مواد أخرى » الحرب الباردة العربية الجديدة والنزاع على سوريا


كورت ريان ـ Middle East Report

في دراسته الكلاسيكية، ' الحرب الباردة العربية'، رسم 'مالكولم كير'المكائد والمؤامرات السياسية بين الدول العربية إبان حقبة هيمن عليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وفي عمل مشهور آخر، 'النزاع على سوريا'، وثق الكاتب 'باتريك سيل' للعلاقات والروابط الموجودة بين الحياة السياسية المحلية السورية المضطربة وبين السياق الأوسع المتعلق بالتفوق والسيادة في المنطقة، والنابعة من عوامل تمتد من الصراعات بين الدول العربية وصولاً إلى الحرب الباردة العالمية. واليوم، ووسط الفوضى الجارية في سوريا والتحولات في المنطقة، تبدو هذه النصوص، المنشورة بالأصل في العام 1965، معاصرة للغاية. إذ تظهر الحياة السياسية الإقليمية، مجدداً، إشارات عديدة عن الحرب الباردة العربية، ويتجلى ذلك الصراع الواسع، مرة أخرى، في النزاع على سوريا.

 في الحرب الباردة العربية في الخمسينات والستينات، كانت العلاقات بين الدول العربية تتسم بنزاع القوى بين الجمهوريات ' الثورية'، بقيادة الضباط العسكريين ذوي الخط القومي العربي، وبين حكومات ملكية ومحافظة أكثر أو رجعية حتى. فقد اعتبرت الجمهوريات نفسها مستقبل الحياة السياسية العربية، التي لا تحمل هدف تغيير نوع الأنظمة في الدول العربية فحسب، وإنما تغيير خريطة المنطقة أيضاً من خلال جهود التوحيد المتكررة. هذا المشروع العروبي أدىإلى تدخل واسع في شؤون مختلف الدول، من قبل الجانبين، حيث شنت الجمهوريات والملكيات حروباً بديلة في صراعات أهلية في اليمن، لبنان، الأردن وأماكن أخرى.

هناك عدد من العناصر نفسها حاضرة اليومـ النزاع على السلطة، الصراعات الإيديولوجية والصراع حول الهوية، والحروب البديلة. أما الاختلاف الرئيس فهو أن نسخة الحرب الباردة العربية للعام 2012 لا تضع الجمهوريات الثورية في صف أو جهة واحدة. فبمرور الوقت، أصبحت الجمهوريات الراديكالية التي نشأت في الخمسينات والستينات دولاً سلطوية راسخة، وليست دولاً ثورية ولا جمهوريات بالتحديد. وقد اختبر عدد من هذه الدول حتى الآن ثورات وطنية فعلية، بصفتها معارضة لانقلابات العقود الماضية العسكرية والتي اتجهت  لطرح نفسها على أنها  'ثورات'. من جهة أخرى، إن أكبر تشابه موجود مع الحرب السابقة هو تحرك الحكومات الملكية المحافظة في محاولة للوقوف سداً أمام موجة التغيير الجارية على امتداد النظام الإقليمي العربي.

وفي الوقت التي تتعاون فيه الأنظمة الملكية فيما بينها للدفاع عن نفسها، فإن السؤال هو: ضد ماذا؟ فإلى حين حصول ثورات 2011، بدا الجواب كأنه ضد تهديد إيران الدولة غير العربية. فقد كان هناك قلق لدى عدد من الأنظمة العربية لكن ليس من القوة الإيرانية فحسب، وإنما من النفوذ  والتدخل الإيرانيين في السياسات العربية أيضاً. فالصراعات بدءاً من العراق وصولاً إلى لبنان كانت تعتبر ، وعلى نحو متزايد، بمصطلحات سياسة القوة والمذهبية: معركة بديلة بين كتل بقيادة السعودية وكتل بقيادة إيران في توازن القوى الإقليمي كما كانت تعتبر نزاعات بين التحالفات السنية والشيعية في الشرق الأوسط الكبير أيضاً.

