مواد أخرى » استكشاف احتمالات التحالف العسكري الروسي ـ الصيني


مقدمة
لطالما كانت التحالفات عنصراً هاماً في الحصول على القوة، الأمن والمكانة في المجتمع الدولي والاحتفاظ بها. فكلها تصب بطريق واحد تحقق فيه القوى العظمى السلطة من خلاله. لم يكن لدى الصين، كدولة قومية، نجاحاً تاريخياً كبيراً في دوام التحالفات مع أقرانها ونظرائها. في كل الأحوال، لقد أصبحت الصين قوة كبرى مع إمكانية منافسة الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى تعتمد، وبدون تردد، على التحالفات. وبالتالي، لن يكون الأمر استثنائياً بالنسبة للقيادة الصينية استكشاف احتمال القيام بتحالفات مع دول أخرى نظيرة لها، كما فعلت الولايات المتحدة مع حلف شمال الأطلسي ( الناتو). وبحسب الظاهر، يبدو من الواضح أكثر فأكثر أن لا دولة يمكنها الصمود في النظام الدولي بمفردها.
إن الدولة الأرجح التي يمكن للصين التحالف معها هي روسيا، وهناك بالفعل بعض الأجهزة الأمنية الموجودة أساساً بين البلدين. فالصين وروسيا تتشاركان بعض القواسم المشتركة؛ لديهما نوع متشابه من النظام، تصنف كلاهما كقوتين عظمتين لديهما جيوش ضخمة، وغالباً ما تجدا نفسيهما على طرفيْ نقيض مع الولايات المتحدة. إضافة لذلك، هما بلدان جاران وهناك حدود برية كبيرة بينهما.
في كل الأحوال، لا يزال هناك جدل حول ما إذا كانت هاتان القوتين العظمتين في حالة تحالف عسكري رسمي أم لا، أو ما إذا كان بالإمكان الحفاظ على استمرارية تحالف كهذا على المدى الطويل. فغالباً ما كانت الصين وروسيا تجدان نفسيهما على طرفيْ نقيض، خاصة خلال الحرب الباردة( الانشقاق الروسي- الصيني ). وبالتالي، ليس هناك من ضمانة أن يكون التحالف قابلاً للحياة بينهما.
مع ذلك، فإن تشكل التحالف عنصر هام لتفاعل الدول، ومع صعود الصين، فإن الأمر يستوجب طرح السؤال عما إذا كان بإمكان الصين الدخول في تحالف عسكري مع دولة نظيرة لها، أو مع دولة قريبة منها كروسيا. وسوف تستفيد هذه الورقة من نظريات الواقعية الجديدة حول كيفية تشكيل الدول لتحالفات عسكرية. وبتناولها لمحة عامة حول نظريتيْ توازن القوى وتوازن التهديد ضمن إطار الواقعية البنيوية، تبحث الورقة في احتمال وجود تحالف صيني- روسي بناء على فرضيتيْ النظريتين.
أولاً، ستقدم الورقة مطالعة مختصرة حول المنهجية النظرية الموظفة. ثانياً، هناك حاجة لمطالعة تاريخية مختصرة للعلاقات الصينية- الروسية لوضع أي احتمال للتحالف بين البلدين في السياق التاريخي السليم. وما أن تقدم الورقة موجزاً للعلاقات الصينية- الروسية، فإن هناك ضرورة أيضاً لبحث الخلفية الثقافية للعلاقات الأميركية- الروسية لتحصيل فهم أفضل حول سبب تفضيل روسيا للصين كحليف بدل الولايات المتحدة.
بعد ذلك مباشرة، ستقدم الورقة لمحة عامة عن ' منظمة تعاون شانغهاي' (SCO) و' منظمة معاهدة الأمن الجماعي' ( CSTO)، الجهازان الأمنيان المهيمنان على أوراسيا. إن كل من روسيا والصين أعضاء في SCO، لكن روسيا فقط عضو فيCSTO ، إلا أن من المهم ضم منظمة CSTO حيث أنها تظل التحالف البديل القابل للحياة بالنسبة لروسيا. ويتضمن القسم الرابع مدى صلة المأزق الأمنيوالفرضيات الواقعية بالتحالف المحتمل بين الدولتين. أخيراً، سوف تدرس الورقة العوامل الإضافية التي يمكن أن تساهم في التحالف الروسي- الصيني، يعقب ذلك الاستنتاج، أي ملخصاً عن النتائج.
