مواد أخرى » الانتخابات في إيران: النظام يدعِّم سيطرته

سوزان مالوني ـ Brookings Institascii117tion
شهادة : 18 حزيران، 2013

في شهادتي اليوم، سأتناول أهمية الانتخابات ودور الرئاسة في الجمهورية الإسلامية، والتداعيات السياسية للحملة وانتصار حسن روحاني بالنسبة لإيران، وآثار ذلك على مصالح وسياسات الولايات المتحدة.
سيدي الرئيس روس ليتينن، العضو الكريم دويتش وأعضاء اللجنة الفرعية، أنا ممتن جداً لإتاحة الفرصة لي  لمناقشة الانتخابات الرئاسية التى اختتمت مؤخراً في جمهورية إيران الإسلامية. فلطالما صُنفت طموحات طهران النووية، ودعمها الإرهاب، وقمع مواطنيها في طليعة المصالح الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط وجميع أنحاء العالم. إن انتخاب رئيس جديد لا يغير أياً من هذه المخاوف أو الأولويات، لكن الحملة ونتائجها توفرالإمكانية للتصدي لها بزخم جديد. كما يسلط الضوء على النجاح الواضح للاستراتيجية التي تتبعها إدارة أوباما في توليد الديبلوماسية المدروسة، فضلا عن الحاجة لها، لتحقيق الفائدة القصوى من أية فرصة موجودة أمام العالم بعدما انتهت الانتخابات الآن.
لماذا تعتبر الانتخابات الإيرانية هامة
استبعد كثيرون، بما في ذلك الرئيس روس ليتينن، أهمية العمليات والمؤسسات الانتخابية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. مع احترامي، أنا أخالفكم الرأي. إن تفسيري ليس مبنياً على نتائج هذه الانتخابات ـ في الواقع، أنا عبرت عن هذه المواقف جيداً قبل نتيجة الانتخابات، وذلك عندما كانت الأموال الذكية عبارة عن مجرد انتخابات خاضعة لرقابة مشددة ونتيجة لم تقدم سوى استمرارية مغلقة تماماً للقضية النووية. بل إني أبني خلافي هذا على  قاعدة أن المؤسسات والانتخابات الايرانية مسألة هامة بناءً على تجربتي والأبحاث التي أجرتها حول الجمهورية الإسلامية وفيها لسنوات عديدة كأستاذ جامعي، وموظف حكومي، والآن كباحث في مركز سابان في معهد بروكينغز ( Saban Center/ Brookings Institascii117te).
أنا أفهم تماما الأساس المنطقي للحجة بأن الانتخابات مجرد مهزلة صرف. فبعد كل شيء، إيران دولة دينية إسلامية، المرشد الأعلى فيها هو صانع القرار في نهاية المطاف، وتتم إدارة مراحل الانتخابات فيها بكثافة من البداية الى النهاية. كما أن سلطات الرئيس محدودة بشكل صريح، وأياً كان معنى عدم القدرة على التنبؤ في الانتخابات التي ميزت إيران في الماضي، فإنه يبدو أن ذلك انتهى مع إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد المطعون به عام 2009. ــ على سبيل المثال، في عام 1997، عندما أربك رجل دين إصلاحي، وبشدة، المرشح الاوفر حظاً آنذاك. وخرج الملايين من الإيرانيين إلى الشوارع غاضبين من السرعة غير العادية لاعلان النصر، ومن هامش  الفوز المزعوم المشكوك به لأحمدي نجاد وهم يهتفون 'أين صوتي'؟ وبدا أن هذا العنف الذي قابل هذه المطالبات، والمحاكمات الصورية وتكتيكات ستالينية أخرى جاءت في أعقابها، يشير إلى أن النظام الإيراني الملتوي قد آل إلى نظام استبدادي أكثر ابتذالاً، تكون فيه الاستطلاعات  مجرد استعراضات ومهرجانات وتحتكر فيه المؤسسات دونما خجل .
مع ذلك، وعلى نحو ما أكده النقاش الحيوي غير المتوقع خلال الحملة الانتخابية والنتيجة التي خالفت الرؤية  التقليدية، فإن الفهم الخاطئ للديناميات الداخلية الإيرانية المعقدة هو الذي أدى إلى إهمال انتخاباتها أو مؤسساتها التمثيلية باعتبارها مجرد اجراءات شكلية. لقد كان من الخطأ تجاهل التناقضات المختمرة داخل المؤسسة السياسية الإيرانية كما لو أن لا صلة لها . لا تفهموني خطأ ـ أنا لا أقصد الإشارة إلى أن الانتخابات كانت مشروعاً ديمقراطياً حقاً؛ فحتى في أفضل الأوقات، لقد قصَّرت الجمهورية الإسلامية كثيراً في تلبية المعايير الدولية للانتخابات الحرة والنزيهة.
