مواد أخرى » التنمية والجيش الضخم جزء لا يتجزأ، على الصعيد الوطني، من عملية صنع الديمقراطية

ساندرا هالبرين ( بروفسور في العلاقات الدولية في Royal Holloway، " جامعة لندن")
Millennuim - Journal of International Studies
31 تموز، 2012
هناك قسم كبير من التفكير الحالي بشأن الديمقراطية وكيفية تعزيزها مبني على أساطير حول كيفية تحقق الديمقراطية في الغرب. على سبيل المثال، إن رابط الانفتاح الاقتصادي مع إرساء الديمقراطية ـ التركيز على أدبيات واسعة وعلى منطق معظم المقترحات والبرامج الرئيسة لتعزيز الديمقراطية، إن لم يكن كلها- مبني صراحة أو ضمناً على الفرضية الخاطئة القائلة بأن بروز الديمقراطية في الغرب كان مرتبطاً، بطريقة ما، بتطوير اقتصادات أكثر انفتاحاً. وتناقش هذه المقالة، في الواقع، مسألة تحقيق الديمقراطية الغربية وتعرض إلى أن هذه الديمقراطية ليست مرتبطة بانفتاح اقتصادي أكبر، وإنما بعدد من التغيرات الاجتماعية، كحراك العمال زمن الحرب، الذي أدى إلى بروز رأسمالية أكثر"تضميناً" نسبياً على الصعيد الوطني، والتي تنطوي على قيود أكبر على رؤوس الأموال وعلى زيادة في الوظائف التنظيمية ووظائف الرعاية الاجتماعية للدولة.
مقدمة
لا تزال المفاهيم الخاطئة حول العوامل التي جعلت من الممكن تحقيق الديمقراطية في أوروبا تؤثر على رؤيتنا بشأن مقتضيات وفرص الديمقراطية في عالم " نامٍ " معاصر. على سبيل المثال، لا يزال المفهوم المتعلق بكون البرجوازية الرأسمالية قد لعبت دوراً حاسماً في إرساء الديمقراطية في أوروبا تتحفنا بمقدار كبير من الكتابات التاريخية والنظرية، برغم الدليل المتزايد بأن الطبقات العاملة هي التي لعبت دوراً حاسماً في هذه النتيجة؛ وبأن أولئك الباحثين يدركون بالفعل الدور الحاسم للطبقة العمالية في الديمقراطية الأوروبية، مع ذلك يميلون لإساءة فهم سبب حدوث هذا الأمر وكيفيته، وبالتالي سبب عدم لعب العمال دوراً مشابهاً في البلدان " النامية" المعاصرة.
يعتمد تحقيق الديمقراطية على القوة السياسية المتزايدة للطبقة العاملة وهذا الأمر، بحسب ما يقول كثيرون، كان ممنوعاً بقوة بسبب السياسات التي قسمت القوى العاملة الوطنية. ووفقاً لهذا النقاش، فإنه تم التوصل لهذه التسوية مع عمال متفرغين بشكل دائم وممثلين في الاتحادات الصناعية الوطنية. أما اليوم، فالعولمة قد أعادت هيكلة سوق العمل بطرق جعلت التوظيف المتفرغ الذي اتسمت به القوى العاملة والذي توصلت إليه التسوية يتآكل. فقد جعلت العولمة الظروف الاقتصادية والتضامن العمالي تتآكل، عن طريق إنتاج حالة متزايدة من عدم التجانس وعدم المساواة في أسواق العمل. فضلاً عن ذلك، وكما يقول إريك رايت، إن الشركات موجهة، على نحو متزايد، نحو أسواق عالمية بدلاً من توجهها نحو أسواق وطنية، وبالتالي، فإنها لم تعد معتمدة بعد اليوم على القوة الشرائية للعمال في البلدان التي توجد فيها هذه الشركات.
خلافاً لهذه المزاعم، لا يدور رحى النزاع الموجود بين رأس المال والعمال اليوم بظل ظروف مختلفة بشكل أساسي. فقبل كل شيء، لم يصبح العمال متفرغين إلا ما بعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة لتسوية أبرمت مع رأس المال: وبالتالي، فإن العمل المتفرغ لم يكن شرطاً مسبقاً وإنما "نتيجة" التسوية. ثانياً، وفي حين أن الحراك الرأسمالي المتزايد والضغط اللاحق نزولاً على الرواتب قد يجعل العمال يتبارون ضد بعضهم في العالم اليوم، فإن هذا الأمر يبدو " طبيعياً" تاريخياً. إذ لم تكن المحاولات المبذولة لصياغة حالة من التضامن والتكاتف، دولياً، بين القوى العاملة ناجحة بالإجمال. ففي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبعدما واجه أصحاب العمل البريطانيين مطالب عمالية بتخفيض ساعات العمل ورفع الأجور هددوا بجلب عمال من فرنسا، بلجيكا، وألمانيا بأجور أقل وأرخص. فالأجور على مستوى القارة الأوروبية كانت أدنى، وبشكل أساسي، عما كانت عليه في بريطانيا، وكان قادة العمال الإنكليز متخوفين من منافسة البضائع المنتجة عن طريق صناعات متدنية الأجر ومن تهديدات أصحاب العمل باستبدال العمال الإنكليز المضربين عن العمل بآخرين أوروبيين. كما أن ظروف العمال قبل العام 1914 لم تكن لتسهل عملية تطوير اتحادات قوية وتضامن عالي المستوى على صعيد القوى العاملة الوطنية. وكما ستناقش هذه المقالة، فقد كان التطور الصناعي في أوروبا خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين متسماً بقوى عاملة مذرَّرة بمهارات وأجور متدنية نسبياً. وستناقش المقالة بشكل أكبر مسألة توحد الحركة العمالية من خلال حراكها، ليس لأجل الصناعة، وإنما لأجل الحرب؛ وكان ذلك أمراً حاسماً في تحقيق الديمقراطية.
يتم تعريف " الديمقراطية" هنا كنظام سياسي يوجد فيه: (1) انتخابات حرة ونزيهة لممثلين مع حق اقتراع شامل ومتساو؛ (2) مأسسة حقوق المعارضة ( حرية المشاركة والتعبير، حماية حقوق الأفراد من إجراء حكومي تعسفي). هذا التعريف مستعار من Rueschmeyer et al.( Capitalist Development and Democracy)( 1992: 43-4) ، الذي أدرج، في كل الأحوال، عنصراً ثالثاً في التعريف هو: (3) تجاوب أجهزة الدولة مع البرلمان المنتخب. هذا العنصر معتمد على العنصرين الأوليْن: فحيث يوجد انتهاكات انتخابية هامة، وحيث توجد بيوت علوية غير منتخبة أو محددة بشدة وذات سلطة فيتو مطلقة، وحيث يوجد إقصاء لمنظمات وأحزاب الطبقة العاملة من العملية السياسية، فبالكاد يمكن اعتبار تجاوب الدولة مع المجلس التشريعي معياراً للتمثيل الشعبي. وبما أن الأنظمة السياسية الأوروبية اتسمت بالانتهاكات والقيود والإقصاء حتى الحرب العالمية الأولى، وفي بعض الأماكن تجاوزت تلك الفترة، فإن هذا العنصر الثالث سوف يُستثنى من النقاش الآتي. إن المشاركة الشاملة في العملية السياسية، المشاركة التي تتجاوز الحدود الطبقية، كما يشير، وبشكل صحيح، Rueschemyer ومساعده بالتأليف، برغم التعامل معهما كأمر ثانوي بالنسبة لأبعاد أخرى، هي السمة المركزية للديمقراطية.
