مواد أخرى » التوجهات الاستراتيجية 2013: التطورات الأساسية في الشؤون العالمية ـ الجزء الثاني


أندريا بومن، جوناس غراتز وبريم ماهاديفان
Center for Security Studies
تغطية للأحداث حتى تاريخ 4 آذار، 2013
ترجمة: إيمان سويد، خاص لموقع مجموعة الخدمات البحثية


الفصل الثاني
انعدام الأمن البحري في شرق آسيا
بريم ماهاديفان


تنبع التوترات البحرية في شرق آسيا من عاملين هما: النزاعات الإقليمية بين الصين وجيرانها الأصغر منها، والخلاف بين الصين وأمريكا بخصوص حق الوصول الى تلك الممرات إضافة إلى قضية تايوان. وتسعى الصين إلى تغيير الوضع الراهن في المنطقة من خلال الاستفادة من قوتها العسكرية المتفوقة والقدرة على حفظ الأمن، وقد أدى انعدام الأمن إلى سعي قوى أخرى للحصول على الدعم الأميركي. ونظراً لتزايد حجم الإنفاق البحري الصيني، يبرز سباق عقائدي بين الجيشين الصيني والأميركي، حتى في الوقت الذي تُبذل فيه جهوداً دبلوماسية لمنع حصول مزيد من التصعيد.
استرعت الرواية الأميركية عن ;محور استراتيجي ; أو; إعادة التوازن ; نحو شرق آسيا اهتماماً دولياً واسع النطاق. ويمكن توقع أن تحصل ديناميات الأمن الآسيوي، ولا سيما في المجال البحري المهمل منذ فترة طويلة، على مزيد من الأهمية في الشؤون العالمية. لا ينبغي تجاهل هذه الديناميات في أوروبا. فآسيا تشهد تغييراً اقتصادياً سريعاً وتؤثر جغرافيتها السياسية على الأمن الأوروبي. ففي هذه المنطقة تلتقي الجغرافيا الاقتصادية بالجغرافيا السياسية. لذلك من الضروري القيام بتفصيل وتحليل فردي لمصادر عدم الاستقرار الحالي في شرق آسيا.
يشير هذا الفصل إلى أن هناك مصدرين من هذه المصادر: النزاعات البحرية بين الصين وجيرانها من الدول الساحلية الصغيرة، والتوترات الأوسع نطاقاً بين الصين وأمريكا حول وضع تايوان وامكانية تطبيق القانون الدولي في المنطقة. إن ديناميكية الأمن في شرق آسيا مؤلفة من طبقيتين ؛ تتكون الطبقة الأولى من الجهات الفاعلة في المنطقة التي تتبع وتواصل أجندات خاصة بها، في حين تتكون الثانية من تأثيرات عالمية تدفع الصين إلى تنافس جيوسياسي ضد الولايات المتحدة. أما على مستوى الاستراتيجية الكبرى، فتغذي مجموعتا الديناميات بعضها البعض.
إن الوضع في شرق آسيا مهم بالنسبة إلى أوروبا وبقية العالم لأنه يمثل مفارقة بين دوافع الاندماج والدوافع المثيرة للانقسام. إن شرق آسيا محور العولمة، لكنه أيضاً المكان حيث يمكن استشعار التحولات الدولية فيه بشدة. إذ يحتمل لأي تصعيد هام في التوترات الإقليمية يصل إلى حد النزاع المسلح أن يعطل العلاقات مع الصين، ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي. هذا الأمر بمثابة فقر الدم لمنطقة اليورو، خاصة، ولا تستطيع تحمل كلفته. في نفس الوقت، إن المأزق الصيني- الأميركي حول القانون البحري الدولي له آثار خطيرة: فهل ستعمل الصين ضمن الإطار المعياري الذي تلتزم به الديمقراطيات الأوروبية؟
بصفتها قوة اقتصادية آخذة في الصعود، تطور الصين قدراتها العسكرية إلى درجة لم يسبق لها مثيل. وهذا في حد ذاته لا يشكل سبباً للقلق. مع ذلك، فإن ما يبعث على القلق بالنسبة لجيرانها، وكذلك الولايات المتحدة، هو افتقار بكين للشفافية بخصوص استخدام هذه القوة العسكرية المكتسبة حديثاً في التعامل مع نزاعات اقليمية حدودية لم تحل بعد. فهل تعمل الصين على عتبة التذبذب، حيث يتعاظم ويتضاءل استعدادها للاستفادة من القوة العسكرية لأجل مكاسب جيوسياسية تبعاً للظروف؟ إن موقف بكين من النزاعات البحرية النزاعات في جنوب وشرق بحر الصين غامض، بالإضافة إلى أن طعنها الضمني بحق حرية الملاحة، قد ولد القلق من أن يكون هذا هو الحال.
هناك بعض الخصوصيات المعينة المسلم بها في المجال البحري والتي لا تنطبق على النزاعات الإقليمية على الأرض، ما يعقد بالتالي تفسيرات السلوك الصيني. أولا، إن السيادة في عرض البحر هي سيادة متدرجة وليست مطلقة. فمن السهل أن يكون المطالبين الأخصام مضللين حقاً فيما يتعلق بمشروعية مواقفهم التفاوضية. ثانياً، لا يمكن الانهماك بشكل دائم وبسهولة بالمواقع المتنازع عليها ، وبالتالي السماح للمناورات الانتهازية من قبل السلطات المحلية أن تعمل بشكل مستقل عن المسؤولين الفيدراليين. ثالثاً إن الاشتباكات العنيفة، لو حدث أي منها، يمكن محاصرتها واحتوائها بحكم العدد المحدود من الموظفين والمنصات التي يمكن نشرها في الموقع في مهلة قصيرة. وتشير كل هذه العوامل إلى أنه في حين قد تكون النزاعات البحرية أكثر عرضة للتصعيد، فإنها أيضاً سهلة الاحتواء أكثر من النزاعات البرية. ربما لا تهدف مواقف الصين إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، لكن مجرد التأكيد على أهميتها بالنسبة لديناميات الأمن في شرق آسيا أمر لا يمكن يتم تجاهله من قبل الجهات الفاعلة الإقليمية.
كما أن الصين ليست هي المسؤولة فقط عن تصاعد التوترات. فجيرانها، وخاصة فيتنام والفليبين واليابان، ردوا على الحزم والاصرار الصيني بإرسال إشارات سياسية خاصة بهم. أما الأمر الأكثر مدعاة للقلق من هذا كله، من وجهة نظر بكين، فهو استعدادهم لتسهيل ;إعادة التوازن; للقوة العسكرية الأمريكية تجاه آسيا. وعلى الرغم من أن هذا التطور لا يغير كثيراً من معادلة القوة العسكرية في شرق آسيا، فإنه يدل على زحف سياسي من قبل الولايات المتحدة إلى مجال نفوذ بكين. فبالنسبة للصين الصاعدة المقتنعة بقيامتها كقوة عظمى، يعتبر توسع الوجود الأمريكي في آسيا علامة على تدهور الوضع الأمني، وتوسع يجب التصدي له بفعالية.
