مواد أخرى » آل الحريري والمصير السياسي بعد الربيع العربي


ورد فلوبيرجس ـMedeterranean Politics
تموز، 2012
الملف الشخصي

في أيلول 2011،  وبكل ما في الأمر من رمزية، كان هناك عرض على أقراص الـ DVD لرفيق الحريري في ' بيروت فيرجن ميغاستور' بسعر مخفض. وفي الجوار، لم يعد يتم تجديد الزهور على قبر الحريري كل يومين؛ لقد تم زرع زهور اصطناعية بدلاً من ذلك. أما الأمر الأسوأ ربما فهو كسر سعد الحريري ( ابن رفيق وخليفته السياسي) لرجله أثناء عطلة له للتزلج في جبال الألب الفرنسية في كانون الثاني 2012.
بعد عام من الإطاحة بحكومة سعد الحريري من السلطة، بدا بأن ' أسرة الحريري' قد ضربتها أزمة مراهقة، وهذا واضح. فبسبب معاناته من أخصامه السياسيين ومشاكله المالية والأزمة السورية الخطيرة العالقة، كان الحريري يقضي معظم أوقاته بين باريس والرياض.
خلال العقدين الماضيين ( 1992-2012)، مارس آل الحريري، على الدوام، السلطة الحكومية في لبنان، ما عدا الفترة القصيرة الممتدة ما بين كانون أول 1998 وتشرين أول 2000 وفي الفترة الأقصر حتى ما بين تشرين أول 2004 وحزيران 2005.  أما غيابهم عن السلطة في الحكومة منذ أوائل 2011، الذي يمكن أن يستمر حتى الانتخابات البرلمانية عام 2013، فيشكل مزقاً وانفصالاً لافتاً عن الماضي.
لفهم هذا التغير الكبير، تعتزم هذه المقالة، أولاً، القيام بتحليل عن ولادة السلالة الحاكمة، ثانياً، تحليل الأسباب التي تقف وراء انحدارها الظاهر، وثالثاً تقييم التصورات المتعلقة ببقائها في بيئة إقليمية غامضة يهيمن عليها الآن الوضع السوري المعقد.
ولادة سلالة حاكمة
بعد الاغتيال المذهل للمؤسس الداهية لهذه السلالة في 14 شباط 2005، كانت العائلة تحت ضغط تقديم زعيم جديد. وسوَّى أقارب رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري القضية بغضون شهرين. ففي 20 نيسان، 2005، استفادت العائلة من ذكرى مرور 40 يوم على الاغتيال لتعلن بأن نازك الحريري ( أرملة رفيق الحريري وزوجته الثانية وأم لأربعة أولاد منه من أصل سبعة غيرهم) هي التي ستتولى الإشراف على كل 'المؤسسات الخيرية والاجتماعية'، في حين كان على ابنه سعد ''تحمل المسؤولية التاريخية وقيادة كل الشؤون الوطنية والسياسية'.
ومن بين أفراد العائلة المباشرين، تمتعت بهية الحريري ( الشقيقة الأصغر سناً لرفيق الحريري المولودة عام 1952 والمتزوجة من ابن عمها مصطفى الحريري) بالأقدمية السياسية. فبصفتها ممثلة برلمانية عن صيدا، مدينة العائلة، منذ العام 1992 والمديرة السابقة لمؤسسة الحريري، فقد شهدت من الداخل كيفية تتطور وتجلي الوظيفة السياسية لأخيها. فضلاً عن ذلك، وفي 28 شباط 2005، ألقت بهية الحريري خطاباً عاطفياً في البرلمان ساهم باستقالة عمر كرامي من منصبه كرئيس للوزراء في نفس اليوم. عقب هذا التدخل، زادت شعبيتها وقد يكون رأى فيها عدد من المراقبين أول رئيسة وزراء عربية محتملة – رغم أنه سرعان ما نقضت بنفسها هكذا شائعات. ورغم أن غياب بهية الحريري عن المشهد السياسي بعد تسمية سعد كان محل جدل شديد، فإنها ظلت قوة رئيسة في صيدا، معقل العائلة الحصين. وقد عملت كوزيرة للتربية ما بين تموز 2008 وتشرين الثاني 2009.