مع ذلك، تمثل الانتخابات – حتى تلك التي زوِّرت بشكل كبير- مفاصل حاسمة في دورة حياة الأنظمة السياسية، وهي في إيران جعلت النظام الثوري، مرارا وتكرارا، يسير مترنحاً في اتجاهات جديدة. وفي بعض الأحيان، كانت هذه التغييرات متعمدة، كما كان الحال في عام 1989،  عندما ترشح علي أكبر هاشمي رفسنجاني دون معرضة فعلية ليقود عملية إعادة إعمار البلاد في مرحلة ما بعد الحرب. وفي أحيان أخرى، كانت التحولات غير متوقعة إلى حد كبير، كظهور حركة الإصلاح أو حتى أحمدي نجاد نفسه، الذي منح تحوله في منتصف ولايته المؤسسة السياسية الإيرانية سوطاً بأن أصبح  كبش فداء للمرشد الأعلى بعدما كان معاوناً له .
كانت الثورة الايرانية نتاج تحالف منقسم بشدة لم يتوافق سوى على أمور قليلة تتعدى المعارضة للشاه، وطوال تاريخها، شهدت الجمهورية الاسلامية تنافساً شديداً ومتطوراً من أجل النفوذ. ذلك التنافس لا زال حيوياً كما كان، وسوف توفر الانتخابات فرصة للمراقبين الخارجيين لقياس حالة المسرحية. أما بالنسبة لأولئك في داخل النظام، فتوفر الحملة فرصاً لا نهاية لها للمتنافسين الطموحين وللفصائل المتناحرة لموضعة أنفسهم والحصول على النفوذ في المستقبل وإعادة صياغة المناخ السياسي في إيران، تماماً كما فعل خاتمي وأحمدي نجاد.
عززت الانتخابات التي اختتمت لتوها في إيران الأداة التخريبية لمؤسسات شبه ديمقراطية في الدول الاستبدادية. إن الانتخابات الإيرانية لها أهميتها لأنها توفر فرصاً للمرشحين للطعن في الرواية الرسمية حول القضايا الشائكة ـ كما فعلوا خلال هذه الحملة حول القضية النووية ـ وللصحفيين لدفع طوق رقابة الدولة، وأيضاً لتجمعات كبيرة للناخبين للمطالبة بالإفراج عن السجناء السياسيين، بمن فيهم المرشحين أنفسهم الذين احتجزوا بعد الانتخابات المزورة الماضية. إن الانتخابات ـ حتى المدبرة صراحة والتي لا تقدم سوى مجموعة خيارات منقوصة ـ تؤدي إلى خروج الجن من القمقم، وإعادة صياغة بيان صادر عن أكبر جانجي، أحد المعارضين الرئيسيين في إيران.
وبسبب إرث الثورة ولأن النضال الايراني منذ قرن من الزمن للحصول على حكم تمثيلي قد جعل المشاركة الشعبية الحالية محتمة ومتوجبة حتى على ثيوقراطيتها ، فإن الانتخابات الإيرانية تحشد الملايين من الناس بطرق غالباً ما تثبت صعوبة السيطرة عليها، حتى مع وجود عمليات القمع المنظمة جيداً. رأينا هذا الأمر يدور بطريقة دراماتيكية في عام 2009، عندما نزل الملايين من الإيرانيين إلى الشوارع للمطالبة باحتساب أصواتهم، لأنه على الرغم من أنهم قد أعربوا عن تقديرهم لقيود النظام الذي يعيشون فيه، فإن المواطنين الإيرانيين يرفضون قطع الأمل. إن حقيقة كون 74 في المئة من الناخبين الإيرانيين قد كلفوا أنفسهم عناء الدخول في الاقتراع يوم الجمعة، وانتظارهم غالب الأحيان في طوابير طويلة، متحدِّين بذلك، بالتأكيد، الخوف والإحباط الموروث عن ثورة 2009 يدل على أن الإيرانيين أنفسهم مؤمنين بأن مؤسساتهم وعملياتهم الانتخابية لها أهميتها . ولا ينبغي اهمال تضحياتهم ولا احتفالاتهم بالنتيجة.
