مواد أخرى » التوجهات الاستراتيجية 2013: التطورات الأساسية في الشؤون العالمية ـ الحلقة الاولى

أندريا بومن، جوناس غراتز وبريم ماهاديفان
Center for Secascii117rity Stascii117dies
تغطية للأحداث حتى تاريخ 4 آذار، 2013
ترجمة: إيمان سويد، خاص لموقع مجموعة الخدمات البحثية


التوجهات الاستراتيجية 2013: اعادة تعريف القيادة
في عام 2012، خلص كُتاب التوجهات الاستراتيجية الى أن أفضل وصف للنظام الدولي هو متعدد الأقطاب (متعدد المراكز). ففي عالم متعدد الاقطاب، تعاني القيادة العالمية من نقص في المعروض بينما تظهر مراكز قوى جديدة وتقود الانقسام السياسي. وفي الوقت نفسه، فإن مصطلح متعدد الاقطاب يعني أن ليس هناك من قطب وحيد يسيطر على جميع أبعاد القوى. وبالتالي، فإن الترابط البنيوي عنصر هام من عناصر تطور النظام الدولي. ولا يزال تحول النظام الدولي لا مستمرا ويثير التحديات على مختلف المستويات المترابطة. وتعكس التوجهات الإستراتيجية 2013 التغييرات الجارية في السياق الجيواستراتيجيا وطبيعة الأزمات المتفشية، فضلا عن الردود التي أثارتها هذه التغييرات.
نتيجة للأزمة المالية العالمية المستمرة، تدهورت القوة الاقتصادية للغرب. لقد كان عمر تطلعاته فيما يتعلق بتنظيم الاقتصاد العالمي قصيراً. وفي الوقت نفسه، كان لتأكيد الذات الصيني المتنامي على خلفية نجاحها الاقتصادي آثار اقليمية وعالمية، على حد سواء، على النحو المبين في مجال الأمن البحري في شرق آسيا.
لذا فإن الولايات المتحدة تهدف إلى طمأنة حلفائها في المنطقة، لكن ضخامة العجز المالي والخفض الوشيك في ميزانية وزارة الدفاع الامريكية يقللان من مصداقيتها وجدوى الطمأنة استناداً إلى الوسائل العسكرية وحدها.
إن معالم حدود التدخل العسكري تتغير. فالكلفة السياسية والمادية لنشر القوات على نطاق واسع في العراق وأفغانستان والاخفاقات الاستراتيجية بتغيير عسكري للنظام، يليه بناء الدولة والترويج للديمقراطية، قد أدى بزعماء الغرب للتفكير بأشكال تدخل أخرى، التي تحوِّل المسؤولية وتنقلها إلى جهات فاعلة محلية وإقليمية. مع ذلك، إن التهديد الإرهابي الذي دفع الى التدخل العسكري الغربي في أفغانستان في المقام الأول يلقي بظلاله، وإن كان ذلك بشكل مغاير. فقد كانت الجماعات الجهادية الاقليمية تطور علاقاتها مع تنظيم القاعدة. وفي حين أن التهديد الإرهابي للبلدان الغربية في الداخل قد تقلص، فإن الاعتداءات الإقليمية التي تؤثر على المصالح الغربية لا تزال ممكنة.
سيكون على القيادة العالمية في المجالات الدبلوماسية، الاقتصادية والأمنية في عالم متعدد الأقطاب التكيف مع الحقائق الجديدة من أجل تلبية هذه التحديات. فالقوة والنفوذ يعتمدان أكثر من أي وقت مضى على القدرة على التنقل واستغلال الشبكات العالمية، لتشكيل شراكات فعالة، والجمع بين أدوات مختلفة من فن الحكم وادارة الدولة بطريقة مرنة، رشيقة وسريعة. وتظل قدرات عرض القوة أمراً هاماً، لا سيما فيما يتعلق بالمشاعات العالمية كالجو والبحر و الفضاء الإلكتروني. ويعتبر الاقتصاد السليم والميزانية المتوازنة في الداخل عنصران حيويان للقيادة العالمية. مع ذلك، إن اللاعبين الرئيسين في النظام الدولي منصرفون عن الأمر ، وذلك بسبب هواجس محلية دائماً. وبالمثل، تناضل المنظمات الدولية للتكيف مع تحولات القوى العالمية. وهذا الأمر يفسح المجال لقلة من المتنافسين، إن وجدوا، لملء الفجوة المتسعة في الحوكمة العالمية.
هناك دلائل على أن الولايات المتحدة، بوصفها الدولة الوحيدة التي لها مصالح في جميع أنحاء العالم والقدرة على عرض القوة على نطاق عالمي، قد بدأت بالتكيف مع الحقائق الجديدة. فقد سعت إدارة أوباما لاستكمال القوة العسكرية مع زيادة التركيز على دبلوماسية متعددة الأطراف وفعالة غضافة إلى التركيز على مجموعة أدوات القوة الذكية المرنة. فضلاً عن ذلك، تحاول الولايات المتحدة تعزيز التحالفات القديمة كمنظمة حلف شمال الأطلسي ( الناتو). بالإضافة إلى ذلك بالإمكان اعتبار ''''إعادة التوازن نحو آسيا ، التي يستشهد بها غالباً، جزءاً من نهج القيادة الجديد للولايات المتحدة. في الواقع، ليس لدى الولايات المتحدة اطماع في هذه المنطقة، لكن في الوقت نفسه يمكنها الاعتماد على شبكة من العلاقات الثنائية. هذه الشبكات من التحالفات المرنة، مع وجود الولايات المتحدة كمرساة، سوف تلعب دوراً أكبر من أي وقت مضى لأجل أميركا كأمة رائدة. وتحقيقاً لهذه الغاية، تواصل أميركا تفوقها البحري كشيء ثمين وهام. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة لا يزال لديها العديد من الصفات الايجابية التي قد تصنع منها قيادة منتعشة وحية من جديد. هذا عرض لحلول مبتكرة لتأمين وضمان المشاعات العالمية مثل الشحن الدولي والفضاء الإلكتروني.
إن الشرط المسبق الأساسي لمستقبل القيادة الأمريكية الحديثة هو ما وصفه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنه بناء الأمة في الداخل. الأهم من ذلك، هنا مهمة ضخمة لإعادة الحيوية لاقتصاد أمريكا. إن عجز الدولة الفادح يتطلب تخفيضات واقتطاعات كبيرة في الموازنة، ليس أقلها في ميزانية الدفاع. في نفس الوقت، إن البنية التحتية في أميركا، مهملة على مدى عقود، وتحتاج إلى إصلاح عاجل. فضلاً عن ذلك، هناك رأي مفاده أن نظام صنع القرار السياسي في الولايات المتحدة أصبح يعاني من اختلال وظيفي أكثر فأكثر.
