتى، وعلى الرغم من المطالب المشتركة، فقد عملت كل مجموعة انخرطت في الاحتجاجات على تعزيز أجندتها الخاصة أكثر وذلك في لعبة شد الحبل مع بغداد. إذ سعت العشائر للحصول على حصة أكبر لها من الطاقة، وعادة على حساب القبائل المتناحرة التي وقفت مع بغداد عندما بدأ المالكي ولايته الثانية في عام 2011؛ وقام رجال الدين بالمثل في مقابل رجال دين اعتبروهم مختارين من قبل الحكومة ؛ ورغب الحزب الإسلامي العراقي بسحب السنة  بعيداً عن التيار الأكثر علمانية، بينما رأى ضحايا قانون اجتثاث البعثيين وجود فرصة لاستعادة حقوقهم، وأخيرا، لقد رأى أعضاء المقاومة المسلحة السابقة في النضال استمرارية لقتالهم ضد المؤسسة السياسية ما بعد صدام.

بوضع المصالح الضيقة جانباً، فقد عبَّر  الناس الذين نزلوا إلى الشوارع من خلال المظاهرات عن استياء أوسع وأعمق حول ما يعتبرونه نظاماً سياسياً ظالماً عانوا منه أكثر من عشر سنوات، حتى رأوا أن هناك فرصة لتحويل ميزان القوى لصالحهم. ضمن هذه البيئة غير المألوفة، لم يعد بإمكان السياسيين السنة، زعماء القبائل ورجال الدين المراوغة ـ وكان كثير منهم قد تناوبوا بين تقديم الدعم للحكومة  وتحديها اعتماداً على الظروف . وأصبحت الأحداث في الواجهة ـ مما عزز الإحباط الطويل بين أفراد المجتمع. الموضوع ببساطة، هو أن اللعب على الحبلين قد أصبح غير مقبول اجتماعياً.

2. إعادة صنع مجتمع السنة

إن العرب السنة في العراق مجتمع تعددي غير متجانس، موزع على محافظات تشمل عدة جماعات طائفية وعرقية  ـ باستثناء الانبار . فالمناطق السنية في محافظات بغداد ،الأنبار، صلاح الدين ،نينوى كركوك وديالى تشمل مكونات حضرية وعشائرية تختلف بشكل حاد عن بعضها البعض. لقد صاغت الطبقة الحضرية العلمانية في معظمها هويتها أثناء ولادة الدولة، لتقود بذلك المؤسسات الوليدة خلال النظام الملكي الهاشمي (1921-1958) ولتلعب دورا رئيساً في تأسيس جمهورية العراق عام 1958. وعادة ما تمسكت هذه الطبقة برؤية سياسية نخبوية، ليست طائفية، والدفاع عن امتيازاتها بدلاً  من تعزيز مجتمعهم ككل ، وذلك عن وعي ذاتي.  أما  العشائر، سواء كانوا من السنة أو الشيعة، فقد تعاونت مع الدولة الجديدة أو عارضتها اعتماداً على المقدار الذي كانت تعكسه الدولة على مناطقها وعلى توزيعها للموارد .

بعد تولي حزب البعث السلطة في عام 1968، احتفظ العرب السنة  بحصة هامة ضمن بنية السلطة ـ وإن كانت غير حصرية إلى حد كبير . فصدام حسين نفسه ، وهو من العرب السنة لكنه كان، و قبل كل شيء، من خارج المحافظات، قد استثمر في الولاءات القبلية والمذهبية لترسيخ سلطته في العاصمة، وخصوصا في الساحة الأمنية الحساسة . وهذا يعني بأن نظامه ضحى بالناس من جميع الخلفيات، من ضمنهم أفراد الطائفة السنية ـ سواء من المواطنين العاديين ورجال الدين ورجال الأعمال أو رجال القبائل. ولم تتخذ سياسة صدام منعطفا أكثر طائفية ومعلناً إلا بعد  انتفاضات 1991 في جنوب وشمال العراق.

حتى الآن، وعلى الرغم من هذه الفروق الهامة، فقد مالت سياسات الولايات المتحدة في أعقاب الاحتلال وأثناء إقامة نظام سياسي على أساس عرقي وطائفي إلى معاملة العرب السنة كمنتمين إلى كيان متجانس منتظم ، يقطنون منطقة محددة نسبيا يطلق عليها اسم المثلث السني، ويتمتعون بمركز مميز بظل الرئيس المخلوع يجمعهم العداء المشترك ، كما المقاومة، تجاه النظام الجديد.
بدوره ، أثار هذا الأمر  مشاعر التهميش والمعاملة الظالمة في أوساط السنة، أولاً على يد المحتل ثم على يد رئيس الوزراء نوري المالكي. ونتيجة لذلك، بنى هؤلاء هوية سياسية جديدة، وإن كانت غير متماسكة إلى حد بعيد . وتأكيداً لإحدى نقاطه، قال أحد أعضاء البرلمان من قائمة العراقية ـ وهو ائتلاف علماني غير مذهبي  بحسب زعمه برغم أنه ينظر إليه على نطاق واسع بأنه أكثر تمثيلا للعرب السنة ـ " لقد استيقظنا في أحد الأيام في الاعظمية، [حي في  بغداد] واكتشفنا فجأة أننا جميعاً سنة ".

