مواد أخرى » بقاء حزب الله: الموارد والعلاقات

أورا سزيكلي ( بروفسور مساعد في دائرة العلوم السياسية في جامعة كلارك في وورسيستر، ماساشوستس)
Middle East Policy
شتاء 2012

إن التحول الذي خضع له حزب الله في الفترة الممتدة ما بين نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1990 وحرب تموز 2006 مع إسرائيل كان تحولاً عميقاً. ففي أواخر الثمانينات، كان حزب الله مجموعة راديكالية مسلحة ميالة للتكتيكات اللافتة والمبهرجة وكان ينظر إلى حزب الله بعدم ثقة من قبل كثيرين من الشيعة. لقد كان عاجزاً عن الإمساك بالأرض في جنوب لبنان حتى في مقابل خصمه اللبناني الرئيس، ناهيك عن قوات الدفاع الإسرائيلية. لكن في تموز 2006، أثبت حزب الله أن بإمكانه الصمود في وجه هجوم من قبل أقوى جيش تقليدي في الشرق الأوسط، وليحرم جيش الدفاع من هدفه الذي صرَّح عنه بسحب المنظمة خارج جنوب لبنان. حتى أنه فرض انسحاباً إسرائيلياً من أراض كان الجيش الإسرائيلي قد استولى عليها. أساساً. أما الأمر الأهم ربما، وفي حين أن النشاط العسكري لحزب الله في الثمانينات كلفه غالياً بما يتعلق بالدعم العام، فإن حرب تموز بحد ذاتها، وبرغم عدد الضحايا المرتفع، كان لها تأثير مختلف جداً. وفي حين يُعزى هذا التحول أحياناً إلى زيادة في أصوله المالية أو معداته وأجهزته العسكرية، فإن هذا التفسير غير مقنع في نهاية المطاف. وأنا أقول، بدلاً من ذلك، وكما هو الحال مع حركات مسلحة في سياقات أخرى، لقد كانت الاستراتيجيات التي استخدمها حزب الله للحصول على الموارد في المقام الأول، وليس تلك الموارد نفسها، هي التي تغيرت ما بين عاميْ 1990 و2006.
إن تطور حزب الله يطرح تساؤلاً أكبر في أدبيات الفاعلين غير الحكوميين، في الشرق الأوسط وأماكن أخرى أيضاً: لماذا تنجو المجموعات العسكرية غير الحكومية من محاولات استئصالها من أجزاء محددة من المناطق في حين لا تنجو مجموعات أخرى؟ وما هي الدروس التي تتعلمها المنظمات من مواجهات سابقة بحيث تمكنها من البقاء بشكل أفضل في مواجهات أخرى لاحقاً؟ في قسم كبير من الأدبيات العامة حول هذا الموضوع، تستخدم متغيرات، كإمكانية الوصول الأولية إلى هبات مادية كالموارد الطبيعية أو المالية، لتفسير مجموعة من النتائج، من بروز المجموعات إلى سلوكها وصولاً إلى فرص وإمكانيات انتصارها.
هناك تفسيرات أخرى تشدد على ' المنح الاجتماعية' على أساس الهوية التي يفترض بمجموعة مسلحة أن تمتلكها بطبيعتها. مع ذلك، وعندما تكون الهبات المادية والمنح الاجتماعية لميليشيات مسلحة متشابهة، كما هو الحال غالباً عندما تكون هناك مجموعات متعددة تتقاتل على نفس الأرض أو تزعم تمثيلها لجمهور المناصرين نفسه، فإنه لا يمكنها مراعاة هذا الاعتبار.
فضلاً عن ذلك، إن تفسيرات متجذرة في فهم جامد للهوية كمصدر قوة ' تملكها' المنظمات، بدلاً من ' صنعها'، تتجاهل الدور الذي تلعبه حركات مسلحة كحزب الله في تشكيل هوية المجموعة وترسيخ حدودها. وفي كلتا الحالتين، فإن التفسيرات القطعية المتجذرة في منح بنيوية، سواء مادية أو اجتماعية، والحاضرة فقط في بداية تطور منظمة ما، لا يمكنها التسبب بالتغيير بمرور الوقت. ولفهم كامل للمتغير في نتائج حملات مكافحة التمرد في مقابل جهات فاعلة مسلحة غير حكومية مشابهة، نحن بحاجة لاتخاذ خطوة إلى الوراء في السلسلة العادية لدرس الكيفية التي تمت بها الحصول عل هذه الموارد في المقام الأول.
لاكتشاف هذه الديناميكية، ستجري هذه الورقة مقارنة استراتيجيات حزب الله للحصول على الموارد خلال السنوات الأولى وأثناء الفترة الممتدة وصولاً إلى حرب تموز. فخلال الحرب الأهلية اللبنانية، أدى السلوك الإكراهي للحركة والإطار الإيديولوجي الضيق والمبالغ به  لهويتها السياسية إلى الحد من قدرتها على مقاومة محاولات أخصامها لدفعها خارج جنوب لبنان واسترداده بعد ذلك. في كل الأحوال، وبعد الحرب الأهلية، طور حزب الله استراتيجية مبنية على مقاربة تسويق أوسع نطاقاً، كما طوَّر شبكة من الخدمات الاجتماعية المتوسعة بشكل هائل، وقلل، إلى حد كبير، من استخدام سياسة الإكراه. هذه التغييرات كانت تعني أنه مع حلول عام 2006، كانت الحركة أكثر فاعلية بكثير في مقابل جيش الدفاع الإسرائيلي مما كانت عليه في السنوات السابقة وكانت قادرة على الصمود والبقاء في مواجهة الهجوم الإسرائيلي خلال حرب تموز.
الحجج البنيوية
تتجه التفسيرات البنيوية لسلوك فاعلين غير حكوميين إلى التركيز على الظروف الموجودة في البيئة المحيطة التي ليس للمنظمات نفسها سيطرة كبيرة عليها. ويحدد قسم كبير من أدبيات الحركة الاجتماعية إمكانية الوصول إلى الموارد على أنه مقرِّر رئيس لجهة ما إذا كانت المجموعة قادرة على التعبئة ومتى. هذا الموضوع يجد صداه في أدبيات ' الطمع والتظلم' حول الحرب، أشهرها في العمل الذي من تأليف ' كولير' و'هوفلير'. إذ يعرض الكتاب إلى أن بدء الصراع يتأثر كأكثر ما يكون بإمكانياته المالية والعسكرية، بدلاً من التظلم السياسي. وبظل هذا المنطق، فإن ما يقيد ويكبح اندلاع حرب هو الموارد المتوفرة لتغذيتها فحسب. ومن منطلق مشابه في أدبيات الحرب الأهلية، يفترض ' واينستين' بأن كل من الهبات المادية والمنح الاجتماعية الابتدائية تحدد ماهية أنواع المقاتلين التي يرجح أن تكون حركة ما قادرة على تجنيدهم ، كما تحدد الكيفية التي سيتصرفون بها.