المنهجية
سوف تشكل الواقعية البنيوية، أي البناء على فرضيات واقعيتها الكلاسيكية السالفة، إطار عمل النموذج النظري. لقد نشأت نظرية الواقعية من كتابات المؤرخ اليوناني ثوسيدايديس، كتابه ' تاريخ الحرب البيلوبينيسية'. فقد استنتج ثوسيدايديس بأن ذهاب إسبارطة للحرب ضد أثينا كان بسبب عدم شعور أسبارطة بالأمن من تنامي قوة أثينا. وكان لثوسيدايديس فرضيات أخرى حول سبب مضي الدول- المدن للحرب، وهكذا تكون ولدت نظرية الواقعية في السياسة الدولية. وقد شرح باحثون آخرون فكرته على مدى السنوات، أشهر هؤلاء ميكيافيلي في القرن السادس عشر، وإدوارد هاليت كار وهانز مورغينثو في القرن العشرين.
ربما يكون كينيث والتز قام بأهم مساهمة في شريعة الأدب الواقعي بأثره الأدبي ' نظرية السياسة الدولية'، وهو في الغالب من منظور الواقعية ' البنيوية'، إضافة إلى الواقعية ' الدفاعية' لستيفن والت التي تقول بأن المنهجية ستطبق. ورغم أن والتز قد عرَّف أولاً واقعيته البنيوية ضمن سياق العالم الثنائي القطب إبان الحرب الباردة، فقد قال بأن واقعيته البنيوية لا تزال ذات صلة للغاية بحقبة ما بعد الحرب الباردة.
ستتولى الورقة درس بنية عالمية متعددة الأقطاب مع مهيمن ( الولايات المتحدة) بدلاً من نظام أحادي القطب. ففي نظام متعدد الأقطاب، سيبرز أقطاب آخرون أصحاب هيمنة أو توازن ويتنافسون ضد مهيمن، بينما في عالم أحادي القطب حقاً لن يكون هناك قطب آخر يمكن فيه لدول معارضة ' الاحتشاد من حوله' ( حول المهيمن). ويعرَّف والت نظام القطب الأحادي بأنه ' نظام تسيطر فيه دولة واحدة على نسبة غير متناسبة من موارد النظام ذات الصلة سياسياً'. وفي حين أن تعريف والت مفيد، ويمكنه، ربما، وصف البنية الحالية للسياسة العالمية، فإنه مع ذلك يترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية تشكيل تحالف مضاد. ويعرِّف وليام ولفورث بدء الأحادية القطبية بأنها عندما يكون المهيمن قوي إلى حد لا يكون هناك من إمكانيةلتشكل ترتيب مضاد للهيمنة'.
يقول والت بأن النظام العالمي لا زال أحادي القطب نظراً لهيمنة القدرات الأميركية. في كل الأحوال، ليس لدى الولايات المتحدة قوة كلية القدرة ولا يمكنها أن تؤثر على كل الدول الموجودة ضمن النظام لتتبعها. هناك، على الأقل، بعض النكسات والأصوات المعارضة للولايات المتحدة، بحيث لا يعتبر النظام الأحادي القطب حقاً موجوداً.
يحدد الجدول التالي الحجج المبدئية والفروقات الدقيقة بين منظريْ الواقعية الجديدة الذيْن يشرحان سبب اصطفاف الدول: والتز ووالت. إن الفارق الرئيس بن الاثنين هو ما الذي يوازن الدولة: القوة أم التهديد. الفارق دقيق لكنه هام بما أنه لا يمكن تفسير كل الدول القوية على أنها تهديد وخطرة. ويعتقد والتز بأن الدول ستحقق التوازن بالقوى، في حين يصرِّح والت في كتابه ' أصل التحالفات' بأن الدول ستحقق التوازن بالتهديد فقط وتتجاهل الدول الأكثر قوة التي لا تشكل تهديداً.
مع الولايات المتحدة المعتبرة أقوى من روسيا أو الصين، تعتبر فرضيتيْ النظريتين حول القصد بالتوازن صالحتين عند تطبيقها النموذج النظري على التحالف الصيني – الروسي. هذا الأمر صحيح، بشكل خاص، عندما تؤخذ بالاعتبار الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي ( التي يفترضها كل من والت ووالتز). بالتأكيد، يبدو بأن صناع القرار الروس والصينيين يعتبرون النظام الدولي فوضوياً، أو،على الأقل، مترددون برؤية العالم من خلال مقاربة بنائية. وبالتالي، فإن النموذج النظري للواقعية الجديدةيعتبرعدسة صالحة ينظر من خلالها إلى إمكانية تحالف روسي- صيني.