إذا كان السلوك الغريب من جانب الرئيس الإيراني الحالي محمود أحمدي نجاد لم يعلمنا شيئاً في السنوات الثماني الماضية ، فإنه أثبت مراراً وتكراراً أن الرئاسة الايرانية لها أهميتها. وعلى الرغم من عدم شرعيته الانتخابية وبرغم القيود المؤسساتية والجهود الدؤوبة لنظام بُني حول ولاية إلهية، فقد برز منصب الرئاسة باعتباره منصباً يمتلك سلطة حقيقية لتشكيل سياق السياسة الداخلية والخارجية. فالمنصب يمارس سلطة كبيرة على الميزانية الإيرانية، وعلى إطار النشاطات السياسية الداخلية، الجو الاجتماعي والثقافي، وحتى على الجوانب الأكثر حساسية للسياسات الأمنية الإيرانية. وعندما يستلم  حسن روحاني منصبه في آب، فإنه سيجد نفسه قريباً من قمة السلطة، في الوقت الذي يوجد فيه ضغط خارجي غير مسبوق  اضافة إلى كون البلاد على أعتاب التغيير الجيلي من داخل النظام الإيراني.
ولتقدير الأهمية الكبيرة للرئاسة الإيرانية التي كثيراً ما تتعرض للنقد، أنظروا ببساطة إلى السجل الأخير لمسار شاغلي هذا المنصب. لقد  تمكن الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي، خلال ولايتيْه في منصبه (1997-2005)، من الحد من بعض أسوأ الانتهاكات للمواطنين الإيرانيين، وإنشاء سبل جديدة للمشاركة السياسية وأسلوب جديد في الخطاب. لقد جذبت فترة ولايته الاستثمار الأجنبي إلى إيران، وحدت سعر الصرف، كما أدت إلى أنشأ صندوق استقرار النفط  لتعزيز الإشراف الاقتصادية المسؤول. وقام خاتمي بإصلاح العلاقات الإيرانية مع كثير من دول العالم، حتى أنه ساعد في الدفع بذلك من خلال تعليق الجوانب الأكثر إثارة للقلق لبرنامج إيران النووي لسنوات عديدة.
لم يكن نجاحاً محضاً بأي صورة من الصور؛ لقد كانت طموحات خاتمي بخصوص التغيير محدودة بطبيعتها بسبب ولائه الثابت للنظام الثيوقراطي وبسبب الكثير من سياساته التي كانت محل إشكال، حتى أن إصلاحاته المعتدلة تم احباطها عند كل منعطف من قبل المعارضة المتشددين . مع ذلك، قارنوا تلك السنوات مع السنتين للرئيس الذي خلفه، الذي أشرف على حملة ضد التكنوقراط ووسائل الإعلام، أهدر طفرة ملحمية في عائدات النفط، وانغمس في خطاب الكراهية مما ساعد على تنفير العالم وعزل بلاده أكثر. إلا أن من الواضح أن الإيرانيين، فضلاً عن المجتمع الدولي، قد خدمهم، وبشكل أفضل، اعتدال خاتمي الذي يقف عند حد أكثر مما خدمتهم عداوات أحمدي نجاد المتهورة.
تداعيات نتيجة الانتخابات والتوقعات بالنسبة لرئاسة روحاني
إن السؤال الذي نواجهه الآن هو ما إذا كان الإيرانيون والعالم سوف يكونوا أفضل حالا بظل حكومة حسن روحاني، رجل الدين المنتخب بأكثرية ضيقة إنما بفارق حاسم على منافسيه المحافظين. إن العلامات الأولى هي بالتأكيد علامات ميمونة، لكن نظام إيران الملتوي وسطوة المتشددين، لا سيما أولئك الموجودين في المؤسسة الأمنية الذين يلعنون النهج الدبلوماسي الماضي لروحاني بالنسبة للقضية النووية، لا يشي بأي تأكيد حول النتيجة.
في كل الأحوال، إن الغرض من جلسة الاستماع هذه هو تحليل الانتخابات، وأريد أن آخذ دقائق قليلة للإضاءة على الكثير من العوامل التي سهلت الحصول على نتيجة تنفي قسماً كبيراً من التحليلات ما قبل الانتخابات. وبالخوض في  الانتخابات، كان انتصار روحاني يبدو أمراً غير محتمل. وقيل بأن مرشح المحافظين الأوفر حظا هو سعيد جليلي، وهو بيروقراطي تقي ومتزمت كان قد عُيِّن كرئيس للمفاوضين النوويين منذ ست سنوات. وكانت مؤهلات جليلي للمنصب وضعه كـ 'شهيد حي' (فقد ساقه في الحرب مع العراق)، تغيُّر لون جبهته (من أثر السجود في الصلاة)، ورعاية آية الله علي خامنئي له على مدى السنوات العشر الماضية. ومن السهل أن نفهم لماذا كان يُنظر إلى جليلي بصفته قائداً للحزمة، فهو عبارة عن نسخة محسنة من أحمدي نجاد، من جيل متشدد أصغر سناً ممن يفتخرون بالالتزام الكامل بالمثل العليا للثورة، لكنه خاضع تماماً لخامنئي، نظراً إلى سجله الوطني المحدود.