من جانبه، كان بهاء الدين الحريري، الابن الأكبر لرفيق الحريري ( مواليد 1967) الوريث الطبيعي لسلطة والده السياسية. وعلى عكس أخيه الأصغر سعد الدين ( مواليد 1070)، بدا بهاء الدين شخصية قوية ولامعة. وفي الأيام التي أعقبت موت والده، كان بهاء- وليس سعد- هو الذي تم تقديمه على أنه الراعي الرئيس لمصالح العائلة. لقد كان بهاء هو الذي سافر إلى الرياض في أوائل نيسان 2005 لاستلام جائزة الملك فيصل باسم مؤسسة الحريري. مع ذلك لم يتابع بهاء الطريق لتمثيل العائلة سياسياً.
أما النظريات التي تعرض إلى أن سعد ناور لأجل استلام المنصب فليس لها مصداقية كبيرة. فهناك عدة عوامل ملموسة أدت إلى بلورة مهنته السياسية. على المستوى الوطني، كان وليد جنبلاط، وهو حليف هام للحريري في ذلك الحين، قريباً جداً من العائلة بحيث أنه ساعد في تنظيم البروتوكول لذكرى اغتيال الحريري في قريطم ( مكان السكن الفخم  للحريري في بيروت ). ويبدو بأن تفاهماً متبادلاً بين سعد الحريري ووليد جنبلاط قد نما وتتطور في تلك الأيام. وقد يكون الزعيم الدرزي استشعر بأن سعد، مقارنة بأخيه الأكبر بهاء الدين، هو أكثر حزماً وتصميماً تجاه النظام السوري – ومن ثم الجاني البديهي في اغتيال الحريري.
إلى جانب ذلك، فضل بهاء الدين التركيز على نشاطاته وأعماله.  وقد أتاحت له مسألة إعادة توزيع الحصص لاحقاً الانسحاب من ' أوجيه السعودية'، الشركة القابضة للعائلة في السعودية، والتركيز على إدارة استثماراته الخاصة خارج مقر إقامة عائلته في جينيف ( في عقارات شرق أوسطية وقطاعات لوجستية).
أما على المستوى المحلي، في بيروت، فقد كان لنازك الحريري سيادة لا بأس بها على شؤون العائلة؛ لقد كان من الطبيعي بالنسبة لها فحسب أن تلعب دوراً معيناً في الخلافة. وقرأ بعض المراقبين في موقف نازك حساسية ما بما يتعلق بالطموح السياسي لشقيقة زوجها لكن لا ينبغي للمرء أن ينسى بأن بهية الحريري قد أبعدت نفسها عن السياسة باكراً. فضلاً عن ذلك، ينبغي أخذ العلم بأن الابن الأكبر لبهية الحريري، نادر ( مواليد 1969)، كان رئيس الموظفين في مكتب سعد الحريري منذ العام 2005، في حين أن ابنها الثاني، أحمد ( مواليد 1982)، كان يتولى مراكز قيادية عديدة داخل تيار المستقبل، الحزب السياسي الذي أسسه رفيق الحريري.
إذن، ورغم أن إبنيْ بهية، وليس إبنيْ نازك ( أحمد وفهد)، هما اللذان اندمجا في الآلة السياسية الحريرية، تبدو ترتيبات الخلافة مسألة تسوية تم التفاوض حولها بدقة وعناية ولا تبدو نتيجة نزاع حول السلطة بين قسم مهيمن وقسم أقل شأناً في العائلة. إلى جانب ذلك، فإن هذا الترتيب الذي يضع سعد مسؤولاً ونادر كمستشار رئيس له يتماشى مع تقليد الخلافة ( السياسية) الذكورية اللبناني الذي يعتبر سبباً آخر لكون ترشح بهية الحريري قضية حساسة، خاصة في نظر الناخبين السنة المحافظين. ولهذا السبب، كان لولي العهد الأمير عبد الله ( الذي أصبح ملكاً في آب 2005) والأمير سعود الفيصل في السعودية إضافة إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك في فرنسا رأيهم في مسألة الخلافة تلك.