في السنوات التي تلت ذلك، ظل المجتمع السني عالقاً في فخ  نمط المشاركة الدورية في سياسة الدولة والانسحاب منها، مكافحاً من أجل تحديد شروط مشاركته وكذلك دوره وهويته في عراق اليوم. وكان النظام السياسي ما بعد عام 2003 قد صمم بطرق جعلت العرب السنة محصورين في وضع الأقليات اضطر فيها هؤلاء الى القبول به، لا سيما بعد استثماره في أطر وطنية وأطر مرجعية  القومية العربية لعقود. وبسبب شعورهم بالحرمان من دولة لم يمتلكوها بالكامل أبداً ،إنما كان بإمكانهم الاتصال بها على الأقل ، فقد طلب منهم اعتناق أجندة طائفية غريبة عنهم.

برز توجهان قاسيان داخل المجتمع العربي السني كلاهما برؤية الخروج  بهذا المجتمع من هذا التهميش  ولو من خلال وسائل مختلفة جذريا. أحد التوجهين، وريث الاتجاه القومي العلماني، رفض الطائفية وجعل الأولوية للمشاركة السياسية الواسعة كوسيلةلاعادة اخضاع السلطة . أما الثاني، المولود من رحم التيار الإسلامي، فقد ركز على تعزيز هوية المجتمع السني . بعبارة أخرى، وبينما كان التوجه الأول يسعى لنزع سمة الطائفية عن النظام السياسي من خلال المشاركة، فقد سعى التوجه الثاني إلى مذهبة المجتمع نفسه من خلال التأكيد من هويته.

بمرور الوقت، تفاقمت مشاعر الاستبعاد السياسي لدى العرب السنة بسبب غياب مشروع توحيدي واضح أو وجود شكل من أشكال التمثيل له. وفي السنوات الأخيرة، انعكس هذا الأمر في عدم قدرة قائمة "العراقية" على التعبير عن الشكاوى بفعالية أو طرح تطلعات محددة وصلبة، ناهيك عن التصرف بناء عليها. ووسط حالة من الغموض، ونظراً لعدم وجود قيادة متماسكة، عادت الجهات الفاعلة المحلية التقليدية إلى البروز  مجدداً ـ ولا سيما العشائر ورجال الدين – المتعاملة  غالباً مع الدولة بصفتها جهات منفصلة ومستقلة ذاتياً.

أ‌. الاستياء الجياش بدأ بالغليان
إن الهياج السياسي في أوساط العرب السنة له جذوره في المشاعر التي تشكلت خلال الاحتلال الأمريكي واشتد أكثر على امتداد السنوات التي امضاها المالكي في منصبه. ففي أعقاب الاطاحة بصدام حسين، شعر هؤلاء بأنهم مستهدفون بسبب السياسات التي وصمتهم واضطهدتهم بصفتهم بعثيين أو إرهابيين. وبمرور الوقت، كانوا يعتقدون بأنهم في الطرف المتلقي للتمييز المؤسساتي. وأجرى زعيم أحد العشائر مقارنة بين الاعظمية، وهو حي في بغداد بأغلبية سنية، وبين منطقة الكاظمية المجاورة (ويغلب عليها الطابع الشيعي) فقال :

تتلقى بلديتا الأعظمية والكاظمية، على حد سواء، ميزانية سنوية للمشاريع. لكن الكاظمية تملك كل شيء: الكهرباء والاستثمارات والمشاريع. أما في الأعظمية، فيتم حظر جميع المشاريع. نحن في حاجة الى مستشفى جديد، نحن في حاجة الى مدرسة. ليس لدينا شيء.

ويظهر التأثير أكثر وضوحا بين جيل الشباب. وقال ناشط بارز في مجال حقوق الإنسان العراقي:

يتشارك السنة الشباب القلق الموجود لدى جميع الشباب العراقيين، حيث أنهم يعتبرون أن الحكومة لا تعمل إلا بحركة بطيئة. ولكن، وبما يتخطى ذلك، هم يشعرون أيضا بأنهم لا يتمتعون بنفس الفرص كالآخرين. إذ لا يزال عليهم أن يشعروا بأنهم مقبولون من قبل المجتمع ويستاؤون من الاشتباه بانتمائهم إلى تنظيم القاعدة.

إضافة إلى هذا هناك التصور الموجود  لدى العرب السنة بأن قوات الأمن ، وخصوصا الجيش، هي أدوات  يهيمن عليها الشيعة بغرض الهيمنة الطائفية بدلا من الحماية الوطنية. وقال أحد الشباب السنة:

ما أن تدخل حي الأعظمية [حي يغلب عليه السنة]، فإن قوات الأمن الحكومية ستعاملك بشكل مختلف. أنها تستخدم نقاط التفتيش للضغط علينا. يمكنهم القبض عليك في أي وقت. ولديهم دائما اتهام جاهز:"هل أنت إرهابي أو بعثي؟" كان لدينا حكومة ذات مرة. أما الآن، فلدينا مجموعة من المجرمين تحكمنا.