بالمقابل، لم يشعل روحاني سوى الحد الأدنى من الحماسة والإثارة داخل إيران واهتماماً أقل حتى خارج البلاد، على الرغم من الاسباغ الضمني لعلي أكبر هاشمي رفسنجاني، وسيط السلطة الرئيس في إيران. ولأن رجال الدين لا يحظون بشعبية جداً في إيران في الوقت الراهن، ولأن المتشددين استخفوا بسجل مسار روحاني بشأن القضية النووية من دون توقف تقريباً، فقد بدت فرصه وآفاقه قاتمة. فضلاً عن ذلك، وفي الحالة غير المرجحة التي اكتسبت فيها حملته الانتخابية قوة دافعة فعلاً، فقد بدا بأن المتشددين لا يتورعون عن فعل أي شيء لتحييد تهديد محتمل.
برغم هذه المساوئ  والعيوب، هناك العديد من العوامل الهامة التي مكنت روحاني من الانتصار. أولاً،  لقد كان يدير حملة ذكية جداً تمكنت من بناء الثقة لدى رقعة نافذة في المؤسسة السياسية في نفس الوقت الذي أغرى فيه  الشباب الناخب الإيراني الساخط لمنحه فرصة ثانية. وكان روحاني قد قضى ثماني سنوات يحط فيها من  سياسات أحمدي نجاد، وفي تركيزه على القضية النووية، سلط روحاني الضوء مراراً على كلفتها على الاقتصاد الإيراني واستطراداً، على الاستقرار السياسي. وقد لاقى ذلك صداه بوضوح لدى التقليديين، الذين كانوا أساساً لا يشعرون بالارتياح مع جليلي أو محمد باقر كاليباف ، رئيس بلدية طهران، المرشح المحافظ الآخر من الوزن الثقيل، و1ذلك لأسباب عديدة متنوعة، بما في ذلك الشكوك حول مصداقيتهما وقدراتهما على إدارة الدولة.
مع ذلك، وفي تواصله مع من هم أبعد من المحافظين الذين جاؤوا معه من خلال النظام، كان روحاني بحاجة إلى إقناع الإصلاحيين وكذلك الشباب الايراني الساخطين أن بإمكانه تبني قضاياهم وبأنه سيفعل. فعلى سبيل المثال، لقد تخطى الخطوط الحمراء للنظام من خلال الوعد بإطلاق سراح السجناء السياسيين. وقال، في اشارة واضحة عن مهدي كروبي وحسين موسوي ، وهما المرشحان الإصلاحيان اللذان اعتقلا بعد انتخابات عام 2009، بأنه سوف يطلق سراح جميع أولئك الذين ما زالوا تحت الإقامة الجبرية كذلك. وقد تجاوز وسائل الاعلام الرسمية بنشره شريط فيديو مقنع حول موضوع حملته بقيادة إيران للخروج بها من شتاء السخط وعدم الرضى. كما سلط الفيديو الضوء أيضاً على تجربته خلال الحرب مع العراق وعلى المفاوضات النووية. وقد استرعت حملته الهجومية انتباه السكان الإيرانيين المستائين، الذين بدؤوا في نهاية المطاف بحشد المسيرات والتجمعات له.
أما العنصر الأخير من استراتيجية حملته فكان دفع الحدود حول القضية النووية. وقد تشاحن روحاني بقوة وغضب مع رئيس حملة جليلي، الذي كان أيضا نائب المفاوض، حول المزايا النسبية لاستراتيجيات كل منهما، وذلك في مقابلة أجريت معه على قناة تلفزيونية حكومية. وفي هذا الصدد، كان روحاني مسؤولاً عن المنعطف الأكثر دراماتيكية وإثارة للدهشة – بروز نقد شرس وصريح للمقاربة الحالية للقضية النووية. وانفجر النقد على الساحة في إحدى المناظرات التلفزيونية الثلاث بين المرشحين المعتمدين الثمانية. فأثناء بث مناقشة مدتها أربع ساعات ونصف الساعة على الهواء مباشرة على التلفزيون الرسمي، تحول الحوار  المتبادل حول قضايا السياسة الخارجية العامة، وبشكل غير متوقع،  إلى ثورة على القضية النووية. إذ هاجم علي أكبر ولايتي، أحد المرشحين وسليل قاعدة النظام المحافظة، جليلي لفشله في التوصل الى اتفاق النووي والسماح بزيادة العقوبات التي تدعمها الولايات المتحدة على إيران.