تعود أولى إشارات الحرب العربية الباردة الجديدة إلى ما قبل الثورات العربية في 2011-2012، وأصبحت واضحة، بشكل خاص، خلال حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله. وقد اختارت بعض الدول العربية النظر إلى هذه الحرب العربية- الإسرائيلية بمنظار مذهبي، على خلاف الحروب السابقة. وفي حين لم تدعم الدول العربية إسرائيل في الصراع، فإن قلة منها نهضت للدفاع، ولو كلامياً، عن المنظمة الشيعية المدعومة إيرانياً في لبنان. مع ذلك فقد أشار صراع 2006 إلى تحول أساسي آخر ربما كان نذيراً لأحداث 2011: الصدع الواضح في عدد من البلدان العربية بين الدولة والمجتمع. فالحكومات العربية ( عدا سوريا) قد لا تكون دعمت حزب الله، لكن شعوباً عربية كثيرة فعلت. فالتظاهرات التي عمت الشوارع العربية هي التي صنعت العلاقة والرابط بينها وبين فترة الحرب الباردة العربية السابقة، مع وجود لافتات تقارن جمال عبد الناصر في العام 1956 بالقائد حسن نصرالله ، قائد حزب الله، في العام 2006. لكن، وكما أشار 'آندريه بانك' و' مورتن فالبجورن'، فإن المقارنة تؤكد فحسب الفروقات بين الحقبتين. لقد كان ناصر رئيس دولة، صاحب مقاربة علمانية إشتراكية وخط عروبي معلن ومعترف به. أما نصر الله فرئيس حركة جماهيرية ضخمة ذات مقاربة إسلامية للعروبة والهوية العربية. ويقول كل من 'بانك' و' فالبجورن' أيضاً بأن الاختلافات توضح التحول في معنى العروبة نفسه، من نضال إيديولوجي مستخدم من قبل دول علمانية إلى' عروبة سياسية إسلامية مجتمعية جديدة'. وذلك بحسب صياغتهما للفكرة:

 تشكل العروبة السياسية المجتمعية لدى الشعوب العربية- الإسلامية بدل العروبة بقيادة الدولة  إطاراً لمرجعية مهيمنة في الحياة السياسية الإقليمية الشرق أوسطية اليوم. فالفاعلون المجتمعيون، وليس الجمهوريات المدَّعية، يمثلون الآن التحدي للوضع الإقليمي القائم. إذ لم يعد التنافس الآن بين الدول، بشكل رئيس، وإنما أصبح حرباً باردة بين أنظمة عربية وفاعلين مجتمعيين بقيادة إسلاميين ذوي دعم شعبي لا بأس به ومؤيدين لعروبة سياسية إسلامية بدفع شعبي.


إن الفشل بفهم  الأهمية المستمرة للعروبة، وصيغتها المتغيرة، جعل عدداً من المراقبين الخارجيين  تفوتهم الديناميات الأساسية المحركة في الحياة السياسية الإقليمية. وقال ' ف. جورج غاس' ان هذا الخطأ التفسيري جعل معظم الباحثين بشؤون الشرق الأوسط يخطئون إشارات الثورات العربية. فالعلم غالباً جداً ما تعامل مع العروبة على أنها فكرة ميتة منذ زمن طويل، ليفوته بذلك بروزها المستمر على المستوى الاجتماعي وبالتالي على المستوى السياسي أيضاً.

أما اليوم، فتتنازع الدول، والمجتمعات والحركات الاجتماعية حول معنى هوية الخط العروبي. وعلى خلاف العروبة في الحرب الباردة العربية السابقة، لا تشدد النسخة الحديثة للعروبة على إعادة رسم الحدود وتجديد الحكومات عبر مخططات وبرامج التوحيد. بل يشتمل النزاع الجديد على صراعات داخل الحياة السياسية المحلية، وأحياناً بوساطة ذات بعد خارجي. وبالتالي، هناك مستويات متعددة  لمعنى النزاعات بين الدول: تعيد الحكومات الملكية المحافظة إعادة اكتشاف الوحدة العربية كلغة للحماية المتبادلة من مسألة تغيير النظام؛ تتحدى الحركات الإسلامية الأنظمة وتتواصل مع نظرائها عبر الحدود؛ كما أن القوى المؤيدة والمناهضة للدمقرطة لا تعمل من داخل الدول فقط، وإنا عبر الحدود أيضاً، في محاولات للتعاون فيما بينها.
لقد عمقت الثورات العربية في 2011-2012 الانقسامات الموجودة في الحرب الباردة العربية الجديدة، بما في ذلك الصفين السني والشيعي. وكالحرب الباردة السابقة، تتسم الحرب المعاصرة بمقاربات متنافسة للتدخل في شؤون دول عربية أخرى. إلا أن النسخة الحالية تتضمن أيضاً  ديناميات جديدة تبرز من الثورات العربية نفسها، في الوقت الذي تستعرض فيه أبعاد القوة والمذهبية. فالحرب الباردة العربية اليوم لا تتسم بالتنافس بين الدول فحسب، وإنما تتسم بصراعات الدولة - المجتمع  التي تتصف بإعادة نشوء سياسة الهوية العربية، وهو نطاق عام توسع بسبب الثورة في وسائل الإعلام والاتصالات، وصعود الحركات الاجتماعية الإسلامية إضافة إلى السياسية التي تتحدى أنظمة حالية، وأخيراً، مفاهيم جديدة وتوقعات شعبية بخصوص المشاركة في الحياة العامة.

