مواد أخرى » الربيع العربي أصل التسمية الخاطئة

آشر ساسر ـ Foreign Policy Research Institute ـ E-Notes
نيسان، 2012
( آشر ساسر زميل وباحث كبير ومدير سابق لمركز موشيه دايان للدراسات الشرق أوسطية والأفريقية في جامعة تل أبيب. اسم كتابه الجديد: إسرائيل، الأردن وفلسطين: حتمية الدولتين (Crown Books). هذا المقال أعيد طبعه بإذن من Tel Aviv Notes، في 26 آذار، 2012، منشورات مركز دايان. أنظر: http://www.dayan.org/tel-aviv-notes.
وسيتحدث البروفسور ساسر في " معهد أبحاث السياسة الخارجية (FPRI) في أيلول حول " حل الدولتين: الانتقال من هنا إلى هناك").

كان يُشار في الغرب إلى الأحداث العاصفة التي اجتاحت الشرق الأوسط خلال العام الماضي باسم " الربيع العربي". لقد كانت وسائل الإعلام غارقة بالتوقعات حول ثورة ديمقراطية وعلمانية وشيكة تزيل الدكتاتوريين الذين حكموا قسماً كبيراً من المنطقة لأجيال. إن مصطلح "الربيع" له أصل أوروبي، يستحضر روابط بينه وبين " ربيع الأوطان" 1848، " ربيع براغ" 1968، أو ربيع أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات بعد سقوط الشيوعية، عندما سعت الثورات الشعبية باسم الديمقراطية العلمانية إلى الإطاحة بأنظمة مستبدة حكمت لعقود. إن " الربيع العربي"، وفقاً لهذا التفكير، مماثل للتجربة الأوروبية. بالواقع، وبحسب ما قيل لنا، كانت الحركات الإسلامية على هامش الأحداث وقوة مبالغاً بها في الحياة السياسية العربية. لقد تم دفعهم جانباً بواسطة الجيل الجديد الشاب من الديمقراطيين العلمانيين المنظمين من خلال شبكات التواصل الاجتماعي الحديثة جدا كالفايسبوك والتويتر، كنظرائهم الغربيين فعلاً. ولم يثبت صحة أي شيء من هذا.
هذه التقييمات الخاطئة كانت كلها مكونات "عالمية مزيفة" لم تترجم أبداً إلى واقع سياسي. فالإسلاميون، برغم مشاربهم المختلفة، فازوا بكل الانتخابات التي تمت منذ أن هلَّ " الربيع العربي". ففي مصر، أهم الدول العربية، سحق الإسلاميون الديمقراطيين العلمانيين، الذين أثبتوا أنهم قوة سياسية غير ذات صلة تقريباً. كما فاز الإسلاميون أيضاً في الانتخابات التي تمت حتى الآن في تونس، المغرب، والكويت، وهم يلعبون دوراً بارزاً في ليبيا ما بعد القذافي.
كان هناك تحفظ عميق في أوساط المراقبين الغربيين بخصوص الاعتراف بغيرية الآخر الشرق أوسطي واختلافه، تحديداً الاعتراف بواقع كون المجتمعات الشرق أوسطية أقل علمانية وأكثر تقوى وتديناً بكثير من نظيراتها الغربية. أما أصل هذا التردد المتأصل بالانخراط والمشاركة في الغيرية الشرق أوسطية المختلفة فنجدها في الهجوم الأعم ما بعد الحداثة على العلم المجرد والحقيقة الموضوعية، الأسس والمرتكزات المنطقية للتنوير الأوروبي. فبعد الحرب العالمية الثانية، التي تم خلالها توظيف العلوم الحديثة لارتكاب الهولوكست، العمل غير المسبوق على المستويين الأخلاقي والإنساني، إضافة إلى تدمير جموع من المدنيين الأبرياء عمداً بالأسلحة النووية، طرحت شكوك حول صحة وشرعية مفهوم العلم المجرد.  فإذا " ما كان هناك من تساؤل عن أسس العلوم فإن كل ذلك وأكثر كان إشارة " للحقيقة الموضوعية " للعلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث ان النقاش المطروح الآن بقوة متزايدة باستمرار هو أن العلوم " الناعمة" لم تكن أكثر من مجموعة من الأجندات السياسية، أو الروايات، مصممة كلها لخدمة غايات سياسية لنخب أو جماعات محددة من أصحاب المصالح. لذا، ينبغي إعادة صياغة العلوم الإنسانية والاجتماعية للمساعدة على خلق نظام سياسي جديد أكثر عدلاً.