ولد سعد الدين الحريري، الابن الثاني لرفيق الحريري ونداء بستاني ( زوجة الحريري الأولى)، في السعودية في 18 نيسان 1970. وعندما كبر ما بين الرياض وصيدا، محاطاً  بجدَّيْه وعمته بهية في الوقت الذي كان والده يعمل في الخارج، قيل بأنه طور، وبسرعة، علاقة دافئة مع نازك، التي يدعوها سعد بأمه– على خلاف أخيه بهاء. في واقع الأمر، كان سعد هو من أحاط بنازك عندما ظهر شيراك وزوجته على قبر الحريري يوم جنازته.
عقب تخرجه ( في 1992) بشهادة إدارة الأعمال من جامعة جورج تاون، كانت صلة سعد الحريري بالسعودية قد تطورت أكثر بعد استقراره في الرياض في العام 1996 لرعاية مصالح العائلة هناك. إضافة إلى صلاته بالمشاريع والمؤسسة السياسية السعودية، قد تكون تدخلات ولي العهد الأمير عبد الله عكست تفضيل الحكم الملكي شخصية سعد الدمثة على مزاج بهاء المتقلب.
صعود وسقوط سعد الحريري 
سرعان ما كان سعد الحريري يدلي بقسم اليمن كرئيس حكومة لبنان الـ 71.  وبقيادته تحالف للنجاح في الانتخابات خلال انتخابيين تشريعيين متواليين ( 2005 و 2009)، وبتجاوزه المشاحنات المعوقة من قبل شركاء ائتلافه النهائيين، تثبَّت سعد الحريري رسمياً في 9 تشرين الثاني 2009 وتسلم قيادة حكومة شاذة من 30 وزيراً. بالواقع، لقد بدل الوظائف مع سلفه فؤاد السنيورة  (رئيس الحكومة من 2005 وحتى 2009)، الذي ترأس منذ ذلك الحين تيار المستقبل.
بمعنى آخر، لقد اكتملت الآن دائرة السلالة الحريرية الحاكمة: فسعد الحريري، الابن الذي  بدأ بتعزيز امبراطورية الأعمال والمشاريع لوالده، يتولى أيضاً أعلى منصب متوفر للمسلمين السنة في لبنان. أما بما يتصل بقضية الخلافة، فقد حددت العوامل الوطنية والدولية المتوافقة وظيفة سعد كرئيس للوزراء. ورغم أنه قد لا يكون يمتلك سحر وجاذبية والده وموهبته السياسية، وبما أنه ورث نفوذ ورعاية العائلة إلا أنه اكتسب الجرأة في الوقوف أمام جمهور عريض في العلن. 
أما على المستوى الوطني، فقد عمل سعد الحريري بجد لاكتساب الشرعية في الداخل: لقد طور تدريجياً سلوكاً ومظهراً وحدوداً خاصة به في الحياة السياسية اللبنانية. ويرمز مكان إقامته الاستراتيجي في وسط بيروت، المسمى، مجازاً، ' بيت الوسط'، إلى دعواه بالتصرف كممثل رئيس عن السنة في العاصمة. فضلاً عن ذلك، وبفضل الولاء القديم لفؤاد السنيورة،  تحول شبح التهديد المحتمل من رئيس حكومة سابق، وبشكل فاعل، إلى عهد ولاء من سياسي رفيع لسعد الحريري وسياساته.
على المستوى الدولي، يمكن القول بأن أهم قرار لسعد الحريري كان زيارته الرسمية لدمشق في أواخر كانون أول 2009. فبرعاية من السعودية والتسهيل الذي قدمه زواجه من سيدة من عائلة سورية مرموقة (لارا العزم، له منها ثلاثة أولاد) قام سعد الحريري بزيارة للرئيس بشار الأسد دامت يومين، ما يؤشر إلى استعداده للتصرف كرجل دولة عن طريق وضع الضرورات السياسية قبل الاعتبارات الشخصية.
وفي حين عزز هذا الموقف التصالحي من قبل سعد الحريري الموقف الدولي إزائه ، فإن سفراته المتكررة إلى الخارج ( لإجراء محادثات، وإنما أيضاً كإجراء أمني) واللقاءات الرائعة مع قادة عالميين لم تحسن بالضرورة من أوراق اعتماده في الداخل في بيروت، بما أن منتقديه قد اتهموه بالتخلي عن ناخبيه اللبنانيين وسط الصعوبات. مع ذلك، وخلال فترة حكمه، وسع سعد الحريري سيطرته، وبشكل منهجي، على شبكة من المؤسسات المترابطة والأفراد المؤثرين والنافذين.