إن المناقشة الصريحة المثيرة للدهشة التي تلت اتهام ولايتي فضحت وعي المؤسسة الإيرانية للاستهداف المتزايد للنظام. لا يمكن فهمها إلا أنها بمثابة تدخل - بمبادرة من أشد المؤيدين المخلصين للنظام وتهدف إلى إنقاذ النظام من خلال الاعتراف بأوضاعه الصعبة غير المستقرة والدعوة إلى البراغماتية (بدلاً من دوغمائية جليلي). وكان النقاش أيضا اعترافاً بأن البؤس الذي تسببه العقوبات للجمهور الإيراني لم يعد من الممكن تهدئته والتخفيف منه بالأبهة النووية أو حتى بمناشدات القومية الدينية. وقد عمل هذا الأمر لصالح روحاني، لأنه يبدو بأن اعتداله حول هذه القضية  قد لاقى صدىً لدى القاعدة العريضة للشعب أكبر من التحدي والمقاومة اللذان كان يبشر بهما جليلي وخامنئي.
بالإضافة إلى إدارته لحملة ذكية، فقد استفاد روحاني أيضاً من تحالف غير مسبوق بين حركة الإصلاح الإيرانية المحاصرة وحركة يمين الوسط التي من المفهوم عموماً بأن روحاني، وكذلك رفسنجاني، ينتميان إليها. ويعود تاريخ الانقسام بين الفئتين إلى السنوات الأولى من عمر الثورة. وأصبح الانقسام أكثر رسوخاً بعد حصول الإصلاحيين على السلطة في عام 1997، عندما انتخب محمد خاتمي، حامل لواء الإصلاح، رئيساً للبلاد والذي كان مفاجأة كبرى حينها. وعن طريق المواءمة مع اليمين -الوسط في هذه الحملة، اهتدى الإصلاحيون إلى سبيل للخروج من الصحراء السياسية، والذين كانوا قد ضعفوا منذ نهاية رئاسة خاتمي. ومن خلال الانضمام إلى الإصلاحيين، حصل روحاني على مجهود قوي لدفع الناس إلى الخروج والتصويت، كما حصل  أيضاًعلى انسحاب محمد رضا عارف ، المرشح الإصلاحي الوحيد المعتمد، من السباق الرئاسي. في المقابل، ظل المعسكر المحافظ منقسماً، فلم يلتف أبداً حول مرشح واحد، على الرغم من نداءات متزايدة شديدة ويائسة من بعض المنظرين له. فلو أن المحافظين تمكنوا من تقديم مرشح واحد بدلاً من شرذمة أصواتهم بين أربعة أفراد، لكانوا تمكنوا على الأقل من فرض جولة إعادة للانتخابات، ولكانوا قللوا ربما من زخم روحاني بشكل كافٍ يمنع انتخابه.
بطبيعة الحال، كانت الميزة الأقوى الموجودة لدى روحاني هي التفاته لتعاسة الشعب الإيراني ومرارته، الذي شهد انهيار عملته، وعودة تدابير التقشف التي لم يشهدها منذ الحرب الإيرانية- العراقية، وتآكل حقوقه وحرياته الأساسية على مدى السنوات الثماني الماضية. إن واقع كونهم كانوا على استعداد للأمل مرة أخرى، حتى بعد خيبة الأمل الساحقة التي منيوا بها في انتخابات 2009، يؤكد على وجود التزام ملحوظ ولافت بالتغيير السلمي وبالمؤسسات الديمقراطية. لقد قاموا بذلك بتدبير أساسي وكبير كوسيلة لمنع الوصول إلى نتائج أسوأ، أي انتخاب سعيد جليلي، المفاوض النووي، الذي بدت شعاراته المقاومة واعدة بما هو أسوأ ومن جنس ما عانى منه الإيرانيون على مدى السنوات الثماني الماضية.