هذه الديناميكيات أدت إلى إعادة تأكيدفعالية السياسة الخارجية من جانب الحكومات الملكية المحافظة، إلى حد أن أحد أكثر القوى نشاطاً وفاعلية في السياسات الإقليمية اليوم هو مجلس التعاون الخليجي، الأمر المدهش نوعاً ما. لا يملك مجلس التعاون قوة عسكرية ساحقة، لكنه برز لأن الثورات جاءت في وقت تراجعت فيه مراكز القوى الثلاث التقليدية كلها ( المتنافسة غالباً) ـ القاهرة، بغداد، ودمشق- عن كونها قوى مؤثرة في توازن القوى الإقليمي. فقد طغت على كل دولة من هذه الدول هواجسها المحلية : مصر وثورتها، العراق وتأثيرات الغزو والاحتلال، وسوريا والتمرد الحاصل فيها. فقد أجبرت الاضطرابات المحلية الأنظمة في القاهرة، وبغداد، ودمشق على التنازل عن المسرح لصالح الرياض والدوحة، الأمر الأكثر إثارةللدهشة. هذه التغييرات في الديناميكيات المحلية كان لها تأثيرات هامة على الثورات في اليمن، ليبيا، البحرين والآن سوريا. في هذا الوقت، ليس هناك من قوة تعويضية لكبح الملكيات المحافظة، إلا إذا جاءت هذه القوة من الشعب الموجود تحت حكمها.

وشعر السعوديون وأنظمة دول مجلس التعاون الخليجي بالخطر الشديد من التوجهات الإقليمية بحيث انها دعت، ومن دون تردد، حكومات ملكية أخرى غير خليجية، في المغرب والأردن، إلى الانضمام إلى المجلس. وأظهر المغرب اهتماماً محدوداً في الانضمام إلى التحالف المتباعد، في حين تدافع الأردنلإحياء طلب كان قد تقدم به وكان مطروحاً على الطاولة مدة 20 عاماً.
 من غير الواضح الآن ما إذا كان أي توسع في المجلس سوف يحدث. فمجلس التعاون الخليجي يظل، في كل الأحوال، تحالفاً لملكيات عربية متوارثة محافظة، هذه المرة ليس ضد جمهوريات عربية راديكالية أو حتى ثورات إيرانية، وإنما ضد شعوبها نفسها الموجودة ضمن حدودها. وفي حين لم تتم دعوة اليمن للانضمام إلى المجلس، فقد حاول مجلس التعاون بالفعل إخماد الحرائق المشتعلة هناك عن طريق سمسرة صفقات لمقايضة تغيير النظام جزئياً لإنهاء الاضطرابات. مع ذلك، وبرغم الجهود السعودية لاستخدام مجلس التعاون الخليجي كأداة رئيسة لها في الثورة المضادة الإقليمية، فإن دول المجلس الأخرى غالباً ما تفصل نفسها عن الرياض وتحافظ على سياسات خارجية مستقلة متحدية. على سبيل المثال، وبرغم الحرب السعودية- الإيرانية الثنائية الباردة، حافظت كل من عُمان وقطر على علاقات ودية مع طهران.

إن صعود قطر واحتلاها لمكانة كـ ' قوة ' إقليمية، مؤقتاً على الأقل، قد يكون أغرب ظاهرة في العلاقات المعاصرة بين الدول العربية. لكن هذه الملكية الخليجية المتناهية الصغر لكن الغنية بشكل فاحش عززت، وبثبات، دورها الإقليمي وحتى العالمي، بدءاً من استضافة مفاوضات منظمة التجارة العالمية في العام 2001 وصولاً إلى إرساء مباريات كأس العالم للعام 2022 على أرضها. كما أن قطر مركز قناة الجزيرة الإخبارية الفضائية المؤثرة، التي أثبتت نفسها بالتغطية المكثفة لمعظم الثورات العربية. كما موضعت الإمارة الصغيرة نفسها كراع للسلام في صراعات بين الفئات المنقسمة في لبنان، وفلسطين وحتى في أفغانستان، مع فتح مكتب لحركة طالبان في الدوحة.