أما على مستوى أوسع حتى، وبالنسبة لكثير من العرب السنة فإن معنى الاحتلال الأجنبي لم ينته أبداً، بل تم استبدال الاحتلال الأميركي باحتلال شيعي. فمن وجهة نظرهم، لقد خسروا عاصمتهم لصالح خصومهم الطائفيين، الذين غطوا المدينة بالرموز الشيعية ( كعلم الإمام الحسين) ويحذرون ويتباهون في الوقت نفسه  بتحقيق هيمنتهم حديثا عليها. وقال أحد العرب السنة من كركوك، ويعمل كموظف حكومي: " آخر مرة ذهبت فيها إلى بغداد كانت في فبراير/ شباط 2003، قبل أشهر قليلة فقط من الغزو الامريكي. وإذا ما نقلوني للعمل هناك، فلن أذهب. إن بغداد محتلة". مردداً هذا الرأي أيضاً، أكد أحد سكان بغداد السابقين الذي يعيش حالياً في الفلوجة قائلاً: "أنا لا أريد أن أعيش في بغداد. أنه أمر خطير لأن بإمكانهم [ أي قوات الأمن الحكومية] اعتقالنا أو سجننا [العرب السنة] في أي وقت ".
 كانت النتيجة تزايد انسلاخ العرب السنة عن العملية السياسية والحياة السياسية ككل. وبحسب تعبير أحد قادة العشائر  من السنة العرب من الاعظمية: قبل الانتخابات [ انتخابات مارس/ آذار 2010 البرلمانية] ، قلت لإياد علاوي [رئيس القائمة العراقية] أني سأدعمه. انتخبنا العراقية، ولم نحصل على شيء.
ليس لدينا أي ممثل حقيقي في البرلمان في الوقت الراهن. فالاعظمية [ مكان ضريح أبي حنيفة النعمان، أحد مؤسسي  أولى مدارس الفقه الإسلامي] مكان مهم بالنسبة للعالم الإسلامي بأسره، مع ذلك لا أحد يمثلنا حتى الآن.

وأضاف أحد أفراد العشائر من الفلوجة قائلاً: "لقد حاربنا لعدة سنوات. ثم حاولنا الاستثمار في البرلمان. لكن المالكي يسيطر على كل شيء، ولم يترك لنا شيئاً. علينا الآن أن نجد وسيلة أخرى لتحصيل حقوقنا".

ب‌. عقد من الزمن خارج  بغداد
إلى حد ما كبير،  كانت السياسة الأمريكية في عهد ما بعد صدام  يوجهها مفهوم يقول بأن العرب السنة حكموا الشيعة والأكراد في ظل النظام السابق. واستتبع ذلك النتيجة الطبيعية - أن التحول إلى الديمقراطية بحكم الضرورة استتبع نقل الهيمنة بعيدا عن الأقلية . ونفذت أول هيئة حاكمة أسسها الأميركيون - سلطة الائتلاف المؤقتة (CPA) – سياسة اجتثاث البعثيين التي عاملت، وبشكل أساسي، العرب السنة  كممثلين لبنية دولة قمعية من الضروري تفكيكها. وبالمثل، عززت القوات الامريكية التدابير الأمنية المشددة في المناطق السنية ، حتى تلك المعادية تقليديا للنظام السابق . وأخيراً، تم بناء النظام السياسي الناشئ صراحة على أسس عرقية و طائفية، مما أوضح بأنه سيتم  تنحية العرب السنة  واقصائهم بحيث يؤدي هؤلاء  دوراً ثانوياً  بحكم الديموغرافيا. عموماً، هذا الأمر بعث برسالة مفادها أن اجتثاث البعثيين كان بمثابة التخلص من تفعيل السنة.

نتيجة لذلك، انسحب العرب السنة ،على نحو متزايد ، من السياسة. وكان ينظر إلى المشاركة على أنها إضفاء للشرعية على الاحتلال وسياساته؛ فالمشاركون، كالمتعاونين. وفي محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى، التي يهيمن عليها السنة ، قاطع الناخبون ، وإلى حد كبير ،  انتخابات المحافظات في يناير/ كانون الثاني 2005، وهو انعكاس لضغط الجماعات المتمردة والنفور الطائفي من العملية السياسية. وقد شددت عملية كتابة الدستور عام 2005 من هذا التوجه، حيث شعر الممثلون العرب السنة بأنهم مستثنون ومبعدون إلى حد كبير عنها وذلك بسبب المبادئ الواردة في النص. وفي استفتاء أكتوبر/ تشرين أول 2005 ، رفض ثلثا الناخبين في محافظتي الأنبار وصلاح الدين الدستور. في هذه الأثناء، كان هناك  تمرد مذهبي ينمو ويزداد . وبحلول عام 2006، كانت بغداد ساحة لقتال مذهبي عنيف، وفرت الجماعات الطائفية من الأحياء التي لم تكن تشكل أغلبية فيها. أما بالنسبة للمتمردين السنة، فقد كانت العاصمة نقطة محورية في نضالهم ضد الاحتلال، مقر كل من القوات الأمريكية والنظام الجديد الذي يهيمن عليه الشيعة في السلطة.