كل هذا قد يفسر الإقبال الهائل على يوم الانتخابات والانتصار الشعبي الساحق لروحاني. مع ذلك، فإنه لا يفسر السبب الذي جعل خامنئي لا يتجنب الخداع والغش اللذان شابا انتخابات 2009 وتركه النتيجة تظل قائمة. هنا، أعتقد أنه ينبغي لنا الاستمرار بتحليل الحملة، وسوابقها، وتحليل الإدارة التالية.
هناك تفسير واحد هو أن خامنئي، وببساطة، قد أخطأ ووجد نفسه  مجدداً وقد طغت عليه الأحداث عندما ارتفعت أسهم ترشيح روحاني من دون إنذار كبير مسبق. بعد كل شيء، لقد أمسك المحافظون بكل الأوراق في إيران منذ عام 2005، وهم يهيمنون على مؤسساته ويملون شروط النقاش. ومع وجود الإصلاحيين القياديين في السجن أو في المنفى، لا أحد يتوقع إمكانية إحياء قوى التغيير بشكل قوي جداً. ومن المحتمل بالتأكيد أن خامنئي كان قد بدأ يقدِّر بأن الحملة آخذة بالتحول بشكل غير متوقع باتجاه أقل قبولاً، لكنه أراد تجنب حصول ضغوط جديدة على النظام من خلال التدخل بغرض عرقلته كما حصل في عام 2009.
مع ذلك، هناك احتمال آخر، احتمال يفسر بصورة أفضل موقف خامنئي المتساهل بشكل غريب تجاه الآلاف الذين هتفوا لإطلاق سراح السجناء السياسيين في حشود روحاني والمرشحين الذين تحدوا إملاءاته بشأن القضية النووية عندما كان على التلفزيون على الهواء مباشرة. وقد وجه خامنئي حتى نداء اللحظة الاخيرة لكل الإيرانيين ـ حتى أولئك الذين لا يؤيدون الجمهورية الإسلامية ـ للتصويت، وهي لفتة غير مسبوقة نظراً للقيود الإيديولوجية للنظام. لذا، من الممكن في هذا التحليل تفسير هذا الكرم غير المتوقع من خامنئي باعتباره محاولة متعمدة لتوجيه الانتخابات باتجاه مختلف عما توقعه الكثيرون. وبدلاً من النظر إلى انتخاب روحاني باعتباره تكراراً لاحباط سياسي صادم أدى إلى اقتلاع خاتمي من السلطة في عام 1997، فإنها قد تكون في الواقع صدىً لتحول آية الله روح الله الخميني المفاجئ  في عاميْ 1988 و 1989، عندما كلف رفسنجاني، البراغماتي، بمهمة إنهاء الحرب مع العراق، ومن ثم ساعده ( أي رفسنجاني) للفوز بالرئاسة بحيث يقود برنامج إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الحرب. أما الآن، وكما في ذلك الحين، فإن القيادة الإيرانية ليست عازمة على التضحية بلا حدود. إذ ربما يكون السماح بانتصار روحاني طريقة خامنئي لتمكين المُصلح من إصلاح علاقات إيران المتوترة مع العالم وإيجاد حل ما للنزاع النووي يمكِّن البلاد من إحياء صادرات النفط واستئناف التجارة العادية.
هذا لا يعني، بالطبع، أن الطريق أمام روحاني سهلة. إذ ينبغي عليه انتزاع دعم المتشددين وتأمين استمرار الدعم الضمني، على الأقل، من خامنئي. وللقيام بذلك، سيكون عليه التغلب على مشاعر الاستياء التي دامت عقداً من الزمن . فخلال الفترة التي قضاها وهو يقود المحادثات النووية، قام روحاني بالتنازل الخطير الوحيد الذي لم تقدمه الجمهورية الاسلامية أبداً بشأن طموحاتها النووية: تعليق لعدة سنوات لأنشطة تخصيب اليورانيوم التي كانت قد انتهت لتوها قبيل تولي أحمدي نجاد السلطة.
لاقت خطوة روحاني غضباً لا حد له من جانب المتشددين، بما في ذلك خامنئي الذي وافق على الصفقة ولكنه  شن هجوما حاداً وعلنياً ضد دبلوماسية روحاني النووية مؤخراً في الصيف الماضي.  مع ذلك، فإن كثيراً من الإيرانيين اليوم ـ بمن فيهم، على ما يبدو، كثيرون من داخل المؤسسة- يجدون قدرته على صياغة صفقة قابلة للتطبيق مع العالم بشأن القضية النووية جذابة. وبالتالي ، يوحي انتخابه بأن تحولاً تاريخياً في نهج إيران إزاء العالم والمواجهة النووية قد يحصل في المستقبل القريب. مع ذلك، وللتغلب على الكراهية القديمة الموجودة في أوساط المحافظين والمضي قدماً في أجندته للتغيير في الثقافة السياسية الإيرانية المكيافيلية، سوف يكون روحاني بحاجة إلى دعم واضح وثابت من جانب خامنئي، وهو الأمر الذي منحه المرشد الأعلى لرئيس واحد فقط خلال فترة ولايته الممتدة 25 عاما : احمدي نجاد في ولايته الأولى.