إلا أن هذا المنطق يترك بعض التساؤلات من دون جواب. فعملياً، غالباً ما تتصرف الحركات المسلحة ذات الهبات المادية المبدئية المتشابهة بشكل مختلف تماماً. فليس كل حركة تتمتع بثروة مادية تستخدمها لتوظيف مقاتلين مرتزقة. فالبعض، كحزب الله، قد يستثمرون في آليات واستراتيجيات لتجنيد مقاتلين ملتزمين بدلاً من  الاستثمار في مرتزقة، أو يعملون، من ناحية أخرى، على نشر جاذبيتهم لدى جمهور مناصريهم المحتملين. إن التوصيفات الجامدة لمنح اجتماعية محل إشكالية مشابهة؛ فهذه التفسيرات تتعامل مع ' الهوية' كسمة ثابتة لا تتغير للمشهد السياسي وكتوصيف غير قابل للتفاوض حول من مِن الحركات المسلحة لديها سيطرة قليلة، بدلاً من التعامل معها كظاهرة مشروطة اجتماعياً، تاريخياً أو سياسياً. إن صياغة هذه الهويات على أنها، من الناحية المنطقية، موجودة قبل المنظمات ومستقلة عنها والتي استخدمتها هذه المنظمات للتعبئة والتجنيد، لا تأخذ بالحساب، بادئ ذي بدء، دور الحركات المسلحة نفسها في صياغة وتعيين الهويات استراتيجياً. حزب الله، من جهته، فعل ذلك بالتأكيد.
بالإجمال، وفي حين أن المنطق البنيوي ليس دائماً، في حد ذاته، خاطئاً أوغير دقيق، فإنه يبدأ السلسلة السببية متأخراً جداً في العملية. فكل ما يتطلبه الأمر بالنسبة للمتغيرات المستقلة هو متغيرات تدخلية ( فاصلة) بالفعل. ' فالبدء من البداية' حقاً يعني درس الطرق التي يتم بها إنتاج هذه الموارد المادية وغير المادية أو الحصول عليها في بالدرجة الأولى.
تفسير البقاء
لأجل الغاية من هذا التحليل، يتم تعريف ' البقاء' على أنه ' استعادة القدرة على العمل ضد قوات العدو من المنطقة المطلوبة أو داخلها'. وللقدرة على البقاء عنصرين عمليين؛ القدرة على  'مقاومة' هجوم عسكري كبير فور وقوعه، والقدرة على ' التعافي' بعد ذلك.
لأجل البقاء، أو كي يكونوا فعالين بالمطلق، تحتاج الجهات الفاعلة العسكرية غير الحكومية إلى مجموعة مشكلة من الموارد، المادية ( التمويل، المقاتلين، السلاح) وغير المادية (الاستخبارات، الشرعية، التدريب). ويحصل معظم الفاعلين غير الحكوميين، بما في ذلك حزب الله، على معظم هذه الأشياء من الخارج. هذا يعني، عموماً، الحصول على الموارد من سكان مدنيين محليين أو من دولة راعية ما. وفي كلتا الحالتين، لدى الفاعلين غير الحكوميين ثلاث خيارات استراتيجية واسعة: القس والإكراه، تقديم الخدمات، والتسويق. وفي حين أن معظم الحركات تستخدم خليطاً من الثلاثة معاً، فإن أحد هذه الخيارات يكون مهيمناً عادة. وبينما قد يكون الإكراه أسهل وسيلة للحصول على الموارد من المدنيين ويكون تقديم الخدمات أسهل وسيلة بالنسبة لدول راعية، فإن التسويق الدؤوب لمهمة المجموعة ومثلها العليا هي التي تنتج العلاقات الأكثر صلابة ومتانة مع كلٍّ من المدنيين والدول الراعية. لذا، فإنه السبيل الأكثر موثوقية للوصول إلى مواد مادية وغير مادية..
خيارات استرايجية
&bascii117ll; القسر والإكراه  
تجد الدول نفسها أحياناً بأنها المزود الكاره للمساعدات لمجموعات غير حكومية. وتحدث أكثر أشكال الإكراه شيوعا عندما تكون دولة ضعيفة عاجزة عن منع استخدام أراضيها كقاعدة عمليات. وبسبب قيمة أجزاء محددة من المناطق، قد تكون مجموعات مسلحة أقل استعدادا للحصول على كلمة ' لا' كجواب. برغم ذلك، يمكن أن يثبت انحياز الحكومة المضيفة الكارهة أن يثبت بأنه مكلف في نهاية المطاف. فمنظمة التحرير الفلسطينية، على سبيل المثال، اكتشفت هذا الأمر في الأردن، حيث جعل سلوكها الإكراهي الحكومة الأردنية، والأهم الجيش، ينفران منها، ما عزز الدعم لنظام الملك حسين.
يمكن للمدنيين، بالطبع، أن يكونوا هدفاً لسياسة الإكراه، بما في ذلك نهب الشركات، الآليات، الأشياء الثمينة، الاستيلاء على المنازل والأراضي، وفرض ' ضرائب' ( خُوَّات) على نقاط التفتيش والشركات والأعمال التجارية. أما في أشكال سياسة القسر والإكراه الأكثر تطرفاً، فإنها تشتمل على خطف مدنيين طلباً لفدية أو استخدام التعذيب، القتل، والاغتصاب لقهر وقمع السكان. لكن، ورغم أنه يمكن لسياسة الإكراه أن تكون استراتيجية مفيدة على الأمد القصير للحصول على موارد مادية من المدنيين، فإنها تعمل على تنفيرهم. كما من المرجح أن يضر ذلك بفرص المجموعة، على الأمد الطويل، وإمكانياتهم بالحصول على موارد غير مادية وقد يقود الجمهور المناصر المحتمل حتى إلى الارتماء في أحضان المعارضة.
&bascii117ll; تقديم الخدمات
بإمكان الجهات الفاعلة العسكرية غير الحكومية أيضاً الحصول على الموارد عن طريق تقديم شيء ما تريده الدولة الراعية أو يريده جمهوره المدني المناصر. وغالباً ما تريد الدولة الراعية بديلاً عسكرياً يتيح لها توسيع انتشارها في الوقت الذي تتجنب فيه ثمن الحرب. ويوفر تقديم الخدمات إمكانية الوصول إلى سلسلة واسعة من الموارد أكثر من سياسة الإكراه. إذ من المرجح بالنسبة للدول الراعية لبدائل عسكرية أن تقوم بتقديم المساعدات، الإمدادات وتدريبات عسكرية. وقد تقدم دعماً غير مادي كالتأييد السياسي، رغم أن الدول الراعية تكره الاعتراف بوكلائها بشكل صريح.
في كل الأحوال، يمكن حتى لأفضل علاقات البدائل المثمرة أن تتحمل أثماناً باهظة، ما يجبر حركة مسلحة على التخلي عن بعض الاستقلالية أو تحويل أولويات المنظمة باتجاه تلك التي لراعيها. إن التحزب ضمن النظام الراعي أو الرعاية المتفاوتة وغير المتكافئة لفصائل وفئات ضمن التنظيم الوكيل يمكن أن يخلق انقسامات تضعف قدرته على التنسيق واتخاذ القرارات. وبالطبع، إن من يكون شأنهم الراعين غالباً ما يكون لديهم عدد من الوكلاء المحتملين ولذا فإن بإمكانهم التخلي عن أحدهم بشكل مفاجئ.