وحتى مع ذلك، وكي نبدأ من هنا فقد كان حزم الصين على تأكيد الذات هو ما ساعد على جلب الولايات المتحدة مجدداً إلى داخل شرق آسيا. فبما يتعلق بمعظم العقد الأخير من القرن الماضي، لم يكن ينظر إلى الصين على أنها تشكل خطراً على الوضع الراهن في المنطقة. إنها سياساتها خلال الأزمة المالية الآسيويةعام 1997 هي ما عزز الانطباع بأن الصين القوية اقتصاديا قد تكون ضامناً للازدهار والاستقرار الإقليمي. ولم يبدأ هذا الرأي بالتبدل إلا بعد عام 2008، عندما أثارت الاضطرابات السياسية في التيبت الذعر الأمني في أوساط النخبة السياسية الصينية. وإلى جانب الخطاب الشعبوي، ساهم انعدام الأمن النخبوي في بكين في تصاعد التعبير عن المشاعر القومية الصينية، التي سرعان ما انعكست لدى دول الجوار. في هذه الأثناء، أصبحت الولايات المتحدة نفسها حذرة من الصين بعد فشل بكين بالتجاوب مع مبادرات تقترح زيادة التعاون في الحوكمة العالمية.
أما الآن وهي لم تعد على استعداد لأن تفترض التزام الصين بالنهوض سلمياً في إطار النظام الدولي المعمول به، تبدو واشنطن مصممة على عدم السماح بجعل شرق آسيا الشرق ينزلق إلى مجال النفوذ الصيني حصراً. فحافة المحيط الآسيوي تشكل المنطقة الأكثر حيوية اقتصادياً للعالم، مع وجود 61٪ من سكان العالم وأكثر من 50٪ من مجموع السفن التجارية، البالغ قيمتها أكثر من 5 تريليون دولار فيها. ولاحتياطها المهم من النفط والغاز الطبيعي إمكانات، إذا استغلت، تعمل على دفع معدلات النمو الاقتصادي الإقليمي إلى مستوى أعلى حتى. وبالنسبة لكفاح الولايات المتحدة للتعامل مع الصعوبات الاقتصادية والتغلب عليها ودحض مفاهيم ;التراجع;، تعتبر آسيا،وخاصة شرق آسيا، اختباراً حاسماً للقوة الوطنية. إن الفشل في الوقوف إلى جانب حلفائها الإقليميين، وثني الصين عن غزو تايوان، سيعرض البناء الأمني الذي يربط الولايات المتحدة بالشركاء الرئيسيين في جميع أنحاء العالم لخطر الانهيار.
أما على المستوى الإقليمي، فيمكن، بالفعل، ملاحظة التراكم الثابت للأسلحة، مع إيلاء اهتمام خاص إلى القدرات البحرية . فقد ارتفع الانفاق الدفاعي الرسمي الصيني 18 مرة في العقدين الماضيين، مما تسبب في قلق اليابان. فلطالما اتبعت طوكيو سياسة الحفاظ على الإنفاق العسكري بمعدل أقل من 1٪ من الناتج المحلي الإجمالي - سياسة يبدو بأنها مستعدة الآن للتخلي عنها. في هذه الأثناء، زادت فيتنام والفليبين ميزانياتها الدفاعية الخاصة، بعد تدهور العلاقات مع الصين. للوهلة الأولى، يبدو قلقهم مبالغاً به، بما أن الحوادث العدائية في بحر الصين الجنوبي - المنطقة الأكثر احتمالا الصراع - قد شملت إنفاذ قانون السفن، وأساطيل الصيد ومسح السفن. ولم تتدخل القوات البحرية للبلدان المطالبة بالسيطرة البحرية، حتى الآن. في كل الأحوال، هذا مريح قليلاً، بما أنه يُعتقد أن الطموحات البحرية تكمن في جوهر الموقف الديبلوماسي الحازم للصين وموقفها كشرطي في البحر.
سوف يقوم هذا الفصل بشرح كيف أن تزايد قدرات الصين البحرية، كونها في جزء منها تعبير عن المشاعر القومية الشعبية ، قد أثارالقلق في البلدان المجاورة. وسيتم الإثبات أيضاً بأن الولايات المتحدة تقاسم هذه البلدان هواجسها، ولو لأسباب مختلفة ترتبط أكثر بالحفاظ على تفوقها العالمي وبتوازن القوى في المنطقة. أخيراً، يشير الفصل إلى أن الولايات المتحدة والصين يدخلان في جولة من التبارز السياسي والتخطيط العملياتي، والتي من المرجح أن تخلق واقعاً جديداً في الشؤون الاستراتيجية. إن الأمن المعسكر بسرعة في شرق آسيا سوف يعتمد بشكل كبير على مدى حسن إدارة التوترات الإقليمية بواسطة الحوار الدبلوماسي، بدلاً من التهديدات الضمنية باستخدام القوة.
الشعور القومي البحري الصيني
بدءا من عام 2009، بدأت سياسة الصين تجاه جيرانها وموقفها ، عموما، من الولايات المتحدة، تسترعي الاهتمام والتدقيق الحاسم. لقد شهد ذلك العام بداية حزم جديد واصرار على فرض الذات في الدبلوماسية البحرية الصينية، الأمر الذي لفت الانتباه الى جدالات تاريخية استثنائية بدلاً من تلك القانونية المقبولة دولياً. في هذه العملية، أعيد فتح نزاعات قديمة في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، و بدأت الولايات المتحدة تنجر إلى إدارة التوترات الإقليمية.
الممرات البحرية الرئيسة في شرق آسيا
النزاعات البحرية
رداً على محاولات فيتنام وماليزيا توسيع مناطقهم الاقتصادية، أوحت الصين بمطالبتها بالسيادة على 90٪ من بحر الصين الجنوبي. وبررت هذا التحرك باستشهادها بالحقوق التاريخية التي لا تعترف بها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار ( UNCLOS) ، التي صادقت الصين عليها عام 1996. وكانت بكين منذ ذلك الحين تتحفظ بشأن توضيح ما تعنيه بالضبط بهذه المطالبة، مفضلة على ما يبدو المرونة الذي يمنحها لها الغموض السياسي. وقد أثار تلميحها بأن بحر الصين الجنوبي هو مصلحة وطنية ; جوهرية; قلق الدول المجاورة للصين، حيث ينظر إلى هذه اللهجة ينظر، عموماً، في اللغة الدبلوماسية على أنها تعبير عن خط أحمر، تصل إلى حد التهديد العسكري . وهناك رأي، في الآونة الأخيرة، مفاده أن مطالبات الصين البحرية في جنوب بحر الصين كانت مطالبة عاطفية إلى درجة تحد من قدرة الحزب الشيوعي على احتواء النشطاء أصحاب الشعور القومي المتشدد على مستوى الشارع.