الجدول 1. نظريات حول تشكيل التحالف ( مدرسة الواقعية الجديدة)

الواقعية الهيكلية 
الواقعية الدفاعية
المنظر الرئيس : كينيث والتز.
المنظر الرئيس: ستيفن والت
الحجة المبدئية: الدول تحقق توازن القوى بصرف النظر عما إذا كانت القوة نابعة من دولة تهديد.
الحجة المبدئية: الدول تحقق توازن التهديد بصرف النظر عما إذا كان هناك دولاً أقوى لا تشكل تهديداً.
تشكيل التحالف: تشكل الدول  تحالفات لتحقيق توازن القوى، أو لركوب القافلة مع عدد أكبر من الدول القوية.
 
تشكيل التحالف: الدول تشكل تحالفات لتحقيق توازن التهديد، أو لركوب القافلة مع دول تهديداً أكبر.

الخلفية التاريخية
العلاقات الصينية ـ الروسية

كان لدى روسيا والصين علاقات غير مستقرة، وأحياناً مضطربة في الماضي، تحديداً في القرنين الأخيرين. فبعد تشكيل الدولة الروسية وانتقال القياصرة لدعم المكاسب الحدودية، انتشر النفوذ الروسي شمالاً. وكانت الصين قوة عظمى في ظل ' إمبراطورية مانشو'، إلا أن الاقتتال الداخلي المستمر والتدخلات الأجنبية نخر مكانة الصين كقوى عظمى. وبحلول القرن التاسع عشر، كانت روسيا تصعد وكانت الصين جامدة وساكنة بما يتعلق بعرض القوة.
أول معاهدة وقعتها الصين مع أي من القوى الأوروبية كانت مع روسيا: معاهدة نيرشينسك 1689، التي ثبتت الحدود بين روسيا والصين. أما معاهدة كياختا 1727 فقد حددت الحدود أكثر، وأعطت روسيا الإذن بتأسيس مدرسة لغة في بكين، العاصمة الصينية. وكانت روسيا أول بلد أوروبي يؤسس لوجود ديبلوماسي على الأرض الصينية.
تم توقيع معاهدة ' آيغن' في العام 1858 إبان 'حرب الأفيون الثانية'؛ لقد كانت أول معاهدة هامة بين البلدين ترسم الحدود الروسية ـ الصينية، تحل محل معاهدتيْ ' نيرشينسك' و 'كياختا'، وتعطي روسيا السيادة على أكثر من 185000 ميل مربع من الأراضي. قبل المعاهدة، كان لدى القادة الروس نظرة لا مبالية تجاه الصين تحديداً وتجاه آسيا عموماً. فقد كان الروس يعتبرون أنفسهم أوروبيين ويتطلعون غرباً، خاصة خلالالقرن الثامن عشر عندما كان ' بيتر العظيم' قيصراً. وأصبح الموقف الرسمي لحكام روسيا أن روسيا جزء من أوروبا.
قد يكون التركيز على أوروبا تزامن مع رجحان القوة وتركزها في القارة. ففي القرن الثامن عشر كان التركيز العالمي على أوروبا. وبحلول القرن التاسع عشر، كان من الواضح أكثر بأن أوروبا هي بؤرة ومحط أنظار العالم، وبأن الصين قد تراجعت بشكل حاد في مقابل أوروبا، (الدليل هو هزيمة الصين في ' حروب الأفيون'، وخسارتها الأرض لصالح قوى أوروبية، خاصة المملكة المتحدة). وقد رأت معظم الدول الأوروبية بشرق آسيا منطقة للاستغلال، نظراً للطلب لدى الشعوب الأوروبية على الأفيون، الحرير، وسلع تجارية أخرى شائعة في آسيا خاصة. في كل الأحوال، اتخذت روسيا في القرن التاسع عشر مقاربة مختلفة تجاه الصين؛ فالدراسات الشرقية التي أعدها باحثون روس كانت تختلف عن ميول التغرب الراديكالية المنتشرة في دول أوروبية أخرى.