يمكن أيضاً استخدام تقديم الخدمات لضمان الموارد من السكان المدنيين. إذ ليس هناك من علاقة ممتازة بين استخدام الخدمات والتجنيد، وهذا واضح. فقد يستخدم بعض الناس خدمات المجموعة لأنهم يتعاطفون ' أساساً' مع المنظمة أو، وبشكل معاكس، يستخدمون الخدمات من دون تغيير أفكارهم بشأن مشروع الحركة. رغم ذلك، ومن جهة أخرى، يمكن لتقديم الخدمات والإدارة الناجحة لها أن تثبت بأن أعضاء الحركة المسلحة ليسوا فقد جنود جيدين، وإنما بيروقراطيين كفوئين أيضاً. فحتى أولئك الذين لا يدعمون المشروع السياسي للمنظمة يمكن أن يتوصلوا إلى دعم  طموحها للحكم بعد مراقبة كفاءتها الإدارية. إن الخدمات الاجتماعية لحماس في الضفة الغربية وقطاع غزة مثال ممتاز على هذه الديناميكية، كحال حزب الله. وبينما يميل تقديم الخدمات للدول الراعية إلى إنتاج موارد مادية غالب الأحيان، تتجه خدمة المدنيين إلى توليد موارد غير مادية. فالسكان الأكثر فقراً، بشكل ملحوظ، من مجموعة مسلحة، قد لا يكون لديهم المأوى والغذاء ليقدموه، الأمر الذي قد لا يكون ذات أهمية بالنسبة لمنظمة ذات قدرة على بناء مستشفيات وتزفيت الطرقات.
&bascii117ll; التسويق
أخيراً، لدى الجهات الفاعلة غير الحكومية خيار ثالث: لتشكيل، وبترو، الكيفية التي يرى بها جمهورهم المناصر و/ أو الراعين لهم أنفسهم ومصالحهم بما يتصل بالحركة، والحركة بما يتصل بالمشهد السياسي الأوسع نطاقاً. إن النداءات التي تستهدف السكان المدنيين أميل ما تكون نداءات إثنية أو إيديولوجية وهي أكثر نجاحاً عندما لا تنتج مُرفقاً معيارياً قوياً لقضية ما فحسب، إنما ينتج عنها إيماناً بأن الحركة موضع التساؤل هي ممثل شرعي لتلك القضية.
تتضمن أيضاً استراتيجيات التسويق التي تستهدف الدول الراعية نداءات للتعاطف الإثني- الطائفي، وتوجاً سياسياً مشتركاً، والشرعية التي يمكنها أن تمنح الدعم للمجموعة بناء على مكانتها الإثنية أو السياسية. بهذا المعنى، إن المقاربات التسويقية الموجهة للدول ذات صلة بتلك الموجهة للمدنيين الذين يمنحون مكانة كهذه. فإذا كان بإمكان فاعل غير حكومي أن يموضع نفسه كحكم  (وسيط) لشرعية طائفية أو إيديولوجية، فسيكون قادراً على فرض نفوذ تأثير لا يتناسب كلياً مع قوته العسكرية. ويرجح أن تنتج الاستراتجيات التسويقية أكثر من سياسة الإكراه أو تقديم الخدمات دعماً مادياً وغير مادي متين من قبل كل من الدول الراعية والمدنيين. سيكون من الأرجح لدولة مستثمرة في نجاح المجموعة، سواء من خارج التعاطف الحقيقي أو بسبب اعتمادها عليها لأجل الشرعية المحلية أو الإقليمية، أن توفر الدعم المادي والسياسي. هذا أحد الفوارق الهامة المتميزة بين اجتذاب  دولة راعية والتودد لها مع وعد بالمكانة مقابل الخدمة كبديل عسكري: العمل العسكري قابل للاستبدال بالأساس، في حين أن الشرعية مرتبطة بشكل وثيق بمجموعة محددة. أما على المستوى المحلي، فإن بإمكان التسويق الناجح أن يوفر إمكانية وصول صلبة ومتينة إلى موارد غير مادية كالشرعية السياسية والمعلومات المحلية. لكن لأنه يتصدى لاجتذاب أفراد مجتمع أكثر غنىً، ليسوا بحاجة لخدمات اجتماعية، فإنه يوفر أيضاً إمكانية وصول أكبر إلى أصول مادية. 
من جهة ثانية، يمكن للتسويق غير الفعال أن يكون له ارتدادات سيئة. فالحركة التي تصوغ نفسها بطريقة لا تلقى صدى أو، وهو الأسوأ حتى، بطريقة تنذر الشعب أو الراعين المحتملين بالخطر، سوف تخسر القدرة على الوصول إلى أية مكاسب. كما أن الحركات التي تصوغ نفسها ضمن إطار ضيق جداً قد تجد نفسها تستجدي جمهوراً غير مستدام من الأنصار.
هناك درجة من التداخل بين الاستراتيجيات المذكورة أعلاه. إذ يمكن لتقديم الخدمات أن يماثل، وبشكل دقيق، القسر والإكراه إذا كان هناك خطر إمكانية سحب الخدمات، أو يمكن أن يكون كشكل من أشكال التسويق إذا تمت إدارتها بشكل جيد تحديداً. إن إكراه مجموعة من المدنيين يمكن أن يكون القصد منه نوعاً من التهديد ' بالتسويق السلبي' بالنسبة لآخرين. فعلاقات البدائل العسكرية قد تتطور بشكل أكثر سلاسة إذا كان الفرقاء يتقاسمون الإيديولوجية نفسها. ورغم أن هذه الاستراتيجيات ليست حصرية بشكل متبادل، فإنها تشكل بالفعل إطار عمل عام لفهم السلوك المسلح.
الفرضية
وللإيجاز، تتطلب كل الجهات الفاعلة غير الحكومية في جميع السياقات الحصول على موارد مادية وغير مادية معينة. ولدى هذه الجهات الفاعلة خيار استراتيجيات للحصول على هذه الموارد، وهذا الخيار سيشكل في نهاية المطاف فرصهم للبقاء أحياء:
&bascii117ll; أن الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تستخدم القسر والإكراه ضد دول و/ أو مدنيين لن تتلقى إلا موارد مادية على الأمد القصير والقليل من الموارد غير المادية، هذا إن حصلت عليها أساساً.
&bascii117ll; أن الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تقدم خدمات لدول و/ أو مدنيين في مقابل الدعم سوف تتلقى بعض الموارد المادية وغير المادية.
&bascii117ll; إن الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تسوِّق لنفسها لدى دول و/ أو مدنيين ستنال القدرة المتينة على الوصول إلى الدعم المادي وغير المادي.