عندما بدأت الثورة الليبية، قادت قطر الدعوة للتدخل الدولي. وعندما وصلت موجة الثورة إلى البحرين، قادت السعودية ثورة مضادة وتدخل مجلس التعاون الخليجي لدعم الحكومة الملكية البحرينية من المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية والإصلاح. وتم تأطير التدخل بإطار التضامن السني ضد التخريب الشيعي ( التخريب الإيراني بحس زعمهم)، ليتردد بذلك صدى المنطق المذهبي عام 2006.

وفي حين قادت الثورة الليبية إلى حرب أهلية وحصول تدخل خارجي، بما فيه حملة من الضربات الجوية الواسعة للناتو ضد نظام القذافي، فإن الثورة السورية تهدد بسلوك طريق أكثر خطورة حتى، بالنسبة للشعب السوري والنظام ككل، على حد سواء. فقد بدأت الأزمة السورية كجزء من الثورات العربية، وذلك بمسيرات لناشطين مدنيين تطالببالانفتاح والحصول على حريات أكبر في سوريا. ونشأت حركات الاحتجاج عبر البلاد فقط بعد رد النظام بعنف في درعا. هذه التحركات بدأت سلمية، أيضاً، لكنها قوبلت باستخدام القوة. في نهاية المطاف، أصبحت الدعوات للإصلاح دعوات لتغيير النظام. وصيغت خطة الجامعة العربية التي تطلب من الرئيس بشار الأسد التنازل عن السلطة لنائبه بظل رئاسة قطر المؤقتة ( الدورية) لمجلس الجامعة العربية، بدعم قوي من مجلس التعاون الخليجي. بالواقع، إن فكرة المراقبين من الجامعة العربية في سوريا  كان لها أصل مشابه،  ووفقاً لذلك كانت دول مجلس التعاون الخليجي  هي أول من قام بسحب مراقبيها في أوائل شباط  (أعقبها، بوقت قصير، الأردن الطامح لدخول مجلس التعاون) وذلك عندما اعتبرت هذه الدول أن المهمة محكومة بالفشل.

يحمل الوضع المعقد السوري كل بصمات الحرب الباردة العربية، بما فيه النزاع المحلي بين النظام والمعارضة لكل منهما الراعي الخارجي له، كما تحمل بصمات محاولات لتأجيج نيران الطائفية، والروايات المزدوجة حول من يهاجم من. وكالحرب العربية الباردة السابقة، الصراع غارق في البروباغندا والتضليل. إذ تحاول حتى أشد وسائل الإعلام صدقاً ونزاهة فهم الثورة السورية لتستخلص غالباً جداًأن الصراع هو بين نظام قاس لا يرحم ضد المجلس الوطني السوري (مجموعة من جماعات المعارضة في الخارج) والجيش السوري الحر ( مجموعة صغيرة نسبياً من الجنود المنشقين عن الجيش الذين بدؤوا الآن حملة مسلحة ضد النظام). ما هو مفقود هنا، في أكثر الأحيان، هو أن الأكثرية الساحقة من السوريين العاملينعلى مستوى القاعدة ضد النظام غير مرتبطين لا بالمجلس الوطني السوري ولا بالجيش السوري الحر.

في هذه الأثناء، بالكاد تكون الدول القيادية في مجلس التعاون الخليجي الداعية لضغوط دولية للإطاحة بالأسد، بحد ذاتها، معاقل للديمقراطية. فهدف هذه الدول ليس تفضيل الديمقراطية على حساب الاستبداد والسلطوية، وإنما الإطاحة بنظام علوي ( وبالتالي شيعي، بحسب نظرتهم) متحالف مع إيران إلى حد كبير. ويبدو أن السعودية وقطر وحلفاءهما يأملون بنظام في دمشق خلفاً للنظام الحالي يكون سنياً بغالبيته، يدين بالفضل لدول مجلس التعاون الخليجي ولا يعود حليفاً لإيران أو لحزب الله. باختصار، تبدو دوافعهممنسجمة مع تلك التي للحرب الباردة العربية الجديدة أكثر مما تنسجم مع طموحات الشعب السوري. ومع مساندة ودعم إيران وحزب الله لنظام الأسد، ومعارضة دول مجلس التعاون وتركيا بقوة ونشاط له، يكون الصراع السوري قد أصبح صراعاً إقليمياً الآن. وفي حين تدعو الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا للقيام بعمل ما من خلال مجلس الأمن الدولي، الدعوة التي وقفت سداً بوجهها قوتان إمبرياليتان منافستان فقط هما روسيا والصين،  تحمل الأزمة السورية أبعاداً دولية أيضاً.