وما أن انتهى القرن التاسع عشر، حتى أصبحت روسيا متورطة في صراعات داخلية، والتي بلغت ذروتها في الثورة البلشفية عام 1917. فقد تعاطف البلاشفة مع دول اعتبرت ضحايا للـ 'امبريالية الغربية' وكانت الصين تعتبر ضحية من هذا النوع. وتم تنظيم ' الحزب الشيوعي الصيني ( CCP) صيف 1921 بمساعدة الكومنترن ( Comintern)؛ وكان هناك في البداية 55 عضو مؤسس فقط.
كانت الكومنترن منظمة أممية ثورية، لكن عندما جاء جوزف ستالين إلى السلطة بعد موت فلاديمير لينين، حول الكومنترن إلى مركبة للمصالح السوفياتية. وخلال هذه الفترة الزمنية واجهت الصين نزاعات داخلية حول السلطة بين الحزب الشيوعي الصيني برئاسة ' ماو زيدونغ' والقوميين الصينيين بقيادة ' شيانغ كاي شك' وأدى غزو الياباني عام 1931 إلى هدنة غير مستقرة ومؤقتة بين هذين المتنافسين وإلى التركيز على حرب العصابات ضد ' الجيش الامبراطوري الياباني'. هذه الهدنة انتهت باستسلام اليابان في العام 1945. وأعاد الصينيون القوميون والصينيون الشيوعيون شن حرب شاملة ضد بعضهما البعض. أما الاتحاد السوفياتي، بظل حكم ستالين، فقد دعم ' ماو'. بالواقع، يعود تاريخ دعم السوفيات للحزب الشيوعي الصيني إلى ' صن يات ـ سن'،التي كانت أفكاره متأثرة بستالين. إضافة للدعم الفكري، قدم السوفيات لشيوعيي ' ماو' العتاد العسكري لمواجهة الدعم الذي يتلقاه القوميون من الولايات المتحدة. ودامت الحرب حتى العام 1950 عندما فر ' شيانغ كاي شك' وأتباعه إلى جزيرة ' فورموزا' ( تايوان) تاركاً لـ ' ماو' السيطرة الكاملة على أرض الصين.
أما بالنسبة للسوفيات، فقد كان وجود إخوانهم الشيوعيين الإيديولوجيين على حدود الاتحاد السوفياتي معادلاً لأمنهم. فالسوفيات كانوا بالأصل قد أسسوالوجود ثابت وقوي لهم في أوروبا الشرقية، وقد تبنت تلك البلدان لاحقاً حكومات على النمط الشيوعي. إضافة لذلك، كانت منغوليا، وهي دولة على حدود الاتحاد السوفياتي والصين، متأثرة بالسوفيات بشكل كاف إلى حد تبنيها الشيوعية. ومع السيطرة الشيوعية لـ ' ماو' على الصين، الذي أعقب تأسيس الاتحاد السوفياتي لدولة شيوعية منفصلة في شبه الجزيرة الكورية، كان لدى الاتحاد السوفياتي في ذلك الحين دولة شيوعية على كل حدوده تقريباً.
أن يكون الاتحاد مطوقاً بدول تحمل نفس الذهنية الإيديولوجية يعتبر أمراً هاماً للأمن السوفياتي. إذ أعطى وجود جيران للاتحاد السوفياتي مشابهين له ايديولوجياً أمناً أكبر له، الأمر الذي كان ينطوي على احتمالات أقل بتعرضه للغزو من قبل دول شيوعية ( خاصة إذا كان السوفيات قد جعلوا مركزية السلطة في الكرملين). إضافة لذلك، كان بإمكان هذه الدول أن تصبح دولاً عميلة للاتحاد، معتمدة على السوفيات بالنسبة للأمن تماماً كما كان السوفيات معتمدين إلى حد ما على هذه الدول لأجل الأمن طالما ظلت هذه الدول شيوعية أو بقيت منحازة إلى موسكو.
بعد موت ستالين عام 1953، الذي تميز بحداد جمهورية الصين الشعبية مدة ثلاثة أيام وكتابة ' 'ماو' لمقالة أشاد فيها بستالين، تولى ' نيكيتا خروتشوف' السيطرة على المكتب السياسي للحزب بصفته أول أمين عام للحزب الشيوعي السوفياتي ( CPSascii85). وتميزت الفترة الأولى من حكم خروتشوف بجهود مركزة على التبرؤ من الستالينية داخل الاتحاد السوفياتي. فقد تميز حكم ستالين بجرائم الإبادة، عمليات الترحيل، والإعدامات السريعة، وبالتالي فقد أراد كثير من عناصر الحزب الشيوعي السوفياتي إبعاد الحزب على عنه قدر الإمكان. إضافة إلى التبرؤ من الستالينية ، قدم خروتشوف سياسة التعايش السلمي مع الولايات المتحدة، التي دعمها الصينيون ظاهرياً أيضاً.