هذه الفرضيات سيتم تقييمها عن طريق مقارنة نجاح حزب الله الأقل بكثير في سنواته الأولى خلال الحرب الأهلية اللبنانية مع أدائه الأكثر فعالية بكثير خلال حرب تموز. إن مقارنة الحالة الضمنية للحركة نفسها خلال فترات زمنية مختلفة يجعل من الممكن الإمساك بشكل ثابت بعدد من المتغيرات الممكنة الأخرى – العدو الرئيس ( جيش الدفاع الإسرائيلي)، الخصوم الثانويين المحتملين  (الميليشيات اللبنانية) والمنطقة التي حدث فيها الصراع بشكل رئيس ( جنوب لبنان). كما يجعل من الممكن الإمساك باستمرار بالراعين الخارجيين المحتملين ( إيران وسوريا) وبجمهور المناصرين المحليين ( القطاعين الشيعي وغير الشيعي من الشعب اللبناني) الذين يمكن لحزب الله الحصول على الموارد منهم بشكل محتمل. لذا، فإن النظر إلى سلوك حزب الله خلال فترتين زمنيتين مختلفتين يجعل من المعقول والممكن عملياً، وبشكل خاص، اختبار تأثير التغييرات في الاستراتيجيا التي كان يسعى حزب الله من خلالها الحصول على الموارد. وقد نتج عن الاستراتيجيات المختلفة الموجهة إلى نفس الدولة أو الجمهور في أوقات مختلفة نتائج مختلفة، وهذا واضح.  هذه المقارنة مبنية في جزء منها على  بحث ميداني جرى في لبنان ربيع 2009 وصيف 2012، بما فيه حضور مناسبات حزب الله السياسية ومقابلات مع الحلفاء السياسيين للحركة  (إضافة إلى أعضاء حركات مسلحة أخرى)، باستخدام نهج عينة كرة الثلج.
حزب الله والحرب الأهلية  
في سنواته الأولى، كان حزب الله منظمة مختلفة جداً وأقل فاعلية بكثير مما أصبحت عليه في التسعينات وفي العقد الأخير من القرن العشرين. فإبان سنوات الحرب الأهلية اللبنانية ( من العام 1982، عندما تم تأسيس حزب الله، كما يقال، وصولاً إلى نهاية الحرب الأهلية في العام 1989)، كانت إحدى أهم أهداف الحركة الحفاظ على وجود عسكري في جنوب لبنان لمهاجمة الأهداف الإسرائيلية هناك. لكن بحلول عام 1989، تم عزل حزب الله سياسياً، وطرده خارج الجنوب، وكان لذلك علاقة بالتنافس السياسي المحلي بقدر ما كان له علاقة بالصراع مع جيش الدفاع الإسرائيلي.
كان أداء حزب الله المتواضع خلال هذه الفترة محكوماً، وبقوة، بشكل الاستراتيجيات التي انتهجها إزاء الراعين الخارجيين ومناصريه من المدنيين. ففي تعامله مع المدنيين، كان خياره الاستراتيجي المهيمن هو الإكراه، باستثناء المجتمع الشيعي، الذي انخرط فيه باستراتيجية محدودة بتقديم الخدمات، وبنوع من أنواع استراتيجية التسويق الضيقة. أما بما يتعلق بالراعين الخارجيين، وفي حين كانت علاقة حزب الله بإيران خلال هذه الفترة وثيقة ومثمرة، فإن علاقته مع سوريا غالباً ما كان يسودها العداء التام. بالإجمال، لقد طغت مقاربة الحركة لكل من المدنيين اللبنانيين  والسوريين، في نهاية المطاف، على أي مكسب من المكاسب استمدتها الحركة من راعيها الأصلي، إيران.
العلاقات الخارجية
تأسس حزب الله لأول مرة خلال صيف وخريف عام 1982 بواسطة أفراد منشقين عن حركة ' أمل'، وشيعة عاطلين عن العمل كانوا سابقاً مقاتلين سابقين في حركة ' فتح'، وأفراد ميليشيات أخرى.
أما أولى التقارير عن أعماله ونشاطاته فقد بدأت بالظهور في العام 1983، بعد تفجيرات السفارة الأميركية وثكنات المارينز في بيروت وثكنات وحدة المظليين الفرنسيين في بيروت، وفي العام 2985، أصدرت الحركة ' رسالتها المفتوحة' لتعلن عن وجودها رسمياً.
خلال هذه الفترة، كانت خيارات حزب الله بخصوص الراعين الخارجيين محدودة بإيران وسوريا. فمنذ بداياته، كانت علاقته الخارجية الأهم هي مع إيران، بناء على الإيديولوجية والهوية الإثنية ـ الطائفية المشتركة. وقد سعى نظام ما بعد الثورة في إيران إلى الحصول على عميل وكيل له في لبنان لكنه وجد في حركة أمل شبه اليسارية لباساً أخرقاً. وأثبت حزب الله تطابقاً أفضل بكثير مع النظام الإيراني، أقله لأن الأمر يعود، في جزء منه، إلى أن عدداً من مؤسسيه ومن قادة الثورة الإيرانية كانوا طلاباً يدرسون معاً في النجف، العراق.  هذا الأمر أدى إلى تطور ايديولوجيتهم السياسية لتكون على أساس متشابهة، وتطور علاقات شخصية وثيقة في بعض الحالات.
هذه العلاقة وفرت لحزب الله موارد مادية وغير مادية على امتداد الثمانينات، بما فيه التدريب على يد الحرس الثوري الإيراني، تقديم السلاح، والأهم من ذلك كله، التمويل. ففي السنوات التي تلت الثورة الإيرانية مباشرة، كان التمويل يصل إلى ما بين 5 إلى 10 مليون دولار شهرياً، يستخدم لدعم العمليات العسكرية لحزب الله وإرساء أرضية العمل لخدماته الاجتماعية، ومؤسساته الإعلامية والعلاقات العامة، رغم أن هذه المؤسسات كانت أقل امتداداً بكثير في الثمانينات مما أصبحت عليه لاحقاً.
بالطبع لم تخلُ هذه العلاقات من صعوبات. فالرعاية الإيرانية لحزب الله ولدت الشك في نفوس أحزاب لبنانية أخرى. فضلاً عن ذلك، فقد تُرجم الصراع  الدائر أحياناً داخل النظام الإيراني إلى صراع بين حلفاء تلك الفئات الموجودة داخل حزب الله. فبعد موت آية الله الخميني، قام الرئيس هاشمي رفسنجاني، وهو جزء من فئة أقل تأييداً لحزب الله، بتخفيض التمويل المقدم لحزب الله بشكل ملحوظ. لكن، وبالإجمال، كانت علاقة حزب الله بإيران، ولا تزال، إيجابية ومثمرة.