هذه الشبكة من المستشارين المقربين والعملاء البعيدين يمكن تسميتها بتكتل الحريري، سمة حيوية وأساسية لسلالة الحريري السياسية الحاكمة منذ أن اعتمد الأب والابن على هذا النموذج لإنتاج رافعة وموارد تسمح لهما بالسيطرة على مساحات الواسعة من الاقتصاد اللبناني ولجعل عدد لا بأس به من المناصرين والداعمين المدفوعين بدافع الحصول على المغانم يستمتعون. هذا التكتل يتألف من دوائر مركزية مؤلفة من هيئات إدارية إضافة إلى مستشارين يرافقون رئيس الوزراء في حله وترحاله، وبالتالي التصرف كحكومة ظل.
وكما اعتمد رفيق الحريري على مجموعة من المستشارين كنهاد المشنوق، غسان طاهر، فؤاد السنيورة، باسم صباح، باسل فليحان، أو فضل شلق وعلى مصالح تتعلق بمشاريع إعلامية  (مجموعة المستقبل)، عقارية ( سوليدير)، مالية ( بنك البحر المتوسط)، والاتصالات ( أوجيرو) إضافة إلى إدارات عامة مختارة ( مجلس الإنماء والاعمار، وزارة المالية)، هكذا ابنه وخليفته أيضاً عمل على موضعة أسطول مساعديه ووسطائه استراتيجياً.
وقد شملت الشخصيات الأساسية المحيطة بسعد الحريري أسماء هم:هاني حمود ( المستشار الإعلامي )، محمد شطح ( المستشار السياسي)، مازن حنا ( المستشار الاقتصادي )، محمد السماك ( مستشار الشؤون الدينية)، فادي فواز ( مستشار التنمية)، أمل مدللي ( مستشارة الشؤون الأميركية)، إضافة إلى النائبيْن في البرلمان غازي يوسف وغطاس خوري. أما على مستوى الأعمال والمشاريع،  فقد ضمت الأسماء شخصيات أساسية: محمد الحريري ( مدير في القطاع المصرفي، وشركات الاعمار والاتصالات) وعلي خولاغاسي ( مسؤول عن عدد من الاستثمارات العقارية في الأردن). أما قلب هذا التكتل الداخلي خلال رئاسة سعد الحريري للحكومة فكان مؤلفاً من نادر الحريري، محمد شطح، هاني حمود وسعد الحريري نفسه.
أما في قطاع الأعمال والمشاريع، فقد عمل سعد الحريري على تطوير مجموعة المستقبل الإعلامية أكثر( تم إطلاق تلفزيون أخبار المستقبل في كانون أول 2007)، وعمل على ترشيد الأنشطة المصرفية في لبنان والخليج، وفي كانون الثاني 2008 اشترى سعد الحريري حصة أخيه بهاء في ' أوجيه السعودية' ليصبح بذلك مالكاً لـ 50 % من أسهم الشركة. أما بالنسبة لمساعديه في الإدارة العامة، فقد كانوا موجودين في إدارات مختلفة، ليس أقلها شعبة المعلومات التابعة لقوى الأمن الداخلي.
إن امتداداً وانتشاراً كهذا لا بد وأن يتسبب بإثارة الحساسيات بالتأكيد. فما أن اتخذت مكاناً لها، حتى تجسدت المقاومة ضد حكومة سعد الحريري. فمن جهة، تأصلت المعارضة بسبب الانقسام العميق بين ائتلافي 8 و 14 آذار الذي ميز الحياة السياسية اللبنانية منذ العام 2005. من جهة أخرى، تعتبر إجراءات سعد الحريري تقليداً، والى حد كبير، لتلك التي كانت لوالده من قبل، بما في ذلك بعض أعضاء التكتل لديه. نتيجة لذلك، دفع الدعم الحكومي في كانون الثاني 2011 للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي تحقق بقضية اغتيال والده حزب الله إلى الإطاحة بحكومة الحريري عن الطريق الترويج لنجيب ميقاتي كرئيس جديد للوزراء. ومع ثروته الضخمة وقاعدة قوته المحلية    (في طرابلس) يماثل هذا السياسي السني الحريري بطرق عدة ـ ويتحداه.