بينما كانت البرجوازية الصناعية في أوروبا، كنخبة أصحاب الأراضي فيها، داعمة عموماً لتثبيت حكومة دستورية وتمثيلية، فإنها كانت "معارضة لتوسيع الضم السياسي للطبقات الأدنى منها". هذا الأمر تحقق فقط عندما حرَّك حراك الطبقة العاملة عمليات زادت في نفس الوقت من القوة السياسية للطبقة العاملة نسبة لتلك التي لطبقات أخرى، ليس لأجل التصنيع وإنما لأجل الحرب، وزادت الضغوطات لأجل اقتصاد " تضميني" أكثر نسبياً على صعيد الوطن – اقتصاد متصف بتطابق الإنتاج الإقليمي والاستهلاك وتوسع الأسواق المحلية. لقد كانت التغيرات الاجتماعية ـ الاقتصادية هي التي ضمنت أن تجمع ملحقات الامتياز بين انتخابات حرة ونزيهة وإضفاء الطابع المؤسساتي على حقوق المعارضة لإنتاج ديمقراطية موضوعية ومتينة.
إلى حين وقوع الحربين العالميتين، كانت النخبة التقليدية من أصحاب الأراضي هي التي تشكل أساس " الطبقة الرأسمالية" في بريطانيا، والتي هيمنت على أجهزة الدولة وقادت التطور الرأسمالي البريطاني. فالمؤسسات السياسية كانت مصممة للحفاظ على سلطة القوى التقليدية ضد الطبقات الدنيا؛ وكانت ناجحة، عموماً، في تحقيق تلك الغاية ( انظر القسم الأول من هذه المقالة). لقد كان تزايد سلطة الطبقة العاملة، التي لم تكن بسبب حراكها لإنتاج صناعي واسع النطاق، كما يُفترض عادة، وإنما بسبب التعبئة الضخمة للحربين العالميتين، هي التي جعلت تحقيق الديمقراطية في أوروبا أمراً ممكناً. فقبل الحرب العالمية الثانية، كان التصنيع الأوروبي محدوداً، قطاعياً وجغرافياً، تنفذه قوى عمالية مذررة، ذات أجور ومهارات متدنية؛ بناءً على الإنتاج وليس على الاستهلاك الجماهيري المحلي، إنما بغرض تصديرها لحكومات ونخب وجماعات حاكمة في دول ومناطق أخرى، كما كان متسماً بأسواق محلية مقيدة ومندمجة بشكل ضعيف ( القسم الثاني). ولم تصبح الديمقراطية المستقرة والكاملة جزءاً من المشهد السياسي الأوروبي إلا بعدما أحدثت الحربين العالميتين قوة عمالية قوية وموحدة. ويناقش القسم الثالث الظروف التي جعلت نمو القوة العمالية في أوروبا أمراً ممكناً، ونتيجة لذلك، تحقيق الديمقراطية واتساع قاعدة التنمية الاجتماعية. ويدرس الفصل الرابع مضامين تحليل الفصول السابقة لجهة كيفية فهم علاقات القوى المتشكلة عالمياً، وعلاقاتها بالنضال الديمقراطي على امتداد العالم اليوم.
1. البرجوازية والتطور السياسي في القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين في أوروبا
يزعم عدد من الباحثين بأنه حيث فشلت البرجوازية الأهلية، على عكس العالم الثالث، بإحراز الهيمنة السياسية أو الاقتصادية في بريطانيا، برزت طبقة متوسطة رأسمالية مستقلة بحلول القرن الثامن عشر كانت قوية بشكل كاف لتربح معركة الحصول على سلطة الدولة ضد فئة المحتكرين التجاريين والماليين التي نشأت في الارستقراطية الإقطاعية. لكنها الارستقراطية هي التي شكلت أساس " الطبقة الرأسمالية" البريطانية؛ وهي التي ظلت الفئة البرجوازية المهيمنة على امتداد القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، برغم التنازلات الممنوحة لصناعيين أثرياء من غير الارستقراطيين بعد ثورات 1848.
بورجوازية أوروبا الليبرالية
إن التمايز مرسوم تقليدياً بين البنى الطبقية في مجتمعات أوروبية مختلفة، وتحديداً بين تلك المهيمنة بحسب ما هو مفترض من قبل البرجوازية الرأسمالية الأهلية المستقلة، وتلك التي ليست كذلك. هذا التمايز هو أساس المخططات المختلفة التي تحدد " طريقين" للرأسمالية الصناعية والديمقراطية في أوروبا. أحد الطريقين، المتمثل ببريطانيا، يتصف ببروز مجال سياسي مفتوح نسبياً ـ نتيجة لحلول ثورة بورجوازية مكان الارستقراطية القديمة والدولة المطلقة (المؤيدة للحكم المطلق)؛ في حين أن الطريق الثاني، المتمثل بألمانيا ومتعهدين إنمائيين " متأخرين" آخرين، يتميز بمجاله السياسي المنغلق نسبياً – نتيجة الهيمنة المستمرة لطبقة زراعية قادرة على إعاقة التصنيع ومقاومة الديمقراطية.
لكن لم يكن هناك من انقسام واضح في أي مكان من أوروبا بين الرأسمالية الصناعية ورأسمالية الأراضي؛ بالواقع، كانت التطور الرأسمالي الصناعي في كل مكان متسماً بالانصهار. ففي بريطانيا، كما في كل مكان آخر، اتخذ التطور الرأسمالي الصناعي شكل الحكم السياسي لارستقراطية أصحاب الأراضي وشريحة كبيرة من الصناعيين الرأسماليين.