بالمقابل، كانت بداية العلاقة بين حزب الله وسوريا مضطربة غالب الأحيان. فقد كانت إيديولوجيته الأصولية المتطرفة مصدر للشعور بالخطر أحياناً بالنسبة للنظام السوري، الذي أحرز الاستقرار والسيطرة على الجميع في تعامله مع لبنان، والذي كان يفضل العلمانية الطائفية البراغماتية لوكيله الشيعي الرئيس، حركة ' أمل'. وكانت أهداف حزب الله (تأسيس دولة إسلامية في لبنان) وتكتيكاته الصارخة أكثر ( خاصة خطف  الأجانب وخطف الطائرات) سبباً للهواجس ، وأحياناً  الإحراج، في دمشق.
كان هذا الأمر، في كفة الميزان، مكلفاً للغاية. ومن الصحيح القول أنه خلال تلك الأوقات عندما كانت العلاقة سلمية وحبية، سمحت سوريا لحزب الله باستخدام مدينة بعلبك كقاعدة وقدمت له التدريب وحتى السلاح. كما سهلت سوريا تدفق السلاح من إيران إلى داخل لبنان، وسمحت للفريقين باستخدام السفارة الإيرانية في دمشق لأجل التنسيق. لكن، في نهاية المطاف، أدت المصالح المتعارضة والمتضاربة لسوريا وحزب الله ونهج حزب الله مع سوريا إلى صراع مفتوح. وكانت أولى الصدامات ما حدث في سهل البقاع  في أيار 1984، عندما تحرك السوريون لاحتواء حزب الله. وبرغم المطالبات السورية للإيرانيين بضبط وكيلهم اللبناني، فقد تزايدت التوترات على مدى العامين التاليين عندما حاولت سوريا تقييد حزب الله وكبحه، ليصل الأمر إلى ذروته في المجزرة التي ذهب ضحيتها 18 مقاتل من حزب الله في ثكناتهم في بيروت الغربية. وفي العام 1986، سقط ضحايا من الجانبين، وتم أسر ضابطين سوريين عندما حاولت القوات السورية إنقاذ رهائن محتجزين في ثكنات لحزب الله في مدينة بعلبك.
كما تُرجم صراع حزب الله مع سوريا توتراً بالعلاقات مع حركة أمل. فما كان قد بدأ كصراع  لأجل السيطرة على جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية تصاعد ليصل إلى استيلاء مقاتلي أمل على أسلحة لحزب الله وحتى إلى تبادل لإطلاق النار. ومع خطف الكولونيل في الجيش الأميركي ويليان هيغينز في العام 1988، اندلعت حرب مفتوحة ساندت فيها سوريا حركة أمل. وبحلول شهر نيسان، ورغم أن حزب الله كان قادراً على ترسيخ وجوده في ضاحية بيروت الجنوبية، فقد تمكنت أمل من طرد حزب الله من جنوب لبنان.
السياسة المحلية
إذا كان حزب الله قد اعتمد على وضعية أكثر عدائية وعلى صياغة أضيق لهويته بما يتصل بالراعين الخارجيين له في الثمانينات على غير ما كان من شأنه في وقت لاحق، فإن هذا كان صحيحاً على نحو مضاعف بما يتعلق بنهجه إزاء الجمهور اللبناني. فمقاربة حزب الله الأولى للمجتمع الشيعي كانت من بعض النواحي نسخة أقل تطوراً للمقاربة التي اتخذها في السنوات اللاحقة، بما في ذلك تقديم الخدمات والترويج لإيديولوجيته. مدعوماً بالتمويل الإيراني، بدأ حزب الله توفير الخدمات الاجتماعية، بما في ذلك الخدمات الصحية والتعليمية، للاجئين الشيعة الفارين إلى بيروت هرباً من العنف الجاري في جنوب لبنان. ومع نهاية العقد، أسس حزب الله مؤسسة  'الإمداد' لتقديم الإغاثة لأولئك المتضررين من الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان؛ كما أسس مؤسسة ' جهاد البناء'، شركة الإعمار الداخلية التابعة له، والهيئة الصحية الإسلامية. وفي حين كانت هذه الخدمات أقل تطوراً عما أصبحت عليه لاحقاً في التسعينات، فإنها، مع ذلك، ساعدت حزب الله على بناء علاقة مع المجتمع الشيعي.
في كل الأحوال، ونظراً للمنافسة التي واجهها حزب من حركة أمل بما يتعلق بالانحياز السياسي للشيعة، فقد كان لا يزال على حزب الله  أن يصنع قضية تتعلق ببرنامجه السياسي الخاص. ومن خلال شبكة من المساجد ومراكز المجتمع، إضافة إلى صحيفتها ' العهد'، بدأت الحركة الترويج لرسالتها الدينية ( وهدفها المتعلق بثورة إسلامية في لبنان)، والدعاية لعملها لتحسين موقع شيعة لبنان وسجلها القتالي ضد جيش الدفاع الإسرائيلي. إلا أن حزب الله تصرف بأسلوب إكراهي في بعض المناطق الشيعية. ففي بعلبك، لم تتبع الحركة الممارسة المقبولة فقط للميليشيات اللبنانية بخصوص تثبيت حواجز الطرق؛ بل حظرت أيضاً الكحول، وضع الماكياج، الموسيقى الصاخبة، الغناء والرقص في مجموعات مختلطة من الجنسين. وسواء وافق الناس على هذه السياسات الجديدة أم لا، فإنهم بالتأكيد لم يُستشاروا بشأن تنفيذها.
إذا كانت مقاربته للمجتمع الشيعي مختلطة في الثمانينات، كذلك كان رد المجتمع. فالقيمة التي كان حزب الله بحاجة لها أشد من الشيعة خلال هذه الفترة هي إذعانهم وقبولهم لنشاطه السياسي والعسكري ، خاصة، في المناطق الشيعية. وبهذا الصدد، كان حزب الله أكثر نجاحاً في بيروت منه في الجنوب؛ فبحلول عام 1986، أصبحت 'الضاحية' قاعدة عمليات الحركة. من جهة أخرى، ظل النهج الراديكالي لحزب الله محل شبهة بالنسبة لبعض الشيعة، تحديداً بالنسبة لأولئك الذين كانوا أساساً من مناصري حركة أمل. لكن، وربما هذا هو الأهم، ظلت هجمات حزب الله على أهداف إسرائيلية تتسبب بجلب معاناة أكبر للجنوب المتعرض للقصف أصلاً، حيث فشلت الحركة بالفوز بمستوى الدعم الذي كانت قد حصلت عليه في بيروت. هذا الأمر أرسى الأساس للصعوبات التي سيواجهها حزب الله لاحقاً في مقابل حركة أمل.
بالمقابل، كانت مقاربة حزب الله للبنانيين من خارج المجتمع الشيعي خلال هذه الفترة تتصف بالإكراه بشكل رئيس. فمحاولته تسويق برنامجه على نطاق أوسع أعاقها إطاره الضيق كحركة إسلامية شيعية ورفضه للدولة اللبنانية. ورغم أن المعتدلين في الحزب صرحوا تكراراً بأنهم يرغبون برؤية اللبنانيين يختارون نظاماً إسلامياً طوعاً، فإن آخرين، بمن فيهم الأمين العام عباس الموسوي، أطلقوا تصريحات أكثر تطرفاً: ' كمسلمين، نحن لا نؤمن بوجود بلد منفصل يدعى لبنان'؛ و' نحن مستعدون للإطاحة بالنظام في لبنان لتأسيس نظام عادل. فمهما كانت القوانين التي تحكم لبنان فإنها يجب أن تكون ملتزمة بالقوانين الإسلامية'.