بالرغم من ذلك، إن فرص الولايات المتحدة بالتعافي ليست سيئة. لقد أدى استخدام الاساليب الحديثة لانتاج البترول والغاز إلى طفرة. هذه الطفرة في النفط والغاز ستحفز الاقتصاد الأميركي بسبب أسعار الطاقة المخفضة وتجعل أميركا مستقلة تقريبابما يتعلق بإمدادات الطاقة. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال المجتمع الأميركي مجتمعاً إبداعياً جداً. إن قدرة أميركا على الجمع بين وسائل القوة المختلفة - المادية وغير المادية - لا تزال قدرة لا مثيل لها. ومع تعزيز اقتصادها، تستطيع الولايات المتحدة أن تقود الغرب لتجميع موارده مرة أخرى. فالتجارة عبر الأطلسي والشراكة الاستثمارية مع الاتحاد الأوروبي، كما صيغت خطوطهما العريضة في بيان مشترك من قبل باراك أوباما ومسؤولي الاتحاد الأوروبي، يمكن أن تصبح جزءاً من هذه الجهود.
ومع ذلك، إن الدروس الصعبة المستقاة من أحد عشر سنة من الحرب في العراق وأفغانستان قد تركت بصماتها على المشاركة الدولية الأميركية. لقد كلف نهج العسكرة المتبع بشكل كبير في الحرب العالمية على الإرهاب دافعي الضرائب الأميركيين حوالي 1.2 تريليون دولار أمريكي في الانفاق العسكري الاضافي مع نهاية عام 2011. أما الحروب في العراق وأفغانستان فقد تسببت بمقتل أكثر من ستة آلاف جندي من الجنود الامريكيين والنساء حتى الآن. لقد كانت إدارة أوباما حريصة على إنهاء الحروب التي ورثتها وارجاع القوات الأميركية إلى الوطن. لقد أظهرت تفضيلاً للقيادة من الخلف و بحثت عن دول شريكة لتولي القيادة، كما هو الحال في العملية التي يقودها حلف شمال الاطلسي في ليبيا. إن الدعم الحذر والمحدود الذي قدمته الولايات المتحدة للعملية الفرنسية في مالي مؤشر يدل على تردد برؤية الجزمة الأمريكية على الأرض، حيث أن طموح البيت الأبيض هو الحد من المساهمة الأميركية في المهمة في أفغانستان بعد عام 2014 إلى أدنى حد ممكن.
من المشكوك فيه، ما إذا كانت الدول الأخرى ستكون قادرة على تولي مسؤوليات القيادة العالمية خارج مجالاتها ونطاقها الإقليمي الخاص بها. ويتوقع مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي (NIC) أن تصبح الصين أقوى قوة اقتصادية بحلول العام 2030. مع ذلك، من المستبعد أن تكون هذه الهيمنة سلسة كما في الماضي، وقد تكتنفها صعوبات داخلية: فساد على نطاق واسع يصل إلى أعلى المستويات في الحزب الشيوعي الحاكم؛ نقص الابتكار بسبب نظام سياسي لا يقوم على مبدأ الخطاب المفتوح؛ مجتمع الشيخوخة نتيجة سياسة الطفل الواحد، وهذا يعني أن الصين قد أصبحت عجوزاً قبل أن تصبح غنية، إضافة إلى القضايا البيئية الضخمة، وتزايد عدم المساواة الاقتصادية. وعلى عكس الولايات المتحدة، التي أصبحت أقل اعتماداً على إمدادات الطاقة، فقد أصبحت الصين أكثر اعتماداً على الطاقة وربما تحتاج قريباً إلى استيراد نصف النفط العربي تقريباً.
لم تظهر الصين حتى تاريخه رغبة كبيرة باجراء تغيير عميق أو استبدال الأنظمة والمؤسسات العالمية القائمة. بل سعت إلى استقطاع استثناءات لنفسها على أساس كل حالة على حدة، بينما استفادت، عموماً، من نظام التجارة المفتوحة، الاستثمار والتمويل. وبالتركيز على التنمية الخاصة للبلد وعلى الاستقرار الداخلي، تجنب القادة الصينيون ،إلى حد كبير، عبء توفير القيادة العالمية وواصلوا الركوب المجاني واستغلالهم للجهود الأميركية لتوفير السلع العامة العالمية، كالأمن وامكانية الوصول إلى التجارة.
هناك مراكز سلطة أصبحت أكثر أهمية، لكن لا يمكن أن يتوقع منها اللعب بنفس التحالف كما تلعب الولايات المتحدة والصين. فلا الهند ولا البرازيل، لو أخذناهما كمثالين بارزين، ستصبحان قياداتان يمكن مقارنتهما بالولايات المتحدة. هذه الدول لها أدوار إقليمية هامة، لكنها غالبا ما تفتقر إلى القوة الناعمة والبراعة السياسية لتشكيل تحالفات دائمة.
في الوقت نفسه، لا تزال أوروبا منشغلة بأزماتها المالية وأزمة اليورو. إن الخطوات الكبيرة نحو مزيد من التكامل داخل الاتحاد الأوروبي ستكون ضرورية في هذا الصدد. وقد يؤدي المزيد من التكامل السياسي أيضاً إلى سياسة خارجية وأمنية (CFSP) أكثر تماسكاً والتي من شأنها أن توفر للقارة العجوز صوتاً موحداً وأكثر حسماً في الشؤون العالمية. مع ذلك ، وفي هذه المرحلة، يبدو التشرذم والانقسام مرجحاً أكثر، لأسباب ليس أقلها أن المملكة المتحدة لا تظهر أي اهتمام في وجود تكامل أعمق ،وحتى أنها قد تترك الاتحاد تماماً. نتيجة لذلك، يرجح أن تبقى السياسة الخارجية والأمنية (سياسة CFSP ) مشلولة.
بالتالي، تعاني الحوكمة العالمية من نقص في المعروض. إذ تفقد مؤسسات دولية هامة نفوذها وتأثيرها. فالعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي لا تعكس واقع القرن 21. فضلاً عن ذلك، تتميز المناقشات داخل هذه الهيئة ، وعلى نحو متزايد، بالانقسام بين الديمقراطيات الغربية (الولايات المتحدة ،فرنسا، بريطانيا) من جهة، والأنظمة السلطوية (الصين وروسيا) من جهة أخرى. كما أن محافل أخرى مثل مجموعة الثماني ( G-8 ) تصبح أقل أهمية هي أيضاً، في حين أن دوائر حديثة، مثل مجموعة العشرين ( G-20 ) ، يعيقها عدد الأصوات الكبير جداً. إزاء هذه الخلفية، لا تزال التحديات الدولية الهامة دون حل: أزمة اقتصادية دولية مستمرة، دول فاشلة وهشة فضلاً عن حروب أهلية، تغير المناخ، انتشار أسلحة الدمار الشامل ومنظومات إطلاقها، الإرهاب الدولي والقرصنة، وهذا على سبيل المثال فقط لا الحصر.