لقد قال كثيرون بأن هذه النخبة أصبحت بورجوازية بحلول القرن الثامن عشر أو التاسع عشر. في كل الأحوال، إما أن الأرستقراطية استوعبت البورجوازية الصناعية وهيمنت عليها، وإما أن البورجوازية الصناعية قاومت الأرستقراطية وهيمنت عليها. وبرغم كل ما كتب عن البورجوازيين الصناعيين الذين حلوا مكان أصحاب الأراضي كعنصر مهيمن في النخبة الحاكمة، فقد كان بإمكان بريطانيا الغير صناعية، حتى العام 1914، أن تهزم، وبسهولة، بريطانيا الصناعية. وقبل ذلك الحين، لم يكن الصناعيين منظمين بشكل كاف لصياغة سياسات واسعة أو فرض تأثير لا يكون عرضياً على مسار الشؤون الوطنية. فالأراضي في بريطانيا، كما في أماكن أخرى في أوروبا، كانت مركزة بشدة، كما كان الحال مع قطاعاتها المالية والصناعية، وأصبحت الأمور على هذا النحو في ازدياد على امتداد القرن التاسع عشر. فالمصالح الخاصة التقليدية ( الشركاتية) – النقابات، شبكات الرعاية والمحسوبيات- بقيت موجودة في بعض الأماكن وأصبحت أقوى، ونشأت شبكات جديدة. وبحلول عام 1014، شكلت هذه المصالح جزءاً من مجمع الشركات المتميزة والمصالح الثابتة المكتسبة في أوروبا التي كانت هائلة تماماً كتلك التي كانت للـ " النظام القديم".
لم تكن هذه جوانب هامشية للتصنيع البريطاني. ولا كان بالإمكان عزوها إلى " بقاء " مادة " إقطاعية " ميتة"، أو إلى " قوى مقاومة" للتوسع الصناعي ما قبل الرأسمالية والتي هي في تناقص مطرد. إنها تلقي الضوء على مدى قدرة نخبة أصحاب الأراضي التقليدية على صب التوسع الصناعي في أشكال ثنائية واحتكارية. فقد حافظت الثنائية على الأسس الاقتصادية والسياسية للمجموعات التقليدية عن طريق تقييد النمو ضمن قيود يشكلها تركز رأس المال وملكية الأراضي. نتيجة لذلك، فإن ما حدد شكل التوسع الصناعي في أوروبا لم يكن أخلاقيات ليبرالية تنافسية، كما يُشدَّد على ذلك في معظم الروايات، وإنما حدده أشكال إقطاعية من التنظيم، الاحتكار، سياسة الحماية، الكارتل، أنظمة الشركات، وبنى السلطة الريفية الاستبدادية ما قبل الصناعة.
الديمقراطية في أوروبا
غالباً ما يُزعم بأنه في الجزء الأول من القرن العشرين كانت معظم مجتمعات أوروبا الغربية إما ديمقراطيات سياسية، وإما أنها كانت في طريقها لتكون كذلك. في كل الأحوال، لقد اختبرت أوروبا قبل العام 1945، وبالاشتراك مع أجزاء من العالم الثالث المعاصر، إرساءً جزئياً للديمقراطية وانتكاسات في الحكم الديمقراطي. فقد كانت المشاركة السياسية محدودة بشدة؛ وحيث تم تقديم سياسات انتخابية ليبرالية، كان لدى الحكومة صعوبة في الحفاظ على ثباتها واستمرارها فترات من الزمن. إذ تم حل البرلمانات، تجاهل نتائج الانتخابات والتصدي للدساتير والحريات المدنية الديمقراطية باستمرار بواسطة أنظمة رعاية خارجة عن القانون، وبالفساد والعنف.
أول ما نشأت الديمقراطية في أوروبا فإنها ظهرت كديمقراطية للأعضاء الذكور من الطبقة الحاكمة. وما أن نمت البرجوزاية الصناعية المدينية ثروة وعدداً، حتى سعت إلى انتزاع حصة من السلطة السياسية من " النظام القديم". وعندما أظهرت استعدادها ( البورجوازية الصناعية) للتحالف مع الطبقات الأدنى لتحقيق هذا الهدف، منحهم ممثلو نخب الإقطاع التمثيل في البرلمان. وما أن أنجز ذلك، حتى أغلق الصناعيون ونخب الإقطاع الصفوف لمنع حصول امتدادات أكثر للامتيازات.
كانت نخب الإقطاع تفضل، أحياناً، ملحقات حق الاقتراع الذي سيزيد من وزنهم نسبة إلى وزن المصالح الصناعية. وبالتالي، وفي النروج، تم توسيع حق الاقتراع ليشمل طبقة الفلاحين من أصحاب الأملاك قبيل أن يتم تحقيق ذلك من قبل الطبقة العاملة المدينية. لقد فضل بسمارك توسيعاً لحق الاقتراع لتعزيز مصالح أصحاب الأراضي ضد المصالح المالية، بما أن نخبة الإقطاع كانت تسيطر على سلوك الذين يقومون بإعالتهم وعلى عمالهم في الانتخابات. وبشكل مماثل، كان بإمكان اليمين في بلجيكا ضمان تصويت كتلة ضخمة من الناخبين الفلاحين الكاثوليك، وبهذا كان خوفهم بما يتعلق حق اقتراع الذكور الشامل أقل من خوفهم من الليبراليين. في كل الأحوال، لقد قاومت البورجوازية الليبرالية الديمقراطية على الدوام تقريباً. وكما أشار كارل بولايني، " من ماكولاي وصولاً إلى ميسيس، ومن سبنسر إلى سامر، لم يكن هناك من ليبرالي مناضل لم يعبِّر عن قناعته بأن الديمقراطية الشعبية خطر على الرأسمالية".
كانت "الديمقراطية" الأوروبية قبل العام 1945 عبارة عن صيغة محدودة جداً من الحكومة التمثيلية، مبنية على حق اقتراع بوسائل اختبار مجربة ومقيدة بشدة تستثني الأكثرية الكبيرة من البالغين من المشاركة: الرجال تحت سن الـ 25 أو 35، والنساء. ونظراً إلى أن متوسط الأعمار المتوقع في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى كان بين 41 ( النمسا ، إسبانيا)و 55 عاماً (السويد، الدانمارك، النروج)، فقد كان هذا يعني بأن الذين كان يمكنهم التصويت كانوا رجالاً في الثلث الأخير من حياتهم؛ ولو أن نفس النظام ساد اليوم في الغرب، لكان حق الانتخاب محصوراً بالرجال فوق سن الـ 54.
الجدول 1. أوروبا في العام 1910
البلد               متوسط الأعمار المتوقع                    سن الانتخاب
بلجيكا                      47                                25
ألمانيا                      47                                25
الدانمارك                   55                                35
النــروج                     55                                25      

كان حق الاقتراع الشامل للبالغين ليحرر 40-50 بالمئة من الشعب في كل بلد من البلدان. في كل الأحوال، وفي العام 1910، كان حوالي 14-22 بالمئة فقط من السكان قد تحرروا في بريطانيا، السويد، سويسرا، بلجيكا، الدانمرك، هولندا وألمانيا. وحتى في البلدان التي تضمن فيها حق الاقتراع أفراداً من الطبقات الفقيرة، الطبقة الثالثة، وأنظمة انتخاب تعددية وموزونة، إضافة إلى اقتراع مفتوح وقيود على منظمات وأحزاب الطبقة العاملة ومنحازة ضدها، فقد كان التصويت عقيماً بالنسبة للفقراء.