ممارسات عملية الانتقال
مع الأخذ بالاعتبار مستقبل آل الحريري المستجد، ينبغي الالتفات إلى الثلاثية التي تهم في لبنان، تحديداً اقتران الظروف الدينية، الاقتصادية والسياسية. فعلى المستوى الديني، اندلعت معركة شرسة لأجل دعم السلطات السنية بين الحريري وميقاتي. وكان مفتي الجمهورية الشيخ قباني، الذي يدين بالفضل لصعوده إلى رفيق الحريري، متحالفاً مع عائلة الحريري على مدى العقديين الماضيين. وفي شباط 2011، قام قباني، وعلى نحو متزايد، بمداهنة ميقاتي وحكومته. وفي أيلول 2011، أثارت زيارة قباني للجنوب اللبناني ( الذي يعتبر معقلاً لحزب الله) مناصري الحريري السنة. لاحقاً، وفي شباط 2012، دعا قباني إلى إعادة هيكلة الهيئات الإدارية السنية في محاولة لتوسيع استقلاليته الذاتية. إن الخلفية لقاطرة الحرب المثلثة هذه، التي يقدم فيها المفتي دعمه للآمر الأعلى، مطلب تاريخي للحصول على الاعتراف به في أوساط سنة لبنان والذي لطالما كان المفتي مورطاً نفسه به.
أما على الجبهة الاقتصادية، فإن بقاء سلالة الحريري يعتمد على قدرتها على الاستمرار بتوزيع الوظائف والرواتب لعملائها. في كل الأحوال، لقد انتشرت شائعات قوية عن رواتب غير مدفوعة  وعن مشاكل مالية أخرى لكتلة الحريري منذ أن أُجبر سعد الحريري على ترك منصبه. بالواقع، لقد أقيل نديم المنلا، كمدير تنفيذي لمحطة تلفزيون أخبار المستقبل ( التي دُمجت مع تلفزيون المستقبل) ولاحقاً، أُجبر سعد الحريري، بحسب ما قيل، على بيع حصص من ' أوجيه تيليكوم' إلى  'السعودية تليكيوم'  وفي وقت سابق، كان قد باع أساساً حصصه في مجموعة للتأمين( ميد غلف) إلى مجموعة إماراتية، فقط للاحتفاظ بحصص غير لبنانية - مثل Saraya القابضة في الأردن أو Tihama  Power في السعودية- إضافة إلى المشاركة في بنك البحر المتوسط. وخلال جهود التواصل التي أطلقها عبر التويتر في أواخر 2011، اعترف سعد الحريري بهذه المشكلة الاقتصادية لكنه أكد على أن المشاكل قد حلت.
أخيراً، تواجه سلالة الحريري الحاكمة المستجدة تحديات سياسية جدية وخطيرة. فعلى المستوى الوطني، استهدفت حكومة ميقاتي كتلة الحريري في مواقع أساسية ( وزارة الاتصالات، بلدية بيروت، مؤسسة سوليدير). وفي وجه هذه الانتكاسات، لم تنخفض ممارسات المحسوبية لتيار المستقبل مالياً فحسب، وإنما افتقر أيضاً إلى برنامج جاذب وطنياً بسبب تغذية الانقسامات الطائفية. فضلاً عن ذلك، وفي دردشاته على مواقع التواصل الاجتماعي الالكتروني زاد سعد الحريري من انتقاداته لحزب الله، مشيراً إلى التناقض الموجود لدى السيد نصر الله في إشادته بثورات في بلدان عربية محددة لكن بقائه صامتاً حيال الثورة في سوريا.
هذا يحضرنا إلى التحديات على المستوى الدولي، حيث يوجد ثلاث قضايا أساسية بالنسبة لبقاء آل الحريري السياسي في لبنان. أولاً هناك علاقة سعد الحريري مع السعودية. فالحريري لم يزعج الراعين الملكيين فحسب في دخوله بمشكلة مالية برغم سخائهم معه. لقد كان هناك حساسيات أيضاً بين سعد الحريري وشخصيات نافذة، مثل محمد بن نايف، ابن وزير الداخلية الأمير نايف، الذي عُيِّن ولياً للعهد بعد موت أخيه سلطان في تشرين الثاني 2011. ورغم  أن الحريري قلل من شأن هذه العدائية واجتمع بسرعة مع ولي العهد المعيَّن حديثاً، فإن الرياض لم تستقبل سعد الحريري ما بين كانون الثاني 2011 واحتفالات عيد الفطر في أواخر آب 2011، في إشارة واضحة إلى استيائهم منه. في كل الأحوال، لقد تم تجاوز هذا الاضطراب في العلاقات بسبب الضرورات الجيوسياسية الواسعة.