مع الالتفات لهذا الأمر، يركز الاصدارالحالي لـ التوجهات الاستراتيجية على أربع اتجاهات توضح كلا من التحديات الحالية والردود البارزة عليها: اجتثاث التغريب من العولمة، انعدام الأمن البحري في شرق آسيا، تحول معالم حدود إدارة الأزمات العسكرية، والإندماج بين البعد القاعدي ( نسبة الى منظمة القاعدة).
اجتثاث التغريب من العولمة
نتيجة للأزمة المالية العالمية ، بدأت المشاكل الاقتصادية للدول الصناعية الغربية تصبح أكثر وضوحاً. لقد شوهت هذه الأزمة الثقة في النموذج الاقتصادي الغربي. نتيجة لذلك، تضاءل نفوذ الغرب الاقتصادي نسبة إلى الأسواق الناشئة، أهمها الصين. مع ذلك، يبقى الاقتصاد العالمي متكاملاً إلى حد لم يسبق له مثيل في التاريخ.
في هذا السياق، تحول التركيز السابق للزعماء الغربيين من بناء اقتصاد عالمي مفتوح إلى التركيز على الصلات والروابط بين الاقتصاد و الأمن القومي وباتجاه بحث يائس عن النمو. وبدلاً من الدعوة إلى مخطط اقتصادي، أصبح الزعماء الغربيون أكثر انتقائية حول التكامل الاقتصادي. لقد أصبحت الأسواق أكثر تسييسا مع ازدياد المخاوف بشأن الأمن القومي الأمر الذي أدى إلى بناء حواجز جديدة أمام الاستثمار. فاتفاقيات التجارة الحرة الإقليمية والثنائية لها اسبقية وأولوية على حساب أجندة التجارة العالمية. كما أن تخفيف القيود النقدية يضع الأسواق المالية تحت رحمة البنوك المركزية.
هذه السياسات قد تحدث نمواً على المدى القصير، لكنها تزيد من المخاطر الاقتصادية واحتمالات الصراع في الاقتصاد العالمي. أكثر من ذلك، هم لا يفعلون شيئاً لإحياء القيادة الاقتصادية للغرب. وإلى أن يحدث هذا، على الغرب أن يجمع موارده ويقوم بإصلاح اقتصاده السياسي في الداخل.
انعدام الأمن البحري في شرق آسيا
إن التراكم العسكري في شرق آسيا سبب لإيلاء اهتمام خاص للأمن البحري في هذه المنطقة. فعلى خلفية تزايد النزعة القومية البحرية إلى جانب وجود تراكم كبير لقواتها البحرية، تجعل الصين الوضع الراهن في المنطقة موضع تساؤل. نتيجة لذلك، فإن الصراعات الناشئة هي على مستويين: المنازعات البحرية بين الصين وجيرانها الأصغر حجماً، والتوترات بين الصين والولايات المتحدة الأوسع نطاقاً. فمن نواح كثيرة، تعتبر التوترات الأخيرة ذات صلة بواقع هو أن اعادة التوازن الأميركي نحو آسيا دافعه رغبة واشنطن في طمأنة حلفائها الآسيويين. وبالنسبة للمستوى الأول، تحدد بكين بحر الصين الجنوبي باعتباره مصلحة وطنية جوهرية. وتفصح الصين عن مزاعمها ومطالباتها الإقليمية في تلك المنطقة (ومعظمها يتألف من جزر صغيرة)، الأمر الذي يقابله مقاومة من قبل عدد من الدول المجاورة للصين. وليس مستغرباً أن يكون هناك شعور مشترك بعدم الثقة بين جيران الصين بخصوص نواياها.
أما فيما يتعلق بالمستوى الثاني، أي التوترات بين الصين والولايات المتحدة، فإن قضية تايوان هي المحور. إذ تقول بكين ان تايوان مقاطعة صينية. ولمنع البحرية الأميركية من الوصول إلى مضيق تايوان في حال النزاع، تطور الصين، من جملة أمور أخرى، عقيدة حرمان الدخول إلى المنطقة. إن شراء الصواريخ الحديثة الباليستية المضادة للسفن، ومهاجمة الغواصات وحاملات الطائرات جزء من هذه الجهود. في الوقت نفسه، ترد الولايات المتحدة بعقيدة المعركة الجوية- البحرية. وتهدف هذه المبادئ التوجيهية إلى الاستفادة من التفوق الموجود لدى البحرية الامريكية في الحرب المضادة للغواصات، وإلى الاستفادة من دعم الاستخبارات المحلية من جانب حلفائها الآسيويين، إضافة إلى الضعف التقني الموجود في عقيدة حرمان الدخول إلى المنطقة. ورغم أن نتيجة هذا السباق العقائدي هو الاحتمال بأن تشهد المنطقة مزيداً من العسكرة، فإن هذا لا يجعل من المواجهة العسكرية أمراً لا مفر منه.
التحول في معالم حدود إدارة أزمة عسكرية
شهد العقد الأخير عمليات عسكرية دولية كبرى للتعامل مع تهديدات وأزمات في الخارج. لقد كانت هذه العمليات تهدف إلى منع الدول الهشة من العمل كمراكز تنفيذية للأنشطة الإرهابية العالمية. أما اليوم، فإن واضعي السياسات وكذلك جماهيرهم مستاؤون إلى حد كبير بشأن نجاح الدولة في الاستراتيجيات العسكرية وبناء الأمة. إن الوضع الحالي في أفغانستان مثال على ذلك. فالفساد، وشبكات المحسوبية، وانعدام الأمن البشري أمور سائدة هناك، على الرغم من أن الولايات المتحدة وشركائها في الائتلاف قد أنفقوا مليارات الدولارات، وخاطروا بحياة الآلاف من الجنود والموظفين المدنيين. إذ يبدو الجيش الوطني الأفغاني ضعيفاً جداً ليتمكن من الحاق الهزيمة بمتمردي طالبان، كما أن اقتصاد أفغانستان لا زال يعتمد على سوق المخدرات غير المشروعة.
لم يتبق لدى دوائر صناع القرار الغربيين رغبة كبيرة للقيام بانتشار واسع للقوات العسكرية. بل تسعى الدول الغربية إلى تحويل معالم حدود مشاركاتها من خلال التركيز والتأكيد أكثر على تقاسم الأعباء مع شركائهم المحليين والإقليميين. إن المقصود من بناء القدرات الوقائية والتدريب، المشاركة أثناء العمليات، إضافة إلى معايير معدَّلة أو جيدة كفاية للانسحاب في أعقاب القتال، هو السماح بوجود بصمة غربية أخف على امتداد النزاع كله. فالفكرة هي أن العمليات التي تخص جهات فاعلة محلية وإقليمية وقيادتها سوف تكون أكثر استدامة وتستفيد من حصولها على شرعية سياسية أكبر. إن القيادة من الخلف أمر يتوافق مع دروس مستفادة من تجارب ماضية كما ينسجم مع القيود السياسية والمالية المعاصرة في الغرب.