رغم الهواجس الصينية بخصوص التقارب السوفياتي تجاه الولايات المتحدة ( خاصة بما يتعلق بقضية تايوان)، كان الهاجس الرئيس لدى ' ماو' وقادة آخرين في الحزب الشيوعي الصيني هو ما يتعلق بتفكير خروتشوف الجديد بالتبرؤ من الستالينية. فقد كان ' ماو' يفضل اشتراكية أكثر صفاء راديكالياً وكان قلقاً بشأن التوجه الجديد الذي كان خروتشوف يأخذ الاشتراكية الدولية إليه. وأصبح هذا الاختلاف الفكري الأساس المنطقي الذي يكمن وراءه الانشقاق الصيني- الروسي. وكانت موسكو لا زالتالحركة الشيوعية الدولية،لكن أولى خلافات القادة الصينيين مع السوفيات كانت قد حدثت.
لقد عزل خروتشوف ماو أكثر عن طريق حرمان جمهورية الصين الشعبية من تكنولوجيا نووية معينة. فقد كان لدى السوفيات هواجس من الصين المتمكنة نووياً والمسيَّرة إيديولوجياً على حدودهم، بلد يمكن أن ينقلب على الاتحاد السوفياتي، وبالتالي سيكون على السوفيات مواجهة دولتين نوويتين، لكن الصينيين لم يعتبروها قضية. وقد اعتقد ' ماو' بأنه في موقع أدنى في مقابل خروتشوف وبأن خروتشوف لن يسمح أبداً للصين بأن تصل إلى مكانة مساوية للاتحاد السوفياتي. فقد كان لا يزال على موسكو أن تكون مسيطرة على الحركة الشيوعية الدولية. وما أن توصل لهذا الحقيقة وعرف بأنه لا عودة إلى أيام ستالين، زاد الصدع بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد السوفياتي ووصل إلى نقطة اللا عودة.
بحلول عام 1964، تمت إزالة خروتشوف من السلطة؛ في كل الأحوال، فاقمت القيادة السوفياتية الجديدة بظل ليونيد بريجنيف من العلاقات السيئة مع بيكين بدلاً من تحسينها. إذ اندلعت النزاعات حول ترسيم الحدود، ما قاد في نهاية المطاف إلى صدامات مسلحة بين الجيشين السوفياتي والصيني. فقد فاجأت وصدمت الصدامات المسلحة المراقبين الغربيين الذين كانوا واقعين تحت تأثير انطباع بأن رأي السوفيات والصينيين بالإيديولوجية الشيوعية، أهدافها ونتائجها متماثل.
نتيجة لذلك، لم يعد للصين حلفاء كثر ضمن الكومنترن أو على امتداد النظام الدولي. فمع انعزالها، انكفأت إلى الداخل. أما على الصعيد المحلي، فقد سعى ' ماو' إلى تعزيز ودعم قوته وبدأ'الثورة الثقافية'، التي سعت إلى تطهير صفوف الحزب الشيوعي من غير المرغوب فيهم. ولم يكد الأمر يصل حتى أوائل السبعينات حتى أدت سلسلة معقدة من الأحداث والدوافع في جمهورية الصين الشعبية والبيت الأبيض على أيام نيكسون إلى تطبيع العلاقات بين الصين والولايات المتحدة في العام 1978. وهذا الأمر، بالطبع، كان هاجساً كبيراً بالنسبة للقيادة السوفياتية وساهم بدوره في حالة الانفراج بين الحكومتين السوفياتية والصينية.
مصدر آخر من مصادر التوتر هي منطقة الشرق الأقصى الروسي. فبسبب قربها الجغرافي، فقد كان لديها اتصال عابر للحدود مع الصين أكبر بكثير مع الأجزاء الغربية لروسيا ذات التوجه الغربي. فمنطقة الشرق الأقصى الروسي قليلة الكثافة السكانية، ما يتناقض مع عدد سكان الصين الكبير، الأمر الذي يثير هواجس الروس من ' التوسع الديمغرافي 'من قبل الصينيين. ويعتقد بأن لدى منطقة الشرق الأقصى الروسية موارد طبيعية غير مستغلة، تحديداً موارد الطاقة، لكن الأهم هو امتلاكها لفائض من الأراضي.