بحلول عام 2008، كانت الحرب الأهلية الطائفية في طريقها نحو الزوال، حيث تم دمج الميليشيات تدريجيا مع القوات الأمنية الوطنية، وحُولت الزيادة في عديد الجيش الامريكي ضد ما تبقى من مسلحين. مع ذلك، لا يزال العرب السنة على هامش الحياة السياسية الوطنية بشكل كبير،. ففي نظرهم، كانت بغداد، بما تجسده من مجد ماض، قد أصبحت رمزا لنضالهم الخاسر وتراجعهم المخزي. وعلى الرغم من أن البرلمان ألغى قانون اجتثاث البعثيين في يناير/ كانون الثاني 2008، فإن قانون هيئة المساءلة والعدالة القانون الذي حل محله  أثار مخاوف جديدة. وقد مكن القانون من إعادة بعض الأفراد المبعدين سابقاً، لكنه منح أيضاً لجنة المساءلة والعدالة التي أنشئت حديثا سلطات تنفيذية واسعة. في الواقع، أصبح القانون أداة في يد المالكي لضمان الولاء له في أوساط المسؤولين، لا سيما أولئك الذين يعملون في مجال الأمن وسُمح لضباط موثوقين  من المستوى المتوسط من الجيش السابق باستئناف خدمتهم العسكرية والحفاظ على رتبهم السابقة. فقد اتخذت القرارات على أساس الولاء للمالكي، في مقابل الانتماء الطائفي، وليس هناك شك في أن هذا الأمر كان لصالح الشيعة عملياً، الذين كانوا أكثر عرضة للتنعم بنعم رئيس الوزراء الجيدة.

مثلت انتخابات مارس / آذار البرلمانية لعام 2010 للعرب السنة فرصة واضحة للعودة إلى السياسة. وفازت "العراقية"، وهي كتلة عبارة عن مظلة كبيرة بقيادة رئيس الوزراء المؤقت السابق إياد علاوي (الشيعي العلماني بحد ذاته)، بعدد وافر من الأصوات وبدأت تستعد للحصول على منصب رئيس الوزراء، وبالتالي توفير صوت لشكاوى العرب السنة وتطلعاتهم، لا سيما بخصوص ثلاث مسائل رئيسة هي: إعادة إدماج الأفراد الذين تم اقصائهم وفق سياسات اجتثاث البعثيين؛ تحسين مستوى علاج الأسرى أو إطلاق سراحهم ، وتحقيق نفوذ سياسي أكبر في بغداد. ولم يستغرق الأمر أكثر من عامين ليصاب الناخبون  بخيبة أمل على الجبهات الثلاث جميعاً.

وتم تخريب عودة العرب السنة الى السياسة إلى حد كبير نتيجة لهيكلية القائمة العراقية وضعفها التكتيكي، إضافة إلى قبضة المالكي الثابتة الممسكة بالسلطة. أما بالنسبة لقائمة العراقية، فإن الانقسامات داخل الكتلة مع تركيز علاوي المتفرد برأيه على أن يصبح رئيساً للوزراء أديا إلى اضعاف العراقية كثيراً، مما ترك الكتلة من دون سلطة حكومية كبيرة. أما بالنسبة للمالكي، فقد ناور بمهارة ليس فقط لإعادة تعيينه رئيساً للوزراء، وإنما أيضاً للسيطرة على الملف الأمني ( وزارات الداخلية ،الدفاع والأمن القومي) وتولي المؤسسات الأخرى تدريجياً. لقد وحد السلطة على حساب العرب السنة غالباً – على حساب قادتهم و المحافظات التي يوجدون فيها كأغلبية، على حد سواء.