أما القضية الثانية الأساسية، المسلطة كسيف ديموقليس فوق رؤوس كل اللبنانيين وفوق رؤوس حلفائهم الإقليميين، في الواقع، فهي النتيجة التي ستخرج بها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. ونظراً لحساسية إجراءاتها المستمرة والباقية ( في شباط 2012، مددت الأمم المتحدة التفويض للمحكمة الدولية ثلاث سنوات أخرى) واتهام عناصر في حزب الله، فإن هذا السؤال مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعامل المحدِّد الثالث، تحديداً النزاع حول السلطة في سوريا.
الأزمة في سوريا والتصورات للمستقبل
تشمل التأثيرات المتعددة للأزمة السورية على لبنان التدهور الاقتصادي، الانشقاق الداخلي في أوساط أعضاء حكومة ميقاتي وأيضاً وصول أكثر من 26000 لاجئ سوري مسجلين رسمياً إلى لبنان ( معظمهم في منطقتيْ عكار والبقاع)، ما يتسبب في مأزق حكم داخل حكومة عاجزة عن توفير المساعدات الإنسانية بسبب الحساسية الديمغرافية ( وبالتالي السياسية) لموجة ثالثة من اللاجئين الإقليميين – بعد الفلسطينيين منذ العام 1948 والعراقيين منذ 2003. وكما في ميادين وحقول أخرى، عزز هذا الفراغ التنفيذي روابط التضامن العائلي والطائفي اللبناني، ما يعزز بالتالي هذه الشبكات بصفتها الممثل الإداري الرئيس للمواطن ضمن الدولة اللبنانية.
في هذه الأثناء، كان سعد الحريري إضافة إلى وليد جنبلاط، من بين آخرين، يعبر عن الدعم الصريح لقوى المعارضة السورية. وفي حشده لإقامة الاحتفال بالذكرى السنوية لاغتيال الحريري، نشر تيار المستقبل أيضاً ورقة سياسية مقدِّماً ' ربيع بيروت 2005' على أنه أصل الربيع العربي 2011.
يبدو بأن بعض العناصر المؤيدين للغرب في ائتلاف 14 آذار بقيادة الحريري يعتقدون بأنه ما أن ينهار نظام الأسد فإن كل المشروع الجيوسياسي الذي يقوم عليه معسكر 8 آذار الموالي لسوريا بقيادة حزب الله سوف ينهار حتماً. في كل الأحوال، يبقى لنا أن ننتظر ونرى احتمال حصول تطور كهذا، بالأحرى المكاسب السياسية  لهذا الموقف، خاصة على المدى الطويل.
بالواقع، ينبغي للمرء ألا ينسى بأن خطاب المقاومة ضد إسرائيل خطاب شعبي في سوريا؛ فصعود شعبية نصرالله على امتداد العالم العربي ( السني بغالبيته) بعد حرب تموز 2006 والتضامن الانتهازي التقليدي لقيادة حزب البعث مع الفلسطينيين يوضح هذا الأمر. فليس إسقاط حكم آل الأسد هو ما سيجعل مشروع المقاومة يموت كنتيجة مباشرة لذلك السقوط.
هذا الأمر يساعد في تفسير السبب الذي يعتمد فيه حزب الله – الذي يراهن على بقاء النظام السوري – على دعم المجتمعيْن العلوي والمسيحي ( بسبب هويته الشيعية وتحالفه مع عون أيضاً) كما أن في ذهنه عدم الابتعاد والانعزال  كثيراًعن المجتمعيْن الدرزي والسني في سوريا.
كما يؤشر الأمر أيضاً إلى أن أية مكاسب أتوماتيكية لفريق الحريري، في سوريا ما بعد الأسد، أمر غير محتمل:  حتى في أوساط المعارضين للأسد – بعضهم ممن هم أكثر إنجذاباً إلى الحكومات الملكية الخليجية الثرية – ولطالما نُظر إلى ائتلاف 14 آذار على أنه قوة إمبريالية. باختصار، إن الروابط التي صيغت مؤخراً بين 14 آذار وأعضاء المعارضة السورية قد لا تدوم وتبقى طويلاً مع وجود واقع سياسي سوري جديد على الأرض.