مع التزايد السكاني للصين المستمر حتى الآن وحاجتهم لأرض يعيشون عليها ويستثمرونها، قد تكون منطقة الشرق الأقصى الروسي مكاناً مثالياً لهجرة الفائض من المواطنين الصينيين. إن احتمال حصول هجرة ضخمة من الصين يسبب هاجساً لموسكو، وفي حين أن ليس هناك حتى الآن طموحات صينية لتحقيق الاستيلاء على منطقة الشرق الأقصى الروسي، لا سراً ولا علانية من خلال الهجرة، فإن هذا الأمر لا يزال يؤثر على عقول واضعي السياسات الروس. فقد كان لدى الصين نزاعاً حدودياً مع عدد من جيرانها، بما في ذلك روسيا. في كل الأحوال، أدت الهواجس المتعلقة باستقرار النظام، خاصة بعد ثورة ميدان ' تيانانمن' لدى القيادة الصينية إلى تسوية عدد من هذه النزاعات، بما فيها تلك التي مع روسيا. وتم التوصل إلى اتفاق آخر بين القوتين في تشرين أول 2004، عندما قسما السيطرة على جزيرتين نهريتين متنازعاً عليهما؛ ولم يكن هناك تهديدات داخلية موجودة لأمن النظام في ذلك الحين، لذا فقد نظر إلى الاتفاق على أنه حاجة ربما لتعميق الروابط مع روسيا.
لا يزال هناك قضايا متبقية عالقة بين روسيا والصين، لكنها لم تمنع الخصمين السابقين من الارتباط بعلاقات أوثق منذ نهاية الحرب الباردة. فقضايا الحدود تم التخفيف من حدتها، وبدأت مناقشات رفيعة المستوى في فتح علاقات حتى قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، أولاً في العام 1984 بين قيادة ما بعد ' ماو' في الصين وقيادة ما بعد بريجنيف في الاتحاد السوفياتي. ومرت روسيا بتغييرات كارثية إبان التسعينات عندما حاولت الانتقال من اقتصاد قيادة وبنية سياسية استبدادية إلى اقتصاد السوق الحر وبنية سياسية أكثر ديمقراطية. بالمقابل، ازدهرت الصين، إذ نمى اقتصادها 10 بالمئة سنوياً، وذلك كل عام إبان عقد انتقالها إلى اقتصاد السوق الحر بشكل أكثر نجاحاً من روسيا.هذا التناقض الحاد يلقي الضوء على التباينات والفروقات السياسية والاقتصادية بين روسيا والصين، وقد يكون مصدر توتر وامتعاض.
هذه الظواهر ما بعد الحرب الباردة غيَّرت الديناميكيات في القوة النسبية بين روسيا والصين. فقد أصبحت الصين أكثر صعوداً في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وروسيا، مصدومة من عجزها عن الهيمنة في الحرب الباردة وخسارتها للكثير من أراضيها كإتحاد سوفياتي، وحلفاءها الظاهريين في حلف وارسو الذين انحدرت قوتهم النسبية نوعا ما في المنظومة الدولة. وتزايدت فرص التعاون بين البلدين بشكل كبير بسبب انقلاب حظوظ الدولتين. وتطورت علاقات الصين تجاه روسيا في مقاربات أكثر ايجابية، بحيث لم تكن تكراراً لعلاقة المتفوق- التابع التي اتسمت بها العلاقات الروسية ـ الصينية قبل الانشقاق. فروسيا، اليائسة والتي كانت بحاجة ماسة لخلاص اقتصادي ما خلال الثورة، والتي لديها فائض كبير من العتاد العسكري الغير مستعمل، بدأت ببيع الأسلحة العسكرية للصين، التي أرادت دعم قواتها المسلحة. وفي أواخر التسعينات، بلغ معدل مبيعات الأسلحة الروسية للصين 2 مليار دولار سنوياً. وكانت هذه زيادة مميزة في عمليات نقل الأسلحة الروسية ـ الصينية منذ فترة الحرب الباردة.