أما الأمر الأكثر ضرراً مع ذلك، فقد كان استخدام حزب الله للعنف لمد سيطرته على البقاع، الجنوب وأجزاء من بيروت. ففي شتاء 1984، بدأت منشورات حزب الله بالظهور في بيروت الغربية ( السنية بغالبيتها) محذرة السكان من الاحتفاظ بالكحول في منازلهم أو شراء السيارات الأميركية، والطلب من النساء ارتداء الشادور. ولم تكن هذه تهديدات فارغة؛ فخلال الاحتفال بذكرى عاشوراء في العام 1984، هوجم عدد من البارات والأندية الليلية في بيروت الغربية. ودانت القيادة السياسية السنية والسكان العاديين هذه الأعمال؛ وقال أحد الرجال الذين أجرت معهم مقابلة صحيفة الواشنطن بوست، وببساطة، ' كان لدينا حياة حرة سابقاً... الآن الشيعة هنا وهم يفكرون بطريقة مختلفة. هم يعطون الأوامر، خاصة حزب الله، حول الشرب واللباس وأمور أخرى. نحن مسلمون أيضاً، لكننا لا نحب أي شخص يعطينا أوامر'. بالإجمال، لقد كان معنى الخيارات الاستراتيجية لحزب الله في هذه المرحلة أن ليس لديه سوى قلة من الحلفاء السياسيين والقليل من الشرعية خارج المجتمع الشيعي.
النتيجة 
أثبت هذا الوضع في النهاية بأنه مؤذ لمهمة حزب الله الرئيسة: صراعه مع جيش الدفاع الإسرائيلي ووكيله اللبناني، جيش لبنان الجنوبي. وشن حزب الله، بالفعل، عدداً من الهجمات الناجحة بشدة على قوات إسرائيلية في الجنوب. لكن بحلول عام 1989،كانت المنظمة ، على الأقل في ذلك الحين، غير قادرة ( نظراً لمكانتها المزعومة كمقاومة إسلامية في لبنان) على تحقيق ما يمكن القول بأنه كان هدفها الأكثر مركزية: الحفاظ على قاعدة عمليات لها في الجنوب ضد إسرائيل. هذه النتيجة تُعزى إلى علاقاتها المتدهورة مع سوريا ووكيلها حركة أمل أكثر مما تعزى إلى أي نجاح محدد من جانب جيش الدفاع الإسرائيلي، ما يثبت الدور القوي الذي لعبته علاقات حزب الله المحلية والخارجية في تشكيل فرص نجاحه العسكري.
 اندلع القتال، غالبا ًفي بيروت، بين أمل وحزب الله في وقت مبكر من العام 1984. وبحلول العام 1987، كان التوتر يتصاعد ويرتفع في الجنوب أيضاً. وفي صيف ذلك العام، فضت حركة أمل تظاهرة لحزب الله في صور، وفي ربيع 1988، اندلع قتال مفتوح. واتخذ حزب الله مواقع له، بمساعدة منظمة التحرير الفلسطينية، في مدينة صيدا، في حين تحركت سوريا ضد معاقله في بيروت وقدمت لحركة أمل المساعدات اللوجستية في الجنوب. وبحلول كانون الثاني، تصاعد الصراع ووصل إلى حرب مفتوحة. وأعلنت أمل بأنها ستستمر حتى ' تطهير' المنطقة من مقاتلي حزب الله، الذين دعتهم بـ ' المرتدين' بالواقع، وفي الوقت الذي تم فيه توقيع الهدنة، كان حزب الله مجبراً على التراجع من معظم مواقعه في الجنوب والاعتراف بسلطة أمل في المنطقة. بمعنى آخر، مع نهاية الحرب الأهلية، وبسبب علاقته الجدلية المشاكسة مع كل من سوريا واللبنانيين الآخرين، فقد حزب الله القدرة على مواصلة هدفه، الذي لم يحقق منه الكثير: طرد قوات جنود الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية.
حزب الله وحرب تموز  
في وقت بدء حرب تموز، بعد 30 عاماً تقريباً، في 12 تموز، 2006، كان حزب الله قد أصبح منظمة مختلفة جذرياً، منظمة قادرة على حرمان الجيش الإسرائيلي من تحقيق أهدافه في لبنان. في ذلك الحين، كان هدف إسرائيل المعلن هو إنقاذ الجنديين الإسرائيليين اللذيْن أسرهما حزب الله. في كل الأحوال، تعرض تصريحات القادة الإسرائيليين إلى أن نطاق المهمة تطور ليشمل نزع سلاح حزب الله، إزالة قدرته على شن هجمات ضد شمال إسرائيل، وحتى  إزالته من لبنان بالكامل ( برغم أن هناك تقييماً أكثر تحفظاً يقول بكبح حزب الله عن طريق تحوي المجتمعات اللبنانية الأخرى ضده). في نهاية المطاف، لم يتم تحقيق أي من هذه الأهداف. فقد استعاد حزب الله كل من موقعه العسكري ونفوذه السياسي ولم يتم استعادة جثتيْ الجنديين الإسرائيليين  حتى العام 2008. هذا التحسن الملموس والأساسي في أداء المنظمة هو نتيجة التغييرات الحاصلة في مقاربة حزب الله ونهجه إزاء المدنيين في لبنان والراعين الخارجيين له في المنطقة.
بدأ التجديد الذاتي لحزب الله مع نهاية الحرب الأهلية في العام 1990، عندما شرع حزب الله بعملية تجديد ذاتي، كمنظمة لبنانية وسياسية صريحة بدلاً من كونه منظمة عسكرية شيعية. أما في علاقاته الخارجية، فقد عقدت المنظمة سلاماً مع السوريين وحافظت بنجاح ( معظم الوقت) على علاقاتها مع إيران عقب موت الخميني في العام 1989. وبحلول عام 2006، كانت المنظمة قد طورت علاقات قوية مع الراعين الخارجيين لها، وذلك من خلال التسويق وتقديم الخدمات، وأسست معيار دعم صلب ومتين لها في أوساط اللبنانيين، ولو جزئياً، ما جعل منها منظمة أكثر فاعلية ومرونة مما كانت عليه في سنواتها الأولى. وتلقت المنظمة من الراعين الخارجيين لها دعماً مادياً هاماً، كما تلقت دعماً أساسياً غير مادي من جمهورنا المحلي المناصر، وهذا أتاح لها مقاومة الهجوم الإسرائيلي الابتدائي واستعادة مكانتها بعد الحرب.