عشية انتخابات مارس/ آذار 2010 ، ألغت لجنة العدالة والمساءلة بالفعل طلب 511 مرشحا على أساس الانتماء سابقاً إلى حزب البعث (لم يتم  الكشف عن التفاصيل أبداً) ، على الرغم من أن الشخصيات المستبعدة كانت تشمل كلا من السنة و الشيعة، فإن استهداف السياسيين السنة البارزين غذى التصورات عن المطاردة  الطائفية الشريرة. وطوال عاميْ 2010 و 2011، ظل استبعاد المسؤولين والسياسيين المحليين وموظفي الخدمة المدنية  من استلام مناصب أمنية على أساس صلات مزعومة بحزب البعث أو بمنظمات إرهابية يجري على قدم وساق، لا سيما في محافظات الأنبار، صلاح الدين، ديالى ، نينوى وكركوك. وتوسلت قوات الأمن استخدام صلاحيات واسعة منحها إياها تشريع مكافحة الإرهاب (وخاصة المادة الرابعة من قانون مكافحة  الإرهاب)، بما في ذلك سلطة اعتقال وإدانة الأفراد من خلال اللجوء إلى معلومات مقدمة من قبل "مخبر سري". وبدا أن حملة الاعتقالات قد وصلت إلى ذروتها عندما أصدرت المحكمة القضائية العليا، في ديسمبر/ كانون أول 2011، مذكرة توقيف بتهم تتعلق بالإرهاب ضد نائب رئيس الجمهورية آنذاك طارق الهاشمي، أحد أبرز الزعماء السياسيين السنة العرب.

طوال عام 2011، شددت الحكومة المركزية السيطرة، بشكل منهجي، على المحافظات. فنشرت ثلاث ألوية للجيش الاتحادي؛ قيدت صلاحيات السلطات المحلية، في إدارة الشرطة المحلية، وعرقلت تنفيذ المشاريع على مستوى المقاطعة. وقال رعد الدحلقي، وهو نائب عن محافظة ديالى والرئيس السابق  لمجلس مدينة بعقوبة:

وفقاً للقانون، كان ينبغي أن يكون لدينا مردود ما فيما يتعلق باختيار رئيس الشرطة. ولكن كما هو عليه الأمر، ليس لدينا شيء. ففي ديالى، كما هو الحال في الموصل، هناك بعض الضباط السنة في قوات الأمن، لكنهم هناك فقط لأنهم قدموا الولاء [للمالكي] ولأنهم بحاجة إلى إطعام أسرهم.

أبرزت قبضة السلطة  للحكومة المركزية ، بصورة متزامنة ، عجز القائمة العراقية وعدم قدرتها على الدفاع عن شعبها، ونتيجة لذلك، فقدت الدعم المحلي الكبير. وفقد الحزب، الذي لا يزال يركز اهتمامه على عملية شد الحبل السياسية الفاشلة للحرب في بغداد، وعلى نحو متزايد، الاتصال مع ناخبيه.

ج‌. سياسة غايتها الانتقائية
كانت استراتيجية مركزية بغداد الفاشلة للـ "العراقية"  متكشفة بشكل صارخ في حزيران 2012، عندما أثبتت عجزها عن حشد دعم كاف للتصويت على حجب الثقة ضد رئيس الوزراء. وكانت النتيجة تسارع خطى الانشقاقات من الحزب والتقارب بين بعض المنشقين والمالكي. وفي مارس/ آذار 2011، شكل تسعة من البرلمانيين مجموعة منشقة، تدعى " العراقية البيضاء"، التي وقفت، بالأساس، الى جانب المالكي في كل قرار. وفي الأول من يناير/ كانون الثاني 2012، أعلن أعضاء من القائمة العراقية في حزب الوفاق بقيادة علاوي انشقاقهم. ثم، في سبتمبر /أيلول 2012، بدأ نائب رئيس الوزراء صالح المطلك، ئيس  التوجه العلماني داخل القائمة العراقية "الحوار"، بالتفاوض مع المالكي بهدف الانضمام الى حكومة ذات قاعدة عريضة بدعم من الفصائل السنية والكردية، وإن كان ذلك بقيادة رئيس الوزراء وائتلافه. وقال بعد شهرين من ذلك:

لقد بدأنا المفاوضات مع المالكي، ونود مواصلتها في الأشهر المقبلة. لكن عليه أن يقدم لنا شيئاً في المقابل: حصة أكبر للسنة في مؤسسات الدولة، وكذلك إطلاق سراح السجناء. كلما أقتربت من المالكي، كلما خاطرت بفقدان شرعيتي بين شعبي أكثر.

وتكرر الانقسام التدريجي لـ "العراقية" في بغداد على المستوى المحلي. هناك، بدأ قادة بالتعاون مع جيش الحكومة المركزية، وتلقي المسؤولين من العاصمة وإقامة علاقات شخصية مع رئيس الوزراء. وأصبح عدد متزايد من المؤسسات بالمجتمعات العربية السنية ـ لا سيما المؤسسات المحلية التي تمثل السنة العرب في المناطق المتنازع عليها من قبل الأكراد ـ تحت تأثير رئيس الوزراء .