هناك مجموعة موازية من التطورات في بحر الصين الشرقي التي جعلت العلاقات الصينية ـ اليابانية تسوء أكثر. إذ تدعي كل من طوكيو و بكين سيادتها على خمس جزر في البحر، والشعاب المرتبطة بها. فهذه المواقع البارزة، المعروفة باسم جزر سينكاكو في اليابان، و جزر دياويو في الصين، هي بقايا خلاف ثنائي يعود إلى أكثر من قرن من الزمان. على الرغم من أن الجزر كانت تحت الاحتلال الياباني منذ السبعينات، فإن الصين تدعي ملكيتها على أساس الحقوق التاريخية. وكانت التوترات تعتمل منذ عام 2010، عندما صدم قارب صيد صيني سفينة دورية يابانية، مما تسبب في حادث دبلوماسي. ثم تصاعدت الأمور بشكل حاد في عام 2012، عندما قامت الحكومة اليابانية بمحاولة لتوطيد سيطرتها على الجزر. وأدت الاحتجاجات في شوارع المدن الصينية إلى تخريب شركات يابانية، كما أدت إلى مخاوف من أن تكون الحكومة الصينية تعيد توجيه سياستها الخارجية لمتابعة مطالباتها الوحدوية التي تركت نائمة لفترة طويلة. وقد غذى التعبير البحري تحديداً عن هيمنة الشعور القومي الصيني على مدى العقد الماضي هذه المخاوف.
الحشد البحري للصين
منذ العام 2002، كانت هناك جهوداً صينية متضافرة رامية إلى حشد قوة عسكرية في البحر. وقد دفع سلاح البحرية لجيش التحرير الشعبى الصينى بهذا الجهد إلى جانب القيادة السياسية. وبإنزاله إلى وضع مساعد خلال الفترة ما بين 1949-1987، كانت وظيفته أساساً تنفيذ غارات على غرار حرب العصابات ضد سفن العدو، ويموضع هذا السلاح نفسه الآن في الخطاب المحلي كعنصر أساسي لاستقرار النظام الصيني.
أصبح المجال البحري، في الآونة الأخيرة، منفذاً جديداً للشعور للقومي الصيني. وعقب الجهود التي بذلها الحزب الشيوعي الصيني لإعادة كتابة كتب التاريخ وتسليط الضوء على الضحايا الذين سقطوا على أيدي القوى الأجنبية، أصبح ينظر للبحر باعتباره مسرح الدفاع الوطني الحاسم. واستثمرت الخطة ( PLAN) ، لتعزيز حضورها في الوعي المحلي ، في جزء من الأمر، في بناء برنامج حاملة طائرات مكلف. وحصلت الصين على حاملة طائراتها الأولى في عام 2012، ومن المرجح أن تبني اثنتين أخريين بحلول عام 2020. وكانت هناك تقارير تفيد بأن السلك العسكري، وتحسباً للزيادة المستمرة في ميزانيتها، قد وضع خططاً لقيادة منفصلة لأسطول في جنوب الصين، والتي في نهاية المطاف ستضم حاملتيْ طائرات على الأقل.
كان الأمر المساعد لخطة PLAN قلق قيادة الحزب الشيوعي بشأن أمن الطاقة. إذ وفق النظرة لتقليدية في بكين، للبحرية دور هام في حماية خطوط التواصل البحرية (SLOCs) التي تجلب واردات النفط إلى الصين. هذه الحجة، المشهورة شعبياً تحت مصطلح ;معضلة ملقا;، تسلط الضوء على نقطة الضعف الصينية إزاء حصار بحري في زمن الحرب والذي يركز على مضيق ;ملقا;. مع ذلك إن شرعية وصدقية هذه الحجة محل نزاع من قبل بعض الخبراء. فهناك 8.5٪ فقط من إمدادات الطاقة في الصين تصل عن طريق البحر. ومن هذه النسبة هناك ، 75٪ منها يعبر المضيق. وإن سد الطريق أمام هذه الإمدادات لن يكون له معنى إلا إذا كانت الولايات المتحدة، البلد الوحيد ذي القدرات البحرية لفرض مثل هذا الحصار، ستصبح متورطة في حرب استنزاف مطولة مع الصين. ونظراً إلى أن من غير المرجح أن تنتصر بكين في مثل هذه الحرب على أية حال، فإن تركيزها على ;ملقا ; باعتبارها ممراً استراتيجياً حاسم أمر محير. فالصين لن تكون قادرة على منع هيمنة القوات البرية والجوية والبحرية الأميركية في آسيا إذا ما حدثت حرب طويلة الأمد، بصرف النظر عما إذا كانت ;ملقا ; محاصرة أم لا. فضلاً عن ذلك بالكاد يكون حصار الطاقة الاستراتيجية المثلى للولايات المتحدة لمحاربة الصين، حيث أن بالإمكان تجنبه بسهولة من خلال وجود السفن المتنقلة حول إندونيسيا. وسيكون من الصعب للغاية أيضاً فرض هذا الحصار، وذلك بسبب الصعوبات العملية في التحقق من السفن العابرة هذه المياه سنوياً وأي منها تحوي إمدادات الطاقة المتجهة إلى الصين.
بالتالي، يعتقد بعض المحللين أن أمن الطاقة ليس السبب الأولي والرئيس للتوسع البحري الصيني، وأن الدافع الحقيقي لذلك أقرب بكثير لأن يكون سبباً داخلياً. وبالإضافة إلى حماية خطوط التواصل البحري ( SLOCs ) ، فإن خطة PLAN موجهة من أجل مساعدة الجيش على غزو تايوان، التي تضمن واشنطن وضعها الحالي، كما أن الخطة موجهة لتأمين الموارد البحرية في ;البحار القريبة ;. وتتعامل الخطة PLAN ، في مفرداتها الداخلية، مع أجزاء كبيرة من جنوب وشرق بحر الصين بصفتها مياهاً صينية حصراً، عندما يكون وضعها محل نزاع، مع دول الجوار في الواقع. بالتالي، وعلى الرغم من عدم عسكرة المنافسة على هذه المياه حتى الآن، فإن احتمال النزاع المسلح لا يزال قائماً. وقد أبرزت الخطة ( PLAN) بحد ذاتها الحجج المتعلقة بالتنقيب عن النفط في الخارج، والتي من شأنها أن تفسد العلاقات مع دول الجوار ، في حين لا تبدي اهتماماً كبيراً بفرص احتمال بناء احتياطي نفطي استراتيجي. ويقول المشككون أن دوافعها بديهية: يبرر الدفع للاستكشاف البحري السعى للحصول على زيادة في الميزانية، في حين أن احتياطي النفط الاستراتيجي قد يقلل الاعتماد الكلي للصين على الواردات لكنه لن يفيد سلاح البحرية مباشرة.