مع ذلك، وبرغم مستوى التشويش والتنافس الموجودين في العلاقات بين الدول العربية، تمكنت الجامعة العربية بالفعل بقيادة قطر ودول مجلس التعاون الخليجي من خلق مظهر للوحدة عندما حاولت صياغة طريقة للخروج من الأزمة السورية. وفي حين أنها لم تدع إلى تدخل عسكري، فقد دعت الجامعة العربية الأسد للتنازل عن السلطة لنائبه، لتمهيد الطريق أمام نهاية للقتال يتم التفاوض حولها وإنشاء حكومة وحدة سورية. في كل الأحوال، إن الفيتو الروسي والصيني على اقتراح الجامعة العربية في مجلس الأمن الدولي يضمن بأن يصبح الصراع السوري أكثر عنفاً وأكثر تدويلاً، في الوقت الذي يحاول فيه نظام الأسد سحق التمرد مرة واحدة وللأبد، وفي الوقت الذي تتحول فيه جماعات المعارضة السورية إلى النزاع المسلح أكثر فأكثر، وتتدخل دول عربية وأخرى غيرها بطرق أخرى: تزويد السلاح، الدعم المادي والمالي للفريق الذي يختارونه.

إن حدود المعركة خارج سوريا مرسومة أساساً، مع وجود الولايات المتحدة، بريطانيا وفرنسا في الصراع مع روسيا والصين، وفي حين تدعم قوى إقليمية غير عربية هي تركيا وإيران، بالمثل، فريقين متضادين. إن الإسرائيليين ممزقون ولا يعلمون أية محصلة هي الأسوأ بالنسبة لهم، في حين أن الأردن البلد المجاور قد يكون في أضعف وأخطر وضع من الجميع، كونه محشوراً بين سوريا البعثية ومجلس التعاون الخليجي، وعرضة بشكل عميق لحالة من عدم الاستقرار تغمر جارته على حدوده الشمالية.

كانت نزاعات الحرب العربية الباردة السابقة ضارية في سوريا تحديداً، بدءاً من الاستقلال في العام 1946 وصولاً إلى الانقلاب العسكري الذي رسخ نظام حافظ الأسد السلطوي في العام 1970. وكما برهن كل من 'كير' و'سيل'، كانت سوريا ساحة معركة أساسية في النزاعات الإقليمية بين الجمهوريين والملكيين، بين القوميين، والشيوعيين والبعثيين، وبين القوى العظمى العالمية. وكان انقلاب بعد الآخر يطيح بالحكومات في دمشق ما أن تبدأ الأحزاب السياسية المدنية والضباط العسكريون المتنافسون بالمناورة ضد بعضهم بعضاً، بمساعدة وتحريض ديناميكيات الحرب الباردة المحلية والعالمية. أما اليوم، إن كان هناك من شيء، فهو أن الديناميكيات تبدو أسوأ حتى، حيث ان قوى خارجية بما فيها مجلس التعاون الخليجي، الجامعة العربية، إيران، إسرائيل، تركيا، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، وحتى الصين تتناوش وتتنازع على مستقبل سوريا. إن الغرق في حرب أهلية شاملة سيكون بمثابة تذكرة أيضاً بلبنان ( من العام 1975 وحتى 1990) أو العراق ( بعد الغزو الأميركي عام 2003). ويبدو الحل الديبلوماسي التفاوضي الذي ينص على مستوى ما من تغيير النظام وحكومة أكثر شمولاً- حل يطيح بالأسد لكنه يستطيع تسكين مخاوف العلويين، والمسيحيين والمسلمين على حد سواء ـ أمراً حيوياً لتجنب صراع مزمن مشابه في سوريا. وفي حين أن قسماً كبيراً من الأمر يعتمد على جهود السوريين أنفسهم، فإن قسماً كبيراً يعتمد، اليوم، وكما في فترة الحرب العربية الباردة السابقة، على التعاون المرتبط بقوى عربية خارجية، إقليمية وعالمية أيضاً. بالواقع، وإذا ما سُمح لسوريا بأن تسقط في الهاوية، فسيكون هناك كارثة يمكن مقارنتها بكارثة لبنان أو العراق،  حيث ان  النزاع حول سوريا سيوسع تصدعات الحرب العربية الباردة مجدداً، ديناميكيات قد تؤدي إلى موت آمال الشعب السوري.

موقع الخدمات البحثية