برغم انقلاب حظوظ روسيا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، أو بالأحرى بسببها، ورغم علاقتهما العدائية أحياناً في الماضي، لا تزال روسيا والصين تعملان معاً بشكل وثيق حول مختلف القضايا. فالدول ليست بحاجة لأن تسير على خطى بعضها في كل قضية من القضايا لتصبح حليفة. فقد كان لدى أفضل الحلفاء حتى خلافاتهم حول السياسة في الماضي، وذهبوا للحرب مع بعضهم حتى. إن واقع وجود نزاعات حدودية بين روسيا والصين في الماضي لا يمنع أو يعيق تشكل تحالف بينهما في الوقت الحاضر أو المستقبل القريب، خاصة وأن معظم تلك النزاعات الحدودية قد تم حلها.
العلاقات الروسية الأميركية
كما الحال مع الصين، غالباً ما كان لدى روسيا علاقة نزاع وخلاف مع الولايات المتحدة. إذ عارضت روسيا، كدولة خلفت الإتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة. وفي حين كان الصراع إيديولوجياً بطبيعته، وفي حين لم تحارب القوتان العظمتان بعضهما بشكل مباشر، فإنهما تحاربتا بالفعل في حروب بديلة مختلفة بدءاً من كورياوصولاً إلى أفغانستان على امتداد مسار الحرب الباردة.
في حقبة ما بعد الحرب الباردة، خفت حدة العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا لكنها لا تزال متوترة. فخلال فترة التسعينات، وعندما مزق النزاع العرقي والحرب يوغوسلافيا السابقة، وجدت روسيا والولايات المتحدة نفسيهما على طرفي نقيض، بسبب معارضة الولايات المتحدة للقوات الصربية، في حين كان الروس متعاطفين مع حليفتهم القديمة صربيا. وتأزمت العلاقات بينهما أكثر في العام 1999، عندما قام حلف الناتو، بقيادة الولايات المتحدة، ومنعاً لإبادة في إقليم كوسوفو بقيادة الصرب، بحملة قصف جوي ضد صربيا. وقد عارضت روسيا هذا الأمر، ورفضت السماح بتفويض مجلس الأمن الدولي للقيام بهذا العمل، وسعت حتى إلى وضع حد فوري للأعمال العدائية مع دعم من الصين.
وللتخفيف من حدة التوتر بعد الحرب الباردة، أجرى الناتو وروسيا محادثات، أولاً مع'الشراكة لأجل السلام' بدايةً في العام 1994، ثم مع مجلس الناتو ـ روسيا بداية العام 2002. وقد تشكل مجلس الناتو ـ روسيا فوراً بعد هجمات 11 أيلول، 2001 الإرهابية، عندما تحسنت العلاقات الروسية- الأميركية بشكل لافت. وكانت روسيا داعمة للتدخل الأميركي في أفغانستان. وبدا بأن التقارب ينجح، مع أن الدعم الروسي كان لا يزال محدوداً، وأظهرت القيادة الروسية قلقها بخصوص الوجود العسكري الأميركي في آسيا الوسطى.
لدى روسيا قاعدة عسكرية في قيرغيستان فيها حوالي 700 من العاملين في سلاح الجو الروسي، وأكثر من 20 طائرة، وذلك لدعم نفوذها في آسيا الوسطى وسط الدول التي كانت تدور في الفلك السوفياتي سابقاً. بالواقع، لقد كانت أول قاعدة خارجية يؤسسها الروس منذ انتهاء الحرب الباردة. ولم يكن لدى الولايات المتحدة قاعدة جوية أيضاً في قيرغيستان إلا مع بداية العام2009، وهي قاعدة Manas الجوية، للمساعدة في العمليات في أفغانستان، خاصة الجسر الجوي. في كل الأحوال، وفي العام 2009، صوَّت البرلمان القيرغيستاني على إغلاق القاعدة الأميركية. واتفقت قيرغيستان والولايات المتحدة في نهاية المطاف على إعادة تسمية القاعدة بـ 'مركز نقل' ووافقت الولايات المتحدة على دفع إيجار أعلى بشكل لا بأس به لحق استخدام المرافق.
مع وجود قاعدة لسلاح الجو الروسي على أراضيها أيضاً، فإن قيرغيستان حذرة جداً في علاقتها مع روسيا. فلدى قيرغيستان أقلية كبيرة من الإثنية الروسية داخل أراضيها؛ إذ يعيش حوالي 500000 روسي هناك، ما يشكل 9 بالمئة من تعداد السكان تقريباً. وتمت المصادقة بين البلدين على قاعدة ثانية، وستشتغل هذه القاعدة بإشراف منظمة CSTO،حيث قيرغيسنان وروسيا عضوتين فيها.