بالنسبة للجمهورية الاسلامية في ايران، يمثل انتصار روحاني نقطة تحول هامة، وإن كانت نقطة تحول لا تزال أبعادها ووجهتها الدقيقة غامضيين. إن روحاني ، في نواح كثيرة، عبارة عن صك تغيير عرضي في إيران. فانتماءاته السياسية السابقة أقرب ما تكون للمحافظين التقليديين في إيران منها لليساريين الذين قادوا حركة الإصلاح قبل 15 عاما. إن روحاني براغماتي حاد وصاحب الكثير من الخبرة في المناورة داخل النظام الإيراني الثيوقراطي. إنه عاقل جداً لينغمس ويستمتع بانتزاع السلطة على غرار أحمدينجاد . وكرجل دين، فإنه يهدئ مخاوف الطبقة الدينية في الجمهورية الإسلامية. لقد تبنى الخطاب الإصلاحي أثناء الحملة الانتخابية، لكنه لن ينحرف أويحيد بعيداً جداً عن مبادئ النظام، والتي من أهمها سيادة المرشد الأعلى. في هذه الأثناء، يجد تركيز روحاني على الأثمان الاقتصادية لسوء إدارة أحمدي نجاد صداه لدى السياسيين التقليديين في النظام إضافة إلى الناس الذين سحقهم عقد من المشقة والقمع الشديدين. بالأجمال، يمكن  للرئيس الجديد أن يستفيد من قاعدة أوسع من الدعم وذلك أكثر من أي وقت مضى من تاريخ إيران ما بعد الثورة، وهو ما سوف يكون رصيداً هاماً في سعيه لنقل البلاد واخراجها من العزلة والأزمة الاقتصادية.
الآثار المترتبة على المصالح والسياسة الأمريكية
إن الاستنتاج النهائي من انتصار روحاني هو أن لا خامنئي ولا القادة العسكريين في إيران يحملون أي أوهام حول عمق الأزمة الوجودية التي تواجه النظام. وعما إذا كان يمكنهم إبداء مرونة واقعية مشابهة في سعيهم لحل أسباب هذه الأزمة - المواجهة مع المجتمع الدولي بشأن القضية النووية- فإن هذا يبقى اللغز العظيم القادم للرواية السياسية الإيرانية التي لا يمكن التكهن بها دائماً.
وبالنسبة لواشنطن، هذه لحظة وفرصة هائلة، لكن ليس هناك إجابات سهلة. فعلامات الاعتدال الداخلي في إيران قد تشجع فقط على تآكل الائتلاف الدولي القوي حتى الآن بخصوص تنفيذ العقوبات. وأياً كان الذي يتولى دفة القيادة في ايران في آب، فسيكون عليه  التنافس والنضال إزاء مشهد فئوي شائك بشأن القضية النووية، فضلاً عن جميع المجالات الأخرى المقلقة بالنسبة لواشنطن، لا سيما سوريا ومعاملة النظام لمواطنيه. مع ذلك، وأيا كان ما سيحدث في الساعات والأيام التالية، فإنه يجب علينا أن نقدر بأن قوس السياسة الإيرانية قد انتقل بطرق تخالف الرؤية التقليدية. وهذه وحدها علامة ميمونة.
أثناء الحملة الانتخابية، ظهرت تقارير تفيد بأن وزير الخارجية الايراني علي اكبر صالحي قد أقنع المرشد الأعلى للبلاد بأن يأذن بمبادرة جديدة واسعة النطاق تجاه واشنطن. وتنصلت طهران بسرعة من ذلك الكشف، لكن التقرير يعزز الشعور المذهل بإمكانية حصول ذلك، والذي جاء من خلال سياق حملة الرئاسة الإيرانية التى اختتمت لتوها والمحيطة بالقضية النووية والجفاء الطويل والمرير بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة.