حتى لعام 1918، كانت شروط حق الاقتراع البريطانية معقدة للغاية بحيث أن تحديد عدد الناخبين المؤهلين كان صعباً. فقد كان على المستأجرين تقديم دعوى سنوية للبقاء مسجلين على القوائم الانتخابية؛ وكنا المحامون يسمعون الدعاوي والاعتراضات بوجود وكلاء عن الجانب، وهي طريقة لم تكن تضمن الدقة والكمال. " رغم أن 88 بالمئة من السكان الذكور البالغين كانوا ليتأهلوا للانتخاب في العام 1911 لولا التعقيدات والقيود الموجودة في إجراءات التسجيل التي كانت منحازة وضد الطبقة العمالية، فإن أقل من الثلثين كانوا على لوائح الاقتراع". فضلاً عن ذلك، لقد كان 500000 ناخب من أصل 8 مليون تلك السنة من الناخبين التعدديين ولا حاجة للقول بأن كثيراً منهم لم يكنونوا من الطبقة العاملة". لقد ضاعف " قانون تمثيل الشعب" عام 1918 حجم الناخبين 3 أضعاف تقريباً عن طريق تبسيط المتطلبات بالنسبة للناخبين الذكور وبتوسيع حق الاقتراع ليشمل النساء بعمر 30 وما فوق من المؤهلات كساكنات في المنطقة. في كل الأحوال، لقد استمر الاقتراع التعددي. ففي العام 1931، نال حزب العمال 9 بالمئة من المقاعد في البرلمان بنسبة 30 بالمئة من الأصوات. ولم يتم إلغاء الاقتراع التعددي في بريطانيا إلا في العام 1948.
على امتداد القرن، كان الاقتراع الموزون المرجِّح مصمَّماً لمناطق مدينية ممثلة تمثيلاً ناقصاً بشكل فاضح. ففي بريطانيا، كانت عشرات الدوائر الانتخابية المفرغة من سكانها ( "الأحياء المتعفنة") موجودة تحت سيطرة ملاك الأراضي الذين كانوا قادرين على التلاعب بأصوات السكان. وحتى العام 1914، كانت البلدات الراكدة أو المتدهورة والمناطق الريفية في بروسيا التي دعمت المحافظين مفرطة في التمثيل إلى حد كبير في " الرايخستاغ" ( Reichstag). أما في الدانمارك، فقد تحرر الفلاحون في العام 1849، لكن حتى العام 1915 كانت أصوات النبلاء من ملاك الأراضي والمواطنين البورجوازيين الأثرياء توزن لإعطائهم أغلبية المقاعد في الدائرة العليا للبرلمان. وتم تقديم حق الاقتراع الشامل في بلجيكا في العام 1893، لكن تم تقديم الأصوات الزائدة بمعيار " القدرات" ( معرفة القراءة والكتابة، التعليم الرسمي أو التعيين في مكتب عام) وقدم إلى أرباب أسر أعمارهم تصل إلى 35 عاماً.
إضافة إلى حق الاقتراع الموزون والتصويت التعددي، قيد الاقتراع المفتوح، أي عادة بالتصويت الشفهي أو برفع الأيادي، حق الاقتراع عن طريق السماح لمسؤولين حكوميين ونخب محلية باستخدام الضغط والتلاعب، خاصة في مناطق ريفية. ولم يتم استخدام الاقتراع المفتوح في هنغاريا وبروسيا إلا في وقت متأخر وذلك في العام 1914، وفي الدانمارك العام 1901 وفي النمسا عام 1906.
تم إعطاء حق التصويت لعدد من العمال الزراعيين في بريطانيا في العام 1884، لكنهم ظلوا تابعين لعطف وإحسان أسياد الأرض والمزارع. وكان عمال المزارع الذين شوهدوا في اجتماعات حزب العمال خاضعين للملاحقة القضائية، واعتمد حزب المحافظين ( الاتحادي) على الارستقراطيين، رجال الدين، والإقطاعيين في المناطق الريفية للضغط على المستأجرين وعمال المزارع لدعم مرشحيهم. وحتى العام 1945، كان الكهنة وأصحاب الأراضي الكبيرة ينظرون للأمر على أن عمال المزارع والفلاحين يصوتون " بشكل مناسب". وفي بروسيا، حيث لم يكن هناك اقتراع سري، كان مالكو الأراضي قادرين على التحكم بأصوات العمال والفلاحين بالنسبة للانتخابات ومراقبتهم بانتباه. وكان أصحاب العقارات والمزارع الكبيرة يسحبون بضاعتهم التجارية من التجار أو الحرفيين الذين يصوتون لليبراليين. واستخدم مسؤولون حكوميون أموالاً رسمية إضافة إلى السلطات المخولة لهم لمكافأة ومعاقبة الناس المناسبين. ولم يكن مسموحاً لليبراليين أو الراديكاليين بالدخول إلى المجمعات للتجول أو المرور بجانب أوراقهم الانتخابية. وصولاً إلى العام 1914، " كانت ورقة الاقتراع الوحيدة التي يمكن لعامل مزرعة رؤيتها هي ورقة المحافظين، تسلم إليه بواسطة رئيس العمال لديه من خارج كشك الاقتراع".
نظراً لهذه القيود الموجودة على حق الاقتراع فإن الأرقام الموجودة على قائمة الجدول رقم 2 لا تعكس العدد الفعلي للناس الذين كان مسموحاً لهم بالتصويت بظل الأنظمة التي كانت موجودة في ذلك الحين.

الجدول 2.
النسبة المئوية للأوروبيين المتحررين، 1910

فنلندا 45          النمسـا 21
النروج 33         السويد 19
فرنســا 29         المملكة المتحدة 18
إسبانيا 24        الدانمارك 17
بلغاريا 23         رومانيا 16
اليونــان 23       روسيا 15
صربيـــا 23       هولندا 14
ألمانيا 22        البرتغال 12
بلجيكـا 22 إيطاليا 8
سويسـرا 22 هنغاريا 6

عشية الحرب العالمية الأولى، كانت النرويج البلد الوحيد في أوروبا الذي لديه قانون اقتراع شامل ومتساوي. وإذا ما احتسبنا حق اقتراع الذكور فقط، عندها يمكن احتساب فرنسا أيضاً. بعد الحرب، ثبتت كل من الدانمارك، فنلندا، هولندا، والسويد حق الاقتراع الكامل. وفعلت ذلك ألمانيا والنمسا، لكن باختصار فحسب. وبحلول عشية الحرب العالمية الثانية، يمكن إضافة بريطانيا إلى القائمة، رغم أن الأمثلة عن التصويت التعددي ظلت موجوداً. وبعد الحرب العالمية الثانية، فقط، أصبح حق الاقتراع الشامل، المتساوي، المباشر والسري هو المبدأ والمعيار بالفعل على امتداد أوروبا الغربية.