وعما إذا كانت هذه الأساليب سوف تكون أكثر نجاحاً فأمر رهن المستقبل . ففي غياب القيادة القوية، من المحتم أن يظل خليط المساهمات من جانب مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة هشاً. فضلاً عن ذلك، تثير الشراكة مع القوى المحلية والإقليمية تساؤلات أخلاقية، سياسية وعملية هامة. إن عزوف الدول الغربية وترددها بنشر العسكر على الأرض قد يترك ثغرات مصيرية حاسمة في إدارة الأزمات الدولية. وكما ثبت بالطبع في التدخل الأخير في مالي، لا تزال القدرة على الاستجابة السريعة أمراً حاسماً. فضلاً عن ذلك، وفي أعقاب التدخل، يعتبر وجود الأمن على المدى الطويل مطلوباً لدعم نزع السلاح، التسريح وإعادة الإدماج، منع عودة العنف وعدم الاستقرار أو انتقالهما إلى البلدان المجاورة، وإصلاح القطاع الأمني.
الإندماج بين البعد القاعدي
أن يكون التدخل العسكري لا يزال أمراً أساسياً وجوهرياً فإن ذلك ما حددته التطورات الأخيرة في مالي. في الواقع لا يزال خطر الإسلام الراديكالي، في شمال أفريقيا وفي أماكن أخرى كذلك، قائماً. فمع بداية الثورة العربية ووفاة اسامة بن لادن في 2011، أزيلت بعض العقبات من أمام المظاهر المحلية للنشاط الجهادي الدولي. فقد طورت الجماعات الجهادية الإقليمية علاقاتها مع شبكة بن لادن. إن صياغة صلات وثيقة مع تنظيم القاعدة ومع بعضها البعض يساعد هذه الجماعات على تجاوز الضغط من قبل أجهزة مكافحة الإرهاب.
وكانت النتيجة زيادة في الطبيعة القاتلة للنشاط الإرهابي الإقليمي المستوحى من الارهاب القاعدي. هذا الاتجاه له جذوره من بدايات تنظيم القاعدة نفسها، التي سعت ، على امتداد التسعينات، إلى بناء علاقات مع الجماعات الإسلامية الراديكالية الأخرى التي يمكن أن تنافسها على المجندين والأموال، لو كان الامر بخلاف ذلك. ومن خلال خلق ائتلاف إرهابي عالمي لمحاربة الغرب وإسرائيل في عام 1998، تحول تنظيم القاعدة نفسه من كونه شبكة منظمة تنظيماً فضفاضاً ورخواً الى تنظيم هرمي ذي إيديولوجية فريدة من نوعها. وعلى الرغم من أن المنظمة قد تكبدت خسائر فادحة منذ عام 2001، فإن مواصلتها للإيديولوجية الجهادية لا زالت قوية، تتولاهه الجماعات التابعة التي التفت حولها وتقاسمها رؤيتها. ورغم أن الدول الغربية قد تقلص فيها خطر وقوع هجوم إرهابي، فإن المصالح الغربية في الخارج معرضة الآن إلى تهديدات جديدة من قبل جهاديين إقليميين.
إعادة تعريف القيادة
القضايا التي تمت مناقشتها في التوجهات الاستراتيجية 2013 تلعب كلها على المستوى الإقليمي فضلاً عن العالمي: الأسواق الإقليمية والعالمية؛ الصراعات الإقليمية في آسيا و العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، الصراعات الإقليمية والتدخل، وكذلك الحالة القاعدية على المستويين الإقليمي والعالمي. وهذا يعكس سمة رئيسة لتطور النظام الدولي – ما يعني أن للأحداث الإقليمية أو حتى المحلية تداعيات عالمية.
هذه التحديات ترفع الرهانات على قيادة وزعامة عالمية أكثر تكون أكثر رشاقة ومرونة. ويوجد دلائل على أن الولايات المتحدة تتكيف مع هذا المطلب وتسعى إلى إعادة تعريف دورها العالمي. لقد أصبح التوازن الناعم من خلال شبكات من التحالفات والعلاقات الثنائية أمراً أكثر أهمية من التدخل العسكري. مع ذلك فإن دوراً قيادياً أكثر تحفظاً حتى، يؤكد على الشراكات وتقاسم العبء يتطلب من الولايات المتحدة الحصول ترتيب بيتها المالي لتجاوز حصارها الداخلي الحالي. عندها فقط يمكن أن تقود الغرب لاستعادة القوة الاقتصادية. في الوقت نفسه، إن إعادة تعريف دور القيادة بالنسبة للولايات المتحدة يعني المزيد من المسؤولية بالنسبة لشركاء أمريكا مثل أوروبا.
إن الأزمة الاقتصادية الجارية، فضلاً عن الخلاف بين تلك البلدان الموجودة في الاتحاد الأوروبي الذين يريدون اندماجاً أكثر وبين أولئك الذين يريدون اندماجاً أقل، يعني بأن أوروبا ستعاني من وقت عصيب في تلبيتها مثل هذه التوقعات. إن الاعتماد المتبادل بين واشنطن وبكين سيظل أحد العوامل التي ستستمر إدارة أوباما بأخذها بعين الاعتبار بينما تعيد تحديد نطاق سياستها الخارجية. في النهاية، لا تزال الولايات المتحدة القوة الوحيدة التي على استعداد لتحمل المسؤولية العالمية. هذا هو سبب كون عملية إعادة تعريف دور قيادتها أمراً مهماً جداً.
الفصل الأول: اجتثاث التغريب من العولمة
جوناس غراتز
إن التكامل الاقتصادي العالمي لم يسبق له مثيل. مع ذلك، فإن جاذبية العولمة تتلاشى. فبينما ظهر النمو بوصفه المحور الرئيس للقادة السياسيين الغربيين، فإنهم الآن آخذون في تغيير القواعد لكبح جماح العولمة. لقد قامت حدود جديدة للاستثمار وتحل اتفاقيات التجارة الحرة مع شركاء مختارين ، وبشكل متزايد، محل القوانين والأحكام العالمية. لقد ازدادت امدادات المال لتغذية النمو، لكن هذا يساعد على تشويه الأسواق ويرفع المخاطر المستقبلية. إن السلطة تتحرك الى الواجهة وتنظر إلى الشواغل الاقتصادية وهواجس الأمن القومي مجدداً على أنها أموراً مترابطة. وعما إذا كان الغرب يستطيع استعادة الزعامة العالمية فإن ذلك سيعتمد على قدرته على حل المشاكل الداخلية وإعادة صياغة أجندة اقتصادية متماسكة.