 لم يتجنب هذا النقاش مجال الدراسات الشرق أوسطية. وفي كتابه الأكثر تأثيراً، " الاستشراق"، هاجم إدوارد سعيد، بروفسور الأدب الإنكليزي المشهور من جامعة كولومبيا، المعرفة الشرق أوسطية التقليدية بسبب المبالغة في الفروقات الثقافية بين الشعوب الشرق أوسطية والغربية ومنح أهمية كبيرة جداً للإسلام كدين وكحضارة في تحديد الصفات المميزة للمجتمعات الشرق أوسطية. لقد رفض سعيد " المفهوم بأن هناك مساحات جغرافية ذات سكان أصليين، سكان "مختلفين" جذرياً يمكن تعريفهم على أساس دين، ثقافة ما، أو أساس عرقي مناسب لتلك المساحة الجغرافية..." هذه الصيغة من المعرفة، بحسب ما قال سعيد، لها مسحة باطنية عنصرية المقصود منها، في هذه الحالة، خدمة مصالح قوى غربية مستبدة عن طريق إبراز شعوب الشرق الأوسط بأنهم جامدون وغير متطورين أساساً.
وفي الدراسة عن الشرق الأوسط، وكما هو الحال في مجالات أخرى في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كان يُتوقع من العلم، والتقارير أيضاً، أن تتفق وتتطابق مع صيغة الصحة والصواب السياسي بدلاً من مواصلة السعي وراء حقيقة متعذرة موضوعية في ظاهرها. ففي الدراسات الشرق أوسطية كان هذا يعني أن دراسة الثقافة السياسة أو التمايز الثقافي قد أصبحت  أمراً غير مشروع. وقد أُخذت انتقادات سعيد بسخافة بالغة من خلال الاستغلال لقيد سعيدي- ماكارثي، حيث يواجه أي شخص ينخرط في دراسة ثقافة سياسية، دائماً، عزلاً فكرياً و/ أو إدانة وشجباً لكونه " أصولياً"،  "مستشرقاً"، أو حتى " عنصرياً".
وسط جدل الاستشراق في الولايات المتحدة، حاجج عالم سياسي أميركي بارز متعاطف مع العالم العربي زملاءه بالقول بأن " يكونوا حذرين من رمي جنين الثقافة السياسية في مياه حمام الاستشراق. " لكن هادسون كان مجرد صوت صارخ في البرية. لقد ذهبت نصيحته أدراج الرياح على الأغلب. إذ من المقبول الآن أكثر بكثير " شرح الأحداث كما لو أن هذا الأمر هو ظاهرة عامة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنماذج طبيعة عالمية شاملة... إذ تحاول نماذج عالمية كهذه أن تفسر، وبشكل واسع، تطورات تاريخية متشعبة وكأن التباينات في الثقافة وفي المكان والزمان أمور لا علاقة حيوية لها بالنتائج التاريخية".