قبل الحرب العالمية الأولى، كانت المؤسسات البرلمانية في أوروبا تؤدي وظيفتها كبلاط ملكي أكثر مما تؤديها كبرلمانات وهيئات تشريعية أخرى كالتي توجد اليوم في الغرب. فالانتقال الوراثي للوضع الاجتماعي – السياسي كان لا يزال منتشراً. لقد كانت المؤسسات السياسية مخترقة ومقوضة بسبب جهود الحفاظ على الامتيازات وإحباط محاولات المجموعات والطبقات التابعة لها لحيازة السلطة. فحيث تم تقديم سياسات انتخابية ليبرالية، كان لدى الحكومات صعوبة في الحفاظ عليها لفترات زمنية مستدامة. إذ كان يتم التصدي للدساتير والحريات المدنية الديمقراطية وإحباطها باستمرار بواسطة أنظمة الرعاية الخارجة عن نطاق القانون، وبالفساد والعنف. عموماً، لقد كانت المؤسسات السياسية مصمَّمة لزيادة سلطات القوى التقليدية ضد الطبقات الأدنى؛ وكانت ناجحة، عموماً، في تحقيق تلك الغاية. ورغم أن الحكومات العمالية جاءت إلى السلطة في اسكندنافيا، بريطانيا، فرنسا وإسبانيا، فإن طيفاً واسعاً من الرأي العام في تلك البلدان وأماكن أخرى لا يزال يعتبرها غير شرعية بجوهرها. هذا الأمر كان هاماً في احتكار الحركات السلطوية للسياسات البرلمانية في صعودها للسلطة خلال سنوات مابين الحربين العالميتين في كل من فرنسا، إسبانيا، النمسا، هنغاريا، بولندا، بلغاريا، رومانيا والبرتغال. وخلال تلك السنوات ما بين الحربين، وعلى امتداد أوروبا، كان الهدف السياسي الرئيس بالنسبة لمعظم الأحزاب المحافظة أو مجموعات المصالح إقصاء الاشتراكيين عن أي نفوذ وتأثير حاسم على الدولة. وكما يشير " تشارلز ماير" فيقول:
" لو تُرك الاشتراكيون يمثلون أهدافهم الاقتصادية الخاصة على المستوى الوطني، فإن المحافظين القلقين كانوا سيقاومون ويردون. لقد لجأوا إما إلى اللامركزية لكن بمقاطعة السندات المالية والأموال الحكومية في آن معاً ( كما في فرنسا)، وإما إلى المعارضة السياسية المتضافرة للسياسات الضريبية ضمن ما يسمى بسياسات ائتلافية ( كما في ألمانيا)، أو بإجراءات قسرية خارجة عن نطاق القانون ( كما في إيطاليا)".
استلمت أول حكومة عمالية منصبها في بريطانيا في العام 1923، لكنها سقطت بعد عامين نتيجة فشلها في محاكمة محرر شيوعي مزعوم متهم بالتحريض. وخلال الحملة الانتخابية التي أعقبت ذلك، لعب فزع " أحمر" أثاره مكتب الخارجية دوراً حاسماً في هزيمة العماليين. وكان هناك عودة للحزب في العام 1929، لكن في العام 1932 تشكلت حكومة جديدة ائتلافية من الليبراليين والمحافظين بعد حملة أدين فيها قادة عماليين لكونهم بلشفيين وكان أكثر الناخبين مقتنعين بأن حزب العمال يمثل " جنون البلشفية". وفي العام 1936، تم انتخاب " حكومة جبهة شعبية" هيمن عليها الاشتراكيون في فرنسا. وقد أدين "ليون بلام"، الذي ترأس الحكومة، بكونه عميلاً لموسكو بعد تقديمه إصلاحات عمالية. وقد أجبرت مقاطعة الرأسماليين الفرنسيين للأموال والسندات المالية الحكومية "بلام" على الاستقالة عام 1937. وتسبب دخول SPD الألمانية إلى حكومات ائتلافية أثناء "جمهورية ويمر" ورفض الأحزاب اللا اشتراكية والمصالح التجارية المنظمة والجيش التعاون معهم ، بانهيار الجمهورية. وخلال السنوات الممتدة ما بين الحربين العالميتين، تم إغلاق مكاتب الأحزاب الاشتراكية من قبل الحكومات اليمينية في كل من إيطاليا، ألمانيا، النمسا وإسبانيا، وتم حظرها في البرتغال، هنغاريا، بولندا والبلقان. وكانت مشاركة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية في العملية السياسية هشة للغاية بعد الحرب العالمية الثانية.
2ـ بنية التوسع الرأسمالي الصناعي العابر للمحلية
تم بناء الدول في أوروبا ضمن منظومة من المؤسسات،العلاقات، والمعايير الاجتماعية الموجودة من قبل على صعيد المنطقة. فلقرون، ومع تصرف الكنيسة كعامل موحد دولي، ظل التطور السياسي، النزاع الطبقي، التغيير الاجتماعي، الإيديولوجية والثقافة الأوروبية أوروبية المنحى بشكل أساسي. وقد أدى توسع الإنتاج الصناعي في أوروبا إلى جلب مجموعات مختلفة عبر الدولة إلى إقامة علاقات ترابط أوثق. وفي حين أن خصائص المجموعات المهيمنة في أجزاء مختلفة من أوروبا قد تكون اختلفت وتنوعت، فإن الاتصالات والتفاعلات بين بعضها البعض أنتجت مجموعة من الحلول المشتركة لمشاكل تنظيم الإنتاج إلى جانب خطوط جديدة.
أما أكثر المشاكل حدة والتي نشأت مع توسع الإنتاج الصناعي فكانت كيفية تحريك كتلة العمال لأجل هذا التوسع والحفاظ، في نفس الوقت، على تبعيتهم وخضوعهم لرؤوس المال. وكان " الحل" الغالب لهذه المشكلة هو تقديم آلية، ببطء وعناية شديدين، في الوقت الذي يتم فيه استخدام طرق إنتاج لم تقتل العمال وأبقت العمالة، ككل، مشرذمة وذات أجر متواضع. في كل الأحوال، هذا الأمر طرح مشكلة إضافية: إذا ما ظل معيار الاستهلاك للحجم السكاني الوطني هو نفسه أو تم تخفيضه، فأين سيوجد المستهلكين لاستهلاك المنتجات الفائضة؟ لذا كان " الحل الشامل" هو توسيع الإنتاج لأجل التصدير مبدئياً إلى مجموعات حاكمة في بلدان أخرى. وبهذه الطريقة فإن بإمكان الجماعات الحاكمة الحد من تطور كتلة القوة الشرائية في الداخل، في الوقت الذي تنمي فيه هذه القوة الشرائية في أوساط المجموعات الخارجية والهيئات الحاكمة من خلال خلق الدين العام، والاستثمار في البنية التحتية، سكك الحديد والتسلح. نتيجة لذلك، لم يشمل توسيع الإنتاج، داخل وخارج أوروبا، المجتمعات ككل، وإنما شمل القطاعات المتطورة لاقتصادات ثنائية في تفاعل مع اقتصادات أخرى في أوروبا، أميركا اللاتينية، آسيا وأماكن أخرى.