يبدو أن الاتجاه واضح - يكتسب البعد البحري مكانة بارزة في السياسة الامنية الصينية. إذ تم، حتى الآن، وضع مزيد من التركيز على تحديث القدرات الموجودة الحالية بدلاً من التوسع البحري بشكل عام. مع ذلك حتى، لقد زادت البحرية بنحو 50 سفينة حربية منذ عام 2005. ومن المثير للاهتمام، أن معظم هذه الزيادة قد تركز في أسطول الغواصات، وهذه نقطة تقلق المحللين الاجانب. فعلى مدى السنوات السبع الماضية، يكون معدل انشاء الغواصات في خطة PLAN قد تضاعف ثلاث مرات. وبأخذ هذا الأمر بالحسبان ،مع توسع برنامج رصد ومراقبة المحيط عن طريق الأقمار الصناعية للصين، تشير مسألة الغواصات إلى أن خطة PLAN تخطط لحملة منع بحرية طموحة ضد عدو ذي امتداد عالمي. وليس لدى المحللين الأميركيين شك كبير بالنسبة لهوية ذلك العدو. ولا يميل هؤلاء للاعجاب ببرنامج حاملة الطائرات الصينية، باعتباره لا يشكل تهديداً كبيراً لوجود حاملات الطائرات الأمريكية الأقوى بكثير في منطقة المحيط الهادئ. مع ذلك، إن اهتمام الخطة PLAN في حرب الغواصات نذير للقدرة الأمريكية على التدخل في شرق آسيا على الأمد الطويل. إذ يمكن للغواصات أن تحدث خللا كبيراً أو إبطاءً في وتيرة العمليات القتالية البحرية التي ، بخلاف ذلك ، قد تكون موجهة نحو هدف بري. هذا الأمر هام بشكل خاص في أي سيناريو، حيث تسعى الولايات المتحدة للتدخل عند حصول غزو صيني لتايوان.
الإصرار الصيني على تأكيد الذات يخلق حالة من عدم الثقة بين الدول المجاورة
بالنسبة لدول الجوار، تعتبر آثار الحشد البحري الصيني مسألة أكثر إلحاحاً. فاليابان، على سبيل المثال، تعتبر بأن الصين، التي زادت استفزازاتها في السنوات الأخيرة، تسعى لتأكيد مطالبتها بجزر سينكاكو / دياويو. كما أن لدى فيتنام شكاوى مماثلة حول الجهود الصينية لمنع التنقيب عن النفط في بحر الصين الجنوبي. ويشير الخبراء في شؤون أمن شرق آسيا إلى أن الصين تتبع نمطاً حيث ستقلل فيه علناً من أهمية النزاعات الإقليمية ، دون التخلي عن مطالباتها الأصلية. وستواصل في الوقت نفسه بناء قوتها العسكرية الشاملة ودعم وتعزيز مواقعها الأمامية في المناطق المتنازع عليها وفقاً لذلك. ووفقاً لهؤلاء الخبراء، فإن إيجاد حلول دائمة من خلال المفاوضات أمر متروك لأجيال المستقبل، عندما تكون القدرات العسكرية الصينية كافية لخلق توازن قوى جديد، الأمر الذي سيشكل الأساس لسياسية تسوية.
قوات الشرطة البحرية في الصين تنتهج سياسة ; أمامية;
أما هو أكثر من حملة تحديث خطة PLAN حتى، فقد كان توسيع أجهزة الشرطة البحرية الصينية مما ساهم في زيادة التوترات أكثر. وتميل سفن خفر السواحل لأن يكون لديها قواعد اشتباك اكثر مرونة من السفن الحربية، مما يجعلها أكثر ميلاً إلى اتخاذ إجراءات استفزازية. وقد زادت أعدادها بمعدل أعلى بكثير من المنصات البحرية الصينية ، بسبب طفرة بناء السفن في الصين. هناك ثلاث أجهزة، بشكل خاص، تضغط باتجاه سياسة ; أمامية ; ظاهرة في جنوب بحر الصين: ;الرصد البحري الصيني;، ; أمر انفاذ قانون صيد الأسماك ; و; إدارة السلامة البحرية; . إن سفنهم ، رغم أنها مسلحة تسليحاً خفيفاً، قادرة وبسهولة، على سحق السفن المدنية كقوارب الصيد وسفن المسح. هذا له سمة ايجابية واحدة: إنه يشير إلى أن الاشتباكات العدائية في الجنوب وبحر الصين لن تؤدي، تلقائياً ، إلى صدام قوة ضد قوة، بما أن السفن المدنية ليس لديها أمل في شن مقاومة فعالة. مع ذلك، ومن الجانب السلبي، فإن هذا يشير أيضاً إلى أن عواطف الجمهور تشحن بسهولة أكبر عندما يعتبر إنفاذ القانون البحري الصيني تدخلاً في النشاط التجاري المشروع. فالقضية الأساسية هنا هي أنه ما قد يعتبر ;شرعياً; من قبل إحدى الدول يمكن أن يعتبره بلد آخر، وبسهولة ، ; زحفاً ;.
الخلافات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي
كانت الخلافات القائمة على الحيازة المادية لجزر بارزة في جنوب بحر الصين، الخلافات التي الحادة بالفعل، تتضاعف أكثر بسبب المقتضيات الجغرافية. فالعديد من المناطق الاقتصادية تتداخل في هذا المجال، نظرا لمحدودية المساحة المتوفرة لأغراض النشاط التجاري بين اليابسة الآسيوية و; سلسلة الجزر الأولى ; التي تقع قبالة ساحلها الشرقي. وبما أن كل بلد - الصين، فيتنام، الفليبين، وماليزيا - يدعي حقوقاً حصرية فيها ضمن منطقته الاقتصادية الخاصة به، فإنه يعتبر، تلقائياً، النشاط التجاري من قبل الآخرين داخل نفس هذا الامتداد المائي نشاطاً غير مشروع. في كل الأحوال، ومن بين منافسيها المطالبين بالجزر، فقط الصين تملك القدرة العسكرية والقدرة على ضبط المنطقة لفرض مطالبها في مواجهة المعارضة المباشرة من قبل الدول الأخرى.
على مدى السنوات القليلة الماضية، أصبحت كل من الصين وجيرانها أكثر اعتماداً على البحر لأجل ازدهارها الاقتصادي . إذ هناك، بالفعل، 95٪ من التجارة الصينية التي تتم عبر الممرات البحرية، بينما تزيد وتنمي بلدان أخرى العنصر البحري لاقتصاداتها. ففيتنام، على سبيل المثال، تهدف إلى تحقيق زيادة بنسبة 7٪ في الحصة البحرية لاقتصادها بحلول عام 2020. أما الفليبين، البلد الأرخبيلي، فتعتبر الربط البحري ضرورياً ليس فقط لازدهارها وإنما لوحدتها السياسية أيضاً. وفقاً لذلك، كانت مانيلا تشجع مواطنيها من سكان المناطق الساحلية على التجارة بحراً . وفي الآونة الأخيرة، ومن جراء شعورها بالضغط بسبب السفن الصينية المقتربة من سواحلها، دخلت في اتفاقية مع اليابان لتعزيز قدرة خفر السواحل لديها. ولا تتردد كل من طوكيو أو مانيلا في الاعتراف بأن هذا التعاون هو استجابة للضغوط الصينية في جنوب وشرق بحر الصين. ومن المثير للاهتمام، أنه في حين قد تم إيلاء عناية كبيرة إلى وجود رواسب الطاقة الكبيرة في هذه المياه، فقد كانت نقطة الخلاف الرئيسة حتى الآن تعتبرعادية جداً وتتعلق بحقوق الصيد.