قيرغيستان ليست البلد الوحيد في العالم الذي يستضيف على أرضه جيوشاً روسية وأميركية،وهذا هو مصدر محتمل للتوتر بين البلدين. وقد يكون انقلاب 2010 العسكري والإطاحة بالرئيس باكييف مدبراً من قبل روسيا بسبب رفض باكييف إغلاق ' مركز نقل ماناس'. في كل الأحوال،يبدو، في النهاية ، بأن روسيا لها اليد العليا في قيرغيستان مع الحكومة القيرغيزية الجديدة الغير مستعدة لتجديد تأجير الأرض لمركز ماناس للنقل بعد العام 2014، في الوقت الذي تسمح فيه للقاعدة الروسية باستئجار الأرض مدة 49 عاماً.
روسيا في وضع غير مستقر، وأمامها عمل توازن صعب، فمن جهة عليها أن تكون داعمة للحرب الأميركية على الإرهاب بما أن روسيا تواجه تهديداً يتعلق بها يتمثل بالإسلاميين المتطرفين، لكن من جهة أخرى، روسيا غير مرتاحة للتغلغل الأميركي في نطاق نفوذها التقليدي: آسيا الوسطى. فقيرغيستان ليست الدولة السوفياتية السابقة الوحيدة التي وضعت روسيا على طرفي نقيض مع الولايات المتحدة. فقد خاضت جورجيا وروسيا حرباً مختصرة في العام 2008 مع ضم روسيا لجزء من الأراضي الجورجية، إقليميْ أوسيتيا و أبخازيا، واعترفت بهما كبلدين سياديين. وقد أدانت الولايات المتحدة أعمال روسيا، ورفضت الاعتراف باستقلال الإقليمين.
 قبل حرب جورجيا، وفي شباط 2008، أعلنت كوسوفو، الإقليم المنشق عن صربيا، استقلالها من جانب واحد واعترفت بها فوراً الولايات المتحدة وعدد من دول الناتو. في كل الأحوال، رفضت صربيا، روسيا، إضافة للصين وأكثرية الدول الأعضاء في الناتو الاعتراف بكوسوفو كدولة مستقلة. بدلاً من ذلك، لا تزل كوسوفو نقطة خلاف بين روسيا والولايات المتحدة.
حاولت إدارة أوباما إعادة ضبط العلاقات الروسية ـ الأميركية، تعزيز المجلس الروسي ـ الناتو ، وبدت روسيا متقبلة لذلك، حتى إنها سمحت لجنود من أربعة بلدان في الناتو، بما فيها الولايات المتحدة، حضور مسيرة ' موكب يوم النصر' في ' الساحة الحمراء'. مع ذلك، يبدو هذا تنازلاً صغيراً من جانب القيادة الروسية حيث أن الرئيس الصيني ' هو جينتاو' كان من بين الحاضرين أيضاً، ولم يُدعى أياً من جنود الناتو لحضور استعراض 2011. ورغم إعادة ضبط العلاقات، وجدت روسيا والولايات المتحدة نفسيهما على طرفيْ نقيض بخصوص ثورات الربيع العربي، مع امتناع روسيا والصين عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973، الذي فوَّض فرض منطقة حظر الطيران فوق ليبيا، واستخدام كلا البلدين لحق الفيتو على قرار قاس يستهدف سوريا الأسد.
إضافة لهذا، يضع الدفع الأميركي المستمر والثابت للدمقرطة أكثر، واحترام حقوق الإنسان في روسيا، البلدين على طرفيْ نقيض مجدداً. ففي الصين، لدى روسيا شريك لن يدفع باتجاه الدمقرطة أو يدين انتهاكات حقوق الإنسان. وفي حين أن روسيا والصين بعيدتين عن وجود علاقة ممتازة بينهما، فإن كلا النظامين متشابهين بالتركيبة وينظرون نظرة واحدة إلى مجموعة من القضايا التي لا يتفق أي من البلدين فيها مع الولايات المتحدة. بالواقع، إن كلا البلدين يتعاونان حول مشاريع أمنية بإشراف ' منظمة تعاون شانغهاي'.

الجزء الثاني

موقع الخدمات البحثية