عموما، القضية هي اهتمام النخب بتبني أحدث الأساليب لمضاعفة عائداتهم، ثروتهم وسلطتهم. فالدول والمجموعات تتبع قادتها، تحاكي أهدافها وتتبنى سياساتها. ولذا كانت المشاكل المشتركة الناشئة من المؤسسة لسوق العمال الرأسمالي والعمليات العمالية الجديدة محلولة عموماً على امتداد أوروبا بطرق متشابهة إلى حد كبير. ففي بريطانيا، ضمنت الطبقات المهيمنة تلبية الشروط والظروف لتحقيق الأرباح عن طريق استخدام أسلوبيْ الفائض الأساسي للقيمة الإنتاجية في الداخل وتوسيع الإنتاج إلى حد كبير لتصديره إلى مجموعات حاكمة أخرى. وأصبح هذا هو النموذج المتبع بالنسبة للمؤسسة الصناعية على امتداد أوروبا.
برزت أوروبا في قرنها الأول من الرأسمالية الصناعية إبان وجودها في أتون " الحرب الكبرى". إن ربع قرن من الحرب والاضطرابات الثورية جعل المأزق المركزي واضحاً بالنسبة للجماعات المهيمنة المنجذبة إلى إغراء إمكانات الأرباح العظيمة من توسيع الإنتاج: كيفية تحريك- تدريب، تعليم، وبطرق أخرى، تمكين العمال، في نفس الوقت الذي يحافظون فيه على العلاقة الأساسية للرأسمالية. وقد رُسمت مقارنات عديدة بين حجم كتلة جيش الجنود الذي تم إنشاؤه في فترة "الحرب الكبرى" وحجم كتلة جيش العمال الصناعيين الضروريين للثورة للإنتاج الرأسمالي الصناعي. وفي نفس الوقت، بدت الإشتراكية التي ولدت في الثورة الفرنسية بتركيزها على القضاء على الملكية الخاصة – أمر كانت الطبقات المهيمنة قد أنجزته خلال قرن أو أكثر من النزاع ـ بالاشتراك مع الهياج الثوري الذي أطلقت الحرب عنانه، بأنهما يهددان ثورة الجماهير المناهضة للرأسمالية. كان هذا هو السياق الذي شرعت من خلاله النخب على امتداد أوروبا بتحريك العمال بغرض الإنتاج الصناعي.
كانت النخب متجانسة، لديها الكثير لتكسبه، ومسيطرة على موارد هائلة كما كانت حرة بنشرها في عملية مستدامة لأهدافها. فقد كانت هذه النخب تسيطر إما على أجهزة الدولة مباشرة ,وإما كان لديها إمكانية الوصول لقادة سياسيين ومقايضتهم بتقديم دعمهم السياسي، أو الانسحاب من المعارضة السياسية، للحصول على تنازلات منهم. لذا فقد كانت هذه النخب قادرة، على امتداد القرن التاسع عشر، على تنفيذ هجوم تشريعي، قانوني، عسكري وسياسي هادف ومصمم ومتجانس بأساسه على الحرفيين، العمال والفلاحين. في كل الأحوال،كان لهذه السياسات نتائج غير مقصودة: فعن طريق توليد خصوم إمبرياليين وصراعات قادت في نهاية المطاف إلى حرب قوى كبرى متعددة الأطراف في أوروبا، أجبر التوسع الخارجي الحكومات والنخب الحاكمة في النهاية على تحريك الجماهير ( وبالتالي تنظيم، تدريب و، بطرق أخرى، تمكينهم) هذا بالتحديد ما بدا قرناً من التوسع الخارجي كان قد مكنهم من تجنبه. وكما أظهر عدد من الباحثين، فإن الحرب غالباً ما تنتج تسوية اجتماعية، ثورة وتحولات في توازن القوى الاجتماعية. وفي مسار الحربين العالميتين هذا ما حدث في أوروبا.
"النموذج الأوروبي" للتوسع الرأسمالي الصناعي: إعادة تفسير
كانت التجارة الخارجية المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي في إنكلترا في القرن التاسع عشر؛ لكن السوق الداخلي، و"إرساء ديمقراطية الاستهلاك"، هو ما أعطى قوة الدفع للنمو الصناعي لإنكلترا. فقد تضاعف الإنتاج الصناعي البريطاني أربعة أضعاف خلال القرن الثامن عشر، وكان معظم هذا الإنتاج عبارة عن سلع استهلاكية ضخمة. في كل الأحوال، وفي القرن التاسع عشر، وقبل وقت طويل من تعرضه للإنهاك كسوق للسلع وكرأسمال، توقف الاقتصاد المحلي البريطاني عن التوسع؛ إلى درجة أنه بحلول عام 1914 أصبح ميكانيكياً في حالة أدنى وغير مندمج بفعالية نسبة إلى اقتصادات البلدان المتقدمة الأخرى. وقد أشار عدد من الباحثين إلى أن المستثمرين البريطانيين استثمروا بحد أدنى في الاقتصاد المحلي وبأن التمويل المستخدمة للاستثمار الخارجي البريطاني كان ليساعد على تطوير وتنمية سوق محلي للإنتاج المتوسع للاقتصاد البريطاني. فضلاً عن ذلك، كانت العائدات ما بين عامي 1880 و 1914 من الاستثمارات الخارجية أدنى بكثير مما كان يمكن كسبه عن طريق تخصيص نفس لموارد لتوسيع الصناعة المحلية.
لماذا إذن تجاهل المستثمرون الفرص باستثمارات داخلية مربحة وواصلوا، بدلا من ذلك، الاستثمار عبر البحار الذي كان أكثر صعوبة وكان إحرازه مكلفاً وفي بعض الحالات ليس بذاك الربح المتوخى؟ التفسير العادي هو أن السوق المحلي لم يكن قد تطور كفاية لتوفير فرص استثمارية مربحة للرأس المال الفائض وبأنه نتيجة لذلك كان الرأسماليون مجبرين على السعي وراء مجالات استثمار أكثر ربحاً في الخارج. لكن المصدرين الرأسماليين لم يقوموا بذلك آنذاك، ومالوا ليكون لهم اقتصادات محلية ذات رؤوس أموال مشبعة. ولم تتطور بريطانيا واقتصادات أوروبية أخرى بداية، كما يفترض عادة، على أساس توسع السوق الداخلي ومن ثم التوسع لاحقاً في الأسواق الخارجية، الاستعمارية والعالمية: لقد قاموا، اولاً وقبل كل شيء، بتوسيع الإنتاج لأجل الأسواق الخارجية، وقبل وقت طويل من استنفاد فرص الاستثمار المربحة في الداخل. فالسوق الذي كان "مشبعاً" في بريطانيا في العام 1902 وقبله، كما أوضح جون هوبسون، كان مؤلفاً من الطبقات الثرية وحدها. وقال هوبسون بأنه مهما كانت السلع المنتجة في إنكلترا فقد كان بالإمكان استهلاكها فيها، مقدماً الدليل على أنه كان هناك توزيع صحيح ومناسب لـ " المدخول" أو قوة الطلب على السلع". لكن كما أشار هوبسون، كان أكثر من ربع سكان البلدات البريطانية يعيشون في ذلك الحين بمستوى " أدنى من العوز المادي الصريح".