بعد أكثر من خمس سنوات على بدء الأزمة المالية العالمية مع انفجار فقاعة سوق الإسكان في الولايات المتحدة، حدث تحول تام في الاقتصاد العالمي. وتطورت الصين لتصبح جاذب النمو في شرق آسيا وبرزت كمنافس سياسي. لقد كان الصعود السريع للصين نتيجة نظام سياسي مغلق، قادر على انفتاح انتقائي يصل به الى المنافسة العالمية ، مع الاستفادة من العمالة الرخيصة . لقد أدى إجماع بكين ''''إلى تشوهات اقتصادية، كانت مقدمة لأزمة مالية. أما بلدان الأسواق الناشئة الأخرى مثل الهند، البرازيل وروسيا فكانت أقل نجاحاً، لكنها مع ذلك تشكل إضافة إلى مجمل الصورة لغرب ضعيف اقتصادياً. إن كوريا الجنوبية استثناء، إلا أن الولايات المتحدة والعديد من دول الاتحاد الأوروبي واليابان مثقلة كلها بمشاكل اقتصادية متراكمة.
بدأت الدول الغربية، كونها شجعت سابقاً الانتشار العالمي للأسواق واندماج بلدان جديدة في الاقتصاد العالمي، تصبح أكثر انتقائية بشأن العولمة الاقتصادية في السياق الجديد. إذا كان هناك من يريد العثور على أمثلة اليوم عن إجماع واشنطن فإن واشنطن، طوكيو أو بروكسل قد لا تكون أفضل الأماكن المقصودة. ومع الإدراك بأن الأسواق الحرة ستتسبب بكلفة تعديل وتكيف محلية مرتفعة، يعاني القادة الغربيون والبنوك المركزية من أحكام استثمارية خارجية أكثر تقييداً ومن سياسات نقدية غير تقليدية كالاستخدام المفرط للمطبعة ( سك النقود). لكن هذه الاجراءات ليست مدمجة في إطار اقتصادي جديد.
لقد تعزز الرابط بين الاقتصاد والمخاوف الأمنية الوطنية. فالسياسة الخارجية للولايات المتحدة تتغير، بالاقتران مع تغير العلاقات الاقتصادية والأمنية بطريقة مرنة. هذه الأفعال هي بمثابة علاج مؤقت للتصدعات الحالية في الاقتصاد الأمريكي. لكن مع ضعف الاتحاد الأوروبي، يفقد الغرب سلطة ارساء القواعد في الاقتصاد العالمي ، وليس هناك من لاعب مستعد لتولي هذا الدور. هذا هو المقلق بالنسبة للاقتصاد العالمي، الذي لا يزال في حالة لم يسبق لها مثيل من الترابط، انما يجري تسييسه على نحو متزايد.
عالم غير مطبق: التجارة الحرة، التقارب، خير ورفاه المستهلك
rsgleb10062013_1761في بداية القرن 21 ، كانت هناك آمال كبيرة معلقة في أن يكون عالميْ التجارة الحرة والعولمة الأدوات الرئيسة في إحداث تطوير وتعزيز انتشار القيم الغربية في الخارج. كان الانفتاح الاقتصادي وتعزيزه بنداً رئيساً على جدول الأعمال. وقد بررت الآثار السياسية المفترضة التضحيات المؤقتة مثل ارتفاع معدلات البطالة في نظر القادة الغربيين، خاصة إدارة كلينتون في الولايات المتحدة. اشتمل إجماع واشنطن على مجموعة كاملة من السياسات الهادفة إلى إصلاح السوق و الخصخصة، التي من شأنها أن تجعل الدول تتخلى عن سياسات الدولة المشوهة وتؤدي إلى مزيد من الرعاية والرفاه.
إن نظامها السياسي المغلق وحجمها الكبير يعني أن الصين كانت أرض الاختبار الرئيس للعولمة الغربية. فبما أن الولايات المتحدة كانت قد منحت الصين علاقات تجارية طبيعية وقُبلت في منظمة التجارة العالمية في عام 2000، فقد كان من المتوقع أن يقوم الحزب الشيوعي الصيني (CCP) بفتح الاقتصاد الصيني واصلاح النظام السياسي تدريجياً. وكان العجز التجاري مع الولايات المتحدة مرتفعاً بالفعل في ذلك الوقت، لكن الاعتقاد السائد كان بأن الانفتاح سيدفع بالانقسامات السياسية إلى وقت لاحق، وبأن دخول منظمة التجارة العالمية سيخفض، على الأقل، من العجز التجاري مع الصين. في هذه الأثناء، يبلغ رفاه المستهلك حده الأقصى في الغرب، حيث أن من شأن انخفاض أسعار السلع الاستهلاكية أن يجعل الميزانيات المنزلية ترتفع. هذا التركيز على التجارة كأداة اقتصادية وسياسية كان متجسداً أيضاً في جدول أعمال الدوحة للتنمية التابع لمنظمة التجارة العالمية، الذي أطلق عام 2001.
مع ذلك، اتخذت الأمور منحىً مختلفا، وسرعان ما انكشف قناع الغطرسة الغربية. فقد فشل الفيضان السياسي المقصود بالتجسد واقعاً وأصبح جدول أعمال الدوحة مستنقعاً. أما اقتصادياً، فقد تقدمت التجارة بسرعة في الواقع، وأضيف الملايين من الناس إلى الطبقة الوسطى العالمية، لكن الإصلاحات السياسية كانت أقل اقبالاً. ما أن ازدهرت الأسواق الناشئة، حتى نمت بشكل أكثر وطنية، بدلاً من أن تصبح أكثر انفتاحاً على تأثير الغرب وأفكاره. أما التطور الأهم في هذا الصدد فقد كان نجاح الصين، الذي وجد صدىً واسعاً عبر الأسواق الناشئة الأخرى.
صعود الصين
قامت الصين بإصلاح بالفعل، لكن الإذن بزيادة المنافسة الاقتصادية وتهميش أجهزة التخطيط المركزي أدى في نهاية المطاف في اعادة المركزية السياسية. لقد تعززت سيطرة الحزب المركزية ورأسمالية الدولة، ما أبقى السادة المحليين مسيطرين بشكل محكم وإنهاء اختبار الثمانينات. هذا الأمر منع المنافسة الاقتصادية الإقليمية من الامتداد إلى نزاع سياسي. وتعززت المؤسسات الاقتصادية الكلية وتمت خصخصة أجزاء من الاقتصاد، في حين وضعت أهم القطاعات الاقتصادية تحت السيطرة المركزية. وبالتالي فقد قام الحزب الشيوعي الصيني ( CCP ) بتربيع الدائرة بين المنافسة الاقتصادية والسلطة السياسية.
في التسعينات، كان القطاع الحكومي يضيق بشكل كبير كبير بسبب سياسة إغلاق أو خصخصة شركات صغيرة حكومية غير مربحة. مع ذلك، وفي نفس الوقت، عززت بكين سيطرتها على أهم القطاعات الاقتصادية. فقد تم وضع نحو 200 شركة حكومية مملوكة للدولة (SOEs) تحت السيطرة المركزية. كانت هذه الشركات ناشطة وفاعلة في قطاعات اقتصادية استراتيجية ، كالتمويل، الموارد الطبيعية، المعادن، تكنولوجيا المعلومات، والبنية التحتية. وما أن زادت ربحيتها، حتى أصبحت توفر قاعدة سياسية واقتصادية هامة لكوادر الحزب المركزية. وتعززت سلطة الحزب الشيوعي الصيني أيضاَ بسبب التدفق الكبير للعملات الأجنبية التي تراكمت في مصرف الصين الشعبية و صندوق الثروة السيادية للصين .