واصل المالكي بطرق أخرى أيضاً، استراتيجية فرق ـ تسد في مواجهة السنة العرب. فشكل تحالفات مع رجال الدين السنة الذين لا يحظون بشعبية نسبياً والذي ساعد صعودهم على تقويض منافسيهم الأكثر قوة ونفوذا  واكتسابهم النفوذ لدى"الوقف السني"، وهي هيئة حكومية مسؤولة عن المسائل الإدارية والمالية التي تمس رجال الدين السنة والمجتمع ككل. وبالمثل، لقد تودد إلى عناصر داخل قيادة الصحوة ، وهي لجان أمن أهلية محلية تم إنشاؤها خلال الزيادة بعديد القوات الأميركية ضد الجماعات المتمردة وتتألف في معظمها من أفراد العشائر العرب السنة. وأثبتت السيطرة على سلسلة الموارد بأنها حاسمة: حيث أن المسؤولية عن نقل مرتباتهم في أواخر عام 2008 من الولايات المتحدة إلى الحكومة العراقية، جعلتهم يصبحون أكثر اعتماداً على بغداد للحصول على المال وفرص العمل. وقد عانى عناصر الصحوة الذين يفتقرون لوجود علاقات مع الحكومة من العواقب، سواء لجهة تلقي الحد الأدنى من الدفعات الشهرية أم لجهة مواجهة التمييز في تأمين فرص العمل الأخرى في  الدولة .

وقال موظف في وزارة المصالحة الوطنية:

منذ أن غادر الأميركيون، لم يتم منح وظائف في وزارة الدفاع أو في غيرها من فروع الإدارة  سوى لجزء من الصحوة . وظل نحو 60 في المائة براتب شهري يقدر بحوالي 250 دولارا. وإذا ما مات هؤلاء أثناء أداء واجبهم، يقدم لأسرهم مبلغاً هزيلاً من المال يقدر ب 60 دولار شهريا. في المقابل، لقد حصل أولئك الذين اصطفوا  وراء المالكي على وظائف حكومية.

إذا كان المالكي قد أثبت نجاحا نسبيا في استمالة ـ وتقسيم ـ عدد من السنة العرب، فإنه لم يعالج القضية المركزية المتعلقة بتمثيلهم السياسي؛ كما أنه لم ينف لديهم شعورهم الواسع بالاقصاء والابعاد. على العكس من ذلك، لقد اندلع نزاع على السلطة، في كل مؤسسات العرب السنة تقريباً، بين المقربين من رئيس الوزراء و الأغلبية التي تشعر بالتهميش على نحو مضاعف ، أولا من قبل المالكي الذي كان يتدخل في السياسات الداخلية السنية ومن ثم من قبل حلفائه السنة، الذين كانوا يعتبرونهم متعاونين.

د. السياق الإقليمي
إذا كانت موجات الاحتجاجات التي هزت العراق قد نتجت عن عوامل محلية أساساً، فإن مما لا شك فيه أن الصراع السوري والوضع الإقليمي الأوسع قد لعبا دورا في شحذ المخاطر، واستقطاب المشهد السياسي وموحداً ما كان في البداية مجرد احتجاجات محلية منفصلة إلى حد كبير ـ والتي بدأت في مارس /اذار 2010 . وقد حولت الاحتجاجات الأسبوعية المستدامة، لا سيما في بغداد، المظاهرات العامة إلى أشكال تعبير عادية ومقبولة ؛ وسيحتاج الأمر إلى المزيد من الجهود لتحويلها إلى حركة واسعة في أرجاء البلاد.

كان الصراع السوري هو المحفز. فكلما اتخذ هذا النزاع  شكل الصراع الطائفي، كلما تحصنت الهويات والوعي الذاتي الطائفي عبر المنطقة أكثر. كما شهد السنة في العراق، كان المالكي بقدم ، في الحد الأدنى،  الدعم الكلامي لنظام الأسد وتعزيز الخطط الاستراتيجية الايرانية من خلال العمل كقناة لمساعدات مادية يتم شحنها إلى دمشق عبر الأراضي العراقية ومجالها الجوي. وفي وسائل الإعلام المختلفة الروايات، اتهمت بغداد بتوسيع المساعدات المالية، توفير النفط و إرسال المقاتلين الشيعة لدعم النظام السوري. كما ساعدت الانتفاضة السورية أيضا على انتشار فكرة التمرد السني ضد الحكومات المركزية الغريبة، سواء في دمشق أو بغداد، وبشكل أوسع، ضد مشروع إقليمي إيرانية مزعوم تدعمه الحكومتان، بحسب ما تفيد التقارير.

الأهم من ذلك ربما،  هو أن الحرب ساعدت على تآكل الحدود في المشرق العربي، لا سيما بين سوريا والعراق. أما العلاقات العائلية والقبلية العابرة للحدود الوطنية - الحاضرة دائما برغم السبات الطويل بسبب  رسم الحدود وتوطيد الأنظمة السلطوية في القرن العشرين-  فقد تم تفعيلها عبر حدود يبلغ طولها أكثر من 600 كلم، مما أثر على محافظات الأنبار، نينوى ودهوك. هذا واضح في المناطق الكردية الشمالية، حيث تولت القوات الكردية السيطرة على معابر كردستان السورية - العراقية في دهوك. أما جنوبا، فقد أعادت كثافة التهريب والتضامن بين الأفراد السوريين والعراقيين من نفس القبائل تنشيط فكرة " الجزيرة " ـ المسافة بين نهريْ الفرات ودجلة، التي قطع تكاملهما الطبيعي خلق دول قومية منفصلة، على النمط الأوروبي في أوائل القرن الماضي.