أدت عقود من الصيد الجائر إلى استنزاف المخزونات في المياه الساحلية للدول المطلة ، مما اضطر أساطيل الصيد للمغامرة والابتعاد أكثر في عرض البحر. وحيث أن كل بلد يقوم بإرسال مزيد من السفن الى مجالات بحرية محصورة، فإن احتمال المواجهات العنيفة مع خفر السواحل وسفن إنفاذ القانون يزداد. بالإجمال، لقد تنافست خمسة من أصل عشرة دول أعضاء في رابطة أمم جنوب شرق آسيا (الآسيان) مع بعضها حول المطالبات الإقليمية لكل منها ومع تلك المطالبات التي تدعيها الصين. إن حوادث مضايقة الصيادين واحتجازهم في أعالي البحار شائعة. مع ذلك فإن ما يجدر ذكره حول الصين هنا، هو أن هناك على ما يبدو سياسة متضافرة ومركزة من قبل الحكومات المحلية في جنوب البلاد للدفع بالمطالبات البحرية أكثر تحت مظلة إطار إنفاذ القانون. إذ تشير تقارير من المنطقة إلى أن مسؤولي الحزب الشيوعي في محافظات هاينان وقوانغدونغ و قوانغشى يحفزون الصيادين على الإبحار في المياه المتنازع عليها. ويُزعم بأن سفن الصيد مزودة بمنظومات الاتصالات والملاحة الحديثة التي تسمح لهم بالحصول على الدعم المسلح بسرعة إذا ما صادفت اعتراضاً من سفن إنفاذ القانون لبلد آخر. إن السبب الرئيس وراء هذا السلوك المغامر، بحسب ما يعتقد، هو نظام الترويج للحزب الشيوعي، الذي يكافئ هؤلاء المسؤولين الذي يكشفون ويصدون أكبر عدد من ;الاختراقات; البحرية.
إن واقع وجود ما لا يقل عن أحد عشر جهاز من أجهزة إنفاذ القانون في الصين مشاركة بدرجات متفاوتة في تنظيم الأمن البحري قد أدى ببعض المحللين إلى التساؤل عما إذا كانت بكين مدركة تماماً لإجراءات المحافظات لديها. فمن الممكن، بحسب منطقهم، أن تكون قيادة البلاد المركزية لا تعرف تماماً إلى أي مدى يضغط المسؤولون المحليون للسير قدماً في موضوع المطالبات البحرية. في كل الأحوال، هناك محللون آخرون يخالفونهم الرأي بذلك. فهم يرون بأن بكين ، في الواقع، على دراية تامة بذلك ولكنها اختارت أن تترك وهم القيادة اللامركزية يسود. وبقيامها بذلك، فإنها تحتفظ بخيار النأي بنفسها عن ضمانات الاسترضاء التي تعطيها وزارة الخارجية الصينية، المعروفة محلياً بـ ;وزارة الخونة ;، لحكومات أجنبية ،وبشكل روتيني. فمن خلال المحافظة على التقسيم في توزيع السلطة الاتحادية / المقاطعات في جنوب بحر الصين، يمكن لبكين الاستمرار في تعزيز مطالباتها البحرية في وقت تكون قادرة فيه على ممارسة قدرة معقولة على الإنكار في حال مضت السفن المدنية أوالدوريات بعيداً جداً في المسألة وأشعلت شرارة حادث كبير.
بالتالي، هناك عدم ثقة مشتركة بين جيران الصين بشأن نواياها. إذ يدعي المحللون اليابانيون بأن بكين، ومنذ عام 2003، قد كسرت مراراً الالتزام الذي تعهدت به قبل عامين - إبلاغ طوكيو مقدماً كلما دخلت سفن المسح الصينية المياه التي تدعي اليابان ملكيتها. ويتهم مسؤولون فيليبنيون الصين بالتراجع عن اتفاق شفهي تم التوصل إليه في ربيع 2012، أي أنها ستسحب سفن الصيد والدوريات من مياه ; سكاربورو شول ;، في بحر الصين الجنوبي. فقد كانت السفن الفيلبينية والصينية تخوض مواجهات في ; شول; وقد توافق الجانبان في نهاية المطاف على الانسحاب من المنطقة. بدلاً من ذلك، وبحسب مزاعم مانيلا، حافظت الصين على وجودها في ;شول; وجرى ترسيم المنطقة على أنها خارج حدود سفن الفيلبين . وكانت النتيجة تحولاً في الوضع ، لصالح الصين.
المطالبات والأماكن البارزة المشغولة في جنوب بحر الصين
ربما لا يوجد بلد أكثر حذراً من الصين من فييتنام، رفيقها الإيديولوجي. فعلى الرغم من أن كلا البلدين تحكمهما أنظمة شيوعية ظاهرياً وبالتالي تحافظان على روابط حزبية ودية بينهما، فإن العداء العلني بينهما قوي. ففي عام 1974 و 1988، حصل صدام عسكري بينهما عندما استولت الصين على جزر ;باراسيل ;المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي. لذا فإن هانوي تشعر بريبة شديدة إزاء جهود الصينيين المستمرة الرامية إلى تعزيز السيطرة على ما تبقى من البحر. فهي تمسك بأكبر عدد من المواقع البارزة في جزر ; سبراتلي;، ثاني أكبر وأهم أرخبيل في المنطقة، وبالتالي لديها الكثير لتخسره هناك. وللصين نفسها وجود في جزر ;سبراتلي;، الأمر الذي يمكن أن يوفر بؤرة اشتعال لأزمة إقليمية، لو حدث ذلك.
كانت الأحداث في أواخر عام 2012 مثيرة للقلق في هذا الصدد. ففي حزيران 2012 بدأت كل من الصين وفيتنام دوريات جوية فوق جزر ;سبراتلي;. وبعد شهر، مررت فيتنام قانوناً محلياً يفرض على جميع السفن الأجنبية العابرة بالقرب من الجزر تقديم تقرير بذلك إلى سلطاتها. وبعد ذلك مباشرة، أعلنت الصين عن تشكيل مدينة على مستوى المحافظة وعن تشكيل منطقة عسكرية تسمى ;سانشا; في جزر; باراسيل; . وكان الهدف من المقاطعة توطيد السيطرة الصينية على جزر سبراتلي، سكاربورو شول، وجزء آخر من جنوب بحرالصين يدعى ;بنك ماكليسفيلد;. أما فيما يخص هذا التطور المشؤوم فهو أنه يندرج ضمن نمط من ;التعديلات الإدارية ; التي اتجهت إلى اخضاع الجزر والشعاب، التي تقع بعيدا عن البر الصيني ، للحكم الصيني. إن فيتنام والفيليبين وماليزيا قلقة لأن من بين هذه المواقع البارزة المطالب بها حديثاً يكمن عدد من المواقع البارزة الأخرى التي تسيطر عليها هذه البلدان. فهذه الدول قلقة من استعداد الصين، من خلال عرض ادعاء يتشابك مع ادعائهم ويتجاوزه، لعمل عسكري للاستيلاء على الأراضي. لقد كانت هذه الدول تشتبه، على أقل تقدير، بسعي الصين إلى خلق ; حقائق مائية جديدة ; من خلال التعدي الخفي، الذي يهدف لاحقاً إلى إضفاء الشرعية عليها من خلال المحادثات السياسية.