السياسات المحلية
مع نهاية الحرب الأهلية في العام 1990، خضعت طريقة تفاعل حزب الله مع اللبنانيين – الشيعة وغيرهم- إلى تحول عميق. ففي السنوات الأخيرة، سوَّق حزب الله لنفسه ولمهمته السياسية لدى جمهور أوسع وأكبر من أي وقت مضى. ففي المجتمع الشيعي، تحديداً، تمتع حزب الله بدعم من دون منازع تقريباً، أمر الذي حصل عليه من خلال تركيبة من التسويق الديني، المجتمعي، والسياسي، إضافة إلى تقديم الخدمات الاجتماعية.
 بعد كثير من الجدل الدائر داخلياً والتشاور مع إيران، عقد حزب الله لجنة من 12 رجلاً لاتخاذ قرار بشأن قضية المشاركة الانتخابية. وصوتت اللجنة  لصالح المشاركة  وذلك بـ 10 أصوات مقابل 2. هذا القرار أثبت شعبيته على نطاق واسع لدى المدنيين الشيعة وسمح لحزب الله بإعادة تأطير نفسه كحركة سياسية تمثل مصالح المجتمع الشيعي. إن سمعتها المتنامية بالشرف والورع أعطى المنظمة سلطة أخلاقية كانت حركة أمل تفتقر إليها. وتعززت سمعتها أكثر بسجل المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ' للحزام الأمني' في جنوب لبنان والشرف الذي ادعاه لنفسه بما يخص الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000. كما أن تنامت مهارة حزب الله على نحو متزايد في إيصال رسالته والدعاية لانجازاته؛ إذ وفر تأسيس قناة المنار الفضائية في التسعينات منصة هامة، إضافة إلى صحيفته ومحطاته الإذاعية.
أما الوسيلة الأخرى لامتداد حزب الله للسكان المدنيين فهي شبكة خدماته الاجتماعية الأساسية الملموسة. فبحلول منتصف التسعينات، أصبح حزب الله يماثل دولة داخل دولة في مناطق الضاحية، سهل البقاع والجنوب المأهولة بكثافة بالسكان الشيعة. وتبني المنظمة المدارس، المستشفيات والمؤسسات رعية أخرى وتديرها وتوفر سيادة القانون المحلي وصيانة البنى التحتية، وبعض هذه الصيانة يتم من خلال شركتها الإعمارية الداخلية، جهاد البناء. إن كل هذه الخدمات متصلة ببيروقراطية مركزية وتدار من خلالها، والتي زادت، بحد ذاتها، من سمعة المنظمة لجهة الكفاءة والصدق والنزاهة. وقد أنتجت هذه التكتيكات، في الواقع، قاعدة من قواعد الدعم القوي لحزب الله في المجتمع الشيعي وتشير الحوارات غير الرسمية مع مناصري حزب الله  في الحشود إلى أنه إضافة إلى الحماية العملية التي توفرها ' المقاومة' والالتزامات  الدينية على المستوى الشخصي لمناصري الحركة، فإن الولاء المعبَّر عنه من قبل الأصدقاء وأفراد العائلات للمنظمة يفرض تأثيراً قوياً. ورغم أن حركة أمل تشكل بديلاً، لكنها لا تتمتع بالدعم نفسه، مما يشير إلى أن هذه المشاعر ليست طائفية صرف وإنما متصلة بحزب الله بشكل خاص.
ولعل من المدهش أنه بحلول عام 2006، لم يكن الدعم لحزب الله ( أو على الأقل الاحترام على مضض) محدوداً بالمجتمع الشيعي. وهذا عائد جزئياً إلى شبكة خدماته الاجتماعية؛ إذ يشير الدليل المروي إلى أن خدماته يستفيد منها غير الشيعة والفلسطينيين وتنال إعجابهم. ( هذا الأمر جدير بالذكر نظراً إلى الكراهية الموجودة بين المجتمعين الشيعي والفلسطيني بعد حرب المخيمات بين أمل- منظمة التحرير الفلسطينية  في أواخر الثمانينات). إنما يعود أيضاً إلى محاولات حزب الله المتعمدة والمدروسة، ولو جزئياً على الأقل، لتسويق نفسه لدى اللبنانيين من غير الشيعة كمنظمة مقاومة ' لبنانية'، وهو ما جعله يمضي بعيداً بذلك كما بإزالة المادة الدينية من مراكز الاقتراع في مناطق مختلطة وإعادة تصنيف صحيفته لتشابه أكثر تلك التي لأحزاب سياسية لبنانية أخرى. وفي أواخر التسعينات، غيرَّ حزب الله شعار علمه حتى، من ' الثورة الإسلامية في لبنان'، إلى 'المقاومة الإسلامية في لبنان'. وقد يكون هذا الخطاب أصبح أكثر إقناعاً ربما بعد امتناع حزب الله عن عمليات الثأر والانتقام ضد المسيحيين في الجنوب بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي عام 2000. وكأي حزب سياسي لبناني، وربما أكثر حذاقة من معظمها، تعلم حزب الله تفصيل رسالته لتناسب جمهوره. هذا يعتبر خروجاً ملحوظاً  عن إيديولوجيته الجامدة الصارمة التي صبغت تفاعلاته مع المدنيين المسيحيين، السنة، وحتى الشيعة في الثمانينات.
ساعد الدعم المقدم من اللبنانيين الشيعة وغير الشيعة المنظمة على الأداء بشكل جيد في انتخابات 1992، 2000، و 2004، رغم أن ذلك كان مسَّهلاً بسبب الاحتلال السوري بالطبع. ومن المرجح أيضاً أن يكون المدنيون قد قدموا المعلومات والملاذ الآمن للمقاتلين في الجنوب قبل وإبان حرب تموز. وكان تأثير ونفوذ حزب الله في المجتمع الشيعي، جزئياً على الأقل، هو الذي جعل ضباط الجيش الموارنة الموجودين في الجيش اللبناني بشكل كبير يمتنعون عن استخدام القوة لنزع سلاح الحركة بعد عام 2000، نظراً لعدد الجنود الشيعة الكبير المجندين في الجيش وبسبب الانقسامات الطائفية التي قسَّمت الجيش خلال الحرب الأهلية.
 لكن الأمر الأهم ربما هو مرونة الموقف المحلي المحسن للمنظمة الذي توفر لديها عقب الصراع. ففي الثمانينات، ولدت عمليات الانتقام الإسرائيلية بسبب هجمات حزب الله الاستياء في جنوب لبنان وساهمت في خسارة الحركة لمواقعها في المنطقة بحلول عام 1989. بالمقابل، وحتى في مواجهة سقوط عدد أكبر وأشد من الضحايا خلال حرب تموز ( أكثر من 1200 في مدة شهر واحد)، فقد ظل الدعم للحركة مرتفعاً في المناطق الشيعية. لقد كانت المنظمة قادرة على التعافي على الصعيد السياسي في لبنان، نتيجة السمعة والعلاقات التي بنتها ودعمتها قبل الصراع، إلى حد كبير، وخرجت من الحرب من دون أن يتأثر نفوذها ولا مكانتها، هذا إن لم يكن قد تعززا فعلاً.