في نفس الوقت، عزز النزاع السوري مجموعة من التحالفات الإقليمية. في حين وقفت إيران وحزب الله والحكومة العراقية ـ بشكل أقل ظاهرياً ـ  مع النظام السوري، ودعمت تركيا ودول الخليج المعارضة. وكان النتيجة الطبيعية المنطقية والمتوقعة لهذه الدول الأخيرة تصعيد دعمها الخاص للاحتجاجات العراقية، استضافة منتقدي المالكي، والدعوة لإجراء إصلاحات، وربما تقديم المساعدات المالية، والتي بدونها قد لا تكون حركة الاحتجاجات قادرة على الاستمرار لعدة أشهر.

3. حركة الاحتجاجات

أ. زوال السياسيين السنة
 
في أعقاب اقتحام مكتب العيساوي مباشرة بتاريخ 2 ديسمبر/ كانون أول 2012 ، استضافت "العراقية" اجتماعا لمناقشة التداعيات والردود المحتملة. ورغم أن بعض الأعضاء احتجوا قائلين بأن يجب على الحزب أن ينسحب كلياً من العملية السياسية ومن جميع مؤسسات الدولة، فقد ساد موقف أكثر اعتدالاً في نهاية المطاف، وظلوا جميعا في مواقعهم. وتبادل وزير المالية ورئيس الوزراء كلمات قاسية عبر وسائل الإعلام؛ واتهم العيساوي المالكي محملاً إياه المسؤولية المباشرة عن الأحداث، قائلا بأنه أثار هذه الأزمة عمداً داعياً إياه  إلى الاستقالة أو قيام  البرلمان بسحب الثقة من حكومته. ورد المالكي بقوله أن الاعتقال كان وفقاً للإجراءات القانونية. وفي غضون ساعات قليلة، انتقلت بؤرة الاهتمام من بغداد إلى الفلوجة، مسقط العيساوي، حيث اندلعت الاحتجاجات.

 عمقت المظاهرات الانقسامات  الموجودة وفاقمت التنافسات بين قادة كتلة "العراقية ". وأوضح جمال الغيلاني، وهو نائب من ائتلاف العراقية،  قائلاً:

كان اجتماع "العراقية " الأول بعد اندلاع الاحتجاجات يدور حول كيفية اطلاق سراح حراس العيساوي. أراد بعض الأعضاء الانضمام إلى المظاهرات؛ دفعت مجموعة ثانية نحو إجراء مفاوضات مع الحكومة، وكانن مجموعة ثالثة خائفة بشدة من إتخاذ الحكومة أي موقف. نتيجة لذلك، ومع انتشار الاحتجاجات من الأنبار إلى تكريت وبيجي [ محافظة صلاح الدين ]، كنا نحن غائبين. كنت أعلم أنه إذا لم ننضم رسمياً إلى التظاهرات يوم الجمعة التالي على الأقل ، فإن الناس لن يتقبلونا بعد الآن كجزء من الحركة.

مع ذلك، وبدعم فردي من قادة العراقية ، أدى الغياب التنظيمي للحركة إلى فقدان الثقة بين الحزب وقاعدته، في الوقت الذي عزز ذلك عداء العرب السنة تجاه السياسيين (خاصة أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم مقربين بشكل مفرط من الحكومة) والحياة السياسية في بغداد عموماً. وفي 30 ديسمبر/ كانون أول، تحدث صالح المطلك في مظاهرة في الرمادي، وانقلبت الجماهير عليه. وفي 4 يناير/ كانون الثاني، أصدر إياد علاوي، رئيس القائمة العراقية، دعوة متجددة لاستقالة المالكي، إلى جانب ابتهاله المعتاد بخصوص تنفيذ اتفاق أربيل، وهو اتفاق لتقاسم السلطة قابل للتفاوض بعد انتخابات عام 2010؛ وللقيام بذلك، كان أيضاً خارج الخط المألوف.

في نظر كثير من العرب السنة، كانت الخطوات التي اتخذت ضد أعضاء العراقية تعتبر مزيداً من الاثبات على أنهم مستهدفين وأن قيادتهم الوطنية غير فعالة تماماً في مواجهة تحركات رئيس الوزراء. إن عدم رغبة واستعداد القائمة العراقية الأولي للانضمام أو دعم الحركة أثبت صحة هذا التصور. وكما تكشفت الأحداث، فإن احتضان الحركة الاحتجاجية أصبحت الأمل المحتمل الوحيد لقائمة العراقية لإعادة تأهيلها السياسي. وبدأ نواب العراقية في البرلمان بترديد المطالب الشعبية، في الوقت الذي كانوا يدفعون باتجاه إدخال تعديلات على قانون المساءلة والعدالة وقانون العفو العام، وكذلك على القيود المفروضة على صلاحيات المحكمة العليا.