وزادت خطوة قامت بها حكومة هاينان، وهي محافظة جنوب الصين، من هذه الشكوك. ففي الآونة الأخيرة أذنت الحكومة لأجهزة إنفاذ القانون البحري لديها بالصعود على متن السفن الأجنبية الموجودة ضمن المياه الصينية المزعومة واحتجازها. وبما أن بكين تطالب بـ 90٪ من بحر الصين الجنوبي، وبما يصل إلى 50٪ من مجموع حمولات الشحن والعبور في العالم من خلال هذه المياه، فقد أدى تحرك حكومة هاينان إلى قلق دولي حول تقييد حرية الملاحة.
تبدو بكين على استعداد لتغيير الوضع القائم ، ومن جانب واحد، في المياه المتنازع عليها. إن ممارسة من هذا النوع تستدعي التشكيك بصحة القانون البحري الدولي، الذي يمنح قدراً من الشرعية، على الأقل، للمطالبات الحدودية لدول أخرى بالقدر الذي يمنحه لمطالبات الصين، نظرا لتعقيدات نزاع جنوب بحر الصين وعدم جواز ;الحقوق التاريخية;.
على الرغم من أن كل من فيتنام والفيلبين قد أكدتا مراراً على مطالباتهما التوسعية – ذهبت مانيلا إلى حد إعادة تسمية بحر الصين الجنوبي بـ ; بحر الفيليبين الغربي ;- فليس هناك من شك كبير من أن الصين تبقى القوة الوحيدة التي تدعم موقفها السياسي بالقوة المسلحة. هذا العامل ، إلى جانب قضية تايوان، هو الذي أجبر واشنطن على دخول شرق آسيا كموازن خارجي بحري، وتعزيز أمن حلفائها في المنطقة.
الولايات المتحدة باعتبارها قوة آسيوية
إن العلاقة بين الصين وأمريكا أمر بالغ الأهمية لفهم ديناميات الأمن في آسيا. إذ يعتمد كلا البلدين اقتصادياً على بعضها البعض، في حين يضمر كل منهما شكوكاً مكثفة تجاه الأهداف الاستراتيجية لبعضهما البعض. إذ يسعى كلاهما إلى توسيع نفوذه الإقليمي مع تجنب المواجهة المباشرة. وهناك قلق واضح في واشنطن، من أن تؤدي الهيمنة الصينية في شرق آسيا إلى تسليط الضوء على حدود قوة أمريكا، لا سيما بالنظر إلى انتقائية بكين بالالتزام بالمعاييرالقانونية الدولية التي تؤيدها الولايات المتحدة. أما في بكين، فهناك قلق مماثل من أن تكون الولايات المتحدة تسعى إلى الحد من صعود الصين عن طريق تشجيع قوى شرق آسيا الأصغر حجماً لتحقيق التوازن ضد الصين. فالصين ، كعملاق حضاري، لا تستحق أن تكون البلد الاقليمي المهيمن فحسب، وفقاً لوجهة النظر هذه، بل أنه عن طريق حرمانها من محيط مستقر، تعمل الولايات المتحدة كمخرب جيوسياسي.
زيادة التوترات
لقد أكدت التطورات الأخيرة هذا الرأي فحسب. ففي أواخر عام 2011 وأوائل عام 2012، أعلن مسؤولون أمريكيون كبار بأنه من الآن فصاعدا، ستعطي واشنطن أولوية استراتيجية لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقد أشارت التصريحات ، الآتية في وقت زادت فيه التوترات في جنوب وشرق بحر الصين من الشكوك حول تعهدات بكين من 'النهضة السلمية ;، إلى تحول جذري. فبالنسبة لجزء كبير من العقد الماضي، سادت الصين من دون منافس على شرق آسيا. ويعزى ذلك، وإلى حد كبير، إلى اقتصادها ربما، وكذلك إلى انشغال الولايات المتحدة بمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط وأفغانستان. من جانبها، كانت معظم دول شرق آسيا مترددة لجهة دعوة الولايات المتحدة التدخل للتدخل في جوارهم. إذ كانت هذه الدول تأمل، بدلاً من ذلك، بإمكانية تسوية الاختلافات الإقليمية على المستوى الآسيوي الداخلي.
مؤخرا، أجبر عاملان دول الجوار الصيني على تعديل موقفها والترحيب بحذر بالمشاركة الأمريكية. العامل الأول، رفض الصين تأييد المحادثات المتعددة الأطراف بشأن النزاعات البحرية. إذ تجري بكين حساباتها بإمكانية أن تكون قوتها الوطنية الشاملة المتفوقة أكثر فعالية في استخلاص تنازلات إذا ما عُقدت المحادثات ثنائياً. ومن الطبيعي أن تسعى دول الآسيان، الأكثر تضررا من هذه النزاعات، إلى راعٍ موازن للتعويض عن عيوب مفاوضات ثنائية مع الصين. العامل الثاني، تزايد ذعر الدول الأعضاء في الرابطة من فارق القوة المحض بينها وبين الصين. إذ يبلغ الانفاق الدفاعي لكل دول الآسيان نحو 25 مليار دولار، على النقيض من موازنة الدفاع الرسمية الصينية البالغة 106 مليار دولار. وقد ظهرت هذه الفجوة في الإنفاق لأن دول الاسيان افترضت في التسعينات ، مع انتهاء الحرب الباردة، بأن آسيا سوف تتمتع بحصة أرباح من السلام . وفقاً لذلك فقد ركزت هذه الدول على الأمن الداخلي والتنمية الاقتصادية. كان هناك شعور بأن الصين ستكون معارضة لتصاعد التوترات في المجال البحري، وذلك بسبب التأثير السلبي الذي سيكون لها على صورتها الدولية . وقد دفعت التوترات المتجددة منذ عام 2009 إلى حصول تدافع هادئ للحصول على قدرات دفاعية وضمانات أمنية ضمنية.
من جانبها، ومنذ عام 2009 شددت الولايات المتحدة من موقفها تجاه الصين. وبعد تقلص الآمال الأولية بترتيب تعاوني في إدارة مشاكل الحكم العالمية ، استغرقت إدارة أوباما في مقاربة أكثر حذراً تجاه بكين. أما إحدى مسببات هذا التحول في المواقف فكان الحادث الذي وقع في جنوب بحر الصين، عندما أجبرت سفن الدورية الصينية سفينة رصد تابعة للبحرية الامريكية على مغادرة المياه القريبة من مقاطعة هاينان. فقد كانت السفينة الأمريكية على بعد 75 ميلا قبالة ساحل هاينان، ما يضعها خارج المياه الإقليمية، وإن كان ذلك أيضا في المنطقة الاقتصادية الخالصة للصين ( EEZ). وعلى الرغم من أن وجودها كان قانونياً بموجب القانون الدولي، فإن مناورتها الخطيرة على مقربة من سفن الدورية صينية أعطى إشارة بأن الدورية تعتبر وجودها تعدياً على السيادة الصينية.