العلاقات الخارجية
إذا كانت علاقات حزب الله المحلية قد بدت مختلفة في العام 2006 عما كانت عليه في العام 1989، فإن علاقاته الخارجية كانت مختلفة جداً هي الأخرى أيضاً. فمن بعض النواحي، كانت علاقة حزب الله مع إيران خلال هذه الفترة تشبه كثيراً تلك التي كانت عليها في الثمانينات: علاقة الراعي – الوكيل المبنية على إيديولوجية وهوية مشتركتين، رغم الاقتطاع الحاد في التمويل للمنظمة في العام 1989، مع الصعود السياسي لهاشمي رفسنجاني، الأكثر براغماتية، بعد موت الخميني. لكن، وبالإجمال، ظلت العلاقة وثيقة، وظلت نهج حزب الله مع راعيه مشابهاً من معظم النواحي للنهج الذي كان موجوداً لديه في السنوات السابقة الأولى.
حدث تغيير أكثر دراماتيكية في علاقة حزب الله مع سوريا. فخلال الحرب الأهلية، جعل البرنامج السياسي لحزب الله وتكتيكاته السوريين يشعرون بالخطر، الذين ركزوا رعايتهم على حركة أمل الأكثر اعتدالاً. لكن مع انخراط  حزب الله في النظام السياسي اللبناني عند نهاية الحرب الأهلية وقبوله باتفاق الطائف ( والهيمنة السورية في لبنان)، أصبحت المنظمة أكثر جاذبية بكثير كوكيل وكبديل عسكري لسوريا. فضلاً عن ذلك، وفي أوائل التسعينات، وفي الوقت الذي قام به الأردنيون والفلسطينيون بالتفاوض لعقد اتفاقيات مع إسرائيل، أصبحت سوريا قلقة، وعلى نحو متزايد، من ألا يكون لديها وسائل ضغط كثيرة على الإسرائيليين عند الجلوس إلى طاولة المفاوضات لاستعادة مرتفعات الجولان. وكانت هجمات حزب الله على القوات الإسرائيلية  في جنوب لبنان وهجماته الصاروخية على إسرائيل نفسها مفيدة جداً في هذا الخصوص. وأصبح حزب الله أيضاً بديلاً سياسياً هاماً لسوريا داخل لبنان نفسه، بالعمل بشكل وثيق مع الرئيس إميل لحود، دمية سوريا. وفي العام 2005، كان حزب الله هو  الذي قاد الاحتجاجات المضادة ( غير الناجحة) ضد التظاهرات الداعية إلى الانسحاب السوري من لبنان. وبعدما أجبر السوريون على الانسحاب في العام 2005، أصبح حزب الله، مع ذلك، سبيلاً أكثر أهمية يمكن لسوريا من خلاله تأكيد أفضلياتها في لبنان.
أثبتت علاقات حزب الله مع الراعين الخارجيين له بأنها مثمرة من نواح عديدة. فسوريا لم تثبت مساندتها لحزب الله خلال احتلالها للبنان فحسب، بل أنها عملت أيضاً كقناة رئيسة للإمدادات من إيران. فخلال حرب تموز، ضمنت كل من سوريا وإيران، وبشكل ملحوظ، أن يكون حزب الله مزوداً بما يحتاجه بشكل جيد. هذا الأمر يتعارض بشدة مع معاملة سوريا لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، عندما قطعت على المنظمة إمكانية الوصول إلى مخازن الأسلحة في دمشق. وقدمت إيران، تحديداً، دعماً مالياً هاماً وبارزاً، استخدم لدعم ترسانة أسلحة حزب الله والحفاظ على شبكة خدماته الاجتماعية. وبمنتصف التسعينات، كانت الحكومة الإيرانية قد أسست حتى  مكاتب لها في بيروت لأجل الدفع المباشر لرواتب العاملين في حزب الله.
في كل الأحوال، ونظراً للمركز المتحسن لحزب الله على الصعيد المحلي، فإن علاقاته الخارجية الآن، ويا للسخرية، جرت عليه ثمناً لم تجره عليه عندما لم يكن لدى المنظمة الكثير لتخسره بما يتعلق بسمعته المحلية. فكثيرون في المجتمع المسيحي، تحديداً أتباع الأحزاب التي كانت مقموعة خلال الاحتلال السوري، ينظرون إلى تحالف حزب الله ـ سوريا بعدم ثقة ـ رغم أن هذا الأمر لم يمنع التيار الوطني الحر، وهو الحزب السياسي التابع لميشال عون الذي كان محظوراً في ظل الاحتلال السوري، من تشكيل تحالف مع حزب الله. هذا الأمر يعتبر صحيحاً أيضاً بما يتعلق بعلاقة حزب الله مع إيران، التي ينظر إليها من قبل القيادتين السياسيتين المسيحية والسنية بعين الشك. بهذا المعنى إذن، فإن المكاسب المادية من العلاقة الإيرانية تخفف منها السلبيات السياسية، وهو دليل على أن العلاقة الخارجية المثمرة كانت مسؤولة ، لوحدها، عن نجاح الحركة في 2006.
النتيجة
مع ذلك،  فإن الموارد المادية التي حصل عليها حزب الله من الراعين الخارجيين إضافة إلى الأصول السياسية، كانت قادرة على تطوير الفائدة المثبتة بشدة في العام 2006. فبعد 34 يوماً،  انسحبت إسرائيل من لبنان من دون استعادة جندييها الأسيرين، أو نزع سلاح حزب الله أو إزالته من لبنان. وخسر حزب الله أكثر من 500 مقاتل، وتضرر قدر كبير من ترسانته العسكرية أو دمر. في كل الأحوال، ظلت قيادته وبنيته الإجمالية سليمة لم تمس. أما اليوم، فتحافظ المنظمة على نفوذها في الجنوب، وتقدم جولات إرشادية على المواقع العسكرية السابقة لحزب الله، وافتتحت ' معلماً سياحياً كبيراً للمقاومة' يدعى ' معلم مليتا السياحي' في نهاية المطاف، لم يكن النصر الكبير في 2006 هو هزيمة حزب الله لجيش الدفاع الإسرائيلي، وإنما كان قدرته على الصمود والبقاء في وجه محاولات جيش الدفاع الإسرائيلي هزيمته، وازدهاره في أعقاب الحرب.
لا يمكن عزو نجاح الحركة في حرب تموز إلى قوة السلاح وحدها. ففي 2006، وبرغم السلاح الذي وفرته إيران، كانت الهوة العسكرية بين حزب الله وجيش الدفاع الإسرائيلي لا تزال هائلة. فقد نشر جيش الدفاع الإسرائيلي بداية 10000 جندي مقابل 2000-3000 مقاتل لحزب الله؛ مع نهاية الحرب، كانت تلك الأعداد قد ارتفعت إلى 30000 و ( على الأكثر) 10000، على التوالي. ورغم أنه كان لديه مخزون صواريخ مضادة للدبابات ومضادة للسفن، إضافة إلى سلاح المدفعية، الأسلحة الخفيفة وعدد من طائرات الاستطلاع من دون طيار الإيرانية الصنع، فإنها لم تكن لتستطي

موقع الخدمات البحثية