هذه الأخبار، وكحملة الانتخابات الرئاسية التى اختتمت لتوها، تؤكد مدى تحول الأرض داخل إيران بشأن التعامل مع واشنطن، حتى في الوقت الذي يتحكم فيه المحافظون بالرواية داخل إيران. فاليوم، من السهل أن ننسى تقريبا بأنه بالنسبة لمعظم الفترة الزمنية من تاريخ الجمهورية الإسلامية، كانت الدعوة إلى الحوار مع واشنطن تعادل سياسياً قبلة الموت. فقبل عقد من الزمن حتى، كان هذا النوع من النقاش الحر الحركة حول كيفية التفاوض مع ' الشيطان الأكبر'، كالذي حصل الأسبوع الماضي على التلفزيون الحكومي وطوال هذه الحملة الرئاسية، أمراً غير وارد؛ وحتى آنذاك، كان لا يزال من النادر والمخاطرة بمكان بالنسبة لمسؤولين ايرانيين المناقشة علناً ما إذا كان ينبغي لإيران التحدث مع واشنطن بأي شكل من الأشكال.
إن المعارضين للحوار لا يستهان بهم، وأهمهم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. إذ تعكس وجهات نظره المتشددة  المستمرة  شعوراً راسخاً وعميقاً بعدم الثقة في النوايا الأميركية دام ثلاثة عقود على الأقل، وربما يتعدى المجاملة. فمن دون قبوله وموافقته، ليس هناك ما هو ممكن في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
أما بالنسبة لواشنطن، فإن كل هذه التطورات تقدم تأكيداً هو موضع ترحيب  بأن الاستراتيجية الأميركية تعمل، إلى حد ما على الأقل. فقد أكدت النتائج بأن الإرادة السياسية للتوصل الى اتفاق نووي موجودة داخل الجمهورية الاسلامية. مع ذلك، وحتى مع وجود رئيس أكثر اعتدالاً في سدة الحكم، فإن القضية النووية لن تحل بسهولة، ما أن انقسام المجال السياسي الإيراني أمر أصعب من أي وقت مضى.
وفي تطور غير متوقع في رواية الانتخابات الأولية، وبدءاً مما كان مفترضاً حصوله مروراً بنزهة فاترة  لربيب ومحمي اختاره المرشد الأعلى وصولاً إلى السحب التدريجي لشجار عام  وعميق، حول السياسة الخارجية الإيرانية والاحياء مؤخراً للعبة إثارة الشارع التي سبقت التصويت في انتخابات 2009، تبدو معضلات واشنطن اليوم أكثر حدة. حتى الآن، تبدو لهجة الرسالة سليمة تماماً - تذكير ثابت بفرص تسوية الازمة النووية  بالإضافة إلى نزاهة الانتخابات الرئاسية.
للتغلب على جنون العظمة العميق الجذور ( والذي لا يعتبر عديم التبرير تماما) لصانع القرار المطلق، ستكون الولايات المتحدة  بحاجة إلى الاستفادة من بعض الإبداع والصبر الإضافيين. إذ يجب على واضعي السياسات الأميركيين، أولاً وقبل كل شيء، التقدير بأن روحاني سيكون بحاجة للإثبات للإيرانيين أن بإمكانه انتاج عوائد ملموسة من المبادرات الدبلوماسية. وهذا يعني أن على واشنطن أن تكون مستعدة لعرض إعفاءات كبيرة من العقوبات مقابل الحصول على أي تنازلات بشأن القضية النووية. إن دور الكونغرس في هذه اللحظة وهذه الفرصة في غاية الأهمية؛ فبالنسبة لواشنطن سيكون الترحيب والرد على التمكين لرئيس معتدل جاد ذي أوراق اعتماد حقيقية وتفويض واضح بإحراز تقدم بشأن القضية النووية بمجموعة كبيرة جديدة من العقوبات رداً غير حكيم على الأخبار الجيدة الأولى الخارجة من إيران من بعد سنوات.
يجب على صانعي السياسة الأميركية التقدير أيضاً بأن روحاني قد يواجه قيوداً حقيقية في سعيه لحل النزاع النووي دون تفاقم حالة انعدام الثقة لدى المتشددين. بعبارة أخرى، إن الطريق للخروج من العزلة والأزمة الاقتصادية محفوف بالمخاطر، ولكن الرئيس الايراني الجديد، الذي يطلق عليه أحياناً لقب 'شيخ الدبلوماسية،' قد يكون الرجل المناسب تماماً في اللحظة المناسبة واجتيازها.
إني أقدر الفرصة التي أتيحت لي للمثول أمامكم اليوم، وأتطلع إلى الإجابة على أية أسئلة قد تكون لديكم.

موقع الخدمات البحثية