أبرز هذا الفصل وجود مصدر احتكاك رئيس في العلاقات بين الصين وأميركا: التفسيرات المختلفة للقانون الدولي. وتعتقد الصين أن لديها الحق في تنظيم نشاط عسكري أجنبي ضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة، وهو حق غير معترف به من قبل الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة. ويبدو بأن بكين تعتبر منطقتها الاقتصادية الخالصة الخاصة بمثابة امتداد لمياهها الإقليمية، بينما تتعامل مع المناطق الاقتصادية الخالصة لكل من فيتنام والفيلبين على أنها ارتفاع البحار، حيث لا توجد دولة لديها حقوق اقتصادية حصرية. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن القبول بمثل هذه المجموعة من المعايير غير المتوازنة سيكون تحدياً لأساس القانون البحري، وامتيازات للصين البلدان الأخرى محرومة منها. هناك استعصاء بين موقف الصين بشأن المعايير الدولية، التي تعتبرها أدوات هيمنة غربية لكنها مع ذلك تلتزم بها بشكل انتقائي، وبين الاصرار الأميركي على نظام قائم على قواعد مشتركة. ولدى بكين الآن الثقة السياسية للتشكيك بشرعية هذا النظام وجعله موضع تساؤل، وهو تحدي ضمني بالنسبة إلى واشنطن على المستوى العالمي.
الاستراتيجية الأمريكية المضادة
في هذا السياق، الولايات المتحدة متخوفة من أن يكون الفشل بتأكيد وجودها مجدداً في آسيا علامة ضعف، الأمر الذي يمكن أن يكون له آثاراً واسعة النطاق . إن كامل نظام التحالف الأميركي في أوروبا وآسيا مبني على ضمانات أمنية تشكل حجر الأساس في هيمنة أميركا العالمية. وتخشى واشنطن من أن يكون هناك تأثير الدومينو على الأرض على غرار الحرب الباردة إذا ما تخلت عن ثلاثة حلفاء آسيويين - كوريا الجنوبية ، اليابان، والفيلبين – لصالح النفوذ الصيني. هذا الأمر كان له أهمية أكبر نظراً إلى أن الولايات المتحدة كانت قد وفرت أيضاً مظلة أمنية لتايوان – كيان يبدو بأن الصين مصممة على دمجه مع أراضيها في مرحلة ما في المستقبل. إن الفشل بتعزيز قدرة حلفائها الآسيويين للوقوف في وجه الصين يمكن أن يؤدي لمزيد من الإذلال لاحقاً، إذا ما تجرأت الصين على الولايات المتحدة في وقت لاحق وتدخلت لغزو تايوان.
مع ذلك، وفي نفس الوقت، على واشنطن أن تتعامل مع التخفيضات في الانفاق الدفاعي التي من المحتمل أن تصل إلى 500 مليار دولار على مدى العقد المقبل. وقد شكل التقشف الاقتصادي نتيجة للأزمة المالية معضلة سياسية بالنسبة للولايات المتحدة: فإذا أنفقت على الدفاع ضد تهديد قد لا يتحقق أبداً، فإن الأمر قد يؤدي إلى إفلاسها. وإذا ما خفضت الانفاق في وقت يواصل فيه الجيش الصيني عمليتيْ التحديث والتوسع، فإنها قد تفقد نفوذها الدولي وكذلك الفرص بتعافي اقتصادي قوي سيتحقق من التجارة مع آسيا. أما الحل الذي اعتمد فكان إنشاء إطار اقتصادي لعلاقات موسعة مع آسيا، في شكل شراكة عبر المحيط الهادئ، وفي الوقت نفسه عزل السلاح الجوي والقوات البحرية الأمريكية عن الاقتطاعات الكبرى في موازنة الدفاع. وباعتبارها أجهزة سوف تلعب دوراً حاسماً في الاستجابة إلى أية أزمة في شرق آسيا، فإنها ستكون في طليعة البحث والتطوير في أنظمة الأسلحة الجديدة.
من الآن فصاعدا، سوف يحظى مسرح المحيط الهادئ بأولوية في تخصيص السفن المفوضة حديثاً والجيل الجديد من الطائرات. ومن المتوقع أنه عندما يتم الانتهاء من ;إعادة التوازن; أو من ;محور ; القوات من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، وسيتم تخصيص 60٪ من البحرية الأمريكية يكون مقرها في المحيط الهادئ - أي عشرة في المائة زيادة عن مستويات القوة الحالية. في الواقع سوف يكسب المسرح حاملة طائرات أمريكية إضافية ، سبع مدمرات، عشرة سفن قتالية ساحلية ، وغواصتين، بالإضافة إلى أصول الاستطلاع مثل طائرات التجسس EP3. وقد أصبحت قاعدة أندرسون للقوات الجوية في محور ;المحور;: إنها النقطة التي منها سيجعل الحشد البحري الأمريكي من نفسه حشداً مستشعراً في غرب المحيط الهادئ. أما حاليا، فيجري نشر الوحدات من مشاة البحرية الامريكية هناك، تحضيراً لتحرك يمضي قدماً إلى أستراليا.
أما الأمر الذي لا يقل أهمية عن الحشد العسكري فهو تعزيز التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وشركائها المحليين في شرق آسيا. إذ لدى الولايات المتحدة 17 قاعدة عسكرية في اليابان و 12 في كوريا الجنوبية، بالإضافة إلى مراكز إضافية في الفيلبين، تايلاند، أستراليا وسنغافورة. ومن شأن هذه القواعد تشكيل نقطة انطلاق بالنسبة للجيش الأميركي في حال نشوب مواجهات مسلحة. فبدلاً من ارتكاز الجنود بشكل دائم في البلدان الآسيوية، الأمر الذي قد يولد احتكاكاً مع الحكومة المضيفة، تسعى الولايات المتحدة لتكون موازناً بحرياً خارجياً عن طريق الحفاظ على الجزء الأكبر من قواتها في قواعد في جزر المحيط الهادئ. أما القواعد الأمامية في شرق آسيا فسيتم تفعيلها فقط في حال وجود زيادة كبيرة في منسوب التوتر. من أجل ضمان أن تكون هذه القواعد الأمامية مجهزة بشكل وافر ومدعومة من قبل الحكومات المضيفة خلال زمن السلم، تقوم الولايات المتحدة بتطوير مستوى العلاقات العسكرية والدبلوماسية معها.
في الجوهر، وبقدر ما تعتبر سياسة إعادة التوازن مناورة دبلوماسية فإنها مناورة عسكرية أيضاً. لقد تم تصميم هذه المناورة لتعزيز الاتصالات الموسعة الجارية بين واشنطن وشركائها الإقليميين وتشجيعهم أيضاً على التعاون بشكل وثيق مع بعضهم البعض. إذ لدى الدول الشرق الآسيوية تاريخ متبادل مضطرب، نتيجة لصراعات الماضي التي لا تزال محفورة في الذاكرة الشعبية. وتسعى الدبلوماسية الأميركية، في إطار التزام متجدد بالاستقرار الإقليمي، إلى تشجيع الحوار حول الهواجس الأمنية المشتركة . ونظرا لحزمها واصرارها على فرض نفسها منذ عام 2009، قدمت الصين نفسها على أنها بؤرة ملائمة لمثل هذه الحوارات.