لذا ينبغي رسم سيناريوهيْن افتراضييْن لجهة وجود آثار أكبر على لبنان. السيناريو الأول، هو سيناريو أفضل الأحوال، وهو الذي يرى بشار الأسد تاركاً للسلطة. إن التخلص منه أو نفيه يمكن أن يسمح عندها بحصول مفاوضات تشمل كل القوى في المجتمع السوري ويقود إلى تأسيس حكومة تحوز الإجماع العام وتكون موجهة نحو التسوية والتعافي الاقتصادي. أما  مدى واقعية حصول تحول كهذا في الأحداث فمسألة أخرى.
أما السيناريو الثاني فقد يكون تمكن النظام من البقاء مدة أطول بكثير مما هو مفترض على نحو شائع، برغم أن كثيرين يعتقدون بأن ذهاب بشار الأسد ما هي إلا مسألة وقت. هذا الأمر يمكن أن يقود إما إلى استعادة مهزوزة للسيطرة البعثية وإما إلى حرب أهلية مطولة ( السيناريو الأسوأ بالنسبة لكل الأفرقاء المحليين والإقليميين، بمن فيهم إسرائيل). وفي الحاليْن، يحتمل أن تكون الآثار على لبنان كارثية.
تعرض أمثلة، كخطف الزوار الشيعة اللبنانيين قرب حلب أو الكتيبة التي تسمى نفسها ' كتائب رفيق الحريري' التي تحارب الجيش السوري في إدلب، إلى مدى سهولة إمكانية جر اللبنانيين إلى الوحل السوري فحسب. ورغم أنه يتم تسريب المتمردين والأسلحة إلى داخل سوريا من تركيا، العراق والسعودية أيضاً، إلا أن الجهات الفاعلة اللبنانية قد تجد من الصعب عليها كبح المتهورين المتحمسين لوضع مهاراتهم القتالية قيد الاختبار.
حالياً، هناك عاملان منعا حصول تلوث يشعل لبنان. العامل الأول، حاول الشعب السوري مقاومة تكتيكات ' فرق تسد' التي يتبعها النظام السوري. فارتباطاتهم العديدة بلبنان عبر المشاريع والأعمال وتاريخ العائلات جعلتهم واعين جداً ( أكثر مما كان عليه العراقيين) للأخطار المحتملة للتطرف المذهبي والطائفي. وبسبب دعم نصر الله لنظام الأسد، تمقت قوى المعارضة داخل سوريا حزب الله وتسميه ' حزب اللات' ( وهي إهانة، وتعود التسمية لصنم معبود ما قبل الإسلام) في إشارة محبطة وشرسة لما يمكن أن يكون مجتمعاً سورياً متميزاً بالكراهية المذهبية.
العامل الثاني كان تصميم الأجهزة الأمنية اللبنانية القيام بقمع أية إضطرابات يمكن أن تحصل. إن الاعتماد المتزايد للسياسيين على المعرفة العسكرية وميلهم لمشاورة جنرالات مثل ميشال سليمان ( الرئيس اللبناني)،  جون قهوجي ( قائد الجيش) أو أشرف ريفي ( مدير قوى الأمن الداخلي) رواية ديناميكية بحد ذاتها. ورغم أن لهذه الظاهرة جذوراً أعمق وهي غير متصلة بالاضطرابات التي اندلعت في سوريا منذ آذار 2011، فقد كانت من بين تحولات أكثر أهمية حصلت في لبنان منذ العام 2005.
وفي حين أن الجيش مهتم قبل كل شيء بالحفاظ على الأمن والاستقرار، فإن هذه الديناميكية وضعت مصلحة الدولة بقيادة الجيش قبل المصالح العامة، وبالتالي المساس بالمساحة العامة والأملاك العامة. ومن المفارقات أن هذه العسكرة للحياة السياسية اللبنانية قد تكون من بين النتائج الأكثر وضوحاً التي بدأ يختبرها لبنان منذ موجة التغيير الإقليمي.

موقع الخدمات البحثية