كانت الشركات الحكومية (المملوكة للدولة ) والشركات الخاصة المختارة قادرة أيضاً على زيادة تأثير الحزب الشيوعي الصيني في الساحة الدولية. وتم الترويج لـ أبطال وطنيين على المستوى العالمي من خلال مختلف المزايا بما في ذلك إمكانية الحصول التفضيلي على الأرض والائتمان المدعوم ( ائتمان الاعانات المدعومة)، التي توفرها لهم المصارف الحكومية ( المملوكة للدولة). وتُستخدم الشركات الحكومية لتنفيذ الاهداف السياسية للحكومة في تنويع الموارد الاقتصادية وكفاية الموارد وتشكل حوالي 70٪ من الاستثمار الخارجي.
لقد منحت الأزمة المالية الرأسمالية الحكومية في الصين المزيد من الدفع الى أعلى. في الواقع، لقد انقلب الدفع نحو المزيد من خصخصة الشركات الحكومية في أعقاب الأزمة المالية. فعلى الرغم من انكماش عدد الشركات الحكومية المركزية إلى 117 شركة، فإن حجمها تضاعف أربع مرات تقريباً بين عامي 2002 و2011. إذ تشكل الشركات الحكومية الآن حوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي الصيني. فضلاً عن ذلك، يتم مراقبة شركات أكبر في القطاع الخاص بمساعدة خلايا حزبية، والتي توفر معلومات حاسمة وحساسة.
ما أن أصبحت في منظمة التجارة العالمية، حتى أعطت الرأسمالية الحكومية ( الشركات التي تسيطر عليها الدولة ) للحزب الشيوعي الصيني اشارة البدء في سباق المنافسة العالمية. وكانت طرق ليْ القوانين لجني أقصى حد من المكاسب من الاستثمارات الأجنبية سهلة. ففي معظم الصناعات، الإنتاج المحلي مطلوب. إذ يُجبر المستثمرون على تشكيل مشاريع مشتركة مع شركاء محليين، وعلى نقل التكنولوجيا والتمويل بينما هم سائرون في هذه المشاريع. وكان هناك دافع للتقليد بسبب التراخى الموجود في حفظ حقوق الملكية والحس الوطني الصيني الواضح، الذي غالباً ما يؤدي إلى انخفاض في مستوى الولاء لصاحب العمل الأجنبي. لقد ظهر جسم كامل من ادبيات كيفية حماية الأسرار التجارية في الصين. بالإضافة إلى ذلك، منحت معايير وطنية منفصلة وغيرها من العوائق قصب السبق لمصنعين محليين كجزء من استراتيجية الابتكار الأصلية ( وطنية). وقد يحدد الحزب الشيوعي الصيني، أيضاً، مواقع المصانع من أجل تحفيز التنمية في المناطق الحدودية، مثل شينجيانغ المتخلفة التي تعاني من أعمال العنف والموجودة في شمال غرب الصين.
على الرغم من هذه الظروف، كانت الشركات متعددة الجنسيات سعيدة بالقيام بالاستثمار، يغريها بذلك انخفاض تكاليف العمالة والطلب الصيني الضخم. وكان الدافع وراء انخفاض التكاليف القيمة المتدنية لسعر صرف اليوان، التي كانت بمثابة الضرائب على الواردات في الوقت الذي تدعم فيه الصادرات.وأصبحت الشركات متعددة الجنسيات بمثابة سفراء أساسيين للصين، دافعة باتجاه مزيد من الانفتاح المستمر والبروز المتدني في الغرب. وبالتالي أدت الإصلاحات إلى نمو سريع. ففي غضون عشر سنوات، صعدت الصين من المرتبة السادسة إلى ثاني اكبر اقتصاد في العالم. كان هناك تقارب في مستويات المعيشة وكانت المشاريع الخاصة في ازدهار، لكن الحزب الشيوعي الصيني لا يزال في وضع السيطرة على المحاور الأساسية للاقتصاد وعلى نظام الحكم.
اجماع بكين
شجع نجاح الصين وتشوه سمعة إجماع واشنطن أسواقاً ناشئة أخرى على التطلع صوب اجماع بكين . وتشكل مكوناته، كالنمو الذي تقوده الصادرات، الإصلاح التدريجي بدل السريع، الابتكار والابداع الوطني والتجريب، والرأسمالية الحكومية السلطوية، قائمة طلبات بدلاً من أن تشكل قائمة متطلبات. ينبغي أيضاً إضافة القومية النخبة إلى هذه القائمة، بما أن الإصلاحات الإضافية، فضلاً عن السلطوية، عرضة للتدهور في طريق فاسد أكثر بكثير في غيابها. بالتالي، سوف يواجه الإجماع صعوبات عند تطبيقه في بلدان أخرى. إن اعتماد النجاح الصيني على امدادات العمالة المنخفضة الكلفة لتسخيرها في الأسواق العالمية يجعل هذه النقطة أكثر صراحة. ومن غير المستغرب ألا تكون الصين قد حاولت صراحة أن تصوغ نموذجها ناهيك عن تصديره إلى بلدان أخرى حتى الآن.
أسعار الصرف الاسمية الفعالة
مع ذلك، كانت البرازيل تتطلع نحو التجربة الصينية، تنفيذ القوانين المحلية المضمون وتشكيل أبطال وطنيين أيضاً. وتنظم برازيليا الآن، التي تفتقر إلى العديد من الأدوات التي بإمكان بكين حشدها، دمجاً لشركات القطاع الخاص بمساعدة المصارف الحكومية ( المملوكة للدولة).
تبنت روسيا رأسمالية الدولة، التي اتخذت منعطفا نحو الريعية بدلاً من التنمية. فلطالما حمى الكرملين التصنيع المحلي والرأسماليين المحليين من الأسواق العالمية، والمحلية، وبذلك كانت القوانين المحلية المضمون، التعريفات الجمركية على الواردات، والقيود على الاستثمار الأجنبي المباشر من الخارج شائعة. إن جهود روسيا الرامية إلى تشكيل أبطال وطنيين تقوم أساسا على قطاع الأنشطة الاستخراجية.
يستند اقتصاد الهند على الشركات والمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم فضلاً عن قلة من التكتلات والتجمعات العائلية الكبيرة ، لذا فقد كان تطوير أبطال وطنيين أقل نجاحاً: كان للصين حصة سبع شركات في قائمة أعلى خمسين شركة في مجلة فوربس العالمية لعام 2000، وكان للبرازيل ثلاث شركات، ولروسيا واحدة، إلا أن أكبر شركة في الهند جاءت في المرتبة 124. بدلاً من ذلك، كانت الهند تحاول ان تنمي التصنيع المحلي باستخدام أساليب أقل تطفلاً، مثل القوانين المحلية المضمون ، الامتيازات الضريبية، والدعم الحكومي. مع ذلك، ومن دون عامل استقرار حكم الحزب الواحد، ما كان لأي من هؤلاء اللاعبين ليصل إلى للانسجام السياسي وتطور ونجاح الصين.