من خلال القيام بمجهود محدود ومستتر لدعم وجودها في آسيا، تعطي الولايات المتحدة إشارة إلى الصين بأنها لا تزال غير راغبة في إتخاذ موقف داعم لجانب من الجنبين في النزاعات البحرية. فقد ظلت واشنطن تقليدياً بمعزل عن نقاط الخلاف في جنوب وشرق بحر الصين، في الوقت الذي تكرر فيه بأنها ستقف إلى جانب الالتزامات الأمنية لحلفائها. هذا الموقف يرسل رسالة مزدوجة: افهام الصين أن استخدام القوة ضد حليف للولايات المتحدة من شأنه أن يؤدي إلى حرب مع الولايات المتحدة نفسها، وفي الوقت نفسه إفهام حلفاء أميركا أنهم لا يمكنهم تصعيد التوتر من جانب واحد وتوقع الحصول على الدعم غير المشروط من واشنطن.
سباق عقائدي
لكسر الجمود، اعتمدت الصين استراتيجية مزدوجة. أنها آخذة في زيادة الاشتباك، بما في ذلك الدبلوماسية العسكرية، مع القوى الأخرى في شرق آسيا مثل فيتنام وماليزيا من أجل منعهم من القفز إلى العربة الأميركية. مع ذلك، وكضمانة ضد التدخل الأمريكي في صراع في المنطقة، فهي تطور أيضاً عقيدة قتالية حربية تركز، بالتحديد، على الولايات المتحدة. وتدور العقيدة أساسا حول صراع مع تايوان لكن يمكن أن تمتد أيضاً إلى صدام صيني - ياباني أو صيني- فيليبيني. في أي حال، إنها تمثل تحدياً لقدرة أميركا على استعراض القوة في آسيا، وبالتالي تحدياً لنظام التحالف مع الولايات المتحدة ككل. وتستند إلى حد كبير على فرضية أن نكسة عسكرية مفاجئة في المراحل الأولى من تدخل الولايات المتحدة قد تشكل صدمة لواشنطن تجعلها تعيد النظر في التزاماتها الاستراتيجية ويجعلها تمتنع عن التدخل ضد العمليات الصينية في شرق آسيا.
عقيدة الحرمان من الوصول إلى المنطقة الصينية ( anti-access/area)
بدرسه آثار ما بعد القوة العسكرية الأميركية في حربيْ الخليج عام 1991 و 2003 ، خلص الجيش الصيني إلى أنه سيكون من شبه المستحيل هزيمة الاميركيين في قتال مباشر. فلمنع واشنطن من التدخل عند غزو تايوان، أو التدخل لمساعدة الحليف الإقليمي، تحتاج بكين إلى ضرب القوات الأميركية في أعالي البحار. وبدلا من السماح للأمريكيين بالحصول على موطئ قدم محلي، سيكون من الأفضل ضربهم قبل تمكنهم من الالتزام الكامل بالقتال ، عندما تكون سياستهم في أضعف حالاتها .
إن عقيدة الحرمان A2/AD التي يجري تطويرها من قبل جيش التحرير الشعبي تغذي هذا المنطق. فبناء على التفكير السوفياتي في زمن الحرب الباردة، تتألف العقيدة من مكونين: منع القوات الامريكية من دخول مسرح القتال، إذا كانت لا تزال تفعل ذلك، وتقييد حركتهم بعد ذلك. وفي حين اعتمد السوفييت غالب الأحيان على الغواصات لتنفيذ هذه العقيدة، يأمل جيش التحرير الشعبى الصينى باستخدام مزيج من الغواصات والصواريخ البرية. وقد تركز قسم كبير من الاهتمام في الآونة الأخيرة على سلاح Dong Feng -21، وهو صاروخ باليستي مضاد للسفن (ASBM) قادر، على ما قيل، على شل حركة حاملة طائرات أمريكية. ويتكهن بعض المحللين بأن استخدام هذا السلاح يمكن أن ;يغير قواعد اللعبة;، لأن من الصعب وقف صاروخ باليستي ومنعه من الوصول إلى هدفه ما أن يُطلق. مع ذلك، لم يتم اختبار صاروخ دونغ فنغ في القتال، ما يترك السؤال حول فعاليته مفتوحاً.
في أي حال، يستجيب الجيش الأمريكي لعقيدة الحرمان A2/AD بعقيدة خاصة به. فالمعركة المسماة ;المعركة الجوية- البحرية;، تهدف إلى كسر السلسلة القاتلة للصواريخ الصينية من خلال منعها من تحديد أماكن أهدافها، وإذا فشلت بذلك، القيام باسقاطها بواسطة أنظمة الدفاع الجوي المعززة. إن نقطة الضعف الرئيسة في العقيدة الصينية هي اعتمادها على رصد ومراقبة المحيطات – إذا ما كانت قاذفات الصواريخ غير قادرة على تحديد موقع سفن الولايات المتحدة، أو إذا كان بالإمكان جعل أجهزة استشعار الصواريخ عمياء ، فستصبح عقيدة A2/AD معتمدة اعتماداً كلياً على حرب الغواصات.
إن هجمات الغواصات، بحد ذاتها حتى، ضد سفن السطح الأميركية يمكن أن تؤخر نظرياً الجدول الزمني لتدخل الولايات المتحدة لفترة كافية بالنسبة للعمليات البرية الصينية في شرق آسيا وصولاً إلى اختتامها بنجاح. مع ذلك، إن مثل هذا السيناريو ليس مضموناً: إن أسطول الغواصات الأميركية أكثر خبرة وأكثر تطوراً بكثير من الناحية التكنولوجية من نظيره الصيني. وبالتالي يمكنه حماية الأسطول الأمريكي على السطح من خلال تتبع وتحييد الغواصات الصينية قرب المياه الوطنية استباقياً. هنا، يمكن لواشنطن الاعتماد على مساعدة محلية: فاليابان، حليفتها الرئيسة في آسيا، معروفة بتفوقها في مجال الحرب المضادة للغواصات. إذ تهيمن قوات الدفاع (عن النفس) البحرية اليابانية على الطرقات التي ينبغي لاساطيل شمال الصين وشرق آسيا استخدامهامن أجل الوصول إلى غرب المحيط الهادئ. ووفق كل الاحتمالات، فإن من شأن هذه القوات أن تشارك سلاح البحرية الأميركية معرفتها الطبوغرافية للمنطقة تحت سطح الأرض في حال القتال، مما يسمح باعتراض السفن الصينية بالفعل قبل تمكنها من الاشتباك مع السفن الحربية الأميركية.
تستثمر الولايات المتحدة أيضاً في التكنولوجيا الخفية، وهو تطور تسعى الصين لمطابقته من خلال برنامجها الخاص المتعلق بطائرات الشبح.

موقع الخدمات البحثية