يقول بعض المنظرين بأنه في حين لم تكن الصادرات الرأسمالية ضرورية ربما كوسيلة لتأمين الأسواق للسلع الفائضة، فإنها كانت ضرورية للتصنيع الأوروبي كوسيلة لحيازة المواد الخام ومراكمة رؤوس الأموال. في كل الأحوال، قال بول بايروخ بأنه كان لدى البلدان " الأساسية" وفرة في المعادن المطلوبة للثورة الصناعية (الحديد الخام والفحم)؛ فقد كانت مكتفية ذاتياً بالكامل في المواد الخام وبأنها صدَّرت، في الواقع، الطاقة إلى العالم الثالث. بالواقع، وكقاعدة، كان لدى البلدان اللا استعمارية تطور اقتصادي أسرع من ذاك الذي للدول الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر.
نظراً للصعوبات المتعلقة بمعايير التفسيرات للاستثمارات البريطانية، يبدو من المنطقي التطلع إلى مكان آخر للحصول على تفسير.
كان لثورة المستهلكين البريطانيين في القرن الثامن عشر آثاراً هامة على صعيد بنية المجتمع البريطاني. إن الاستهلاك الضخم مرتبط بالديمقراطية. فلو أن عمال القوة الاقتصادية تمرسوا كمستهلكين فإن ذلك كان ليمكنهم من ممارسة قوة بما يتعلق بالأجور والأسعار. ففي بريطانيا، تم رفع الأجر الحقيقي للفرد ما أن ارتفع الإنتاج لكل عامل. في كل الأحوال، إن حصة هذا الإنتاج المسلمة للعامل بشكل أجور لم ترتفع. نتيجة لذلك، فإن معيار استهلاك العامل ليس له علاقة بإنتاجيته. وطالما ظلت كتلة العمال الكبيرة، لوحدها، عامل إنتاج بدل أن تكون عامل استهلاك، فإن إنتاجيتها المتزايدة لم توفر لهم ( العمال) القوة الشرائية الضرورية لمعايير استهلاكية أعلى. ونتيجة لذلك، وبينما ارتفعت الأجور مع الزيادات الإنتاجية، فإنها انحدرت بما يتصل بغنى المجتمع والطبقة الحاكمة.
لو أن " ديمقراطية الاستهلاك" في القرن الثامن عشر استمرت، ولو أن النمو الصناعي المبني على قاعدة واسعة تطور، إلى جانب كتلة القوة الشرائية والسوق الداخلي الضروري لدعمه، لكانت البنى الطبقية والأراضي والدخل التي تستند إليها بنية القوة الاجتماعية الموجودة في بريطانيا دمرت. كانت الثورة الاستهلاكية وبروز سوق محلي للسلع الاستهلاكية المنتجة بشكل ضخم، خطرة سياسياً، لأنها عملت لتقويض التمايز الطبقي وزيادة الحراك الاجتماعي، وبالتالي لم يتم تشجيعها. فضلاً عن ذلك، إن اقتصاداً تصنيعياً بالكامل، كمتمايز عن التصنيع المحصور والمقيد أكثر لأجل التصدير الذي كانت تعمل به بريطانيا، يتطلب تعبئة ضخمة. وتخلق التعبئة الضخمة للصناعة ( كما الحال بالنسبة للحرب)، وبعيداً عن الأكثرية المحرومة نسبياً من السكان، قوة محكمة خطيرة محتملة؛ وبالتالي، فقد كانت النخب قلقة من مسألة الحد من التوسع الصناعي. أما ماركس، وكما هو الحال في قسم كبير من كتاباته، فقد كان هنا ربما ليعكس مفهوماً عاما عن زمنه فقط، عندما كتب يقول:
إن تقدم الصناعة... يحل مكان عزلة العمال.. بسبب تركيبتهم الثورية، نظراً للارتباط. لذا، فإن تطور الصناعة الحديثة يسحب البساط من تحت الأساس الذي على قاعدته تنتج البورجوازية نتاجها وتقوم بتخصيصه.
وفر نمو الطلب الخارجي والاستهلاك من خلال تصدير رأس المال والسلع الأساس لتوسع صناعي محدود، و وطلب خارجي ستحتفظ بمكاسبه طبقات أصحاب الأملاك فقط. وفي العام 1914، كان التصنيع البريطاني محدوداً، قطاعياً وجغرافياً، بصفته اقتصاد استعماري ثنائي. وأصبحت ملكية الأراضي والملكية الصناعية مركزة. فالمكننة، العمال الماهرون ورفع الإنتاجية والرواتب الحقيقية لم تتواجد سوى في قطاعات تنتج للتصدير. ولم يكن لهذه القطاعات إلا تأثير محدود على باقي الاقتصاد. ولم يكن هناك محاولات كبيرة لتوسيع أو مكننة الصناعات المنتجة للسلع بغرض الاستهلاك المنزلي المحلي. وكانت صناعات الصادرات البريطانية حتى بطيئة في تبنيها لتقنيات جديدة أو إجراء تحسينات، ليس فقط في صناعة المنسوجات، وإنما أيضاً في مجال الفحم، الحديد الفولاذ، سكك الحديد وبناء السفن.
دورة رؤوس الأموال
كان اقتصاد أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية مبني على تطوير الأسواق الخارجية للصناعات الثقيلة والسلع الاستهلاكية ذات الكلفة العالية. وعن طريق توسيع صناعة بناء السفن، صناعة الغلايات، صناعة المسدسات والذخائر، كانت بريطانيا قادرة على اختراق الأسواق الخارجية والدفاع عنها؛ هذا الأمر بدوره، وفر الفرص لبريطانيا لبناء سكك حديد أجنبية، قنوات، وأشغال عامة أخرى، بما في ذلك المصارف، التلغراف وخدمات عامة أخرى مملوكة من قبل الحكومات أو معتمدة عليها. وقد وفرت صادرات رؤوس الأموال البريطانية قوة شرائية في أوساط الحكومات والنخب الأجنبية لشراء هذه السلع والخدمات، ومولت تطوير ونقل الغذاء وصادرات المواد الخام إلى أوروبا، وبالتالي خلق قوة شرائية أجنبية إضافية إضافة إلى الطلب على السلع البريطانية وتخفيض أسعار الغذاء وبالتالي تخفيض قيمة العمالة في بريطانيا. وفي قلب هذه الدائرة كانت هناك مدينة لندن، التي اعتمدت " قليلاً فقط"، كالقطاع المتطور لاقتصاد " تابع"، على الأداء الاقتصادي البريطاني.