الأزمة العالمية: الاقتصاد واعادة الاندماج الأمني
أما بما يتعلق بقسم كبير من العقد الأخير من القرن الماضي، فقد بدا بأن العولمة الاقتصادية مؤاتية لتثمر نتائج مستحسنة بالنسبة للبلدان المتقدمة والأسواق الناشئة، على حد سواء. فقد وسعت الأسواق الناشئة وبسرعة، الصين أولاً، حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وحيث أن أجزاءً من سكانها كانوا قادرين على شق طريقهم للخروج من حالة الفقر، فقد تحولت الأسواق الناشئة إلى مراكز جديدة للطلب العالمي . أما في الغرب المتقدم، فقد سمح التوريد الأرخص ثمناً لسلع تجارية ورؤوس المال من الخارج باستمرار ارتباط النمو السريع بانخفاض معدلات التضخم التي كانت موجودة واقعاً منذ منتصف الثمانينات. لقد سمحت التكاليف المنخفضة للمستهلكين على الصعيدين الخاص والحكومي، على حد سواء، برفع الاستهلاك والتخفيف من تكاليف الحرب على الإرهاب وحرب العراق الكارثية. هذا الأمر أبقى كلفة ارتفاع معدلات البطالة والزيادة الضحلة للأجور متدنية. بالإضافة إلى ذلك، كان بإمكان الشركات الغربية زيادة أرباحها بشكل رائع نتيجة لانخفاض كلفة العمالة والتمويل . وبالتالي، تمتع الغرب تماماً بمخدر السلع الرخيصة ورؤوس المال.
غيرت الأزمة المالية العالمية المنظور الغربي للاقتصاد. فلم يعد التركيز على مزايا العولمة؛ بدلاً من ذلك، لقد انتقلت كلفة العولمة الى الواجهة الآن. إذ ينظر إلى عجزالحساب الجاري المتزايد للعديد من الدول الغربية، بعدما فُسِّر مرة باعتباره علامة على الثقة بالدولار الأمريكي والسيولة الزائدة في النظام المالي العالمي، يُنظر إليه الآن باعتباره عبئاً على الاقتصاد، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة. فلم يعد يفسر سجل حجم الديون على أنه مسارات استهلاك زمانية مثلى ، وانما ينظر إليه على أنه تحد للنمو الاقتصادي.
ظهر الغرب ضعيفاً من الأزمة، ليس فقط اقتصادياً، لكن أيضاً سياسياً وفكرياً. ورغم أن الولايات المتحدة لا تزال الدولة القيادية بلا منازع في الشؤون الأمنية، فإن الوضع بكليته وضع غير مسبوق في نظام ما بعد الحرب. لم يكن المنافس الرئيس للولايات المتحدة، أي الاتحاد السوفياتي، مندمجاً في سلسلة القيمة العالمية وكان يلعب وفق قواعد لعبة اقتصادية مختلفة تماماً. كان بالإمكان احتواؤه، وتعثر في نهاية المطاف. أما الدول المنافسة الأخرى، كألمانيا واليابان، فقد شكلت تحدياً كان ذي طابع اقتصادي فحسب، بما أنهما كانتا مدمجتين في النظام الغربي. وكان التحدي ، بالمقارنة، صغيراً جداً أيضاً. أما الصين، على النقيض من ذلك، فلم تتحول إلى حليف، ولا هي اصبحت جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي، يمكن احتواؤه بطريقة مماثلة كما كان الحال مع الاتحاد السوفيتي. إن التكامل والاندماج في سلسلة الإنتاج والأسواق المالية يعني أن التطورات الاقتصادية في الغرب المتقدم لها تأثير مباشر على الصين، وهي علاقة يصدق فيها الاتجاه المعاكس كذلك.
في هذا الوضع الجديد، يلتقي الترابط غير المسبوق والاعتماد المتبادل من ناحية مع تزايد التنافس من ناحية أخرى. هذا الأمر يعمل على جلب العلاقة بين العسكر وإدارة الدولة الاقتصادية الى الواجهة مرة أخرى. إن توفير الأمن وإدارة الدولة لا زالا يشكلان العمود الفقري الرئيس للقوة الاقتصادية الأميركية في الاقتصاد العالمي، بما أن الأسواق الناشئة ودول غربية اخرى، على حد سواء، تعتمد على الولايات المتحدة لتوفير بيئة اقتصادية آمنة. مع ذلك، لقد أصبح توازن المصالح في هذه العلاقة المعقدة أكثر هشاشة، في الوقت الذي تتقدم فيه الأسواق الناشئة.
الدينامية الاقتصادية تتحرك شرقاً
كشفت الأزمة عن التصدعات الموجودة في الاقتصاد العالمي، معرية نقاط الضعف الموجودة في بنية العديد من الاقتصادات الغربية ونقاط الضعف المقابلة لها لاقتصاد عالمي يعتمد على الطلب الغربي. إن تدمير الطلب سيضرب الصين أولاً، مع وجود تداعيات ضخمة على الشركاء التجاريين للصين من آسيا، أوروبا، أفريقيا، وأميركا اللاتينية - باختصار، تداعيات بالنسبة للاقتصاد العالمي. إن الركود الاقتصادي يشكل خطراً على الاستقرار السياسي العديد من الأسواق الناشئة، ليس أقلها الصين. انعكاساً لهذا الضعف، شرع العديد من الأسواق الناشئة بالعمل على برنامج تحفيز شديد خلال الأزمة، مما سمح ببعض الفصل المؤقت. لقد ساعد الإنفاق التحفيزي في الأسواق الناشئة أيضاً على رفع الاقتصادات الغربية الموجهة للتصدير للخروج من الركود، وهي علامة على أن الاقتصاد العالمي تطور ووضع عل طريق باتجاهين.
إن إحدى العلامات على فك الارتباط هذا هي أن أقلمة التجارة في شرق آسيا قد تعززت. لقد التقطت التعاملات التجارية الاسيوية الفرصة في عاميْ 2010- 2011 بشكل أسرع بكثير من التجارة العالمية، مما يشير إلى مزيد من التكامل الإقليمي لسلسلة الإنتاج . بعد الأزمة، أصبحت الصين أكثر أهمية باعتبارها محرك إقليمي اقتصادي: لقد زادت الصادرات الآسيوية للصين بشكل ملحوظ، في حين انحدرت الصادرات لبلدان الاتحاد الأوروبي الـ 27 والولايات المتحدة قليلاً، سواء بالنسبة للصين أم لباقي دول آسيا. كما أن التجارة بين الأسواق الناشئة الأخرى وآسيا ترتفع هي أيضاً، لتوفر بذلك بديلاً للأسواق الغربية: زادت حصة صادرات البرازيل إلى الصين إلى أكثر من الضعف بين عامي 2008 و 2011.