ب‌. تشكل الحركة

1. القبائل
برزت الجماعات القبلية وانتماءات القرابة كعمود فقري للحركة، مع ضمان الروابط العائلية  لزيادة التعبئة بمرور الوقت. واجتمع ما أصبح يعرف لاحقا باسم قيادة المحتجين  للمرة الأولى في مضافة العيساوي ـ قاعة استقبال معدة لاستقبال الزوار من رؤساء القبائل ـ هناك في الفلوجة؛ وفي 21 ديسمبر/ كانون أول 2012، استضاف أفراداً من قبيلته ومن قبائل أخرى. وفي اليوم التالي، قرر ممثلو عشائر الأنبار قطع الطريق السريع من بغداد الى الأردن وسوريا إلى حين إطلاق الحكومة سراح حراس العيساوي.

في وقت قصير، انضم زعماء القبائل من جميع انحاء محافظة الانبار إلى الاحتجاجات، وحثوا الأعضاء على المشاركة. لقد لعبوا على المواضيع المتأصلة في الثقافة القبلية، بما في ذلك العزة الأخلاقية والشرف والكرامة، وأطلق على  المظاهرة الأولى الحاشدة المناهضة للحكومة في 28 ديسمبر/ كانون أول، اسم "جمعة الكرامة". ونظم المتظاهرون اعتصاما؛ وساعدت حوالي 70  عشيرة على اقامة "معسكر"، هو في واقع الأمر سلسلة من الخيام المثبتة خارج مدينة الرمادي على الطريق السريع المؤدي إلى الأردن. ونقش على كل خيمة اسم زعيم قبلي. وأصبح هذا المعسكر يعرف باسم "ساحة العزة والكرامة" ، وتحول ليكون قلب ومعقل حركة الاحتجاج. وقال احد المتظاهرين "، ظهرت فكرة إنشاء المخيم عندما رفض زعماء عشائر الأنبار ترك الطريق السريع. لقد نقلوا مضافتهم ( قاعات استقبالهم) من منازلهم إلى الساحة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. هذه هي الكيفية التي بدأت بها "ساحة العزة والكرامة ". أما غيرها من الاعتصامات، على غرار تلك التي تشكلت جزئياً في الرمادي، فقد نظمت في الفلوجة ، سامراء ، الحويجة والموصل.

منذ البداية، لعبت القبائل دوراً حاسماً.  ففي الرمادي، لم تحشد هذه القبائل المحتجين فحسب، وإنما تناوبت، بمجرد تعيين المخيم، على توفير الغداء و العشاء، وتنظيم الخدمات اللوجستية وتوفير الخدمات للمخيم  مثل المياه والكهرباء. وقال أحد مشايخ العشائر من بغداد ، واصفا ساحة العزة والكرامة، "لقد أنشأوا [زعماء قبائل الرمادي] منازلهم هناك. حتى أنهم ساعدوا على تنسيق الأنشطة الرياضة. وأصبح ميدان المحتجين مدينة داخل الأنبار ".

إن  الصراع متداخل ، إلى حد ما، مع محاولة زعماء القبائل استعادة الامتيازات والسلطة المفقودة الى بغداد ومقاومة زحف الحكومة المركزية وتدخلها  في شؤون المحافظات. بهذا المعنى، إنه فصل آخر من فصول  لعبة شد الحبل التي ميزت العلاقات بين العشائر والسلطات المركزية منذ الأيام الأولى للدولة. وفي بعض الأحيان، كان زعماء القبائل يذعنون  للحكم في بغداد في مقابل الاعتراف بحقهم بممارسة السلطة على الأعضاء  والتمتع ببعض السيادة على أراضيهم؛ وفي أحيان أخرى، وعندما كان يشعرون بأن السلطات المركزية قد ذهبت بعيداً جداً في حرمانهم من النفوذ، كانوا يتمردون.

اعتبارا من عام 2007، كانت علاقة المالكي مع القبائل محل بحث في تناقضاتها. ففي المحافظات الجنوبية ذات الغالبية الشيعية التي يسكنها، دعمت حكومته الاجماع العام بين المجموعات القبلية، التي تشكل مجالس الاسناد ـ مجالس اسناد الشعائر ـ التي منحت رؤساء وأفراد العشائر راتباً شهرياً وفرص عمل. أما في الشمال، وعلى الرغم من أن بعض عناصر الصحوة كانت قد عرضت عليهم مناصب قيادية وأعيد  دمج عدد منهم في قوات الأمن، فقد شعر كثير من أفراد القبائل الأخرى بأنهم مهملين ومتروكين،  وذلك باستفادتهم من أجور مؤقتة وتافهة فحسب ،مع الحاجة إلى التعامل مع الانتشار الكامل للقوات الفيدرالية على أراضيهم. وقال الشيخ مجيد، القيادي في البوعيسى، وهي قبيلة بارزة في الأنبار:

لقد تجاوزت هذه الحكومة الخط المرسوم لها. وأرسلت فرق SWAT ( أ

موقع الخدمات البحثية