لقد ذهبت معظم صادرات رؤوس المال البريطانية بين عاميْ 1880 و 1913 إلى المستعمرات، أوروبا والولايات المتحدة. وذهب حوالي 70 بالمئة من هذه الصادرات إلى الأحواض، خطوط الترامواي، التلغراف والهاتف، الغاز وأشغال الكهرباء، وتحديداً، سكك الحديد المستوعبة لرؤوس الأموال بشكل هائل. ويعتبر إنتاج الأسلحة الحديثة، فقط، أكثر استيعاباً لرؤوس الأموال ( بدأ الإنتاج الضخم للأسلحة وتصديرها مع الولايات المتحدة في ستينات القرن الثامن عشر). وأصبحت الكتل الإقليمية المتزايدة على امتداد العالم مغطاة بشبكات من سكك الحديد المبنية والممولة بريطانياً، والتي وفرتها بواخر بريطانية ودافعت عنها السفن الحربية البريطانية.
لقد كان هناك قناعة لدى "كثير من الكتاب" بأن الازدهار والاستقرار السياسي والاجتماعي اللذان تمتعت بهما القوى الاستعمارية الكبرى كانا مرتبطين بممتلكاتها عبر البحار. في كل الأحوال، وبحلول عام 1914، كان نقيضا الفقر والغنى اللذان أحدثهما التوسع الاقتصادي الثنائي يولدان صراعات بشكل أو بآخر.ففي العام 1914، كانت بريطانيا "بلداً مقسماً، يتعايش فيه الفقر والغنى، غالباً في حال من الخوف وسوء الفهم المتبادلين". في العام 1913، كان أقل من 5 بالمئة من البريطانيين فوق سن الـ 25 عاماً يمتلكون أكثر من 60 بالمئة من ثروات البلاد. ورغم أن البريطانيين أصبحوا أغنى بحوالي ثلاث مرات ونصف أكثر كمعدل وسطي ما بين عامي 1830 و 1914، فإن ثلث السكان في العام 1914 كان لديهم دخل لا يوفر لهم الغذاء الكافي للحفاظ على صحتهم على امتداد العام. وارتفعت الأجور بحدة ما بين عاميْ 1905 و 1913، لكن المكاسب قابلها زيادة قوية في كلفة المعيشة وسلسلة واسعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية.
بحلول عام 1914، لم تكن التوترات تتصاعد داخل الدول الأوروبية فقط، وإنما فيما بينها أيضاً. ففي حين بدأ عدد أكبر من البلدان يعملون بسياسة التوسع الاقتصادي الثنائي الموجه خارجياً، بدأت الأهداف التوسعية بالتركيز على أوروبا نفسها، وما أن فعلت، حتى بدأ توازن القوى الأوروبي والأنظمة الإمبريالية بالانحلال.
3. ماذا تغير ولماذا؟
أجبر التهديد بحرب إمبريالية في أوروبا الحكومات والنخب الحاكمة على القيام بالضبط بما مكنهم قرن من التوسع الامبريالي " عبر البحار" من تجنبه: حشد الجماهير.
في القرن الثامن عشر، اعتمدت الحكومات على النخبة الاجتماعية كي تدفع للجنود المرتزقة وقادة الجيش كي يخوضوا حروباً محترفة. وكان تأثير هذه الحروب على النظام الاجتماعي محدوداً نسبياً. في كل الأحوال، إن مشاركة الطبقات الدنيا في الحروب التي خاضتها جيوش "المواطنين" الضخمة لنابليون ومشاركتهم في الجيوش الضخمة التي حشدت للحرب ضدهم، إضافة إلى مجالات أخرى تتعلق بالعمل والحياة الاجتماعية محظورة عليهم، كلها أمور عملت على تعزيز قوة العمال ودعمت موقعهم في السوق. كما أن الأمر أجبر الحكومات على ضمان ولائهم عن طريق إيصال مختلف الحقوق إليهم. وبالتالي، وبعد الحروب النابليونية، وبرغم صعوبة زيادة عدد قوات المرتزقة الكبير والحفاظ عليهم، كان هناك عودة إلى الجيوش على الطراز القديم من الاحترافيين، المرتزقة، و" السادة النبلاء" المصروفة رواتبهم. وتم استخدام السلاح الجديد الذي قدمه نابليون في العام 1870 من قبل فرنسا وألمانيا، مع نتائج مرعبة ايضاً ( صعود اللجنة الثورية الباريسية)، ولم يتم استخدامه بعدها حتى العام 1914.
في العام 1914، أجبرت التهديدات الإمبريالية العدائية على جبهاتهم الأمامية الدول الأوروبية، مجدداً، على استخدام ما كان يسمى آنذاك أقوى سلاح من أسلحة الدمار الشامل، أي" السد الجماعي". فالتعبئة الضخمة للحرب العالمية الأولى حركت ثورة اجتماعية اكتسحت أوروبا ما بين عاميْ 1917 و 1939. وقد أدت الجهود لمنعها من التصاعد والانتشار أكثر إلى الحرب العالمية الثانية مباشرة. وفي نهاية الحرب، كانت المنطقة قد تحولت بكاملها. وقد اتبعت الحرائق والصراعات الإقليمية المشتعلة السابقة عمليات ترميم للأوضاع ( مثلاً، الحروب النابليونية، ثورتيْ 1830 و 1848، الحرب العالمية الأولى)؛ في كل الأحوال، لقد جعلت الحرب العالمية الثانية مسألة ترميم واستعادة الأوضاع السابقة أمراً مستحيلاً، بسبب تحول توازن القوى الطبقية على امتداد أوروبا. بدلاً من ذلك، أحدثت القوة التنظيمية والسلطة المتزايدة بشكل كبير للطبقات العمالة وجماهير الفلاحين، وانحدار الأرستقراطية نتيجة تغيرات زمن الحرب، الظروف لتسوية طبقية تاريخية ولتحقيق ديمقراطية ورأسمالية أكثر تضميناً وطنياً نسبياً ( ما يعني تطور أكثر توازناً وموجه داخلياً).
كانت التسوية الطبقية التي تم التوصل إليها في أوروبا الغربية بعدى الحرب العالمية الثانية مبنية على الأهداف الاجتماعية والكينيزية ( Keynesian) والتعليمات السياسية. فقد تطلبت موافقة الديمقراطيين الاجتماعيين على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وأن يستخدم ا

موقع الخدمات البحثية