الدين السيادي والاعتماد الوطني على التمويل الخارجي
إن المؤشر الإيجابي الآخر هو أن الانفاق الحكومي خلال الأزمة لم يكن له تأثير كبير على الدين الحكومي في الأسواق الناشئة. لا يزال هناك قوة نارية أساسية للتعامل مع أزمات مماثلة بطريقة الكينزية، التي تجعل آفاق النمو أكثر قوة. فالدين العام هو بمتوسط 40٪ تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي. وترفع البرازيل والهند هذا الرقم، حيث تتجاوز ديونها العامة مستوى 60٪. لكن بفضل ارتفاع معدلات النمو، بدأت كل الأسواق الناشئة لدول مجموعة العشرين تقريباً ( G20 ) تقليص المديونية بعد الأزمة.
وفي الوقت نفسه، تظل المدخرات عند مستوى عال جداً، غالباً ما بين 30-60٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ويعود ارتفاعها، جزئياً، كاحتياطي أجنبي، إلى النمو الذي تقوده الصادرات وتدخل العملة وإلى المدخرات المحلية، في جزء آخر. إن احتياطيات الصين هي الأعظم حتى الآن، مع وجود مزاعم خارجية تتخطى الآن المزاعم الأجنبية تجاه الصين بربع الناتج المحلي الإجمالي الصيني. إن ثلثي هذه الأصول الأجنبية ممسوكة بصفتها احتياطي أجنبي ويقوَّم حوالي 60٪ من هذه الاحتياطيات بالدولار الأمريكي.
هذا الأمر يكشف عن أن الاعتماد الأساسي لشرق آسيا في الغربية على الأداء الغربي مستمر ومتواصل، ليس أقله في المجال المالي. أيضاً، وبما يتعلق بخلق الناتج المحلي الإجمالي، لم يحل الطلب المحلي محل نموذج التطور والتنمية المكثفة للصادرات ورؤوس المال في الصين. بالتالي، من غير المرجح لفك الارتباط هذا أن يجعل تحفيز الدولة أمراً مستداماً. هناك حاجة ماسة لإصلاحات اقتصادية للتحول إلى نموذج اقتصاد ذي دافع استهلاكي أكبر. إن ارتفاع قيمة اليوان في الآونة الأخيرة ما هو إلا خطوة في الاتجاه الصحيح فحسب.
والآن بعدما أصبحت الصين محرك النمو لشرق آسيا، سوف يكون لمصير اقتصادها تداعيات خطيرة على المنطقة والاقتصاد العالمي. إن التغييرات على النموذج الاقتصادي الصيني أمر ضروري حيث أصبحت البيئة الاقتصادية الخارجية أقل سخاء مما كانت عليه خلال العقد الأخير من القرن الماضي. فمنذ عام 2008، تطور الاقتصاد تدريجياً باتجاه المزيد من المهام المبتكرة، والتكنولوجيا الفائقة، و يبدو أن إعادة التوازن البطيئ باتجاه الاستهلاك الخاص جار الآن. مع ذلك سيكون هناك ضرورة لاجراء إصلاحات سياسية واقتصادية من أجل وضع الاقتصاد على مسار استهلاكي. وإذا كان هناك من أمر فهو أن الحزب الشيوعي الصيني على بينة من التحديات ويمتلك أفقاً لزمن طويل نسبياً. مع ذلك ، فإن تنفيذ الإصلاحات حتى الآن قد يصطدم بالعديد من الحواجز، بحيث سيكون على الحزب ومجموعات اقتصادية قوية إلقاء بعض الريش على الطريق.
الغرب المتعثر
إن تحديات الإصلاح في الغرب ضخمة، لكنها تفتقر في الغالب إلى مخطط لأجل القرار. فالديون السيادية لمعظم البلدان المتطورة قد ازدادت متخطية المستويات الثابتة ولا زالت ترتفع . إذ ارتفعت هذه الديون في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بنسبة الثلثين لتصل إلى حوالي 90٪ خلال الأزمة. أضف إلى ذلك الدين العام المحلي ليصل المستوى إلى ما فوق الـ 100٪ في الولايات المتحدة، يمتلك ثلثه الأجانب. وتمتلك البنوك المركزية في الصين و اليابان نحو 10٪ من الديون الفيدرالية الامريكية. أما الحكومة اليابانية نفسها فمثقلة بسجل دين نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي والبالغ 225٪، وإن كان يغلب عليه الدين المحلي. ومن بين الدول الاقتصادية الأكبر، تُظهر كوريا وأستراليا مستوى دين عام صحي، دون عتبة 60٪ ، والذي يعتبر مقبولاً وثابتاً من قبل معظم الاقتصاديين.
ميزان الحساب الجاري
لدى العديد من الدول الغربية عجز توأم أيضاً، سواء بما يتعلق بالدين السيادي أوالحساب الجاري. إنها علامة عن الافتقار للتنافس العالمي للانتاج الصناعي. لقد غامرت الولايات المتحدة ، بريطانيا ، فرنسا ، إسبانيا وإيطاليا ،جميعها، في المنطقة السلبية، وانخفض فائض اليابان إلى حد كبير. وخلافاً لغيرها من البلدان ذات الدخل المرتفع كأستراليا، أو أسواق ناشئة ذات عجز مستمر، كانت هذه الدول يقودها الاستهلاك بدلاً من الاستثمار والادخار. بالتالي، فإن الولايات المتحدة ، بريطانيا، وأيضاً فرنسا وإيطاليا، ستجد صعوبة في سد العجز عن طريق التصدير أكثر من ذلك. بل أنها قد تضطر إلى خفض الواردات، الأمر الذي قد يضر بالرفاه الاجتماعي.
بطبيعة الحال، يجب أن يكون العجز في الحساب الجاري ممولاً من بلدان ذات حساب جاري إيجابي. أهمها بالطبع الصين، إنما أيضاً كوريا، ألمانيا، السويد، فضلا عن الدول المصدرة للنفط والغاز، التي هي دول مساهمة أيضاً. وفي معظم البلدان غير المصدرة للنفط والغاز الدول كان الفائض متراكماً في الحسابات الخاصة للمصدرين. ففي الصين، يمسك بالاحتياطي الأجنبي البنك المركزي، حيث أن على المصدرين مبادلة الدولار الاميركى باليوان. هذه الأرصدة من العملات الأجنبية أعيد استثمارها في الولايات المتحدة، في الدين الفيدرالي أساساً، إنما أيضاً في أسهم الشركات، الأوراق المالية، والاستثمار المباشر. وفي الفترة التي سبقت الأزمة، ربطت بكين عملتها، فعلياً، بالدولار الأمريكي، مما ساعد واشنطن على الحفاظ على استمرار نموذجها الاقتصادي الاستهلاكي عن طريق خفض كلفة الاقتراض مع تعزيز صادراتها. وبالمثل، موَّلت ألمانيا العجز الإس

موقع الخدمات البحثية