لقد عزز استخدام مصطلح " الربيع" بدلالاته الأوروبية النموذجية وتطلعاته العلمانية الملازمة، المقترنة مع التركيز الإعلامي المبالغ به على الصفات الميثولوجية تقريباً وتأثير الفايسبوك والتويتر، من هكذا نموذج عالمي خاطئ ومزيف للتماثل ما بين الشرق الأوسط والغرب. إن التأكيد المتطرف على التكنولوجيا كان تمثيلاً ممتازاً لهذه الطبيعة الشمولية للعالم الجديد المعولم. وبالتالي لقد خلق الجهابذة والمثقفون عالماً كان فيه الواقع الافتراضي والواقع السياسي ممتزجين كلياً، عالم يمكن فيه تجاهل نقاش أكثر عمقاً للتوجهات الاجتماعية، السياسية والثقافية بالكامل أو حتى إدانته بصفته غير ذي صلة. لقد ركزت وسائل الإعلام الرئيسة والكبرى على الشباب في ساحة التحرير في القاهرة، الذين كانوا في الجزء الأكبر منهم ليبراليين علمانيين. إذ أجرت هذه الوسائل الإعلامية مقابلات مع مفكرين أصحاب لهجة أكاديمية " أوكسبريدج" الممتازة، بأن إسلاميي مصر لم يكونوا سوى قوى هامشية بالغ المتشائمون بشكل كبير بتأثيرهم. لقد كان الأمر وكأن مئات الآلاف في ميدان التحرير والناطقين باسمهم " الأوكسبريدجيين" يمثلون الـ 85 مليون مصري جميعاً. وفي نفس سياق التمثيل الاعلامي الشعبي، ومن دون حاجة للقول، كان هناك رؤية أكاديمية صحيحة سياسياً منتشرة في الأيام الأولى من " الربيع العربي" أيضاً. وبما يتعارض مع " المتشائمين" الذين تكهنوا بموجة مد إسلامية توشك على اكتساح مصر والمنطقة، قال التقييم الصحيح سياسياً بأن هناك في عالم التويتر والفايسبوك، ديمقراطية شرق أوسطية توشك أن تتجذر. هذا التقييم لم يتوقع حصول استيلاء اسلامي على الحكم في مصر. ففي مجال ديمقراطي حر كان يملأ الفراغ الذي خلفه حل الحزب الديمقراطي الوطني لمبارك، كان من الأرجح أن يتم اعتبار الإخوان المسلمين جماعة على طريق التراجع بدلاً من اعتبارها على طريق النمو والازدهار. لا بد وأنه كان سيكون لدى شرائح كبيرة من الشعب المصري بدائل سياسية لم تكن متوفرة لهم من قبل. بمعنى آخر، كانت ستبرز أحزاب جديدة، أحزاب كانت ستسحب بعضاً من الأصوات الانتخابية للإخوان المسلمين. وكان الإخوان المسلمون سيبقون جزءاً هاماً من الكيان السياسي المصري، لكن ليس الجزء الأكبر أو الأهم، وفقاً لما يقوله هذا التقييم. أما بما يتعلق بالتشعبات والانعكاسات الإقليمية، فقد كانت الاضطرابات في مصر درساً ونموذجاً في الاحتجاج المدني، الذي كان يمكن أن ينتشر عبر الشرق الأوسط بكامله وبنفس النتائج الديمقراطية.
ليس هناك حتى من جملة واحدة صحيحة في التحليل الموجود أعلاه. إنه مثال ممتاز وتام على النموذج التحليلي ما بعد السعيدية، ما بعد " ما يشبه الربيع" ما بعد الحداثة الذي تشوبه العيوب حتى الصميم. هذا ليس لنجادل ونقول بأن الاستشراق التقليدي هو فوق الانتقاد، وإنما لنقول بأن أخذ نقد الاستشراق بسخافة وعبثية بالغة والتجاهل الكامل للطاقة الثقافية في الحياة السياسية في الشرق الأوسط هو تهرب وتجنب للتيارات والعمليات الأساسية في المجتمعات الشرق أوسطية وتعتيم على الحقيقة التي تقول بأن " الثقافة مهمة" في الشرق الأوسط كما في أي مكان آخر تماماً. الشرق الأوسط ليس استثناء. إذ له خصوصياته وسماته الثقافية المتمايزة، تماماً ككل مناطق، وشعوب وثقافات العالم. هذه أمور هامة جداً فلا ينبغي إنزالها إلى هامش المعرفة والبحث، باسم عقيدة شبه دينية ما لما بعد الحداثة.

موقع الخدمات البحثية